رسائل

تعد رسائل فرنكلين بالمئات، نشرت في مجموعات متعددة حسب موضوعاتها أو حسب الجهات التي أرسلت إليها، ومنها العام الذي يرتبط بالسياسة والعلم والمصالح القومية، ومنها الخاص الذي يراسل به أهله وذويه وخاصة صحبه، ويقصر في الأعم الأغلب على التحية وإسداء الرأي في المسائل البيتية.

وكل هذه الرسائل مما يصح أن يوصف بالكتابة الفرنكلينية، ونريد بها الكتابة التي تتسم بطابع الرجل، وتنم على ملامح نفسه وعادات تفكيره، وليس المراد بهذا أننا نقرأ الرسالة بغير توقيعه فنعلم أنها من قلمه، فإن هذه الخصيصة ربما صدقت على الكثير من كتاباته، ولكنها لا تصدق عليها جميعها، ولكن المراد بالكتابة الفرنكلينية أننا إذا بحثنا فيها لم نخطئ فيها دلالة على خلقه أو رأيه أو شواغل عمله، وعلى سبيل التمثيل نشير إلى رسالة وجيزة مكتوبة في مسألة مألوفة من المراسلات بين الإخوة والأقارب كتبها إلى أخته جين Jane أحب أخواته إليه؛ لأنها استشارته في إرسال ابنها بيني Benny إلى نيويورك، فقال لها في أسطر معدودات: «إذا كنتم على رغبتكم في إرسال بيني فأرسلوه على أول مركب إلى نيويورك واكتبوا معه سطرًا موجهًا إلى مستر جيمس باركر الطباع، وأنا على ثقة من حسن معاملته هناك، وسأتلقى خبرًا عنه في الأسبوع نفسه، وأوصوه أن يكون على الدوام بشوشًا مرحًا مستعدًّا لعمل كل ما يؤمر به، وكسب الرضا من كل من يعمل معه، فهذه خير وسيلة لاقتناء الأصدقاء، ومحبتي لك يا أختي العزيزة لحسن رعايتك لأبينا في مرضه.»

فهذه الرسالة «فرنكلين» في أكثر من سمة واحدة؛ لأنه لا ينسى فيها الخصلة التي عرفت عنه في أدوار حياته من صباه إلى أواخر أيامه، وهي الحرص على كسب الأصدقاء واتقاء المغاضبة والعداء، وهي تطابق حكمته التي كررها كثيرًا، وفحواها أن يحسن الإنسان إلى الصديق ليستبقيه، ويحسن إلى العدو ليستدنيه أو يعيده إلى مودته، وهذا مع البر بالأهل والعناية بأداء الواجب وإنجاز ما يفرضه على كل من يناط به عمل يؤديه.

ومثل هذه السمة لا نخطئها في رسالة من رسائله العامة أو الخاصة، فهي تمثله للقارئ حينًا بما فيها من روح الفكاهة والسخرية الطيبة، أو بما فيها من طبيعة المودة والمسالمة واستنفاد كل حيلة في سبيل التفاهم والإقناع، أو بما فيها من الدقة والتنظيم واجتناب الإسراف والفضول، وقد كان يكتب رسائله العامة إلى الصحف على أسلوبه في أول كتاباته منذ نشأته الصحفية الباكرة، فبعضها في قالب الأماثيل على ألسنة الآخرين، وبعضها في قالب العظات الفكاهية، وبعضها في قالب التلخيصات المرتبة كما ترتب الدروس الملخصة، وبعضها في قالب الحوار بين اثنين أو أكثر من اثنين، ويجري حواره على نسق الحوار المعهود في كتب أفلاطون، آراء متتابعة تملي ما بعدها ويأخذ بعضها برقاب بعض، ثم تستدعي ردودها وأجوبتها كأنها تأتي من قبيل الحقائق المفروغ منها، وهي كما لاحظ جامع رسائله إلى الصحافة ڤيرنر كرين Verner W. Crane «مقنعة ولكنها ليست بالدرامية في وضعها»١ أي إنها تقنع الفكر ولكنها لا تثير الشعور، ولا تستجيش الخيال كما يحدث عند قراءة الحوار الدرامي الذي ينوع الكاتب شخوصه، ويبرز فيه الأمزجة والدوافع النفسية، فتستجيب لها نفس القارئ بما تثيره من دوافعه وطواياه.

وهذه الرسائل التي نترجمها مقتبسة بغير عناء في الاختيار من أشتات رسائله الخاصة والعامة، لا نتوخى فيها إلا أن تكون معبرة عن فرنكلين في عادة فكر أو سجية شعور أو طريقة عمل، ولا حاجة إلى العناء الطويل في الاختيار لهذا الغرض؛ لأن كتاباته كما قدمنا فرنكلينية بطبيعتها في صفة واحدة على الأقل من هذه الصفات.

رد على خطباء القهوات

كتب هذه الرسالة، بتوقيع مستعار، إلى صحيفة لندن كرونيكل London Chronicle بتاريخ التاسع من أبريل سنة ١٧٦٧ ردًّا على خطباء القهوات الذين كانوا يحرضون الشعب الإنجليزي على قمع الولايات الأمريكية وأخذها بالعنف والصرامة بدلًا من الإصغاء إلى مطالبها الوطنية. قال:

لقد كان لأثينا خطباؤها، وقد صنعوا لها في بعض الأوقات خيرًا كثيرًا، كما صنعوا لها الشر الكثير في أوقات أخرى، وكان أسوأ ما صنعوه من شر على الخصوص يوم نجحوا في إغرائها بشن الغارة على صقلية، فناءت بأعبائها وخسائرها، وكان من جرائر تلك الحرب أن الدولة الزاهرة سقطت ولم ترجع إلى ازدهارها بعد ذلك أبدًا.

وإن هؤلاء الصياحين بالدهماء بين الأقدمين يخلفهم في العصر الحديث كتاب نشراتكم السياسية، وكتاب الصحف، وخطباء القهوات.

ومما يلفت النظر أن رجال الجندية المنقطعين لهذه الصناعة، وهم أناس متصفون بالشجاعة التي لا جدال فيها، قلما يشيرون بالإقدام على الحرب إلا عند الضرورة القصوى، بينما يتعالى اللغط بالحرب لأتفه الأسباب من أناس كأولئك الصياحين والثراثرة والمحدثين الذين هم بطبيعتهم يهابون أو بحكم أعمالهم البدنية تعوزهم تلك النخوة التي تنبعث منها الشجاعة الصادقة، ويبدو عليهم كأنهم أشد بني آدم تعطشًا إلى الدماء.

وإننا لفي هذا الزمن الذي لم نكد فيه نتنفس في أعقاب الحرب الشعواء المرهقة التي أهدرت الدماء والأموال على نحو لم يسبق له مثيل في القارة الأوروبية، نرانا أمام طوائف ثلاث من الخطباء يجتهدون اجتهادهم في إثارتنا على أصدقائنا والاندفاع بنا إلى حرب مع البرتغال، وحرب مع هولندا، وحرب مع مستعمراتنا.

فأما الحربان الأوليان، فليس في نيتي أن أبحث فيما تنطويان عليه من الحكمة والإنصاف؛ إذ لا أحسب أن إنجليزيًّا يخامره الشك — إذا كان الهولنديون قد أساءوا إلى أجدادنا قديمًا قبل مائة وخمسين سنة — أن الانتقام منهم واجب في أية لحظة كائنًا ما كان مبلغ الصداقة بيننا بعد تلك الإساءة، وأن البرتغاليين — إذا كانوا يشترون ثيابهم من الفرنسيين بأثمان أقل من أثمان الثياب عندنا — حقيقون بأن نوسعهم ضربًا حتى يثوبوا إلى الصواب، ويتخذوا لهم رأيًا غير ذلك التفضيل والإيثار.

فإذا سلمنا أننا من القوة والبأس بحيث نقدر على ضرب هولندا والبرتغال معًا، لسبب أو لغير سبب، ومعهم أصدقاؤهم الذين ينتصرون بهم أو بمعزل من أولئك الأصدقاء، وعلينا أعداؤنا الذين يستثيرهم ذلك الصنيع أو بمأمن من أولئك الأعداء، وسلمنا كذلك أن الهولنديين أيضًا خليقون أن يبضوا لنا بالنفقات اللازمة للقتال، إذا سلمنا ذلك جميعًا فلا غرض لي إلا أن أضع بين يدي ذوي النظر، بكل خشوع، فرضًا يخطر على البال؛ وهو أن تكون لنا على تلك الفروض وسيلة أخرى لفض الخلاف بين وزرائنا الأسبقين ومستعمراتنا بوسيلة غير قطع الرقاب!

وكل خطوة تقودنا الآن إلى السخط على أمريكا، تتطاير النشرات والصحف ويضج خطباء القهوات بالأكاذيب التي تقول عنها أنها ثائرة عاصية، وتستدعي القوة والأساطيل والجحافل للذهاب إليها، وما يوجد منها هنالك ينبغي أن يُستدعى من الأرجاء النائية لاحتلال العواصم الكبرى، وينبغي كذلك أن يساق رءوس القوم إلى البلاد الإنجليزية لتعليقهم على المشانق وما شابه ذلك، ولماذا كل هذا؟

لماذا؟ أتسأل لماذا؟

نعم، أرجو أن يؤذن لي أن أسأل: لماذا؟

وجواب لماذا هذه أن القوم يبغون إسقاط الحكومة في هذه البلاد وإقامة أنفسهم في مقامها.

فكيف بدأ ذلك كذلك يا ترى؟

تقول: كيف بدأ؟ أليسوا جميعًا يحملون السلاح؟

نقول: كلا، بل هم جميعًا في سلام.

– أفلم يمتنعوا عن أداء التعويض للمصابين في حوادث الشغب الأخيرة كما طلبت الحكومة هنا؟

– كلا، بل هم قد بذلوا الترضية الوافية، وهي — على فكرة — ترضية لم تبذل هناك لضحايا الشغب الذي حدث منكم هنا.

– أفلم يشعلوا النار في دار المكوس والجمرك؟

– كلا، إن القصة كلها أكذوبة ملفقة لا أصل لها على الإطلاق.

– أفلم يتمردوا على القانون البرلماني الذي ينص على إيواء الجنود؟ فلم يرسلوا إلى الحكومة هنا طالبين إلغاء الحجر على تجارتهم، وإلغاء قانون الملاحة بهذه المثابة؟

– إن الجمعية في ولاية واحدة — ولاية نيويورك — هي التي أنكرت ذلك القانون، وإن بعض التجار في تلك الولاية هم الذين اجترءوا على ذلك الطلب. فإذا سلمنا أن الإنكار والطلب خيانة عظمى، فهل نسلم أن خمسًا وعشرين ولاية تعاقب بجريرة ولاية واحدة؟

هلموا ننظر في سكون في معنى ذلك القانون، ومعنى إنكاره، ومعنى الطلب من أولئك التجار.

إن القانون قد صدر من نفس الإدارة التي أصدرت قانون الدمغة، ولعله قد أريد به تيسير إرهاب الولايات لإخضاعها لحكمه، ولهذا اشتملت نسخته عند تدوينها لأول مرة على فقرة تخول ضباط الجيش أن ينزلوا الجنود في المنازل الخاصة بأمريكا، ولما عورضت هذه الفقرة أشد المعارضة، انتهى الأمر بحذفها والاكتفاء باستئجار المساكن الخالية والأنبار (مخازن الغلال) لإيواء الجنود حيث يزودون بالوقود، والمصابيح، والفراش، وأدوات الطبخ وتهيئة الطعام، مع خمسة أكواب من الجعة أو السدر، أو نصف كوب من شراب الروم لكل جندي كل يوم، وبعض أشياء أخرى لا تُؤدى أثمانها جميعًا، بل تتكفل بها خزانة الإقليم. وما من وسيلة في الإقليم لجمع المال غير إصدار قانون من مجلس الولاية يوجب تحصيله، وعلى هذا وجب أن ينظر إلى الأمر على اعتباره قانونًا صدر هنا ليعززه قانون يصدر من المجالس الأمريكية، وقد ارتاب بعضهم في صواب هذا الإجراء؛ لأنهم يرون أن المجالس في أمريكا إنما هي برلمانات صغيرة، وليست هيئات تنفيذية أو ديوانًا من دواوين الحكومة يعمل عمله تنفيذًا للأمر الذي يصدر إليه، فإنما هي هيئات مشورة وإبداء آراء ينظر أعضاؤها فيما يعرض عليهم؛ ليتدبروا منافعه وضروراته، ووجوه الصواب والإمكان فيه، ثم يقرروا ما يقررونه حسبما يرونه، فإذا أكرهت هذه المجالس على سن القوانين، على صواب أو على خطأ إطاعة لتشريع تمليه عليها هيئة تشريعية أخرى، فلا نفع لها باعتبارها هيئة نيابية، ولم تبق لها صفتها ولا حقيقة كيانها.

والحق أن القانون البرلماني نفسه يلوح عليه أنه أحس ذلك؛ لأن القوانين الأخرى التي تفرض الواجبات على الأشخاص تنص على عقوبة الرفض والإهمال، وعلى الطريقة التي تتبع في تنفيذ تلك العقوبة، ولم يرد نص كهذا — ولا يعقل أن يرد — في مثل هذا القانون البرلماني عما يطلب من مجالس الأقاليم، فوقع في حساب الأمريكيين أنه طلب تنظر فيه المجالس لتقره أو لا تقره، كله أو بعضه، حسب اختلاف الأحوال بين الأقاليم، ومن ثم قبلته ولاية بنسلفانيا حيث يقل عدد الجنود على العموم، ولم تقبله ولاية نيويورك حيث تعبر الجنود جيئة وذهابًا عدة مرات بين بريطانيا والولايات الفرنسية، وحيث يشعرون بثقل العبء عليهم من جراء تنفيذه، ولهذا قبلت الولاية جزءًا من الطلب ووجهوا خطابًا إلى حاكمهم سردوا فيه أسبابهم بأسلوب مِلْؤُه اللطف والاحترام.

وإن كثيرًا من الناس لَيَبْدُو لهم أن هذا القانون خطأ على التحقيق؛ إذ ليس من اليسير توضيح سبب حسن لإنزال الجنود في مكان من الأمكنة بين مستعمرات الملك جميعًا لتزويدها بشيء ما في مقابلة لا شيء، إنهم يصطحبون معهم صرافًا على الدوام، فلماذا لا يؤدي الثمن لكل ما يحصلون عليه؟

إن هذه التكاليف عبء ينفرد بحمله الإقليم الذي يتفق أن يلقى عليه، وهو من ثم غير عادل وغير سواء، وفي بريطانيا يلقى هذا العبء على أصحاب الخانات ويعتبر كالضريبة التي تفرض على أرباب هذه الصناعة، وفي وسعهم تعويض الغرم بزيادة الأجر على النزلاء وتوزيع الضريبة بهذا الأسلوب على نحو أقرب إلى المساواة، ولكن الولاية التي يتفق أن تتعرض لهذا الغرم لا تستطيع أن تلقيه على ولاية أخرى معفاة منه بحكم موقعها.

إلا أن خطباءنا — خطباء القهوات — ينظرون إلى المسألة نظرتهم ويقررون أن هذا الإنكار الموافق لمجرى القانون عصيان يعاقب بما يلائمه. وإنه لخليق أن يكون إجراء نادرًا ذلك الإجراء الذي يجعل القانون يفرض شيئًا جديدًا ولا يقرر وسيلة تطبيقية، ولا العقوبة التي تترتب على مخالفته، ثم يأتي بعد المخالفة فيقرر هذه وتلك. فتلك فيما أرى أول سابقة من نوعها في شئون التشريع، ولا تحسب في باب الشرائع كما تحسب في باب الفخاخ التي تنصب للرعايا ليقعوا فيها، وكذلك يكون عصيانه ضربًا جديدًا من العصيان؛ إذ كان المفهوم من العصيان دائمًا أن يفعل الإنسان شيئًا، وهذا عصيان يقوم على أن المرء لا يفعل شيئًا من الأشياء. فإن كان كل إنسان يهمل شيئًا في قانون ما أو يدع تنفيذ ذلك القانون يحسب ثائرًا عاصيًا، فإنني لأخشى أن يكون عدد الثوار بيننا أكثر مما نحسب، ومنهم — ولا نحصيهم — أولئك الذين أهملوا تسجيل أوزان الأطباق وسداد الضريبة عنها، وهم فيما أظن غير قليلين، ويصح أن يضاف إليهم أولئك الذين يلبسون الحرائر الفرنسية وما شابهها من فاخر الثياب.

أما قصة الطلب أو العريضة التي سبقت الإشارة إليها، فقد سمعت من بعض التجار أبناء ولاية نيويورك رأيًا يقولون فيه: إن القوانين التي تقيد التجارة في الولايات لا تضر الولايات فحسب، بل يتعداها الضرر إلى المملكة الأم (يعني إنجلترا)، وإنهم ليذكرون الأسباب التي يبنون عليها هذا الرأي وهي جديرة أن تدرس هاهنا. وقد يتبين أنهم على صواب فلا يستحقون الزجر، بل يستحقون الشكر والثناء، وإلا ففي الوسع إلقاء الطلب جانبًا والإعراض عنه، فليس الطلب ثورة ولا عصيانًا، ولكنه في صميمه اعتراف بالسلطان لمن يتقدم الطلب إليه، وأن مقدميه من رعاياه.

بيد أن الآراء المتحيرة تخلق من الحبة قبة في كثير من الأحيان، وحين يكون الذئب قد عقد العزيمة على مخاصمة الحمل، فلا فرق بين وقوفه على اتجاه الماء أو على غير ذلك الاتجاه، وما أيسر ما توجد التعلات أو تخلق إذا لم توجد، ولا مبالاة بالحكمة والإنصاف فإنهما لمن وراء الحسبان!

محادثة عن الرق

وهذه رسالة كتبها في الثلاثين من شهر يناير سنة ١٧٧٠ إلى صحيفة الإعلان العام Public Advertiser للرد على الذين ذكروا مسألة الرق في أمريكا ليعترضوا بها على المطالبين بالحريات القانونية من الأمريكيين.

قال بعد مقدمة يذكر فيها مناسبة إرسال هذا الحديث «الخيالي» الحقيقي إلى الصحيفة:

إنجليزي : إنكم معشر الأمريكيين تصخبون كلما توهمتم أن شيئًا يمسكم فيما تسمونه بحرياتكم، على حين لا يوجد فوق ظهر الأرض من يعادون الحرية كعدائكم، وما أنتم إلا طغاة متعسفون حيث تسنح لكم الفرصة كما تسنح الآن.
أمريكي : وكيف كان هذا لعمرك؟
إنجليزي : اقرأ كتاب جرانفل شارب Granville Sharpe عن الرق.
فتعلم كيف كان هذا بشهادة العيان.
أمريكي : لقد قرأته.
إنجليزي : وبعيشك ماذا فهمت منه؟
أمريكي : أصارحك الرأي، إنه في جوهره كتاب حسن، وإنني لأعجب بغيرة المؤلف على الحرية في الجملة، ويسرني ما أرى فيه من دلائل الإنسانية. غير أنه يتكلم عن الأمريكيين عامة، فيزعم أنهم لا يشعرون بالحب الصحيح للحرية، وأنهم قلما ينفرون من الاستبداد والطغيان، وأنهم قلما يتورعون عن تسليط الاستبداد والطغيان بأقصى ما في وسعهم من الشدة على عبيدهم المساكين، وهذا ما لست أقره كما أنني لا أقر النتائج التي انتهى إليها حيث يخلص من تلك المزاعم إلى إنكار حق الأمريكيين في الحرية، ففي ذلك مجافاة للعدل وغلو في الإنحاء على الأمريكيين، مع إغضائه عن أخطاء بلاده، وليس هذا فيما أرى بالإنصاف، فضلًا عما فيه من الإضرار بنا هذه الآونة على الخصوص؛ إذ يحاول أن يصورنا في صورة بغيضة، ويغري بنا من يبيتون النية على ظلمنا واضطهادنا، منكرًا حقنا في الحرية التي ننشدها الآن.
إنجليزي : وأي وزر لبلاد المؤلف في تلك المظالم التي يشكوها؟ وأي كلام من كلامه لا يشمل حكمه معاشر الأمريكيين عامة؟
أمريكي : ينبغي ألا يكون كلامه عامًّا على إطلاقه؛ لأن الأسس التي يقيمه عليها ليست بالأسس العامة. وهذه إنجلترا الجديدة — أكثر المستعمرات الإنجليزية سكانًا في أمريكا — قليل فيها عدد العبيد، ومن وجد من هذا القليل فهو في العواصم حيث لا يعملون في عمل شاق، وأكثرهم ثمة سعاة أو خدم في المنازل، ويقال مثل هذا عن المستعمرات التي يقل سكانها عن سكان إنجلترا الجديدة، كنيويورك، ونيوجرسي، وبنسلفانيا، وحتى في فرجينيا، وماريلاند، وكارولينا حيث يعمل العبيد في الزراعة لا يوجدون إلا عند الأسر الغنية القديمة على مقربة من مياه الملاحة، وإنهم لقليلون بالقياس إلى الأسر التي تقيم وراءهم ويندر أن يوجد لديها العبيد، ولو أنك عبرت أمريكا الشمالية من أقصاها إلى أقصاها لم تجد أسرة من كل مائة أسرة لديها عبيد، وإن ألوفًا من الناس هناك ليمقتون الرق كما يمقته مستر شارب ويتورعون عن كل ما يتصل به، ويبذلون جهدهم في إلغائه. فإذا كان من الإجرام في رأي ذلك السيد أن يقتني المرء عبدًا، فهل من العدل أن نوصم جميعًا بالجريمة؟ وإذا كان في إنجلترا واحد من كل مائة يخل بحقوق الأمانة، فهل من العدل أن يقال: إن الإنجليز كلهم لصوص وسراق؟ زد على ذلك أن الذين يقتنون العبيد ليسوا جميعًا قساة أو طغاة، وكثيرون منهم يعاملون عبيدهم بالرفق والمروءة، ويتكفلون بهم في حالتي الصحة والمرض كما تتكفلون هنا بالعمال الفقراء، وما هؤلاء العمال الفقراء عبيدًا بالاسم، ولكنهم ما أشبههم بالعبيد حين تضطرهم الشريعة إلى العمل كل تلك الساعات في خدمة ساداتهم بتلك الأجور، ولا تسمح لهم بطلب المزيد أو المساومة على الأجر، بل تسجنهم في بعض المشاغل إن رفضوا العمل بالأجر المقدور، وقد تسجن السيد إذا قبل أن يزيدهم في الأجور، ويحدث كذلك في الوقت نفسه أن يحال بين الصانع الذكي، وبين السفر من هذه الجزيرة إذا منح في خارجها أجرًا أكبر من أجره فيها.
أما وزر إنجلترا في المظالم الأمريكية، فليذكر سيدي أنها هي التي بدأت بتجارة الرقيق، وأن تجارها من لندن، وبريستول، ولفربول، وجلاسكو يرسلون سفنهم إلى أفريقيا لشراء العبيد. فإذا أساء التجار استخدام الوسيلة في اقتناص العبيد، وإذا شنت الغارات لاحتجان الأسرى، وإذا استدرج الأحرار إلى متون السفن ثم سيقوا إلى الأسر غيلة وغدرًا، وإذا بذلت الرشى للأمراء الصغار إغراء لهم ببيع رعاياهم وهم في الحق طائفة من العبيد — إذا حدث هذا كله فهل تقع جرائر هذه السيئات كلها على عاتق أمريكا؟

إنكم تجلبون العبيد إلينا، وتغروننا بشرائهم، ولست أريد أن أسوغ وقوعنا في الغواية، ولكنني أقول: إنكم إذا سرقتم الناس تبيعونهم لنا ونحن نشتريهم، فلتذكروا المثل القائل: إن المشتري من السارق والسارق سواء، وقد وضع هذا المثل للذين لا يعلمون أن آخذ الشيء المسروق في حكم سارقه، ولكن العكس لم يكن بحاجة قط إلى مثل لتوضيحه؛ إذ ما من أحد يجهل أن اللص كمن يشتري منه في المنكر والسوء.

وإنكم لم تفعلوا هذا وتقنعوا به وتثابروا على فعله وحسب، بل زدتم على ذلك أنكم أنكرتم القوانين التي وضعت في أمريكا لتصعيب تجارة الرق، وفرض الضرائب الثقيلة على الموردين للأرقاء، وأمرت حكومتكم بنقضها لأنها ضارة بمصالح الشركة الأفريقية.
إنجليزي : ما سمعت من قبل بقوانين من هذا القبيل وضعت في أمريكا، غير أن القوانين التي وضعتموها وادعيتم أنها ضرورية لحسن سياسة العبيد بل الخدم البيض، مما استشهد به مستر شارب في كتابته، لا تدعونا إلى حسن الظن بمروءتكم العامة أو باحترامكم الحرية، وليست تلك قوانين آحاد معدودين؛ إذ هي مسنونة برأي نوابكم في الجماعات الممثلة لكم، وهي لهذا خليقة أن تنسب إلى الجميع.
أمريكي : ليس الأمر كذلك. ويجوز أن بعض هذه القوانين وضع في المستعمرات التي يربى فيها عدد الأرقاء كثيرًا على عدد البيض، كما هو الحال في بربادوس الآن، وفي فرجينيا من قبل، وقد تكون تلك القوانين أقسى مما ينبغي من أثر الخوف والظن الغالب بأن الصرامة هي الوسيلة الوحيدة التي تروض العبيد على الطاعة وتصون على سادتهم حياتهم. أما الولايات الأخرى التي يقل فيها عددهم ولا يخشى الخطر منهم، فالقوانين رفيقة والعبيد في كفالة القانون من جميع الوجوه إلا أن نحسب حساب الحرية، ويُجازى الرجل الأبيض بالموت إذا قتل عبدًا ملكه، كما يجازى على قتل إنسان كائنًا من كان. ومن الواجب أن نذكر أن صرامة القوانين على قدر الغباء، أو على قدر السوء في خلائق المحكومين، وقد علمتنا التجربة هذه الحقيقة في كل مكان. وقد يخطر لك أن العبيد قوم لطاف ودعاء يسلس قيادهم لمن يقودهم، وإنهم لكذلك بعض الأحايين، ولكن الأكثرين منهم على خبث، وكيد، وضغينة، وسوء دخيلة، وقسوة بالغة على أشد ما تكون القسوة، وتجاركم وملاحوكم الذين يجلبونهم من غانا يعلمون ذلك، ويعانون من تمردهم على السفن السابحة أو المرسية على الشاطئ كل العناء، وما ظفر العبيد بمن عداهم مرة إلا أتوا عليهم أجمعين، وكلما حدث التمرد من هذا القبيل عالجه قومكم بما يحسبونه ضرورة لا محيص عنها من الصرامة والشدة، وأطلقوا النار على بعضهم أو شنقوهم على ظهر السفينة، وربما كان من هؤلاء العبيد أناس مجرمون في بلادهم يبيعهم أمراؤهم عقوبة لهم على جناياتهم ويجعلون النفي والعبودية جزاء لهم عليها، كما تجزون أنتم هنا من تدينونهم من الأشرار، وما دامت حكومتكم لا تقبل أن تسن القوانين لإخراج العبيد من البلد، فهل يحق لكم أن توجهوا اللوم إلى تلك القوانين التي تبدو ضرورية لحكمهم وهم في ذلك البلد؟
إنجليزي : لكن القوانين التي تضعونها لمعاملة الخدم البيض لا تقل في قسوتها عن القوانين التي توضع للعبيد السود.
أمريكي : هي كذلك في بعض الولايات، وبخاصة تلك الولايات التي ينفون إليها مجرميكم، وإن الخدم الودعاء ليعاملون في أمريكا معاملة الرفق التي يجدونها في إنجلترا. غير أن الأشرار الذين تدينونهم وترسلون بهم إلينا لا بد لهم من القمع الشديد بعصًا من حديد. وقد وضعنا القوانين في ولايات عدة لمنع دخولهم، وكانت هذه القوانين تنقض هنا على اعتبارها مخالفة لقانون البرلمان، ولسنا نشكركم على إقحامهم علينا، ونحسبها بربرية من حكومتكم أن تخلي سجونها، وتملأ بهم محلات بلادنا، بل نحسبها إهانة من أسوأ الإهانات، فإن كانت الشرائع الرفيقة تصلح لسياسة هؤلاء القوم، فما بالكم لا تبقونهم عندكم وتسوسونهم بتلك الشرائع؟ على أنك خليق أن تذكر أن الشرائع التي ترمونها بالقسوة قد أرسلت إلى حكومتكم، كما ترسل جميع الشرائع إلى الملك في مجلسه فأبرمتها. فإن كانت مع هذا عرضة للملام فتفضلوا أنتم واحملوا على عاتقكم بعض هذا الملام.
أيقوسي : لا يحق لكم أن تقولوا إننا نقحم المجرمين على بلادكم؛ إذ في وسعكم إذا شئتم أن تحجموا عن شرائهم، ولو لم يكن من طبعكم الطغيان ولم يكن من هواكم أن تتخذوا لكم أتباعًا تسومونهم العذاب وتشبعون بتعذيبهم تلك الشهوة في نفوسكم، وكان لديكم حقًّا ذلك الشعور بالحرية الذي تثيرون به تلك الضجة — لما اشتريتم أحدًا من العبيد ولا من المجرمين، ولما احتملتم شيئًا كهذا الرق أن يبقى بين ظهرانيكم.
أمريكي : الحق كما تقول: إننا نستطيع أن نكف عن شرائهم، وإن كثيرًا من العقلاء ليحجمون عن شراء أحد منهم، إلا أن الدنيا فيها العقلاء وغير العقلاء، وغير العقلاء يطمعهم الثمن البخس في شرائهم، وعلينا نحن أن نكبح هذا الطمع، وأن نمنع تجاركم أن يصلوا إلينا بتجارتهم البغيضة، ولكنكم لا تأذنون لنا في ذلك، ومن أجل هذا قلت إنكم تقحمون علينا العبيد كما تقحمون علينا المجرمين. وإني ليدهشني يا سيدي أن أسمع ملاحظتكم التي تقول فيها: إننا لو كنا نحب الحرية حقًّا لما سمحنا لشيء كالرق أن يبقى بيننا. فهذه ملاحظة غريبة من بريطاني من أهل الشمال حيث الرق مشروع بحكم القانون لا يزال!
أيقوسي : أحسبك تشير إلى قوانين المواريث وهي لا تشتمل على شيء من الرق، وقد نقضت مع ذلك بقانون صدر من البرلمان.
أمريكي : كلا يا سيدي، إنني أعني الرق في مناجمكم؛ أعني المساكين الذين يحفرون الأرض ليستخرجوا منها الفحم لكم. ففي تلك الأنفاق المظلمة التي لا تطلع عليها الشمس عبيد بحكم القانون، يتلوهم في العبودية أبناؤهم من اللحظة التي يستطيعون فيها أن يحملوا السلة إلى اللحظة التي يختمون بها أعمارهم، وإنهم ليباعون ويشترون مع المناجم وليس لهم من حرية الفكاك من هذا الأسر نصيب أكبر من نصيب العبيد عندنا في الفكاك من مزارع سادتهم، وإذا كان سواد وجوههم مسوغًا لاستعبادهم، فأنتم لا تجدون حتى هذا المسوغ لاستعباد عمال الفحم عندكم. ولتذكر أنهم تحت غبار الفحم الأسود لهم جلود بيض، وإنهم أناس أمناء طيبون، وهم فوق ذلك من أبناء وطنكم.
إنجليزي : يسرني أنك لا تنحي على إنجلترا بمثل هذه الوصمة؛ فإن عمال الفحم عندنا أحرار كسائر العمال.
أمريكي : وهل من أجل هذا تزعمون أنكم لا تعرفون شيئًا من قبيل الرق في البلاد الإنجليزية؟
إنجليزي : لا يوجد في إنجلترا شيء كهذا بكل تأكيد!
أمريكي : أخالني قادرًا على أن أعرض أمام نظرك ما يقنعك بوجوده إذا اتفقنا أولًا على تعريف الرق ما هو؟ ولئن صح ما يقوله مؤلفكم من أن اقتناء العبيد يسلب حق المقتنى في الحرية لتكونن أنتم معشر الإنجليز محرومين من هذا الحق حرمان الأمريكيين.
إنجليزي : وما تعريفك للرق إذن. أرجو أن نسمعه لنعلم هل نحن متفقون عليه أو غير متفقين.
أمريكي : العبد — فيما أرى — هو كائن بشري يسرق أو يغتصب أو يشترى من غيره أو من نفسه بالمال، ويضطر لذلك إلى خدمة الآخذ أو الشاري حسب هواه مدى الحياة. وقد يباع مرة أخرى، أو يؤجر لغير سيده، ويضطر في هذه الحالة إلى خدمة مشتريه أو مستأجره، ولا يضطر إلى إطاعة سيده وحده، بل يضطر كذلك إلى إطاعة أوضع الخدام لديه، فيحضر متى استدعاه، وينصرف بأمره، ويقيم حيث يرتضي له الإقامة، ولو بعث به إلى أقصى أطراف الأرض وأوخم الأجواء، وعليه أن يلبس الملابس التي يختارها له سيده، ولا يلبس غيرها، ولو لم تكن من لباس العرف الشائع وكان الارتداء بها علامة من علامات العبودية، وعليه كذلك أن يتقبل الطعام الذي يفرضه له سيده، أو يتقبل القدر الذي يعطيه إياه من المال بديلًا من الطعام والكساء. وينبغي ألا يفارق مكان الخدمة بغير إذن مولاه، وأن يخضع للجزاء الصارم عقابًا له على أيسر الهفوات، وأن يساوم الضرب بالسياط، بل القتل، عقابًا له على الإباق من الأسر أو على عصيان الأمر، أحسب أن كائنًا بشريًّا كهذا إنما هو عبد في كل ما يراد من العبيد ويفرض عليهم.
إنجليزي : أوافقك على تعريفك. إلا أنني على يقين، نعم على يقين، أنك لن تجد في إنجلترا أحدًا بهذه الصفة.
أمريكي : كلا، بل عدة ألوف إذا كنت قد أحسنت وصف الجندي الإنجليزي، أو الملاح الإنجليزي بذلك التعريف. فالملاح كثيرًا ما يجبر على الخدمة وينتزع من جميع روابطه وعلاقاته، والجندي يشترى عادة بدينار وبعض دينار في سوق التجنيد، ولسيده أن يبيع عمله من يشاء من الأمراء الغرباء، أو يؤجره بما يبرمه من المعاهدات، ويقذف به إلى حيث يرمي، أو يرمى في ألمانيا أو البرتغال أو غانة أو الجزر الهندية الغربية، وهو مقيد بالعمل مدى الحياة يصدق عليه كل حرف مما ذكرته في ذلك التعريف، وقد يتخطى الرق الإنجليزي في حالة من الحالات كل ما انتهى إليه من الحدود في الديار الأمريكية.
إنجليزي : وماذا تعني؟
أمريكي : نحن لا نستطيع في أمريكا أن نأمر العبد بعمل لا يستقيم مع الخلق أو مع الشريعة، ولا نستطيع مثلًا أن نأمره باقتراف جريمة القتل، ولو أمرناه بذلك لحق له أن يأبى وتقره القوانين على الإباء. غير أن الجندي مجبر على طاعة كل أمر، أو يعرض نفسه للموت، ولو كان الأمر كأمر هيرود بقتل كل طفل دون السنتين، أو بقطع رقاب الصغار في المستعمرات، أو بإطلاق النار على النساء والأطفال في بطاح سان جورج (إشارة إلى مذبحة سنة ١٧٦٨).٢

ويسلك فرنكلين مثل هذا المسلك «المنطقي» لإقناع مخالفيه داخل بلاده في مسألة الرق، كما سلكه في مناقشة المخالفين خارج بلاده لإقناعهم في هذه المسألة، وقوام الإقناع عنده في الحالتين أن يأخذ المخالفين له بما يدينون به ويسلمونه، وأن ينبههم إلى أحوالهم التي يغفلون عنها ولا يلتفتون إلى مغزاها، وأن يريهم أنهم يصابون بالحجة التي يسوقونها قبل أن يصيبوا بها غيرهم، وهذا الأسلوب المنطقي أفعل الأساليب في إلزام حجتهم؛ لأنها في النضال المنطقي بمثابة نقل الهجوم إلى معسكر الخصم من داخله ليشتغل بنفسه عن مهاجمة غيره.

وقد تقدم أن فرنكلين كان يقول أنه يرحب برسول المفتي الأكبر من القسطنطينية إذا طاب للمفتي الأكبر أن يوفده إلى الديار الأمريكية، ولكنه في الرسالة التالية يذكر أنصار الرق في بلاده بحجة القراصنة الذين كانوا يستخدمون شواطئ المغرب بأفريقيا الشمالية لاقتناص ركاب السفن والاتجار ببيعهم والتعلل بالدين لاستباحة رقابهم، وكان بعض أنصار الرق — مستر جاكسون مندوب ولاية جورجيا — قد ألقى خطابًا في مجلس النواب — يفند به أقوال المعترضين على النخاسة أو تجارة الرقيق ونشرته صحيفة الفدرال جازيت Federal Gazette ، فكتب فرنكلين إلى الصحيفة يرد عليه بهذا الأسلوب التهكمي الذي يشبه «محاكاة الصوت» للسخرية والتنديد، وكان تاريخه يوم الثالث والعشرين من شهر مارس سنة ١٧٩٠ قبل وفاة فرنكلين بنحو ثلاثة أسابيع.

خطاب سيدي محمد إبراهيم

سيدي محرر الفدرال جازيت

قرأت أمس في صحيفتكم الغراء خطاب مستر جاكسون في مجلس النواب يستنكر به تعرضهم لمسألة الرق ومحاولتهم تحسين أحوال الرقيق، فذكرني خطابه هذا بخطاب ألقي قبل مائة سنة بلسان سيدي محمد إبراهيم عضو الديوان بالجزائر كما أثبته مارتن في سجل قنصليته سنة ١٦٨٧. وكان هذا الخطاب معارضًا لجماعة الطريقة الصوفية التي توسلت إلى الديوان أن يأمر بإلغاء القرصنة والنخاسة؛ لأنهما تناقضان العدل والإنصاف.

إن مستر جاكسون لم يستشهد به ولعله لم يطلع عليه، ولهذا يبدو من براهينه وذرائعه أن عقول الناس ومنافعهم تدين وتدان على منهج واحد في جميع الأمم والأقاليم كلما اتفقت المطالب والأحوال، وهذه هي ترجمة الخطاب الأفريقي المشار إليه:

بسم الله. الله أكبر. ومحمد نبيه ورسوله

ترى هل فكر أصحاب هذه الطريقة في عواقب الاستجابة لرجائهم؟ وكيف ترانا نصل إلى البضاعة التي تأتي من البلاد المسيحية، ولا غنى لنا عنها إذا نحن كففنا عن شن الغارة على المسيحيين؟ ومن الذي يزرع لنا الأرض في هذه البلاد الحارة إن لم نتخذ منهم عبيدًا مسخرين؟ ومن الذي يؤدي لنا عمل الخدم في المدن والبيوت؟ ألا يئول بنا الأمر يومئذ أن نصبح نحن العبيد المسخرين لأنفسنا؟ ألسنا هنا أحق بالرحمة من أولئك الكلاب؟

لدينا الآن خمسون ألفًا في الجزائر وحولها ينقصون يومًا بعد يوم إن لم يأت المدد من جديد، فإن كففنا عن اغتنام سفن الكفرة، واسترقاق الملاحين والمسافرين على متونها فلسوف تصبح أرضنا هملًا لا قيمة لنا لانقطاع العمل في زراعتها. وسوف تهبط أجور بيوتنا في المدينة إلى نصفها، وتنفد موارد الخزانة العامة تبعًا لذلك. ومن أجل ماذا كل هذا يا ترى؟ كل ما هنالك أن نرضي أهواء طائفة من أصحاب الأحوال والبدوات يودون لو أننا أطلقنا الأرقاء الذين في حوزتنا فضلًا عن تحريم المزيد من المدد الجديد.

وبعد، فمن الذي يعوض سادتهم عن ضياعهم؟ أتعوضهم الدولة؟ أفي خزانتها كفاية من المال؟ أترى يعوضهم أبناء تلك الطريقة أم في وسعهم هذا التعويض؟ أم هم في سبيل الإنصاف الذي يزعمونه لأولئك العبيد يتجافون عن إنصاف أولئك السادة المظلومين؟ وهبونا أطلقنا عبيدنا، فماذا يصير من أمرهم بعد إطلاقهم؟ إن قليلًا منهم من يعودون إلى بلادهم لعلمهم بالمصاعب التي تنتظرهم هنالك، وهم لا يؤمنون بديننا ولا يسيرون على نهجنا في حياتنا ولا يتبعون عاداتنا، ولا يقبل أبناء قومنا أن يدنسوا أنفسهم بمخالطة أنسابهم. فهل ترانا نستبقيهم بيننا متسولين في طرقاتنا؟ أو ترانا نترك أمتعتنا لمن يريد منهم أن يسرقها ويسلبها؟ إن الذين طال بهم عهد العبودية لن يعملوا لكسب أقواتهم إن لم يجدوا من يكرههم على العمل لها، وماذا لعمري في معيشتهم اليوم من السوء أو مما يستدر الرحمة والإشفاق؟ ألم يكونوا عبيدًا في بلادهم قبل هذه البلاد؟ أليست بلاد الإسبان، والبرتغال، والفرنسيين، والإيطاليين مسخرة في طاعة حكام مستبدين؟ أليست إنجلترا تسوم ملاحيها سوم العبيد وتقبض عليهم حكومتهم كما تشاء لتحبسهم في سفن الحرب وتكرههم لا على العمل وحسب، بل على القتال من أجل رزق قليل أو مئونة تسد الرمق ولا تفضل في شيء ما نسمح به نحن للعبيد. فهل تسوء أحوالهم إذن لأنهم يقعون في أيدينا؟ كلا. بل قصارى الأمر أنهم يستبدلون رقًّا برق، وأقول: إنه لرق خير من رقهم لأنهم يعيشون هنا حيث تشرق شمس الإسلام في روعتها وبهائها، وحيث تتاح لهم الفرصة للاهتداء إلى الدين الحق والنجاة بأرواحهم من الهلاك. أما الذين يمكثون منهم في أرضهم، فلا أمل لهم في هذه السعادة، ولن يكون إرسال العبيد من بلادهم إلا كإخراجهم من النور إلى الظلمات.

وأعود فأسأل: ماذا عسى أن يصير من أمرهم؟ لقد سمعت من يقول أنهم يرسلون إلى القفار حيث تتسع الأرض لمعيشتهم ويقيمون أحرارًا في أرضهم. على أنني أحسبهم لا ينشطون لعمل قط ما لم يدفعوا إليه على الرغم منهم، وإنهم لأغبى من أن ينهضوا بحكومة حرة لحكم أنفسهم، ولن يلبثوا أن يغير عليهم الأعراب من أهل البادية فيستعبدوهم، ولكنهم حين يقيمون في خدمتنا يلقون منا الرفق وحسن الرعاية على سنة الرحمة والمروءة، وليس للعمال في أوطانهم كما أعلم نصيب من ذلك، بل هم على نصيب قليل من الغذاء والمسكن والكساء، فهم على هذا تصلح أمور الأكثرين منهم بيننا، ولا حاجة بهم إلى ترفيه أو إصلاح حال؛ إذ هم هنا في أمان لا يجبرون على الجندية ولا على أن يعمل المسيحيون منهم في قطع رقاب إخوانهم المسيحيين كما يحدث فيما يشجر بينهم من الحروب. فإذا كان أناس من هؤلاء المجاذيب الذين يحتجون بالغيرة على الدين فيما بيننا قد حسن لديهم أن يرفعوا العرائض تترى للإفراج عن هؤلاء الأسارى فما كان ذلك من كرم فيهم ولا من مروءة ورحمة، وإنما هي أعباء ذنوبهم وخطاياهم يرزحون بها ويخيل إليهم أن هذا المطلب خليق — لما يتوهمونه من إحسانه وفضله — أن ينجيهم من الهلاك وسوء الجزاء.

وما أضل هؤلاء المتهوسين حين يحسبون أن الاسترقاق محرم في القرآن؟ أليس أمر السادة بالرفق وأمر العبيد بالطاعة والأمانة نصًّا على جواز الاسترقاق؟ كذلك لا يحرم في الكتاب سلب الكفار؛ لأن المعلوم منه أن الله قد وهب الدنيا وكل ما فيها لعباده المؤمنين يغتنمون ما افتتحوا منها.

فلا نستمعن بعد الآن لذلك الطلب البغيض، ولنعلمن أن إطلاق الأرقاء النصارى يسلط الكساد والخراب على أراضينا وبيوتنا، ويحرم الكثيرين من رعايانا الأمناء طيبات أرزاقهم، فيثير القلق في النفوس، ويغري المتذمرين بالفتنة، ويزعزع مكانة الحكومة، ويعم الديار بالفوضى والاضطراب، ولا يخامرني الشك — لهذا — في أن هذا المجلس الحكيم يؤثر سعادة الأمة المؤمنة كلها على إرضاء فئة من أبناء الطريق، ويعرض عما يطلبون.

ولقد كان من أثر هذا الكلام، كما أنبأنا مارتن في سجله، أن الديوان انتهى إلى هذا القرار:

إن القول بأن سلب النصارى واسترقاقهم ظلم ومجافاة للعدل، إنما هو على الأقل من الأقوال المختلف عليها، ولكنه من الواضح أن الإبقاء على هذه الحالة في مصلحة الدولة. فلا تقبل تلك العريضة بناء على هذا الاعتبار.

وعلى هذا رفضت العريضة.

ولما كانت البواعث المتشابهة تميل بعقول الناس إلى ما يشببها من الآراء والقرارات، أفلا يجوز لنا — يا مستر براون — أن نستخلص من ذلك أن العرائض التي أرسلت إلى برلمان إنجلترا لإلغاء النخاسة، ولا نذكر ما عدا ذلك من المطالب، وشيكة أن تصير كما تصير المناقشات فيها إلى مصير كهذا المصير.

إنني يا سيدي قارئك المثابر وخادمك المتواضع:٣ مؤرخ.

معاهدة مع سيدة

وهذه رسالة من نوع آخر غير الرسائل إلى الصحف، وغير الرسائل إلى سائر الأشخاص، كتبها إلى السيدة بريون Brillon إحدى سيدات المجتمع الرفيع في باريس، وكان يكتب إليها باللغة الفرنسية فتصحح له أخطاءه وتدربه على التعبير الفصيح في الكتابة والكلام بتلك اللغة، وقد كتبت إليه من نيس تعاتبه؛ لأنه انصرف عن الاهتمام بها في غيابها ووجه التفاته إلى سيدات غيرها، وكان الخطاب في صيغة المراسم الدولية، فكتب إليها الرد في صيغة معاهدة سياسية وقدم لها بفاتحة تمهيدية (بروتوكول) فقال:

باسي، في ٢٧ من يوليو سنة ١٧٨٢

ما أبعد الفارق بينك وبيني! إنك تعدين عيوبي كثيرة حتى لقد تربى على الإحصاء، وأنا لا أرى لك إلا عيبًا واحدًا لعله من عيوب نظارتي، ذاك ضرب من الطمع يوحي إليك أن تعظمي عاطفتي وتستأثري بها وحدك، حتى لا بقية فيها لواحدة من سيدات وطنك المحبوبات، وكأنك تحسبين أنها من العواطف التي لا تقبل القسمة إلا نقصت وتفرقت، وهي غلطة في الحساب وفي النظر إلى طبيعة الموقف الذي وقفتني فيه وقضيت به عليَّ. فإنك تجردين حبنا من كل صلة جسدية غير ما يكون من عناق كعناق أولاد العم عند مقدمهم من الريف. فماذا بقي من العاطفة مما يسوغ لي أن أتجه به إلى الأخريات دون أن يغض ذلك أو ينقص من محبتي إياك؟ إن خطرات الفكر، والتقدير، والإعجاب، والتوقير، بل العطف نفسه على موضوع من موضوعاته ليقبل المضاعفة والزيادة كلما تضاعفت تلك الموضوعات وازدادت دون أن يخل ذلك بحق صاحب العطف الأصيل، أو يسوغ له الشكاية من ضرر. وإنه لفي طبيعته من قبيل تلك الألحان العذبة التي توقعينها على المعزف ببراعتك الألمعية، ويستمع لها عشرون، فيغتبطون بسماعها، ولا يغض ذلك من نصيبي الذي تريدين أن يخصني منها، وقد يحق لي إذن أن أطالبك بمنعها أن تصل إلى أذن غير أذني. وسترين على هذا كيف جاوزت بمطالبك حد العدل والنصفة، وزدت عليها إعلان الحرب عليَّ إن لم أذعن لجميع تلك المطالب، ولو أنصفتني لكان من حقي أنا أن أشكو إليك. وها هو ذا ولدي الصغير لم يسمن ولم يكتنز كعهدي بالأطفال في رسومك الرشيقة، بل هو يهزل ويتضوع إلى غذائك المريء الذي تنكرينه عليه أنت أمه الحنون، ثم هأنتذي تتوعدينه بقص جناحيه كي يقعد عن البحث عنه في مكان.

ويخيل إليَّ أن الحرب التي تشهرينها لا أغنم منها ولا تغنمين، ولما كنت أنا الأضعف وجب عليَّ أن أصنع ما يصنعه الأحكم، وأن أبدأ بطلب الصلح، ولا ضمان لدوام الصلح إلا أن تصاغ شروطه في قالب الإنصاف وتبادل الرضا والموافقة، وهذه هي مواد المعاهدة التي أعرضها للقبول والإبرام:

  • المادة الأولى: يتقرر السلام الدائم مع الحب والصداقة بين الطرفين مدام بريون، ومستر فرنكلين.
  • المادة الثانية: لدوام هذه العلاقات تقبل المدام من جانبها أن يكون مستر فرنكلين على استعداد لتلبية الدعوة كلما خطر لها أن تدعوه إلى حضرتها.
  • المادة الثالثة: على مستر فرنكلين أن يبقى بعد حضوره طالما سمحت له بالبقاء.
  • المادة الرابعة: إذا وجد معها فعليه أن يتناول الشاي، وأن يلعب بالشطرنج، وأن يستمع إلى الموسيقى، وأن يستجيب لكل أمر يصدر إليه من جانبها.
  • المادة الخامسة: عليه ألا يحب امرأة قط غيرها.
  • المادة السادسة: والمذكور فرنكلين يتعهد من جانبه أن ينصرف من عندها حين يشاء.
  • المادة السابعة: ويتعهد المذكور أيضًا بالتغيب كما يشاء.
  • المادة الثامنة: وأن يفعل ما يشاء حين يكون في حضرتها.
  • المادة التاسعة: وألا يحب امرأة أخرى إلا بمقدار ما عندها من دواعي المحبة.
وأرجو أن أسمع رأيك في هذه القواعد المبدئية، وفي رأيي أنها أصدق تعبيرًا عن المقاصد والنيات التي يرضاها الطرفان من أكثر المعاهدات، وبودي أن ألح وأصر على قبول المادة الثامنة، وإن لم يكن أملي عظيمًا في قبولها، وكذلك ألح وأصر على قبول المادة التاسعة، وإن كنت على يأس من لقاء المرأة التي تستولي مني على حب يضارع حبي إياك أيتها الصديقة الغريرة العزيزة.٤
للمخلص ب. ف.

بين العلة والمريض

وكان السيد بريون قرين السيدة بريون يشكو مرض النقرس الذي أصيب به فرنكلين وحاول كعادته أن يلطف ألمه باستخراج العبرة منه، فكتب الحوار الآتي مع رسالة إلى السيدة للتسرية عن قرينها في مرضه، وتكلم عن النقرس بضمير المؤنث وسماه السيدة على سبيل التهكم، فترجمناه بأم النقارس لتصوير العلة في هذه الصورة بقدر المستطاع:

فرنكلين : آه. آخ. يارب. ماذا تراني صنعت كي أستحق هذه الآلام القاسية.
أم النقارس : صنعت كثيرًا. أكلت أكلًا لمًّا، وشربت شربًا جمًّا، واستسلمت لكسل قدميك فتركتهما في متعة الراحة الزمن الطويل.
فرنكلين : من ذا يكلمني؟
أم النقارس : إنني أنا نفسي أم النقارس.
فرنكلين : عدوي بعجره، وبجره.
أم النقارس : لست بعدوك.
فرنكلين : بل عدوي المبين؛ فإنك لا تقنعين بقتل جسدي بآلامك المبرحة وحسب، بل أراك تعملين على تشويه سمعتي الحسنة، وتتهمينني بالنهم والإدمان، وكل من عرفني فقد عرف أنه ما من أحد قط رماني بهذه التهمة وزعم أنني أفرط في الطعام أو الشراب.
أم النقارس : ليحكم الناس كما يحبون، فما أكثر مجاملة الإنسان لنفسه في هذه الأيام! وما أكثر مجاملة الأصدقاء للأصدقاء! إلا أنني أنا أعلم أن الطعام الذي لا يحسب كثيرًا، وأن الشراب الذي لا يحسب لذلك بالنظر إلى إنسان كثير الحركة، لهو الإفراط بعينه حين يتعاطاه رجل قليل الحراك.
فرنكلين : إنني، آه، آخ، إنني أتريض جهد ما أستطيع يا سيدتي أم النقارس، وإنك لتعلمين طبيعة حياتي «القاعدة»، فكان في وسعك يا سيدتي أم النقارس أن تحسبي حسابها، وتعفيني من الألم بعض الإعفاء؛ إذ لم تكن غلطتي أنا أن أعمل في استقرار.
أم النقارس : أبدًا، إن منطقك ولباقتك عبث ضائع، ومعاذيرك لا تساوي قطميرًا في هذا المقام، فإنك إذا كان عملك ساكنًا مستقرًّا فقد وجب أن تكون رياضتك وتسلياتك متحركة ناشطة، عليك أن تخرج للرياضة على قدميك أو على ظهر جواد، وإذا عز عليك الوقت فتريض بلعب البليار، فتعال نحاسبك على منهج حياتك، وكيف تتصرف في قضاء أوقاتك، يكون لديك الكفاية من الوقت بعد منتصف النهار وعند الأصيل، فماذا تراك تصنع في هذه الساعات؟ إنك بدلًا من شحذ الرغبة في الطعام بالرياضة الصالحة تدأب على تسلية نفسك بقراءة الكتب، والرسائل، والصحف التي لا تستحق في كثير من الأحيان أقل التفات. ثم تتناول الغداء الفخم، وتجرع أربعة أكواب من الشاي والقشطة مع قدتين من الخبز والزبدة عليها قطعة من لحم البقر مما لا يحسب فيما أرى من الطعام اليسير الخفيف على البطون. ثم تذهب إلى مكتبك على الأثر حيث تكتب أو تتحدث إلى الذين يزورونك في شئون العمل، وتمضي على ذلك إلى الساعة الواحدة دون أن تروض بدنك أقل رياضة على أنني قد أغفر لك هذا؛ لأنه كما تقول من طبيعة عملك القرير، ولكن تعال نسألك ماذا تصنع بعد الغداء؟ إنك بدلًا من التمشي في حدائق أصحابك الذين تتغذى عندهم كما يصنع أولو الفهم والفطنة، ترسخ على المقعد أمام الشطرنج حيث يستطيع من شاء أن يراك مستطردًا في اللعب ساعتين أو ثلاث ساعات. وتلك هي رياضتك الأبدية، وهي أقل الرياضات موافقة لأصحاب العمل القرير؛ لأنها لا تساعد حركة الأخلاط البدنية، بل تتطلب الثبات والانتباه الطويل الذي يعطل تلك الحركة، وكذلك تتلف بنيتك بالاستغراق في تلك اللعبة التعسة، فكيف يتوقع أحد أن يعيش تلك العيشة دون أن تركد أخلاط بدنه وتتعرض للفساد، ويصبح البدن من جراء ذلك عرضة لجميع الأدواء العضال إن لم أحضر إليك — أنا أم النقارس — بين حين وحين كي أهيج أخلاطك فأصفيها أو أنقيها. ولو أنك في زاوية من زوايا باريس بين الأزقة التي لا تتخللها طرق الرياضة تقضي في لعب الشطرنج، لجاز لك أن تتمحل تلك المعاذير، ولكنك تفعل هذا في باسي، وفي أوتيل، وفي مونمارتر، وفي إيباني، وفي سانوا حيث تكثر الحدائق والمنازه والنساء، وينطلق الهواء النقي والأحاديث الممتعة النافعة، وتستمتع بذلك كله وأنت سائر على قدميك. غير أنك تهملها جميعًا حبًّا لتلك اللعبة التعسة لعبة الشطرنج. تعسًا لك إذن يا سيد فرنكلين! إنني نسيت نفسي وأنا ماضية في نصحك. فخذ الساعة هذه القرصة، وخذ معها تلك، وخذ.
فرنكلين : آه، آه، أوه، هات بربك ما شئت من نصائحك، بل من لواذعك، ولكن بربك لا تزيديني من هذه التقويمات والتصحيحات!
أم النقارس : على النقيض يا صاح. لن أعفيك من هباءة منها؛ فإنها لمصلحتك. خذ!
فرنكلين : أوه، إيه، من الظلم يا سيدتي أن تقولي أنني لا أتريض، فإنني لآخذ رياضتي في مركبتي حين أذهب إلى الغداء وحين أعود.
أم النقارس : تلك بين جميع الرياضات أقلها نفعًا وأهونها حركة؛ إذ تهتز المركبة على دواليبها ولا زيادة. ولك أن تحكم على مبلغ الرياضة في الحركة بمبلغ ما تحدثه تلك الحركة من الحرارة. فإنك إذا خرجت للرياضة في الشتاء وقدماك باردتان لم تلبث ساعة حتى تشعر بالحرارة في قدميك وجميع أجزاء بدنك، وإذا ركضت على ظهر الجواد، فأنت في حاجة إلى ساعات أربع للظفر بمثل تلك الحرارة، ولكنك إذا جلست في مركبتك فربما قضيت اليوم كله وانتهيت إلى قرارك وأنت بارد القدمين. فلا تخدعن نفسك إذن وتقضين نصف ساعة في مركبتك، ثم تسمينها رياضة، وما منح الله كل من هب ودب مركبة يمتطيها، ولكنه منح كل إنسان قدمين أكمل، وأجمل، وأنفع، فاجعل من شكرك لله على هذه المنحة أن تستخدمها وتنتفع بها. وفي وسعك أن تعرف كيف تتحرك أخلاط الجسم وأنت تتنقل من مكان إلى مكان. فلاحظ أنك حين تمشي على قدميك ينتقل ثقل جسمك كله دواليك تارة إلى الجانب الأيمن وتارة إلى الجانب الأيسر وتضغط هذه الحركة على عروق القدم وتدفع منها ما تحتويه، ويتسع الوقت لامتلاء العروق مرة أخرى ريثما يتم التحول من قدم إلى قدم، فيتم بذلك انتظام الدورة في الجسم، ومن هنا تأتي الحرارة التي تنشأ في لحظة من الزمن، وتنشط الأخلاط وتجري الأمزجة مجراها فيجري كل شيء على ما يرام؛ تحمر الوجنتان، وتتمكن العافية.
ولتنظر إلى صديقتك في أوتيل — تلك المرأة التي تلقت من الطبيعة نصيبًا من العلم الحق أوفر من أنصباء ستة منكم أدعياء الحكمة الذين يقتبسونها من الكتب، فإنها حين تنوي أن تشرفكم بزيارتها تمشي على قدميها من الصباح إلى المساء، وتدع أمراض الكسل كلها تتوزع بين خيلها، فانظر كيف تحافظ على صحتها بل على محاسنها، وأنتم تنوون زيارة أوتيل ففي المركبة تذهبون، ولا فرق بين المسافتين: من أوتيل إلى باسي، أو من باسي إلى أوتيل.
فرنكلين : إنك تضجرينني بهذا الجدل.
أم النقارس : صدقت، سأمسك لساني وأمضي في أداء واجبي، خذ هذه الوخزة، وخذ هذه، وخذ.
فرنكلين : أوه، أوه، لا بل تكلمي، تكلمي، أتوسل إليك تكلمي.
أم النقارس : كلا، إن عندي حفنة من الوخزات حصتك في هذه الليلة، والبقية إلى الغد.
فرنكلين : رباه، هذه هي الحمى، لقد هلكت، ألا يوجد أحد يحمل عني هذه الآلام.
أم النقارس : اطلب هذا من خيلك. فإنها تتعب لتمشي في مكانك.
فرنكلين : ما أشد قسوتك، تعذبينني كل هذا العذاب لغير سبب.
أم النقارس : أما لغير سبب فلا، وإن لدي لثبتًا وافيًا أحصي فيه جميع خطاياك في حق صحتك، وكلها مسطرة في وضوح، وما من وخزة تتلقاها مني إلا وعندي عليها برهان.
فرنكلين : اقرئيه إذن.
أم النقارس : إنه شرح يطول، وسأريكها بعرضها عليك.
فرنكلين : افعلي، فكلي أسماع.
أم النقارس : أتذكر كم مرة عزمت على التمشي في غاب بولون، أو حديقة الصيد، أو حديقتك وانثنيت عن عزمك، تزعم تارة أنه برد، وتارة أنه حر، وفي ساعة أخرى أنها ريح، أو أنها رطوبة، أو أنها ما لست تدري ماذا من التعديلات؟ تزعم ذلك وما في كل أولئك من سبب إلا السبب الوحيد: وهو أنك كسلان!
فرنكلين : أعترف بأن هذا يحدث، لعله عشر مرات في كل سنة.
أم النقارس : اعتراف أبتر، والحق أنه يتضاعف مائة مرة وتسعًا وتسعين.
فرنكلين : أيمكن هذا؟
أم النقارس : نعم ممكن؛ لأنه واقع، ولك أن تطمئن إلى صدق كل ما أقول، وأنت تعرف حدائق مدام بريون، وتعلم أنها ما أصلحها للسير فيها، إنك تعرف الدرج الذي تعد منه مائة وخمسين من الأرض إلى المرتقى الأعلى، وإنك لتزور هذه الأسرة المحبوبة مرتين كل أسبوع فيما بعد الظهيرة، وإنك لأنت القائل: إن «التمرين» على صعود الدرج ونزوله أكبر من التمرين على المشي في السهول. فما كان أجمل الفرص التي تتيح لك أن تجمع بين هذا التمرين وذاك التمرين. فهل انتفعت بهما؟ وكم مرة يا ترى؟
فرنكلين : لا أقدر على الجواب الصحيح عن هذا السؤال.
أم النقارس : إذن أتولى أنا الجواب عنك، ولا مرة!
فرنكلين : ولا مرة؟
أم النقارس : نعم ولا مرة؛ ففي أيام الصيف الماضي الجميل وصلت ثمة عند الساعة السادسة، ووجدت ثمة تلك السيدة المليحة وأطفالها الحسان وأصحابها جميعًا على استعداد لمزاملتك في السير وإمتاعك بأحاديثهم الرائقة. فماذا صنعت؟ جلست على الشرفة وأثنيت على المنظر الجميل، وعاينت جمال الحدائق من تحتك ولم تخط خطوة واحدة لتهبط إليها وتسير فيها، وعلى نقيض ذلك طلبت الشاي ورقعة الشطرنج ورسخت في مجلسك حتى الساعة التاسعة، ولعبت نحو ساعتين بعد تناول الطعام، ولم تعد بعد ذلك إلى منزلك مشيًا كي تتحرك بعض الحركة، بل عدت إليه جالسًا في مركبتك. فأية حماقة تلك التي تسول لك أن تظن أنك مع هذا الشطط تملك صحتك بغير زاجر مني.
فرنكلين : الآن أومن بصواب ما قال ريتشارد المسكين حيث يقول: إن ديوننا وخطايانا أكثر مما نحسب.
أم النقارس : ذلك حق، وهكذا أنتم معشر الفلاسفة تملئون أفواهكم بالحكمة، وتعملون عمل الجهلاء.
فرنكلين : ولكن أتراك تعدينها من جناياتي، أنني عدت بالمركبة من عند مدام بريون؟
أم النقارس : بكل يقين، لأنك قضيت اليوم جالسًا ولا يسعك أن تزعم أنك قد تعبت من الجهد والمشقة، أو أنك في حاجة إلى الترفيه عنك بالجلوس في المركبة.
فرنكلين : فماذا تقترحين إذن، وماذا ترين أن أصنع بمركبتي؟
أم النقارس : احرقها إن شئت، إنها تعطيك على الأقل شيئًا من الحرارة وهي محترقة! وإن كانت هذه النصيحة لا تروقك فإني باذلة لك غيرها. انظر إلى الفلاحين المساكين الذين يحرثون الأرض في الكروم والحقول حول قرى باسي، وأوتيل، وشايوت. إنك سترى كل يوم بين هؤلاء الخلائق المساكين خمسة أو ستة من الشيوخ أو العجائز قد انحنت ظهورهم ورزحوا تحت وقر السنين في الكدح والمشقة، وهم بعد العمل المجهد طوال اليوم يمشون ميلًا أو ميلين كي يصلوا إلى أكواخهم المصدعة، فمُرْ سائقك أن يدعوهم إلى المركبة ويحملهم إلى بيوتهم، فإنه لعمل صالح تدخره لنجاة روحك، ولئن عدت في الوقت نفسه على قدميك من عند السيدة بريون ليكونن ذلك عملًا صالحًا تدخره لجسدك.
فرنكلين : آه، ما أثقل حديثك!
أم النقارس : نعود إذن إلى شغلنا. فلتذكر دائمًا أنني أنا طبيبتك خذ هذه!
فرنكلين : آه، أوه، يا لك في طبك من شيطانة!
أم النقارس : إنك لتنكر الجميل إذ تقول ذلك عني. ألست قد أنقذتك من الشلل بالقيام على تطبيبك؟ ألست قد أنقذتك من أدواء الاستسقاء أو الفالج التي كانت وشيكة أن تقضي عليك لو لم أمنعها.
فرنكلين : أعترف بذلك، وأشكرك على ما أسلفت، ولكني أرجوك الآن بربك أن تفارقيني فراق الأبد؛ فقد يلوح لي أن الموت أهون من علاج فيه مثل هذا الوجع، واذكري كذلك أنني كنت صديقك، وأنني لم أدع أحدًا لمصارعتك ومنازعتك لا من الأطباء ولا من الرقاة والممخرقين، فإن لم تفارقيني الآن فأنت خليقة كذلك أن تتهمي بالجحود.
أم النقارس : لا أخالني شاكرة لك كثيرًا على هذا؛ فإنني لأهزأ بالرقاة والممخرقين، وإنهم لقادرون وعاجزون عن المساس بي في كثير أو قليل. وكم من طبيب حق الطبيب يعرف أخيرًا هذه الحقيقة التي تقول له: إن النقرس ليس بالداء، ولكنه ضرب من الشفاء، ولا لزوم لتعويق أسباب الشفاء، ولنرجع — بعد — إلى عملنا، خذ هذه.
فرنكلين : أوه آه، سألتك بالله إلا ما تركتني وأنا واعدك منذ اليوم ألا ألعب بالشطرنج، وألا أدع الرياضة كل يوم، وأن ألزم الاعتدال مدى الأيام والليالي.
أم النقارس : أعلم أنك ستفعل، وأنك تعد الوعود الجميلة وما تلبث بعد أشهر قلائل في الصحة والعافية أن تعود إلى عاداتك ومألوفاتك وتذوب وعودك الجميلة، كما ذابت ثلوج السنة الغابرة. فلنعد إلى حسابنا ولنوازن بين كسبنا وخسارتنا، ثم إني بعد ذلك تاركتك على يقين من الرجعة إليك في الوقت اللازم وفي المكان الملائم، فإنه لمن مصلحتك، وإنني لك كما تعلم لنعم الصديق!٥

الرفق بالحيوان

وكتب فرنكلين إلى السيدة هلڤيتس Helvétius قرينة الفيلسوف المعروف رسالة بلسان قططها حين علم أنها تنوي أن تتخلص منها بمشورة بعض أصدقائها من القسس؛ لأنها تغير على أقفاص الطير التي تربيها في قصرها، فأرسل إليها هذه العريضة بلسان القطط تتوسل إليها أن تبقي عليها. فقال:

حضرة السيدة النابهة العلية الشأن والمقام

بلغتنا الساعة نبذة من خبر مرعب نغص علينا سعادتنا التي ننعم بها في حظائر الطير والغاب لديك. بلغنا أنك لما سمعته من بعض الوشايات من أعدائنا (الأب موريليه، والأب روس) قد حكمت علينا بالنفي، وأننا سنعتقل بوسيلة شيطانية، ونحبس في باطية، ويقذف بنا إلى أعماق النهر، حيث نترك فيه لرحمة الأمواج، وإننا لنسمع في هذه اللحظة التي نكتب فيها هذه العريضة المتواضعة ضربات المطارق في أيدي الحوذية الذين عهد إليهم بصنع الآلة الجهنمية التي فيها هلاكنا.

ولكن — سيدتنا علية الشأن — أتسمحين أن يقضى علينا هكذا دون أن يستمع للدفاع من جانبنا؟ وهل تريننا وحدنا من الذين تطعمينهم وتغذينهم نحرم ما في صدرك الحنون من العطف والشفقة؟ إننا نرى يدك الكريمة كل يوم تطعم مئات الفراخ، والكنار، والحمائم التي لا عداد لها، كما تطعم عصافير الجيرة أجمعين، وأسراب الشحارير في غاب بولون، بل تسخو بالطعام والشراب حتى للكلاب في هذه الرحاب، فهل نحن وحدنا نحرم هذه الخيرات من يدك ولا يكفينا هذا، بل نصبح دون غيرنا هدفًا للقسوة التي لا مكان لها بين مآثرك وسجاياك؟ كلا، إن سجاياك التي انطوت عليها فطرتك البارة ستعيد إلى قلبك من عواطف الحنان ما هو أشبه بهذا الحنان.

وا أسفاه! ما هي جرائمنا التي اجترحناها؟ إننا نتهم — وما أكثر ما تفعله الوشايات والتهم — أننا نأكل الفراخ الصغار، ونغير من حين إلى حين على الحمائم، ونرقب طيور الكنار حتى تدنو منا فنقبضها وندع الفيران تعيث في دارك آمنة مطمئنة!

لكن هل يكفي مجرد الاتهام للإدانة بالإجرام؟ إننا لنستطيع أن ندحض هذه التهم جميعًا في غير عناء، وينبغي أولًا ألا ننسى أنها لا تقوم على بينة أو برهان.

فإذا سلمنا أن هناك بقية من أجل الحمائم وريشها تقدم في معرض البينة على إدانتنا، فهل تصلح هذه البينة للإدانة أمام محكمة من المحاكم على وجه الأرض كلها؟

إن الجرائم يخلقها العوز، والحاجة، ونحن بحمد الله في رحابك ثماني عشرة قطة ننعم بالخير الجزيل، ولا نشعر بالعوز ولا بالحاجة؛ فهل يعقل مع هذا أن نخدش اليد التي تطعمنا؟ ألم تبصري بعينيك فراخك تدنو منا، وتأكل معنا في صحافنا، ولا تعترضها حركة مسيئة من جانبنا؟ وإذا قيل لك أننا لا نلتهم الفراخ ونحن نحس رقابة الأعين علينا، وإننا تحت جنح الظلام نجترح ما نجترح من جرائمنا، فإنما هم أعداؤنا الذين يستترون بجنح الظلام لافتراء الأقاويل علينا، ويحق لنا أن نرميهم بذلك؛ لأنهم ينسبون إلينا الجرائم الليليلة التي يدحضها مسلكنا في وضح النهار.

وقد يقول أعداؤنا: إن حظائر سيدتنا العلية الشأن تكلفها خمسة وعشرين لويزًا ذهبًا (أي ستمائة ليرة في العام) وإنها لا تأكل منها أكثر من خمسين، يحسب ثمن الواحدة باثنتي عشرة ليرة لحسن تدبيرها وعنايتها بنفقتها، فأين تذهب البقية يا ترى؟

ولنا أن نسأل أولًا، هل عدت الفراخ وسلمت إلينا فنحن مسئولون عنها؟ وهل نحن دون غيرنا موضع الشبهة بين أولئك الأعداء المحيطين بها وأولهم أبناء آدم وحواء الذين يخالون أن الفراخ لم تخلق في هذه الدنيا إلا ليأكلوها؟ في كل يوم من أيام الآحاد يقدم على باب غاب بولون وفي منتديات أوتيل مئات من صحاف اللحم المفروم. أفلا يجوز أن يكون بعض فراخك قد تسرب في لطف إلى تلك المنتديات؟ إن كان ذلك كذلك، فلم نكن نحن يقينًا من يتولى تسليمها إلى أصحاب المطاعم والحانات.

وبعد، فنحن لا نريد أن نقف موقف الاعتذار لسارقي الدجاج، ولكنك — سيدتنا — تسمحين لنا أن نلاحظ أن فراخك على اختلاف الأسباب التي تنقصها وتقلل من عددها، إنما يجري هذا النقص فيها على سنن الطبيعة، ويعود عليك بالراحة والرضا؛ لأنه يحد من تكاثر نوعها وزيادتها على مقدارها، ولو أنها تركت تنمو وتتكاثر بغير حد مقدور لم يبق في رحابك متسع لها، ولم تترك لك فترة للراحة من رعايتها.

أما الحمائم، فليسمح لنا أن نقول: إن فراخًا عدة من نسل «كوكو»٦ قد غابت حقًّا، ولكن هذا — مع عطفك عليه إلى الحد الذي يبيح له أن يحطم خزفك الغالي ما دام يلقط الحب من يدك — لن يرضيك عن ظلمنا واتهامنا في غير بينة. فأين هو الدليل الذي يثبت علينا أننا اعتدينا على ولد واحد من ذريته؟ وهل يحدث بين نوعنا ونوعه أن نتقارب ونتلاقى؟ ألا يزال على نأيه عنا والتجائه إلى السقوف والقمم لاتقائنا مما يجيز لنا أن نغضب لكرامتنا؟ إننا لنرجو أن نفتش حظيرة الغاب في الربيع القادم، ونحن كفيلون في حالة الكشف عن جريمة من جرائم الغيلة أن نسلم الجناة إلى أيدي العدالة. لكن الحمائم ليست مثلنا — نحن معاشر القطط المساكين — مرتهنة بالأرض التي ولدنا عليها، وقد تلوذ بالهواء وتطير إلى مكان قصي غير هذا المكان، وربما غار بعضها من إيثار فريق منها لديك على فريق، فغادرت الديار طلبًا للمساواة في وكن جمهوري من أوكان الطيور، مؤثرة هذا الفرار على البقاء في الديار، على مشهد من كبرياء (كوكو) الثرثار.

أما التهمة التي رمينا بها من أجل طيور الكنار، فإنك لترين عفوًا بغير عنت أنها محض سخافة وتلفيق؛ فإن فتحات القفص الكبير الذي تقيم فيه أضيق من أن تتسع لمدخلنا، وربما خطر لنا من باب اللعب واللهو أن نزج بأيدينا خلالها، فلا نقدر على إخراجها بعد ذلك بغير جهد ومشقة، وقد يحدث أحيانًا أن نسري عن أنفسنا بالنظر إلى تلك الخلائق الصغيرة البريئة، ولا نذكر أننا ندين أنفسنا بإهدار قطرة واحدة من دمها.

ولسنا نحاول أن ندافع بمثل هذا الدفاع عن أنفسنا فيما يخص العصافير، والشحارير، والزرازير التي نتمكن من اقتناصها، إلا أننا نسوق في مساق المعاذير أن عدوينا الأبوين طالما اشتكيا هذه الطيور، واستنكرا منها تلك المتالف التي تصيب بها أشجار الكراز والثمرات، وكثيرًا ما سمعنا الأب موروليه يصب اللعنات على الشحارير، والزرازير التي تغير على كرومك بغير رحمة، وتصنع مثل صنيعه بتلك الكروم، ونحن نرى — سيدتنا علية الشأن — أن العنب أهل لأن تأكله الشحارير كما تأكله الآباء، وأن حملتنا على النابهين المجنحين تذهب سدى إن كنت مع هذا تشجعين النابهين بغير ريش على انتهاب أضعاف ما ينتهبه المجنحون.

وإننا لنعلم أننا متهمون كذلك باقتناص البلابل التي تغرد تغريدها الجميل كما يقولون، ولا تنتهب شيئًا من البستان. ويجوز أننا من حين إلى حين نطرف حلوقنا بلقمة سائغة من هذا النصيب، ولكننا نؤكد لك أننا نفعل ذلك عن جهل منا بعطفك على هذه الفصيلة، وأنها لمشابهتها بعض العصافير، والزرازير الأخرى يلتبس علينا الأمر بينها، ولا ندعي لأنفسنا من الخبرة بفن الموسيقى ما نفرق به بين الزقاء والغناء، فنأكلها ونحن نحسبها من تلك الزمرة المستباحة لنا. وقد سمعنا من قطة عند الموسيقار بيشيني Piccini أن الخلائق التي لا تحسن من الأصوات غير المواء، لن تكون حكمًا خبيرًا بأصوات الغناء، وعلى هذا نعول في تسويغ ذلك «الاعتداء».
على أننا منذ اليوم سنبذل غاية الوسع في التمييز بين الجلكيين؛ وهم العصافير، وبين البشينيين؛ وهم البلابل فيما يروي العارفون،٧ ولا نلتمس إلا العفو عن خطئنا إذا اتفق في جولة من جولاتنا بين الأعشاش أن نعثر على طائفة من البشينيين لم ينبت لها الريش بعد ولم يسمع لها صوت في الغناء، فلا تميز بينها وبين طائفة الجلكيين.

وخاتمة التهم التي نرمى بها — سيدتنا علية الشأن — أننا نترك دارك عرضة لذلك الجيش من الفيران يغير عليها في أمان، ويقال: إنها تقرض المقادير الجمة من السكر، والحلوى، وتعدو على كتب علمائك وحكمائك وتجترئ حتى على قرض أخفاف وصيفتك القديمة الآنسة لويلييه وهي تلبسها وتمشي فيها.

ويقال في سياق الاتهام: إن العناية الإلهية التي ترعى جميع خلائقها في الحقيقة على السواء لم تخلق القطط إلا لاصطياد الفيران، فإن هي قصرت في هذه المهمة فلا جزاء لها على التقصير في رسالتها الإلهية غير الإغراق.

والحق — يا سيدتنا العلية الشأن — إنه لمن أيسر الأمور أن تنكشف هذه التهمة عن أهواء أعدائنا وأغراضهم الشخصية، فإن السيد كابانيس نزيل قصرك الذي لا يزال على استعداد لاختلاس قالب من السكر كلما سنحت له الفرصة، لذو مصلحة عظيمة في إقناعك بجسامة جشع الفيران كلما قرضت قطعة من السكر، أو شرعت في لحس قدر من المربى قبل أن يصل إليها، غير أنه يفتر عن القسوة — لا عن الغرض فحسب — إذ يقضي علينا بالموت؛ لأننا لا نحول بين تلك الخلائق الصغار التي تغتنم ما تقدر عليه من الفرصة لاستغلال خطة النهب التي يقترفها — على جلالة قدره — كل يوم بغير أسف وبغير ندم، أفي وسعه يا ترى أن يشتط في قسوته وراء هذا الشطط لو أننا نحن كنا مثله ومثل الفيران من آكلات السكر والمربى؟ ألا يظهر من هذا جليًّا أن النهم وحده هو الذي يوحي إليه بمثل تلك البواعث النفسية المنكرة، وهل تسمحين أنت أن تفسحي لها مكانًا في صدرك الحنون؟

أما كتب الأب دي لاروش وزميله العالم الآخر الذي اطلعنا على خطابه في الأكاديمية في صحيفة لففت بها الرقائق التي أنعمت بها علينا من لحم العجل، فأي ضرر يا ترى في إقدام الفيران على قرضها من حين إلى حين؟ وما هي جدوى ذلك الاطلاع الواسع على أولئك العلماء؟ أفما يحق لهم أن يعلموا — وقد عاشوا معك — أنه لا جدوى من كل معرفة؟ إنهم يعلمون أنك طيبة خيرة بغير اطلاع على المقولة في أصول الأخلاق، ويعلمون أنك مليحة الشمائل بغير اطلاع على كتاب مسجلنا التاريخي منكريف الذي سماه صناعة الإرضاء والإعجاب، ويعلمون أنك سعيدة بغير اطلاع على مقولة السعادة التي ألفها التعس موبرتويس Maupertius. وإنهم لشهود يوميون على مبلغ جهالتهم وهم العلماء بكل تلك المعارف عاجزون عن تحصيل تلك المعرفة التي تعرفينها جيدًا، وهي القدرة على الاستغناء عن كل معرفة، إن علمك بالهجاء كعلمنا، وإن خطك يشبه كثيرًا أنابيش أيدينا، وإنك تخطئين في هجاء كلمة السعادة، ولكنك تستمتعين بالشيء نفسه، دون أن تعلمي كيف تكتب حروفه، تلك المتعة التي لا يقدرون هم — مع كل ما عندهم من الكتب — أن يستخرجوها من صحائفها. وأنت بعد تفيضين عليهم من عظمة جهالتك ما يحيط بهم ويطويهم بين أكنافها. فليس في مستطاع الفيران كما أثبتنا بالبرهان أن يصيبوهم بضرر بليغ. وأما أخفاف الوصيفة، فإن الفيران لم تكن لتدركها لو لم تكن الوصيفة تمشي كأنها نائمة، والعجب منك — سيدتنا — أن تقضي علينا بالموت لأن وصيفتك تمشي بخطوات حلزون.

وهذه البراهين على قوتها ليست هي عذرنا الوحيد بين يديك من التلف الذي توقعه الفيران بما في دارك. آه أيتها السيدة العلية الشأن، بأي ضمير يجوز اتهامنا في حين نراك أنت تصحبين كلبيك المتعطشين إلى دمائنا، فلا نجترئ على الاقتراب منك لأداء واجب التحية التي تنبغي لسيدتنا؟ كلبان اثنان، يكفي هذا يا سيدتنا وأنت لا يخفى عليك أنهما من نوع تربى على بغضنا ويملؤنا الرعب كلما استمعنا إلى نباحهما على مقربة منا، كيف يجوز لأحد أن يظلمنا بالملام إذا ابتعدنا عن الأماكن التي تقيم فيها حيوانات بهذه الضراوة وهذه الكراهية المطبوعة لنا، وهذه القدرة على إهلاكنا، وهي طليقة لا يكبح لها عنان؟

ولو كان الخطب خطب الكلاب الفرنسية وحدها لأمكن أن تخف وطأتها ويهون الخوف من ضراوتها، ولكنك تدخلين في خدمتك — على خلاف الأوامر من الرقيب العام — كلبًا من فصيلة البل دوج تأتين به من البلاد الإنجليزية التي تكرهنا ضعفين؛ لأننا قطط، ولأننا فرنسيات، وحسبنا ما نراه كل يوم من أثر بغضائه في ذنب أخينا المبتور لينوار Le Noir، ولا شك أن غيرتنا على خدمتك وأذواقنا التي ركبت على اشتهاء الفيران، كانت قمينة أن تؤلف منا طوائف للصيد في مسكنك لو لم نكن منفيين منها بالخوف من أولئك الأعداء الذين تبيحين لهم السيطرة عليها، فلا يلومننا أحد بعد الآن على التلف الذي يحيق بدارك من غارة الفيران، ونحن على ما نحن عليه مجردون من كل وسيلة لقمعها وإقصائها.
وا أسفاه! لقد ذهب ذلك الزمان، ذهب ذلك الزمان الذي كان ذلك القط الفاخر بومبون Pompon يسيطر على هذه الأماكن جميعًا، وينام في حجرك، ويضطجع على وسادتك، وكان ذلك الكلب زميرا الذي يسعى اليوم سعيه لإسقاطنا يتزلف إلى ذلك المجدود الذي يحتل الآن مكانه. لقد كنا يومئذ نجوس خلال الدار وأذنابنا مرفوعة في الهواء، وكان المرحوم بومبون ينزل أحيانًا إلى مشاركتنا في قسمة الأرانب التي كان صاحب الجلالة يبعث بها إلينا عقب عودته من رحلات الصيد، وكنا في ظل تلك الحظوة الفاخرة نسعد بالأمن والسعادة.

ونعود فنكرر الأسف على تلك الأيام التي خلت، وعلى العهد القططي الذي خلفه هذا العهد الكلابي، وقد كانت الحظوظ حظوظنا في أيام دولته، فأما اليوم فكل ما نملكه من العزاء أن نذهب إلى ضريحه، ونروي بدموعنا غصون البان التي ترفرف على مثواه الأخير.

آه، أيتها السيدة العلية الشأن، لتكن ذكرى ذلك القط الحبيب باعثة في صدرك على الأقل شيئًا من الرأفة بنا، ونحن لا ندعي أننا من زمرته؛ لأنه كان منذورًا للعفة من صباه، ولكننا من نوعه على كل حال، ولا يزال طيفه يحوم حول هذه البقاع، ويدعوك أن تنقضي ذلك الحكم الدموي الذي يتوعدنا، وكل ما تسدينه إلينا من البقايا الصالحات موقوف منذ اليوم إلى أواخر أيامنا على المواء لك بوفائنا الدائم، حافظين ذكراه إلى أبنائنا وأبناء أبنائنا جيلًا بعد جيل.

شواغل الشيخوخة

وكان الاقتصادي الإنجليزي جورج هويتلي صاحب كتاب أصول التجارة صديقًا لفرنكلين يهتم مثله بالمسائل الاجتماعية الإنسانية، فكتب إليه في الخامس عشر من شهر نوفمبر سنة ١٧٨٤ خطابًا يعتب فيه على تأخير الرسائل، ويتناول فيه بعض المسائل التي تعرف من جواب فرنكلين مايو سنة ١٧٨٥ بعد نبذة وجيزة أرسلها إليه قبل ذلك، واستهل الجواب المسهب بالاعتذار، وأتبعه بالرد على المسائل الأخرى، قال:

كتبت إليك بضعة أسطر منذ أيام ومعها الوسام، وكان ينبغي أن أكتب إليك أكثر من ذلك لولا أنني فوجئت بفضولي شغلني إلى مساء ذلك اليوم، فاحتملته جهدي، كما أرجو أن تحتملني جهدك الآن. فلعلي أفيض في ثرثرة الفضول بما أجيب به الآن.

لا أعرف كلمة الفونس Alphonsus التي أشرت إليها مستشهدًا بها على صوابك في التشدد؛ إذ تأبى أن تتقبل علة الشيخوخة عذرًا من تأخير المراسلة. فما هي تلك الكلمة يا ترى؟ إنك على ما أرى لا تشعر بالداعي إلى ذلك الاعتذار، وإن كنت كما قلت لي تصعد إلى الخامسة والسبعين، لكنني أنا أصعد إلى الثمانين، أو لعلي أنحدر إليها، وأدع الاعتذار إلى أن تبلغها أنت عسى أن تكون أدنى إلى قبوله والإيمان بصحته، وتراه أنت صالحًا للانتفاع به يومذاك.
وأوافقك على أن النقرس سيئ، وأن الحصاة أسوأ، وأحسبني سعيدًا؛ لأنني لم أجمع بينهما معًا في وقت واحد، وأدعو معك أن تعيش وتودع الحياة بمنجاة من هذه وذاك. إلا أنني أزعم أن صاحب القبرية التي أرسلتها إليَّ على خطأ فيما أوصى بكتابته على قبره وهو: «لم يحفل مقدار ذرة أن يقول القائلون خيرًا أو شرًّا في ساكن هذه الحفرة»، فإنه لمن طبيعة الإنسان حيًّا أو ميتًا أن يحب ذكراه بالخير، ولا أخاله معفى من هذه الرغبة وإلا لما شغل نفسه بما يكتب على قبره، ولقد كان — كما يظهر من قبريته — يحب أن يقال: إنه رجل ساخر من أصحاب النكتة، أو ليس جديرًا منه بمثل هذا الشغلان أن يقال: ما كان أصدقه أو أطيبه من إنسان! وتعجبني أكثر من هذا خاتمة الأنشودة التي عنوانها أمنية الشيخ التي يذكر فيها الناظم أنه يتمنى في الشيخوخة البيت الدافئ في بلدة من بلاد الريف، والجواد الطيع، والكتب الممتعة، والرفاق الموافقين من ذوي البشاشة والذكاء، وفطيرة في يوم الأحد، وقنينة من الجعة، وأخرى من خمر برجندي إلى أن يقول ويعيد هذه المقولة في ختام كل قطعة:

وليتني أملك شعوري كالملك المطلق، وأزداد في الحكمة والخير كلما نقصت قواي، ولا نقرس ولا حصاة، إلى أن تحين الوفاة.

ولقد أضاف إلى تلك الأماني أمنيته الأخرى قائلًا:
وبالشجاعة التي لا تهن ولا تضعف ليتني أواجه اليوم الأخير، وليت خيار الناس يقولون بعد اليقظة في الصباح أو بعد الشراب في المساء: لقد ذهب بغير نظير؛ لأنه حكم شعوره حكم السادة المطلقين.٨

على أنها محض أمنية. وماذا تغني الأماني؟ إن الأمور لتجري كما يتفق لها. وقد أنشدت ذلك النشيد ألف مرة في شبابي، ثم بلغت الثمانين فإذا بالمحظورات الثلاثة قد اصطلحت عليَّ، فتعرضت للنقرس، وللحصاة، ولم أملك شعوري كالملوك المطلقين! وكأنني تلك الفتاة المترفة التي نذرت ألا يكون زوجها من طائفة القسس، ولا من الكنيسة المشيخية، ولا من أبناء أيرلندا. فلما تزوجت إذا بالثلاثة يجتمعون في واحد: قسيس أيرلندي من الكنيسة المشيخية.

وإنك لترى إذن أنني أتمنى — لسبب معقول — ألا أكون في الحياة الأخرى، كما كنت في هذه الحياة وحسب، بل أفضل وأسعد ولو قليلًا، ولي رجاء في ذلك لأنني كشاعركم أومن بالله، ويؤيد هذا الرجاء أنني أرى في آيات خلقه دلائل القصد والتدبير، وهي ظاهرة في إبداعه وسيلة التناسل والتجديد التي تعمر عالمه بالنبات والحيوان بدلًا من خلقها كل مرة من جديد، وظاهرة كذلك في جعل الأشياء قابلة للرجوع إلى عناصرها الأولى؛ كي تصلح لاستخدامها في تركيب بعد تركيب بدلًا من خلق مادة جديدة في كل حين، وهكذا قد يتركب الخشب من التراب والهواء والنار، ثم يعود بعد انحلاله ترابًا، وماء، وهواء، ونارًا، وكلما نظرت فلم أر شيئًا يفنى ولا قطرة ماء تضيع في الغمار لم يسعني أن أتصور فناء الأرواح، ولا أن أعقل أنه يدع الملايين من العقول تزول، وينشئ في مكانها عقولًا أخرى بادئ ذي بدء كأول مرة. ولهذا أرى نفسي في الدنيا وأعتقد أنني باقٍ فيها على صورة من الصور، وإنني على كل ما في الحياة الإنسانية من النقائص والنقائض لا أمانع في إخراج طبعة جديدة مني، على أمل في تصحيح الأغلاط التي كانت تشوب الطبعة السابقة.

أعيد إليك مذكرتك عن الأطفال الذين تلقاهم ملجأ اللقطاء في باريس من سنة ١٧٤١ إلى سنة ١٧٥٥، وقد أضفت إليها السنوات السابقة منذ سنة ١٧١٠ مع بيان تسجيلات التنصير وإحصاء السنوات اللاحقة إلى سنة ١٧٧٠، ولم أستطع العثور على غير هذا الإحصاء، وفي الهامش ملاحظات على التدرج في الزيادة من اعتبار الطفل عاشرًا إلى اعتباره ثالثًا بين المواليد. وقد مضت خمس عشرة سنة منذ ذلك التاريخ، فلا يبعد أن النسبة قد وصلت اليوم إلى النصف! فهل من الصواب تشجيع هذا النقص في حاسة العطف الطبيعية؟ إنني لقيت طبيبًا هنا يتهم نساء باريس بقلة الصبر أو قلة القدرة على الإرضاع، ويؤكد لي ذلك قائلًا: إنك تستطيع أن تعرف ذلك من النظر إلى صدورهن السوية! فليس فيها نمو أكبر من النمو الذي تراه على ظهر كفي! ومنذ ذلك الحين يلوح لي أن كلامه لا يخلو من الصدق، وأن الطبيعة أحست أنهن لم ينتفعن بالأثداء فكفت يدها عن ملئها، هذا وإن تكن الحالة قد تغيرت بعض الشيء منذ تكلم روسو بفصاحته المعجبة عن حق الأطفال في ألبان أمهاتهم، فأصبح بعض النساء من العلية يرضعن أبناءهن ويجدن في أثدائهن اللبن اللازم للرضاع، وأسأل الله أن تهبط «البدعة» إلى الطبقات الدنيا، فتبطل تلك العادة التي مردن عليها؛ عادة إلقاء الأطفال إلى الملاجئ زاعمات في غير اكتراث أن الملك أقدر على تربيتهم وتموينهم منهن.

وقد اتصل بي من ذوي ثقة أن تسعة أعشارهم يموتون على الأثر مما يفرج عن الملاجئ التي لا تكفي مواردها لولا ذلك للإنفاق على البقية. أما فيما عدا النسوة القلائل من العلية اللائي أشرت إليهن، وفيما عدا غيرهن ممن يضعن أبناءهن في المستشفيات، فالعرف الشائع أن يدعى بالمرضعات من الريف ليعهد إليهن في تربية الأطفال هناك، وفي المدينة مصلحة تعنى بالكشف على المرضعات وإعطائهن الشهادة التي تثبت صلاحهن لهذا العمل، وكثيرًا ما نراهن عائدات إلى قراهن يحملن طفلًا على كل ذراع، ولكن الفئة التي تبلغ بها الطيبة أن تربي أطفالها على هذا النحو قد تعوزها النفقة التي تكفي للتربية، وتمتلئ السجون بالآباء والأمهات المقصرات في هذا الواجب، وإن يكن من العادات المستحبة هنا أن يؤدي المحسنون غرامة أولئك الآباء والأمهات لتسريحهم من السجون، وحبذا لو أفلح المشروع الجديد الذي يدبر الوسائل لتمكين الفقراء من تربية أطفالهم في البيوت، إذ لا مرضع كالأم، أو لا كثير من المرضعات يغنين غناءها، إن وجدن. ومتى بقي الطفل في حجر أمه أيامًا، ولم يعجلوا بإرساله إلى الملجأ، تمكن حبه من قلوب أبويه وبذلا من الجهد فوق ما يبذلانه لكسب الرزق والإنفاق عليه. وإنها لمسألة تعرفها أنت خيرًا من معرفتي، فحسبي ما ذكرت عنها الآن ولا أزيد عليه إلا ملاحظة مقتبسة من تاريخ مجمع العلوم تثني على ملاجئ اللقطاء.

يسير مصرف فلادلفيا سيرًا حسنًا على ما سمعت، وما تدعوه معهد سنسناتي ليس بمعهد من معاهد حكومتنا، بل جماعة خاصة ألفها الضباط في الجيش السابق وتكرهها جمهرة الشعب من أجل ذلك حتى يغلب على الظن أنها ستنحل، وكان المظنون أنها محاولة لإنشاء طبقة وراثية كطبقة النبلاء، وأوافقك على أنها خطأ، ثم أزيد على ذلك أن كل «التشريفات» الموروثة خطأ وسخافة، فإنما الشرف شرف الأعمال الفاضلة لمن يقوم بتلك الأعمال، وليس من طبيعته أن ينقل من إنسان إلى إنسان، وإذا صح أن ينقل من وارث إلى وريث، وجب أن يقسم بين جميع الوارثين، وقل نصيب كل وارث تبعًا لتقادم العهد وازدياد العدد، ودع عنك ما يحدث من الاقتضاب والانقطاع أثناء الطريق.

وظهر أن دستورنا — أو مواد اتحادنا — غير مفهومة لديك، فلو كان المؤتمر — الكنجرس — هيئة دائمة، لكان من الخطر ودواعي الحذر تخويلها السلطان، غير أن أعضاءها ينتخبون كل سنة، ولا ينتخبون ثلاث سنوات على التوالي ولا ثلاث سنوات في خلال سبع سنوات، ويجوز على كل منهم أن يستعاد إذا كانت دائرته الانتخابية غير راضية عن مسلكه، وكلهم من الشعب، ويعودون أخيرًا إلى الشعب بغير صفة دائمة تميزهم، إلا كما تمتاز حبات الرمل في الساعة الرملية، ومثل هذه الجماعة لا يسهل أن تكون خطرًا على الحرية العامة، وأعضاؤها خدام الشعب يجتمعون معًا لخدمة الشعب ورعاية مصالحه، فلا يتيسر لهم أداء واجباتهم ما لم تكن لهم القوة الكافية لحسن أدائها، وليست لهم رواتب مجزية غير الأجور اليومية التي قلما تساوي نفقاتهم، وهم لقلة حظوظهم من المناصب، والرواتب، والمعاشات التي تعطى في بعض البلاد لا يدعو الأمر معهم إلى الدس أو الرشوة أثناء الانتخاب.

وإنني لأتمنى لإنجلترا — العجوز — توفيقًا كهذا التوفيق في نظام الحكومة ولا أراه. فإن قومك يحسبون دستورهم أفضل الدساتير في العالم، ويظهرون الازدراء بدستورنا، ولعله من أسباب الرضا أن يحسن الإنسان ظنًّا بنفسه، وبكل ما ينتسب إليه، وأن نعتقد أن ديانتنا ومليكنا وربة بيتنا خير الديانات والملوك وربات البيوت، ومما أذكره أن ثلاثة من جرينلاند ساحوا نحو سنتين في أوروبا برعاية المرسلين المورافيين فزاروا ألمانيا، والدنمرك، وهولندا، وإنجلترا، وسألتهم في فلادلفيا وهم قافلون إلى بلادهم الأمريكية عما إذا كانوا بعد ما شاهدوه من معيشة الرجل الأبيض بصنع يديه يؤثرون البقاء بيننا؟ فكان جوابهم أنهم مسرورون بما شهدوه من المناظر الكثيرة، ولكنهم يؤثرون المعيشة بين قومهم، وفي ديارهم، وهي لعمرك أرض صخرية لم يجد المورافيون بدًّا عن زيارتها من نقل الطين في سفينتهم من نيويورك لزرع الكرنب فيها.

أشك فيما بلغ مستر دونالد عن تركيب النظارة التي اخترعتها لقوله أنها تصلح لأناس دون آخرين. ويخيل إليَّ أن القول بأن التحديب الذي يصلح للقراءة لا يصلح للنظر البعيد صواب، ولهذا كان لي من قبل نظارتان أبدل بينهما في السياحة؛ لأنني أقرأ حينًا وأحب التطلع إلى المناظر حينًا آخر، ووجدت هذا التبديل متعبًا لا يسعفني في كل وقت، فقطعت الزجاج، ووضعت نصفًا من كل نوع في الحلقة الواحدة، واستطعت بهذه الوسيلة أن أدير بصري علوًّا أو سفلًا مذ كنت أستمر على وضع النظارة فوق عيني، ووافقني ذلك على الخصوص في مقامي بفرنسا حيث وجدت أن النظارة التي تريني صحاف الطعام أمامي لا تريني وجوه الجالسين على الجانب الآخر من المائدة وهم يتحدثون إليًّ. ولا يخفى أن الأذن إذا لم تكن قد تعودت على تمييز لهجة الكلام في لغة من اللغات، فنظرة العين إلى ملامح المتكلم تساعد على الإيضاح، وهكذا أصبحت أفهم الفرنسية بمساعدة النظارات.

إني أرشح لترجمة رسالتك الشخص الوحيد الذي أعرف أنه يفهم الموضوع كما يفهم كلتا اللغتين، وهذا عندي هو شرط المترجم، وإلا تعذر عليه إتقان الترجمة، وهو الآن مشغول بعمل لا يمكنه من الاشتغال بترجمة الرسالة، وسيفرغ منه قريبًا.

أشكر لك تعليقاتك وأود لو أحصل على غيرها من الكراسات المطبوعة.

وإننا على الدوام مرحبون بالأطفال في أي وقت تشاء أن ترسلهم إلينا، وكل ما ألاحظه أن لندن تستوعب عددًا كبيرًا من أبناء الريف، فمن الحق أن يتسع الريف لمن يعرضهم من أولئك الأطفال، وهذا مع كثرة الذين ينزلون عن حريتهم الإنسانية ليعملوا حينًا عمل الخدم أو يعملوا طوال العمر عمل الجند — برهان في نظري على ازدحام جزيرتكم، ومع هذا نراها تخاف من المهاجرة.

وداعًا أيها الصديق العزيز، وإنني على الدوام صديقك المخلص.

الأعداء في الوطن

وكتب إليه صهره ريتشارد باخ يقول: إن آرثر لي ورالف ازداد من أهل بنسلفانيا المقيمين في باريس يسوءون سمعته ويشهرون به لأنه اتخذ «تمبل» حفيده سكرتيرًا له مع أن أباه كان مواليًا لبريطانيا العظمى، فأجابه فرنكلين بهذا الخطاب:

باسي في الثاني من شهر يونيو سنة ١٧٧٩

إنني مستريح البال من ناحية تلك المساعي التي يقوم بها «ل» و«ر» للإضرار بي في العدوة الأخرى من المحيط، ومطمئن إلى عدالة المؤتمر — الكنجرس — وأنه لن يصغى إلى تهمة توجه إليَّ دون أن أعلم بها قبل ذلك ويتسع لي الوقت للإجابة عنها، وإنني لأعلم أن ذينك السيدين ينطويان لي على أسوأ النيات، وإن لم أسئ إلى أحد منهما أو أمسه بما يسوغ له أن يشعر بالمساءة، غير أن السمعة الكبيرة التي تحيط بي والمحبة التي ألقاها من القوم هنا، والتوقير الذي يقابلونني به، بل التحيات التي يخصونني بها تحزن ذينك السيدين التعسين؛ التعسين حقًّا بما اشتملت عليه طواياهما من الظلام، والحقد، والغيرة، والشبهة، والحسد، والضغينة. وإن النفس الطيبة ليكفيها ما تجده من الحزن لمصائب الآخرين. أما الذين يزعجهم كل حظ طيب يتملاه غيرهم، فلن يسعدوا قط، ولن يستريح لهم بال، وليس بي من حاجة إلى الانتقام من أمثال هؤلاء الأعداء غير أن أتركهم حيث أوقعتهم طبائعهم الناقمة مجتهدًا أن أحافظ على الخصال التي تجعلني أهلًا للرعاية والتقدير، وكلما دامت لي السمعة التي يحيطني بها الناس، أدمتهم في تلك اللعنة التي يتمرغون بها، ولا يخطر لي أن أغير من خصالي كي أخفف عنهم بعض ما يعانون.

ويدهشني أن أسمع أن وجود حفيدي تمبل فرنكلين معي يستوجب النقمة مني والسعي في إقصائه عني، وأحسب بحق أنني أحسنت بحمايتي هذا الفتى أن يصبح من زمرة المحافظين الإنجليز وإبقائه إلى جانبي في زمرة خدام الجمهورية الأحرار، وأرى من مبادئه الحرة واستقامة خلقه، ودأبه على العمل، وفطنته المبكرة، وكفايته النادرة أنه وشيك أن يكون عظيم النفع لوطنه، وكفى أنني فقدت ولدي، فهل يريدون فوق ذلك أن أفقد حفيدي؟ إنني شيخ في السبعين عمدت إلى رحلة شتوية بإذن الكنجرس، وليس معي من يتولى العناية بي سواه، ولا أزال هنا في بلد أجنبي يكلؤني برعايته البنوية إذا مرضت، ويغمض عيني ويحرس ما عندي من بقية تراث إذا حم الأجل.

إن أدبه في معاملتي ونشاطه ودأبه في عمله يرضيني ويفيدني، وسلوكه في عمل الأمانة على السر — السكرتيرية — لا غبار عليه، وإنني لواثق أن الكنجرس لا يفكر في الفصل بينه وبيني.

وإنني كذلك لعظيم الغبطة بولدنا «بن»٩ وأراه خليقًا أن يصبح رجلًا ذا شأن. وقد انتفع من المدرسة الداخلية التي هو فيها جهد ما ينتفع بالتعليم في تلك المدرسة، وقد فكرت في المدرسة التي تفضلها بعد هذه الخطوة، فاستقر عزمي على إدخاله مدرسة أعلى منها بمدينة جنيف، والفرصة حسنة؛ لأنني أعرف سيدًا من أهل المدينة له ولد في مثل سنه يتعلم في تلك المدرسة بعينها، وقد وعدني أن يتكفل برعايته وتبادلت معه في هذا الصدد رسائل أبعث بها إليكم مع هذا الخطاب، وقد سافر «بن» فرحًا، وفهمت أنه سعيد جدًّا بهذه النقلة إلى المدرسة الجديدة. ولقد أوحشني غيابه عني أيام الآحاد، وفي نيتي إذا عشت أن أذهب إلى سويسرا في الربيع القادم؛ لأراه وأرى في الوقت نفسه تلك الولايات الثلاث عشرة العجوز في البلاد السويسرية.

والحمد لله أنني ماض على صحة ورضا، وإنني أكبر وأشيخ، ولكنني فيما أظن لم يصبني تغيير كبير في السنوات العشر الأخيرة، ويعاودني النقرس من حين إلى حين، ولكنهم يقولون: إنه إلى العلاج أقرب منه إلى انحراف المزاج، والله يبارككم ويتولاكم.

جواب على تحذير

وحذره هارتلي من أعدائه وأوصاه باتقاء الخطر على حياته، فكتب إليه فرنكلين كما جاء في خطاب نشره حفيده يقول فيه:

شكرًا لك على تحذيرك، غير أنني قاربت النهاية من عمر طويل، ولست أبالي كثيرًا بما بقي منها، وإنما هي عندي كالفضلة من الثوب يقول البائع للشاري الذي يلح في المساومة عليها: خذها كما تريد أو بالثمن الذي تريده ولا خلاف بيني وبينك عليها، فما هي إلا بقية، وربما كان أنفع شيء يصنع بالشيخ الذي بلغ هذه المرحلة من العمر أن يحشر في زمرة الشهداء.

بيان عن خدمات وطنية

وكتب الرسالة التالية إلى شارل تومسون سكرتير الكنجرس على أثر إشاعة بلغته عن أناس يزعمون أن الحكومة وضعت بين يديه أموالًا كثيرة قد تأخر حسابها، وكانت الحقيقة على عكس ذلك؛ إذ كان الكنجرس يرجئ حسابه ولا يعطيه ما استحقه بخدماته، ويسأل فرنكلين صديقه عن الوسيلة المثلى لإنجاز المحاسبة وتوفية تلك الحقوق:

فلادلفيا في التاسع والعشرين من نوفمبر سنة ١٧٨٨
صديقي العزيز القديم

أرسل مع هذا خطابًا إلى رئيس الكنجرس في الوقت الحاضر أرجو أن تراجعه وتبلغني ما تراه إذا عنَّ لك فيه ما يدعو إلى الملاحظة أو التنقيح، وإنني أعتمد كثيرًا على نصيحتك الأخوية؛ لأنك تعلم ما لست أعلمه عن الأشخاص والأحوال، وأظن أن في الوقت متسعًا قبل تأليف الكنجرس الجديد للتنقيح الذي تشير به، على أن يكون تقديم الخطاب — إذا قدم — إلى الرئيس القديم.

وستجد في خطابي إلى مستر باركلي إشارة إلى «أعمال هامة لم أثبتها في حساب الكنجرس، وأرجو من إنصافه أن يكون لها اعتبار في التقدير». ولكي تكون على علم بهذه الأعمال أبعث إليك مع هذا الخطاب ببيان مجمل عن الخدمات التي قمت بها للولايات المتحدة، ومنها أعمال نافلة لا تتصل بوظيفة السفارة، كعمل القضاء في البحرية، وعمل القنصلية قبل وصول مستر باركلي، وعمل الصرف لمراجعة قوائم المصارفة وسفاتجها، وعمل السكرتيرية عدة سنوات، وسائر هذه الأعمال التي لم أتناول شيئًا عنها، وكانت لها مكافآت ترسل إلى السفراء الآخرين.

وأصارحك أنني آمل — كما جرت العادة في القارة الأوروبية — أن يمنح السفير بعد اعتزاله منحة يستعين بها على إصلاح شئونه الخاصة التي لا شك أنها تصاب بالضرر أثناء غيابه وانقطاعه عن مباشرتها في وطنه، ورجائي أن يتفضل الكنجرس بمنحي قطعة من الأرض في أقاليم الغرب يستفاد بها وتبقى لذريتي شرفًا وذكرى، ولا أخال إلا أن الكنجرس صانعٌ شيئًا من هذا القبيل عند النظر في خدماتي وأعمالي، كما أرى من تقديرهم السخي لخدمات مستر لي في إنجلترا قبل ذهابه إلى فرنسا، وهي خدمات وأعمال كان لي ولمستر بولان Bollan معاونة فيها، ولم نحصل على مثل هذه المكافأة عنها. وقد كوفئ مستر لي بعد عودته بمنصب حسن، كما كوفئ صديق مستر جاي Jay، وإن تكن هذه المكافأة زهيدة بالقياس إلى إنعام الملك على مسيو جيرار Gerard عند عودته من الديار الأمريكية.

أما في أمري أنا بعد عودتي فما أبعد الاختلاف!

رجعت من إنجلترا سنة ١٧٧٥ فتفضل الكنجرس عليَّ بوظيفة مدير مصلحة البريد مشكورًا على فضله، وهي وظيفة أحسب أن لي بعض الحق فيها منذ توليتها تحت التاج، فأصلحت نظامها وضاعفت مواردها، وتركتها لصهري بعد سفري إلى فرنسا يقوم فيها بوظيفة الوكيل، ولم يمضِ غير قليل بعد سفري حتى حولت هذه الوظيفة إلى مستر هازارد. وقد عنَّ للإدارة الإنجليزية قبل ذلك أن تحرمني هذه الوظيفة، فحفظت لي الحق في إعفاء رسائلي الصادرة والواردة من الأجر كما جرى العرف في معاملة المديرين الذين يعتزلون الوظيفة لسبب لا يمس كرامتهم. أما في أمريكا، فإن هذا الأجر قد طلب مني وبلغ نحو خمسين جنيهًا، لكثرة الرسائل التي ترد إليَّ على اعتباري مديرًا سابقًا لمصلحة البريد.

ولما أخذت معي حفيدي تمبل إلى فرنسا رأيت — بعد تعليمه الفرنسية — أن أخرجه في دراسة القانون والاشتغال بعمله، ثم استبقيته لعمل السكرتيرية بعد أن وعدت بهذه الوظيفة، وتكررت تجربتي للسكرتيرين، وتكررت خيبة الأمل فيهم، ولم تزل تتكرر بعد عودتي إلى أمريكا، حتى فات الوقت الذي يشتغل فيه بالدراسة المطلوبة، وانتظمت حياته على غير نظامها، فلما رأيت أنه — لطول مرانته في الأعمال الدبلوماسية — جدير بوظائفها، وهو رأي يشاركني فيه ثلاثة من الزملاء، ندبوه بغير طلب مني للعمل معهم خلال المفاوضات في شئون المعاهدات، رشحته في خطاب الكنجرس لوظيفة السكرتيرية، فكان الرد الوحيد الذي تلقيته على هذا الرجاء الوحيد الذي تقدمت به أمرًا بوقف التعيين وانتداب الكولنل همفري سكرتيرًا في مكانه، وهو سيد قد يكون له العلم بالشئون الحربية كما هو الواقع، ولكنه لم يختبر العمل في الشئون السياسية ولا يعرف الفرنسية، ولا عهد له بالمسلك اللازم في هذه المهمة.

وإنني أفضي بهذا كله إليك — شخصيًّا — إفضاء صديق إلى صديق؛ لأنني لم أتعود الشكاية العامة، ولا أريد أن ألجأ إليها بعد الآن.

وإنني لو استطعت أن أعلم — مقدمًا — أن الكنجرس سيعاملني هذه المعاملة التي لا مجاملة فيها ويستكثر عليَّ توجيه الشكر إليَّ — لم يكن من شأن هذا أن يوهن من عزمي، أو من غيرتي في خدمته وتأييده، وقد أعرف بعض الشيء عن أطوار هذه الهيئات التي تتغير حينًا بعد حين، ويأتي فيها خلف لا يعلم ما قد علمه السلف من خدمات أسديت إلى الهيئة، ولا يشعر بواجب الجزاء عليها، مع بعد القائمين بالخدمة في بلاد أجنبية، وإمعان واحد أو اثنين من الحاقدين وذوي النية السيئة في الدس والتأثير على عقول الأعضاء الآخرين، وإن كانوا من أهل الإخلاص، والإنصاف، والمروءة. ولهذا أوثر أن أطوي هذه الخواطر في أطواء النسيان والكتمان.

وإني لألتمس المعذرة منك — يا صديقي — لما جشمتك من متاعب هذا الخطاب، وإذا حاق بك يومًا ما يقال عن نسيان بعض الجمهوريات للعاملين في خدمتها؛ فاذكر على الدوام أن لك صديقًا قديمًا تكشف له عن ذات صدرك في شخص الخادم المطيع المتواضع.

فرنكلين
وبعد هذا التمهيد تلخيص لخدمات فرنكلين كما أجملها في ملحق خطابه لتذكير صديقه، وهي كما يلي:
  • في إنجلترا قاوم قانون الدمغة وكتابته في الصحف ومناقشاته في البرلمان من الأسباب التي يظن أنها انتهت بإلغاء ذلك القانون.

  • عارض قانون المكوس، ولم يتمكن من وقف تنفيذه، ولكنه أقنع مستر تونزند بحذف مواد كثيرة منه، ومنها الملح بصفة خاصة.

  • وكتب فيما بعد ذلك رسائل شتى يفند بها دعوى البرلمان أنه يملك حق تقرير الضرائب في المستعمرات.

  • عارض جميع القوانين الجائرة.

  • قام بمفاوضتين سريتين مع الوزراء لإلغاء تلك القوانين، وشرح ذلك في محضر مكتوب، وقدم في سياق واقترح — على تبعته ومع المخاطرة بالنتيجة — عوضًا عن الشاي الذي تلف في حالة نفاذ الإلغاء.

  • اشترك مع مستر بولان، ومستر لي في جميع الطلبات التي قدمت إلى الحكومة لهذا الغرض، وطبع عدة نشرات على نفقته ينتقد بها إجراءات الحكومة، واستهدف بذلك للسخط والنفور والاتهام أمام المجلس الخاص، وعزل من وظيفة يتقاضى منها ثلثمائة جنيه في السنة، وهي وظيفة مدير البريد، واضطر إلى الاستقالة من جميع أعمال التوكيلات ومكافآتها وهذا بيانها:
    جنيه البلد
    ٥٠٠ من بنسلفانيا
    ٤٠٠ من مساشوست
    ١٠٠ من نيوجرسي
    ٢٠٠ من جورجيا

    وصدرت الأوامر إلى الولاة الملكيين أن يكفوا عن توقيع كل ترخيص بالصرف لحساب مرتباته من خزانة الدولة، ولم تكن الولايات قد عزلته من توكيلها، ولكنه — مع العلم بضغينة الحكومة الإنجليزية عليه — تعذر عليه أن يخدم الولايات وييسر مصالحها لدى تلك الحكومة، وأحس أن الواجب يقضي عليه باعتزال التوكيلات، فاعتزلها ليفسح مجال العمل فيها لمن هم أقرب إلى القبول عند الحكومة الإنجليزية، ويحمي نفسه أن يلجئها إلى عزله.

    ولما قفل إلى أمريكا حض على الثورة، وعين رئيسًا لجماعة «سلامة الوطن» ونظم وسائل الاستيلاء على فيلادلفيا ومقر الكنجرس.

  • أرسله الكنجرس إلى مركز القيادة العام على مقربة من بوستون مع السيدين هاريسون، ولينش سنة ١٧٧٥ لتسوية بعض المسائل مع الحكومات الشمالية والجنرال واشنطون.

  • في سنة ١٧٧٦ أرسل إلى كندا مع السيدين شاس Chase وكارول عابرًا البحيرات قبل ذوبان الثلج، فعمل مع زميليه في كندا على إزالة بعض الشكايات مما كان له أثر في ضم الشعب إلى قضيتنا، وقدم هناك إلى الجنرال أرنولد وبعض خدام الكنجرس مبلغ ثلثمائة وثلاثة وخمسين جنيهًا ذهبًا من ماله على ذمة الكنجرس كانوا في أمس الحاجة إليها، وكان لها نفع كبير في تلك الآونة في الحصول على الأزواد لجيشنا.

    وقد كان حين تكليفه بهذه المهمة يجاوز السبعين، فشقت عليه مصاعب الرحلة؛ إذ كان يتنقل بين الغابات في ذلك الفصل القاسي من فصول السنة، ولم يكد يبل من مرضه حتى أمره الكنجرس بالسفر إلى فرنسا، فسلمهم قبل سفره كل ما استطاع جمعه من المال بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف جنيه، وكان ذلك مشجعًا لغيره على إعارة أموالهم لخدمة القضية العامة.

    ولم يساوم على المكافآت، ولكنه وعد — باقتراع الأصوات — بمبلغ خمسمائة جنيه مسانهة مع نفقاته ومبلغ ألف جنيه لوظيفة السكرتيرية ومصروفاتها.

    ولما أرسلته الهيئة النيابية في بنسلفانيا إلى إنجلترا سنة ١٧٦٤ بمثل هذه المكافأة، سمحوا له بمكافأة سنة مقدمًا لتكاليف السفر وتعويض الخسائر التي لحقته من جراء الانقطاع فجأة عن مباشرة مرافقه الخاصة، ولم يمنحه الكنجرس مثل هذه المنحة بل أنزله في سفينة رثة لا تصلح للملاحة في البحار الشمالية، وحدث فعلًا أنها جنحت عند عودتها، مع سوء تدبير الطعام له على متنها حتى بلغ الشاطئ وهو يكاد لا يقوى على الوقوف على قدميه.

    وإن خدماته للدولة وكيلًا ثم وزيرًا مفوضًا لمعروفة للكنجرس كما هي معروفة من رسائله، وربما كانت خدماته الإضافية مجهولة فلا داعية إلى ذكرها.

    ثم مضى في عمله ولم يعين له السكرتير الموعود، وقام ببعض الأعمال قبل انفصال زملائه ثم قام بها جميعًا بعد انفراده بمعونة حفيده الذي سمح له أولًا بمقابل للكساء والسفر والسكن ثم بمرتب لم يزد قط على ثلثمائة جنيه في السنة (إلا حين عمل في السكرتيرية للجنة الصلح) وهو فرق في المرتب على مدى سنوات مقداره سبعمائة جنيه كل عام.

  • وعمل وحده بوظيفة القنصل عدة سنوات إلى حين وصول مستر باركلي وبعد وصوله فترات من الوقت لاضطرار ذلك السيد إلى التغيب في هولندا، وبلاد الفلاندر، وإنجلترا، وحدثت خلال ذلك محاولات متتابعة لاختلاس دفعة ثانية وثالثة بعد سداد الدفعة الأولى، وكانت قوائم الحساب عن هذه الدفعات ترد مع كل سفينة وكل بريد، وتستوجب الرقابة المتوالية. ولم يستطع مستر فرنكلين أن يسافر للرياضة والراحة كعادته قبل ذلك مما عرضه للإصابة بمرض قد لا زمه بقية حياته.

ونوجز البيان فنقول: إنه على دأبه وصبره طوال حياته لم ترهقه الأعمال، كما أرهقته خلال السنوات الثمانِ التي قضاها في فرنسا، ولم يعتزلها مع ذلك حتى شهد بشائر الصلح وتمت هذه البشائر بخير. ثم ألفى نفسه في الثمانين من عمره، وهي السن التي تخول من يبلغها بعض الحق في الراحة والاستقرار.

الطيران والحروب

وقد شهد فرنكلين تجارب الطيران الأولى حول باريس، وسمع المتفرجين وهم يرقبون المنطاد كأنه لعبة من لعب الفراغ ويتساءلون: وما فائدة هذا؟ وبأي شيء تنفعنا هذه النفاخات الكبيرة؟ فكان من جوابه لهم أن يسألهم: وما فائدة طفل وليد؟ وفي هذا السؤال كل الجواب على الذين لا يعرفون الصبر على المخترعات حتى تنمو وتؤتي ثمرتها، ولكنهم يعرفون أننا نربي الطفل الوليد الذي لا نفع له فينفع نفسه وينفع غيره إذا أحسنا القيام على تربيته، ومما كتبه فرنكلين على أثر مشاهداته الأولى لتجارب الطيران خطاب إلى صديقه العالم الهولندي جان أنجنهوز Ingenhousz الذي كان يصاحبه في رحلاته العلمية بشمال إنجلترا نظر فيه نظرة بعيدة إلى مستقبل الطيران في الحروب قبل أن تستخدم المناطيد والطائرات في ميادين القتال بأكثر من مائة وثلاثين سنة فقال في خطابه من باسي بتاريخ السادس عشر من يناير سنة ١٧٨٤:

ليس في المسألة سر، ولست أشك أنك إذا أرسلت رسولًا من قبلك أمكنه أن يشاهد مناطيد منتجلفير وشارل المختلفة، ويطلع على جميع التعليمات المطلوبة، وإذا أردت أنت أن تصنع منطادًا فمن الضروري ومن الأوفق في رأيى أن تبعث من عندك برسول ذكي لهذا الغرض، إذ يخشى ألا يلتفت إلى بعض الملاحظات أو يسهو عن العلم بها، فتحبط التجربة ويؤدي حبوطها في هذه المسألة التي يكثر حولها الترقب والاستطلاع إلى تعريضك للملامة الشديدة والمساس بسمعتك. فإنه لمن الضرر الوخيم تجميع الناس في المدن الكبيرة وضواحيها ثم مصادمتهم بالخيبة والغضب. وقد حدث في بوردو أخيرًا أن شخصًا زعم أنه صنع منطادًا يصعده في الهواء وأخذ نقودًا من أناس كثيرين ولم يستطع أن يرفع المنطاد، فهاجت عليه هائجة الناس وعمدوا إلى بيته فهدموه وهموا به ليقتلوه.

وظاهر — كما رأيت — أنه اختراع هام يوشك أن يتجه بالشئون الإنسانية وجهة جديدة، وقد يكون من آثاره أن يقنع ذوي السلطان بخطر الإقدام على الحروب لما في حماية بلادهم من المصاعب — بعد هذا الاختراع — على أقدرهم وأقواهم، ولعل خمسة آلاف منطاد يحمل كل منها جنديين لا تبلغ تكاليفها ثمن سفن خمس من سفن القتال، وأين هو الأمير الذي يتسنى له أن يملأ أرضه بالجند في كل مكان حتى يعجز عشرة آلاف جندي هابطين من السحاب عن إصابته بأخطر النكبات قبل أن يتمكن من حشد القوة اللازمة لصدهم والتغلب عليهم؟

ومما يحزن أن تحول العصبية القومية — كما بدا لك — دون قيام الإنجليز بالتجربة، فإنهم على براعتهم في فنون الصناعة قمناء أن يسبقوا غيرهم إلى إتقان هذا المخترع والانتفاع بكل ما يعود به من الفائدة.

إن منطاد شارل وروبرت كان ممتلئًا حقًّا بالهواء الساخن، ولوفرة المقدار اللازم كان العمل في ملئه متعبًا عظيم النفقة يحتاج إلى يومين أو ثلاثة ليلًا ونهارًا لإنجازه. وللمنطاد صمام عند أعلاه يفك بشد الحبل الذي يربطه كلما أريد إطلاق جزء من الهواء استعدادًا للنزول، والراكبان يقذفان بجزء من الرمل الذي يوازن الهواء إذا أرادا الصعود بعد ذلك، ولا بد أن يكون مقدار كبير من الهواء قد انطلق من المنطاد لموازنة أحد الراكبين ساعة نزوله، ولخفة المنطاد بعد نزوله، تكفي البقية فيه لحمل زميله، وهما لا يحملان في المنطاد نارًا كما يفعل مسيو منتجلفير في منطاده الذي يفتح من أسفله ويوقد فيه التبن لاستبقاء ناره. وهذا الطراز من المناطيد أسرع امتلاء وأقل نفقة، ولكنه يستلزم مضاعفة الحجم لرفع الثقل نفسه؛ إذ كان الهواء المشعشع بالحرارة لا يقل ثقله عن نصف ثقل الهواء الجوي، على حين أن الهواء الساخن يقل عن ثقله عشر مرات، وقد كشف مسيو مورفو الكيمي الشهير بمدينة ديجون هواء ساخنًا لا تزيد كلفته على جزء من خمسة وعشرين جزءًا من كلفة الهواء الساخن الذي يحدث من صب الزيت أو الزاج على برادة الحديد، ويقال: إنه مستخرج من فحم البحر، ولم يذكر وزنه بالنسبة إلى غيره.١٠

ثمن الصفارة

وهذه رسالة من رسائله إلى السيدة بريون ضمنها حكاية من الحكايات «المثلية» أو الحكايات التي تُستوحى من مغزاها بعض المعاني الأخلاقية أو الاجتماعية، وكانت شائعة في ذلك العصر يؤلفها الكتاب وغير الكتاب لتزجية الفراغ بما يشبه امتحان الذهن بالأحاجي السهلة والألغاز الخفيفة، وتتلى هذه الرسائل عادة في السهرات والاجتماعات كأنها مادة من مواد السمر والفكاهة، وقد كتب فرنكلين هذه الرسالة إلى صديقته جوابًا على رسالة منها تصف فيها نعيم الفردوس كما تتخيله، فقال بعد أسطر في التمهيد والاعتذار من تأخير الجواب:

أعجبني وصفك لجنة الفردوس وبرنامجك الذي درسته للمعيشة فيها. وأقرك كثيرًا على ما ختمت به الوصف حيث تقولين: إننا — في الوقت نفسه — ينبغي أن نستخلص في هذه الدنيا كل ما نستطيع من خير ونعمة. وأرى أننا جميعًا قادرون على أن نستخلص منها فوق ما ننال من خيرها ونعاني أقل مما نعانيه من شرها لو جعلنا بالنا إلى شيء واحد؛ وهو ألا نشتري الصفافير بأكثر من أثمانها.

وتسألينني ماذا أعني؟ وأنت تحبين الحكايات، فاسمحي لي أن أقص عليك إحدى حكاياتي حين كنت في السابعة من عمري، فقد حدث في بعض أيام الأعياد أن امتلأ جيبي بأنصاف البنسات من هبات أصدقائي، فذهبت توًّا إلى دكان اللعب واشتريت منه صفارة سمعت بعض الأطفال في الطريق يصفر بها، فأعجبتني وبذلت في ثمنها كل ما احتواه جيبي.

ورجعت إلى المنزل فطفقت بين جوانبه نافخًا في صفارتي راضيًا عن نفسي مزعجًا كل من فيه من إخواني وأخواتي وأبناء عمي، فلما سألوني عن هذه الصفقة وأخبرتهم بها قيل لي أنني بذلت في الصفارة أربعة أضعاف ثمنها، وذكروني بالطيبات التي كنت قمينًا أن أنعم بها لو لم أبذل فيها فوق ما تستحقه، وضحكوا من حماقتي وغفلتي وأكثروا من الضحك حتى بكيت غمًّا وأسفًا، وساءني من التفكير في الخسارة أضعاف ما سرني من الصفارة.

ونفعتني العبرة فلم تبرح ذاكرتي بعد ذلك، ولم أزل كلما أغريت بشراء شيء لا حاجة بي إليه أعود فأقول لنفسي: لا تبذل في الصفارة فوق ما تساويه، وادخرت نقودي.

ثم كبرت واختبرت الدنيا وراقبت أحوال الناس، فلقيت الكثيرين ممن يشترون الصفارة بأضعاف ثمنها، وأصبحت كلما رأيت إنسانًا يطمع في الحظوة لدى البلاط، فيبدد وقته في التردد على الحشم والحاشية، ويفقد راحته وحريته وفضائل نفسه، وربما فقد أصدقاءه في هذا السبيل — أعود فأقول: هذا الإنسان يغالي بقيمة الصفارة، ويبذل فيها أضعاف ما تساويه.

وكلما رأيت إنسانًا مشغوفًا بالشهرة يزج بنفسه في مشاكل السياسة، ويغفل عن مصالحه، فيجر على نفسه الخراب بهذه الغفلة، أعود كذلك فأقول: وهذا إنسان آخر يشتري الصفارة بأضعاف ثمنها.

وكلما عرفت بخيلًا يحرم نفسه أطايب العيش، وغبطة الإحسان إلى الناس، ومنزلة التقدير والرعاية بين قومه، ومتعة المودة والصداقة بينه وبين خاصته، أعود فأقول لنفسي: يا لك من مسكين! إنك أيضًا تشتري الصفارة بأضعاف ما تساويه.

وكلما التقيت بإنسان من طلاب الشهوات والمسرات يذهل عن تهذيب نفسه وعقله، أو عن تدبير ماله من أجل متعة جسدية تستغويه وتجور على جسده، أناديه في ضميري: أيها المخدوع، إنك تجني الألم من حيث تنشد اللذة، وتعطي الصفارة ثمنًا لا تستحقه.

وقد أرى إنسانًا مفتونًا بالمظهر والزينة، مأخوذًا بغواية البيت الأنيق، والأثاث الأنيق، والعتاد الأنيق مما لا يطيقه ولا تحتمله ثروته، وقد يوقعه في الدين، ويسوقه إلى السجن، فاقول: وا أسفًا؛ إنها الصفارة يشتريها أيضًا بهذا الثمن الثقيل.

وقد أرى الفتاة الحلوة الجميلة تتزوج من الرجل السيئ القبيح فأقول: يا لها من شقوة وخيبة، إنها تعطي الصفارة أضعاف ما تأخذ منها.

وجملة القول أن معظم الشقاء الذي يبتلى به بنو الإنسان، إنما يجنيه عليهم ذلك التقدير الباطل لقيم الأشياء، وذلك البذل المضاعف في ثمن الصفارة.

على أنني أرفق بهؤلاء البائسين، فلا تنسيني هذه الحكمة التي أتشدق بها أن في هذه الدنيا كثيرًا من المغريات، ومنها تفاحات الملك حنا التي لا تباع لحسن الحظ. ولو أنها كانت مما يباع بالمزايدة لخشيت أن أجر على نفسي الخراب لأشتريها، وأعود فأبذل في الصفارة قيمة لا تساويها.١١

رسائل شخصية

وهذه رسائل متفرقة في موضوعات عائلية أو عامة كتبها إلى أقربائه وصفوة أصدقائه، ومنها هذه الرسالة إلى أخته تعزية لها في موت أخيه:

فيلادلفيا في ١٢من فبراير سنة ١٧٥٦
أختي العزيزة

أشاطرك الحزن في مصابنا بموت أخينا العزيز، وليكن بيننا مزيد من الحب كلما أصبنا بنقص في العدد.

وقد عدت الآن من بعثتي العسكرية ووقتي مشغول بأعمال الهيئة النيابية، وكأنما العناية الإلهية تطالبني بصنوف شتى من الواجبات، فلا أعلم الآن ما سيأتي بعد، ولكني أجد أن شواغلي تزداد كلما بحثت عن الفراغ، وتطلعت إلى الاعتزال.

وإني أفهم أن «بيني» يميل إلى ترك «انتيجوا». وربما كان على حق، ولا مانع عندي.

محبتي للأخ وللأطفال، وإنني يا أختاه العزيزة.

وكتب إليها هذه الرسالة؛ تعزية في موت ابنتها سارة:

فيلادلفيا في ١٠ من يوليو سنة ١٧٦٤
أختي العزيزة

نحن جميعًا نشاطرك الحزن في موت كريمتك. وقد كنت أراها دائمًا على خلق عذب محبوب وشمائل طيبة تضاعف الحزن عليها في نفس الأخ ونفسك فوق ما تحتملان، وكل ما نملكه من العزاء في مثل هذا المصاب أن نؤمن بأن الله يعلم ما هو أصلح وأجدر ويقدر على صنع الخير مما يبدو لنا أنه شر. وإنها لسعيدة تلك السعادة التي لا يشعر بها أحد منا وهو بقيد الحياة.

وكتب إليها في مسألة من مسائل العقيدة تعنيها بعد الاطلاع على بعض الكتب التي أرسلها إليها من البلاد الإنجليزية:

لندن في ٢٧ من يوليو سنة ١٧٧١

وصل إليَّ خطابك الكريم المؤرخ في العاشر من شهر مايو، ويلوح لي أنك تحسين إحساسًا شديدًا بخطئك في التعجل باتهامي حتى ليحق لي أن أقول: إنه الآن دوري في الأسف لملاحظة ذلك الخطأ، فقد تعادلت الحسبة إذن، فلندعها ولا نعد إلى التفكير فيها.

ويخيل إليَّ أنني ذكرت ثمن الكتب في رسالة سابقة ونسيتها الآن، ولكنني أظن أن ثمنها ثلاثة شلنات لكل كتاب.

ولا ريب أن هناك اختلافًا في أمر وجودنا قبل هذا الوجود، وأحسب أن هذه الفكرة قد صدرت عن حسن نية، لتبرئة حكمة الله من تعاسة الخلق في هذه الدنيا بغير جريرة لحقت بهم في دنيا قبلها، وربما كان هذا من الفضول بغير داعٍ لتأييد قصة السفينة، وإذا كان الإله قد شاء أن يلقي عليها سترًا، فقد يكون الاجتراء على كشف ذلك الستر من قبيل التطفل واللجاجة، ولعل نجاحنا في هذه المحاولة لا يربى على نجاح أبوينا في محاولة المعرفة الممنوعة يوم أكلا من الشجرة.

ولست أعني بقولي: إن بني آدم بعضهم شياطين لبعض، إلا أنهم — لارتقائهم على غيرهم من الخلق — لا يعذبهم الخلق الآخرون كما يعذبون أنفسهم. ومن جانبي أنا أراني أتقبل الدنيا على علاتها، وأرى أن أشك في حكمتي كلما فكرت في وجوه صلاحها وإصلاحها، وإني لأبصر من الحكمة فيما أدرك من خلق الدنيا ونظام تدبيرها ما يلهمني أن هناك حكمة تعادلها فيما لست أدركه وأتقصاه. ومن ثم لا تكون الثقة التي عندي بالله دون الثقة التي عند سائر المسيحيين الأبرار.

ويسعدني أن التفاهم الحسن مستمر بينكم وبين آل فيلادلفيا، وقد كان أبونا حكيمًا جد حكيم، وكان من عادته أن يقول: إنه لا شيء أكثر من ظهور أسباب النفور بين المتحابين على البعد إذا اقتربت بهم الديار … ولهذا لم يكن ليستحسن زيارات الآل في الأماكن البعيدة، لأنها تطول ولا يمكن أن تقصر إلى الحد الذي يتركهم على المودة والوئام حين يفترقون. وقد لمست برهانًا على ذلك — العلاقة بين أبي وأخيه بنيامين، فقد كنت يومئذ طفلًا، ولكني كنت أحس الفرق بين عبارات المودة في رسائلهما قبل اللقاء، وبين المناقشات والمجادلات التي تنشب بينهما إذ يقيمان في مسكن واحد. غير أنك أنت أدنى إلى الصواب فيما تختارينه من التوفيق آنة بعد أخرى؛ لإسداء النصيحة من بعيد في شئون الآخرين ومرافقهم، وكله خير ما دام يفضي إلى خير.

وأذكر أنك أشرت في إحدى رسائلك إلى النظارات ورغبتك في إرسال بعضها إليك، وليس لديَّ هذه الرسالة الآن؛ فلهذا أبعث إليك بزوج من كل مقاس من الواحد إلى الثلاثة عشر، وستعرفين المقاس الذي يوافقك بامتحان زوج بعد زوج على كلتا عينيك في النظر إلى مطبوعة دقيقة، واعزلي ما لا يوافقك لكيلا تعودي إلى تجربته مرة أخرى، وإنك لتجدين النظارة التي توافقك بالتجربة والمقارنة على مهل، وهو الأمر الذي لا يتيسر في الدكاكين حيث يعجل الناس باختيار النظارات، فترهق أبصارهم وتضرهم، وأشير عليك بتجربة كل عين على حدة؛ إذ قلما يوجد بين الناس من تتساوى لديهم العينان، ويكاد كل ناظر يعتمد على إحدى عينيه في القراءة والعمل لضعف في عينه الأخرى، أو لأنها أصلح للنظر البعيد. ولهذا تفيد النظارة المتساوية تلك العين المهملة، ولا توافق العين المعول عليها، ومتى عرفت ما يوافقك من النظارات، فاحتفظي بالأقوى منها للمستقبل حين تحتاجين إليها مع الزمن، وقدمي ما تستغنين عنه هدية للأصدقاء.

أما الخطأ الذي أومأ إليه فرنكلين في مقدمة الخطاب السابق، فقد يظهر من خطابيه التاليين، وأولهما بتاريخ الثلاثين من شهر ديسمبر سنة ١٧٧٠ قال:

سنحت لي الفرصة، أثناء انتظار السفينة أكثر من وقتها المعهود — أن أكتب إليك بعدما فاتني، على ما أظن، أن أفعل حين رجوت ابن عمنا وليامز أن ينوب عني في الاعتذار إليك.

وصل إليَّ خطابك الكريم المؤرخ في الخامس والعشرين من شهر سبتمبر على يد السادة الفتيان الذين حببوا أنفسهم إليَّ وإلى كثير من معارفنا بمسلكهم الحميد. وقد حقق جوشيا أمنية قلبه بالتتلمذ على مستر ستانلي الذي استجاب رجائي بعد طول انقطاعه عن التدريس، فقبل أن يعلمه بعض الدروس، وسُرَّ من سرعة فهمه وتقدمه، ويبدو لي أن جوناثان فتى ذو قيمة، رصين، منتظم، يميل إلى العمل والتدبير، وهي مخايل النجاح في الأشغال، وإني في صحبتهم لجد سعيد.

أما الإشاعة التي ذكرتها — وأخبرني جوشيا فحواها وهو أنني عزلت من وظيفة مدير البريد من أجل كتاب أرسلته إلى فيلادلفيا — فربما كان أساسها أن بعض الرؤساء قد ساءهم كتابتي أمثال تلك الكتب، ولاح عليهم أنهم يريدون أن يعبروا عن استيائهم على ذلك المنوال، ولكن أناسًا من أصدقائي أشاروا برأي غير هذا الرأي على غير علم مني، فاضطر خصومي إلى القناعة بشتمي — عن سعة — في الصحف واستثارتي بذلك إلى الاستقالة. ولا أخالهم يفلحون في هذه الاستثارة؛ لأنني لا أملك تلك الفضيلة المسيحية فضيلة التسليم،١٢ فمن أراد أن يحتل مكاني فليأخذه عنوة.

ولقد سمعت عن عظيم من العظماء كان ديدنه في أمر الوظائف ألا يطلبها وألا يرفضها، وأضيف إليه كذلك ألا يستقيل منها، وقد قلت لأصدقائي: إنني ترقيت إلى تلك الوظيفة على درجات من الوظائف التي هي دونها، وكانت مواردها قبل ولايتي لا تأتي بمرتبها، فأصبح المرتب بعد ولايتي لا يعطى إلا إذا أتت به مواردها، وكانت في السنوات الأربع الأولى لا تقوم بتكاليفها حتى بلغ ديني ودين زملائي عليها تسعمائة وخمسين جنيهًا، فاجتهدت اجتهادي حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن من الوفرة والفائدة، واعتقدت من ثم أنني صاحب نوع من الحق فيها، وقد قمت حتى الآن بالأمانة والصدق على أعمالها مما أرضى عني الرؤساء كل الرضا، وهو غاية ما كان يطلب مني في هذه الوظيفة. أما الكتب التي أنفذتها إلى فلادلفيا فقد كتبتها فعلًا قيامًا بواجب آخر، وهو واجبي نحو وطني، ولا شأن له بعملي في إدارة البريد، وإن مسلكي في هذه المسألة لشبيه بمسلكي في مسألة سابقة لها حين كان الرؤساء يهمون باحتضاني، واعتناقي لمساعدتي إياهم في إلغاء قانون خاص بالإيراد، ولا يزال شعوري اليوم كشعوري بالأمس في أمر هذه القوانين التي لا يجوز أن تصدر هنا لتطبيقها في أمريكا، وأنها إذا صدرت وجب السعي إلى إلغائها على الأثر، ولست أعتقد أنني مطالب بتبديل شعوري كلما خطر لصاحب الجلالة هنا أن يغير وزراءه ووكلاءه، وقد كانت هذه عبارتي التي فهت بها لهذه المناسبة، ثم سمعت أنهم — وإن حسبوني حقيقًا باللوم، وفهموا أن الموظف مطالب بمجاراة الوزير على رضًا منه أو على غير رضا — وقد عادوا فنظروا إلى مسلكي الطيب وخلقي الشخصي كما تفضلوا فوصفوه، وقرروا من ثم ألا تنتزع الوظيفة مني.

وجائز أنهم ينكصون عن رأيهم هذا ويعزلونني، ولكنني على ثقة أن شيئًا من هذا لن يبدل من خطتي السياسية، وخطتي التي اطمأننت إليها دائمًا هي ألا أحيد عن خطة في الشئون العامة رعاية لشأن من الشئون الخاصة، بل أمضي قدمًا في عمل الصواب الذي أعتقده، وأدع المصير بين يدي العناية الإلهية. وقد كان مما يسَّر لي أن أستقيم على النهج في صباي أنني كنت صاحب صناعة، وكنت أعلم أنني أقنع بالقليل في معيشتي، ولم يكن من همي يومئذ أن أجمع ثروة كبيرة، وأن أذهب مع الأطماع، قانعًا بما أكسبه من الكفاية من موارد عملي. والآن أخال أن الاحتفاظ بحريتي ونزاهتي أيسر عليَّ بعد أن بلغت النهاية من مراحل عمري، وقلَّت النفقة التي بقيت للبقية منها، وأن ما أملكه الآن ببركة الله وحسن القصد فيه ليكفيني، إلا إذا وقع من الكوارث العظمى ما ليس في حسابي، فلا حاجة بي إلى الزيادة عليه من موارد وظيفة أو إدارة.

أبعث إليك في هذه الفرصة الكتابين اللذين كتبت عنهما، وثمن كل منهما ثلاثة شلنات، وقد كنت في زيارتي السابقة للندن قبل خمس وأربعين سنة أعرف إنسانة تفكر تفكير مؤلفك اسمها «اليف» أرملة أحد الطباعين، وماتت على أثر سفري من إنجلترا، فكان من وصيتها لولدها أن يلقي علانية في قاعة صولتر خطابًا يؤكد فيه أن هذه الدنيا هي الجحيم الحق مقر العذاب والعقاب للأرواح التي أذنبت في حياة أفضل من الحياة، فنفيت إلى الأرض لتجزى على ذنوبها في أسلاخ الحيوان على اختلاف أنواعه، وانقضى زمن طويل منذ اطلعت على الخطاب المطبوع الذي كان يستشهد بالكثير من آيات الكتاب المقدس، ومرماه أننا سنتذكر بعد الموت ما كنا عليه قبل الولادة، وإن كنا ننساه أيام المقام في هذه الدنيا، وأننا نذكر كذلك ما لقيناه من العقاب لنعتبر به ويعتبر به سوانا ممن لم يذنبوا مثلنا، فلا يقعوا في الخطيئة اعتبارًا بما أصابنا.

والواقع أننا نرى هنا أن كل حيوان من الحيوانات الدنيا له عدوه الذي ركبت فيه الرغبات والغرائز والأسلحة التي تمكنه من تخويفه وجرحه والقضاء عليه. أما الإنسان — وهو أرفعها جميعًا — فبعضه لبعض شيطان، وتلك حال تستدعي فرضًا كفرض السيد اليف مع الإيمان بكرم الله وعدله في قضائه للتوفيق بين هذا الإيمان وكرامة العزة الإلهية. إلا أن عقولنا لا تذهب بنا بعيدًا حين نسومها أن تبحث عما كان قبل وجودنا، أو ما سيكون بعد هذا الوجود لقلة التواريخ والوقائع التي بين أيدينا، وإنما يعطينا الوحي معرفتنا الضرورية بهذا، ويقصد غاية القصد على الخصوص فيما أعطانا من المعرفة عما كان قبل وجودنا.

أرجو أن تتابعي الكتابة إلى أصدقائك بفلادلفيا، ومحبتي لأنجالك، وعلى العهد، أخوك المحب الودود.

وكتب إليها ينفي إشاعة عن تعيينه في وظيفة إنجليزية أثناء قيامه بالوكالة عن بعض الولايات الأمريكية:

لندن في ٢٨ من يولية سنة ١٧٧٤

إن الإشاعة التي أشرت إليها، وقيل فيها أنني اقترحت أن أتخلى عن توكيلاتي وأنقطع عن وطني إنما هي أكذوبة خبيثة كما قلت في خطابك، وليست بالإشاعة الكاذبة وحسب، بل هي سخيفة مضحكة؛ إذ هي تفترض على الأقل أنني لا أعرف من الحساب ما أفرق به بين ثلثمائة وألف، وإنهم ليعاودون الإشاعة هنا حينًا بعد حين زاعمين أنني ألتمس الوسائل للعودة إلى وظائف الحكومة، ولعلهم يتمنون ذلك وينتظرونه. فلينتظروا إذن إلى يوم الدين.

إن الله لأعلم بسريرتي، وإنني لآسف أن أتقبل أحسن الوظائف التي ينعم بها الملك هنا ما دامت تلك الأفاعيل الجائرة تسلط على وطني. وثقي أنني لن أصنع شيئًا يمسني في نظرك، أو ينقض المسلك الأمين الذي سلكته حتى الآن في الأعمال العامة، وقد احتفظت بوظيفتي السابقة حتى عزلت منها ولم أعتزلها؛ لأنني لم أكن قد تلقيتها مكافأة من الحكومة، بل ارتقيت إليها بحق الخدمة فيما دونها والأمانة في تلك الخدمة، فجاز لي أن أعتبر لي حقًّا فيها أو حقًّا عليها، ولم أشأ أن أيسر لهم الأمر بالاستقالة لكي يبوء منهم من أراد أن يبوء بمسبة حرماني منها، وقد شرفوني بإخراجي من تلك الوظيفة، فليكن حذري الآن ألا يحملوني المسبة بإعادتي إليها.

وكل هذا أكتبه إليك أنت. أما الدنيا، فربما خطر لها أن هذه التصريحات والتوكيدات أمر لا يقبل التصديق ومحض ادعاء يدعيه المرء لتفخيم شأن نفسه. فلا تطلعي أيتها الأخت العزيزة أحدًا على هذا، فإنما أكتبه إليك لمرضاتك وإراحة ضميرك مما عسى أن يساوره من القلق لسماع تلك الإشاعات.

وكتب إليها بعد انتخابه رئيسًا للجمعية في فلادلفيا يعرب لها عن شعوره بالإجماع على انتخابه:

فلادلفيا في ٤ من نوفمبر سنة ١٧٨٧

وصل إليَّ منك أخيرًا كتاب كريم سرني بما علمته من تمتعك بالصحة، وأنك اتخذت العدة للشتاء كما أنبأتك. ومطالبك مستجابة محترمة، وقد يتعذر عليَّ أحيانًا أن أعرف ما تحتاجين إليه، فأرجو ألا تحجمي أبدًا عن إخباري بكل ما في وسعي أن أعمله لإسعادك في حياتك.

لقد عزمت من قبل أن أعتزل العمل في الهيئة النيابية سنة أخرى؛ كي يتسع أمامي الوقت للسفر إلى بوستون في الربيع، إلا أنني أذعن للإجماع الذي انعقدت عليه آراء بني وطني، فأقروني مرة أخرى على كرسي الرياسة وتمَّ لي الآن أكثر من خمسين سنة في الخدمة العامة.

لما أخبرت صديقك الطيب دكتور كوبر أنني أمرت بالسفر إلى فرنسا بعد أن بلغت السبعين، وقلت له: إن «الجمهور» قد أكل لحمي ويريد اليوم على ما يظهر أن يأكل عظمي، أجابني قائلًا: إنه يحبذ منهم حسن الذوق؛ لأن أطيب اللحم ما جاور العظم كما جاء في الأمثال، ولا بد لي أن أعترف لك بأنني مغتبط بذلك، وأحسب أن أختي العزيزة حقيقة أن تسر باختياري للمرة الثالثة بعد طول التجربة، وأن بني قومي يتفقون بإجماع الأصوات — ما عدا صوتي — على توجيه هذا التشريف إليَّ، وهو أكبر ما يملكونه من تشريف. وإن هذه الثقة العامة بغير قيد ولا حد من شعب كامل، لأعز عندي وأرضى لكبريائي من أرفع ألقاب النبلاء؛ فإن الأشرطة والحمائل التي يعلقونها حولهم، قد تضفي على أصحابها شرف الألفاظ والأسماء، ولكنها لن تمنحهم لباب الشرف الصميم.١٣
١  Letters to the Press 1758–1775.
٢  من كتاب رسائله إلى الصحف المتقدم ذكره.
٣  اعتمدنا في ترجمة هذه الرسالة على النص الإنجليزي المنشور في الجزء الأول من كتاب أئمة الأدب الأمريكي طبع مكملان Masters of American Literature.
٤  من كتاب «كتابات فرنكلين الترجمية» تأليف «كارل ڨان دورن» Franklin’s Autobiographical Writings by Carl Van Doren.
٥  من كتاب الخزعبلات The Bagatelles تأليف «ريتشارد أميشر» Richard E. Amacher.
٦  اسم فرخ من الحمام محبوب عند مدام «هلڨيتس».
٧  نسبة إلى جلك Gluck الموسيقي الألماني و«بيشيني» الموسيقي الإيطالي، وكان لهما حزبان متناظران في أندية باريس ومعاهدها الفنية.
٨  صاحب هذه الأبيات فلكي إنجليزي هو «والتر بوب» Walter Pope توفي سنة ١٧١٤.
٩  ابن «ريتشارد باخ» صاحب الخطاب.
١٠  هذه الرسالة والرسائل الأربع التي تقدمتها مترجمة من النصوص التي اشتملت عليها مجموعة الكتابات الترجمية لجامعها «ڨان دورن».
١١  هذه الرسالة مأخوذة من كتاب الخزعبلات، وفي هامشها يقول جامع الكتاب: إن التفاحات في الحقيقة كمثريات مسمومة أهداها قس إلى الملك حنا صاحب «المجناكارتا» لأنه علم أنه يهم باغتصاب راهبة مصونة.
١٢  هذه الكلمة بالإنجليزية تفيد معنى الاستكانة والتسليم للمقادير.
١٣  رسائل فرنكلين إلى أخته مأخوذة كلها من مجموعة رسائل «بنيامين فرنكلين» و«جين ميكوم» Mecom طبع جامعة برنستون سنة١٩٥٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤