طرطوشة

وطرطوشة tortosa١ اليوم مدينة متوسطة واقعة على ضفة نهر أبره الذي ينحدر على مقربة منها إلى البحر، وعدد سكانها نحو من ٢٨ ألف نسمة، وهي مركز أسقفية، وقد كان يقال لها في زمان الرومانيين: «درتوزه Dertosa»، وكان لها أيضًا اسمٌ آخر، وهي مستعمرة «جولية السعيدة Colonia Julia Augusta»، وكان لها حق في سك العملة، وبالنظر لموقعها الجغرافي كانت لها دائمًا أهمية بين المدن الإسبانية، لا سيما أنه بالقرب منها غابات من الصنوبر المتين الصالح لإنشاء السفن، فلا تخلو طرطوشة أبدًا بهذا السبب من دار صنعة بحرية. وقد استولى عليها العرب في بداية الفتح ولكن الإفرنج جاءوا بعد استيلائهم على كتلونية فهاجموا طرطوشة لاستردادها، وفي سنة ٨٠٩ للمسيح حاصرها الملك لويس الحليم بن شارلمان، فعجز عنها؛ فانكفأ عن حصارها ثم عاودها بعد سنتين ففتحها، ثم عاد العرب فاسترجعوها. وعلى طرطوشة وقعت الوقائع بين لويس الحليم بن شارلمان والحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل الأموي، الذي أرسل ولده عبد الرحمن بجيشٍ أخرج منها الإفرنج.

قال لاوي بروفنسال في الانسيكلوبيدية الإسلامية: إنه نظرًا لوجود طرطوشة في طرف بلاد المسلمين كان الخلفاء يجعلونها منفى لمن يكرهون إقامته في داخل المملكة. قال: وإليها نفى المنصور بن أبي عامر عبد الملك بن إدريس الجزيري. ولما تشظت عصا الخلافة ونجمت ملوك الطوائف، صارت طرطوشة إمارة مستقلة قام بها نبيل الصقلبي من المماليك العامرية، واستولى نبيل هذا أيضًا على بلنسية لكن لم يطل أمره بها. وكان قبل نبيل تولى عليها الفتى لبيب وفتًى آخر اسمه مقاتل لقَّب نفسه بسيف الدولة.

وفي سنة ٤٥٢ للهجرة وفق ١٠٦٠ للمسيح ثارت طرطوشة بأميرها نبيل الصقلبي، فاضطر أن يلجأ إلى المقتدر بن هود صاحب سرقسطة؛ فبقيت هذه المدينة في أيدي ملوك بني هود إلى أن تقلص ظل الإسلام عنها، وكان النصارى استولوا عليها سنة ٥١٢ هجرية وفق ١١١٨ مسيحية، ثم أخرجهم المسلمون منها إلى أن ضاق النصارى ذرعًا بغارات المسلمين البحرية التي كان أكثرها صادرًا عن طرطوشة بمكانها مركزًا عظيمًا لقرصان المسلمين، فصمم ريموند بيرانجه Raymond Béranger الرابع صاحب برشلونه على أخذ طرطوشة، ووافته نجدات من فرسان الهيكليين الصليبيين وأساطيل بيزه وجنوة من إيطالية، فاقتحموا البلدة برًّا وبحرًا واستولوا عليها في ١٤ شعبان سنة ٥٤٣ وفق ٣٠ ديسمبر سنة ١١٤٨، وهي السنة التي استولى فيها النصارى على لاردة وإفراغه،٢ فكرَّ المسلمون على طرطوشة وكادوا يفتحونها فدافع الإسبان عنها أشد دفاع، وظهر من النساء ذلك اليوم استبسال نادر المثال حتى قيل: إنهن كن السبب في حفظ طرطوشة من الوقوع في يد الإسلام؛ فلذلك منحهن بيرانجه وسامًا اسمه وسام الفاس، وهو عبارة عن شريطة حمراء يحملنها ويتبخترن بها، وكذلك أعطين حق التقدم على الرجال في حفلات الزواج.
وكان خلفاء بني أمية شديدي الاعتناء بطرطوشة. نقل ابن عبد المؤمن الحميري أنهم حصنوها بأسوارٍ منيعة وجعلوا لها أربعة أبواب وعمرت في أيامهم عمرانًا ذا بال، وبنى فيها الخليفة الناصر عبد الرحمن سنة ٣٣٣ وفق ٩٤٥ دار صنعة للسفن لا يزال تاريخ إنشائها منقوشًا على الحجر.٣ وكان في طرطوشة مسجد جامع بخمسة صفوف من الأقواس ذكر لاوي بروفنسال أنه مبني من سنة ٣٤٥ للهجرة، ولكن رأيت في دليل بديكر أن الكنيسة الكاتدرائية في طرطوشة هي من بناء مطران اسمه «غوفريدُه»، اشتغلوا في بنائها من سنة ١١٥٨ إلى ١١٧٨، وذلك في مكان مسجد بناه الخليفة الناصر سنة ٩١٤، والأقرب أن يكون هذا المسجد هو المسجد الجامع، هذا إلا إذا كان هناك مسجد آخر بناه الناصر.

وعلى كل حال فلا يزال في صومعة الثياب الكهنوتية إلى اليوم كتابة كوفية تتعلق ببناء هذا المسجد. وفي هذه الصومعة أيضًا خوذة عربية، ثم إن قبة الجرس التي في هذه الكنيسة هي مئذنة المسجد باقية كما كانت. وكان بنو أمية بنوا في طرطوشة مباني أخرى منها أربعة حمامات عمومية وكانت أرباضها في غاية العمران.

قال لاوي بروفنسال: إذا نظرنا إلى العلماء الذين يحملون لقب «الطرطوشي» حكمنا بأن هذه البلدة بقيت مدةً طويلة مركزًا لامعًا بأنوار العلوم الإسلامية، ثم ذكر أشهر العلماء المنسوبين إلى طرطوشة، وهو أبو بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي المعروف بابن رندقة، ولد في طرطوشة سنة ٤٥١، وتوفي في الإسكندرية سنة ٥٢٠، وهو صاحب كتاب «سراج الملوك». قال ياقوت في معجم البلدان: طَرطوشَة بالفتح ثم السكون ثم طاء أخرى مضمومة وواو ساكنة وشين معجمة: مدينة بالأندلس تتصل بكورة بلنسية، وهي شرقي بلنسية، وقرطبة قريبة من البحر متقنة العمارة مبنية على نهر أبرة ولها ولاية واسعة وبلاد كثيرة تعد في جملتها، تحلها التجار ويسافر منها إلى الأمصار، واستولى عليها الإفرنج في سنة ٥٤٣، وكذلك على جميع حصونها، وهي في أيديهم إلى الآن. وينسب إليها أحمد بن سعيد بن ميسرة الغفاري الأندلسي الطرطوشي، كتب الحديث الكثير من علي بن عبد العزيز ومحمد بن إسماعيل الصايغ وغيرهما، وحدث ورحل في طلب العلم ومات بالأندلس سنة ٣٢٢، وأبو بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف الفهري الطرطوشي الفقيه المالكي، مات في خامس عشر جمادى الأولى سنة ٥٢٠، ويعرف بابن أبي رندقة، هذا الذي نشر العلم بالإسكندرية، وعليه تفقه أهلها، قاله أبو الحسن المقدسي في كتاب «الرقيات» له، وذكره القاضي عياض في مشيخة أبي علي الصدفي، فقال: محمد بن الوليد الفهري الإمام الورع أبو بكر الطرطوشي المالكي يعرف ببلده بابن أبي رندقة براء ونون ساكنة ودال مهملة وقاف مفتوحتين. نشأ بالأندلس وصحب القاضي أبا الوليد الباجي، وأخذ عنه مسائل الخلاف، ثم رحل إلى الشرق، ودخل بغداد والبصرة، فتفقه عند أبي بكر الشاشي وأبي سعيد بن المتولي وأبي أحمد الجرجاني أئمة الشافعية، ولقي القاضي أبا عبد الله الدامغاني، وسمع بالبصرة من أبي علي التستري والسيعداني، وسمع ببغداد من أبي محمد التميمي الحنبلي وغيرهم، وسكن الشام مدة ودرَّس بها، وبعد صيته، وأخذ عنه الناس هناك علمًا كثيرًا، ثم نزل الإسكندرية واستوطنها.

قال القاضي أبو علي الحسين الصدفي: صحبته بالأندلس عند الباجي، ولقيته بمكة، وأخذت عنه أكثر السنن لأبي داود عن التستري، ثم دخل بغداد وأنا بها فكان يقنع بشظف من العيش، وكانت له نفسٌ أبية، أخبرت أنه كان ببيت المقدس يطبخ في شَقَف٤ وكان مجانبًا للسلطان؛ استدعاه فلم يجبه، وراموا الغض من حاله فلم ينقصوه قلامة ظفر، وله تأليف وشعر، فمن شعره في بر الوالدين:
لو كان يدري الاِبن أية غصةٍ
يتجرَّع الأبوان عند فراقه
أمٌّ تهيج بوجدها حيرانة
وأب يسح الدمع من آماقه
يتجرَّعان لبينه غصص الردى
ويبوح ما كتماه من أشواقه
لرئي لأم سُلَّ من أحشائها
وبكى لشيخٍ هام في آفاقه
ولبدَّل الخلق الأبيَّ بعطفه
وجزاهما بالعَذْب من أخلاقه
وطلبه الأفضل صاحب مصر فأقدمه من الإسكندرية إلى مصر، وألزمه الإقامة بها وأزكن٥ عليه أن لا يفارقها إلى أن قُيِّد الأفضل فصُرف إلى الإسكندرية، فرجع بحالته إلى أن توفي بها سنة ٥٢٠.

وجاء في صبح الأعشى عن طرطوشة ما يلي: قال في تقويم البلدان بضم الطاءين المهملتين وبينهما راء ساكنة مهملة ثم واو ساكنة وشين معجمة وهاء في الآخر. وهي مدينة في شرق الأندلس موقعها في الإقليم الخامس من الأقاليم السبعة. قال ابن سعيد: حيث الطول اثنتان وعشرون درجة وثلاثون دقيقة والعرض أربعون درجة. قال: وهي من كراسيِّ مُلك شرق الأندلس. وهي شرقي بلنسية في الجهة الشرقية من النهر الكبير الذي يمر على سرقسطة، ويصب في بحر الزقاق على نحو عشرين ميلًا من طرطوشة. قال: وشرقي طرطوشة (جزيرة مايُرْقَة) في بحر الزقاق وإلى طرطوشة هذه ينسب «الطرطوشي» صاحب «سراج الملوك». ا.ﻫ.

ثم ورد ذكر طرطوشة في صبح الأعشى في باب التاريخ عندما ذكر بني هود فقال: وكان من ممالك بني هود هؤلاء طرطوشة، وقد كان ملكها مقاتل أحد الموالي العامريين سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، ومات سنة خمس وأربعين، وملكها بعده يعلى العامري ولم تطل مدته.

وملكها بعده نبيل أحدهم إلى أن نزل عنها لعماد الدولة أحمد بن المستعين (بن هود) سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، فلم تزل في يده ويد بنيه بعده إلى أن غلب عليها العدو المخذول في ما غلب عليه من شرقي الأندلس. ا.ﻫ.

وأما الشريف الإدريسي فقد مر في الجزء الأول [فصل: أقوال العرب عن جغرافية الأندلس — قول الشريف الإدريسي] ذكره لطرطوشة٦ فيما ذكر من مدن الأندلس ماشيًا عليها بالترتيب، فهو يقول: ومدينة طرطوشة مدينة على سفح جبل، ولها سور حصين، وبها أسواق وعمارات وصناع وفعلة وإنشاء المراكب الكبار من خشب جبالها، وبجبالها يكون خشب الصنوبر الذي لا يوجد له نظير في الطول والغلظ، ومنه تتخذ السواري والقرى وهذا الخشب الصنوبر الذي بجبال هذه المدينة أحمر صافي البشرة دسم لا يتغير سريعًا، ولا يفعل فيه السوس ما يفعله في غيره، وهو خشب معروف منسوب. ومن طرطوشة إلى موقع النهر في البحر ١٢ ميلًا، ومن مدينة طرطوشة إلى مدينة طرَّكونة ٥٠ ميلًا. ا.ﻫ.

قلنا: بين طرطوشة وطركونة مسافة ٨٤ كيلومترًا. وطرطوشة اليوم تابعة لمقاطعة طركونة، فهي من كتلونية، وبين طرطوشة وبرشلونة ١٧٦ كيلومترًا. وبينها وبين بلنسية ١٩٢ كيلومترًا، وبين طرطوشة ومصب نهر إبره مثلَّث من الأرض مشهور بالخصب. قال المسعودي في مروج الذهب: وبقي ثغر المسلمين في هذا الوقت، وهو سنة ست وثلاثين وثلاثمائة من شرقي الأندلس طرطوشة، وعلى ساحل بحر الروم مما يلي طرطوشة آخذًا في الشمال «أفراغه»، على نهر عظيم، ثم لاردة، ثم بلغني عن هذه الثغور أنها تلاقي الإفرنجة، وهي أضيق مواضع الأندلس.

ذكر من نبغ من أهل العلم في طرطوشة

أشهر من انتسب إلى طرطوشة من العلماء هو ابن أبي رندقة الطرطوشي، المتوفى في الإسكندرية صاحب سراج الملوك؛ قال أحمد بن يحيى بن أحمد بن عميرة الضبي: محمد بن الوليد بن رندقة الطرطوشي أبو بكر، فقيه، حافظ إمام، محدِّث ثقة، زاهد فاضل، عالم عامل، رحل إلى العراق، وقد تفقَّه بالأندلس، وصحب أبا وليد الباجي مدة. أخبرني غير واحد عن الحافظ أبي بكر بن العربي، قال: سمعت الحافظ أبا بكر الطرطوشي يقول: لم أرحل من الأندلس حتى تفقَّهت ولزمت الباجي مدة، فلما وصلت إلى بغداد دخلت المدرسة العادلية فسمعت المدرِّس بها يقول: مسألة إذا تعارض أصل وظاهر فبأيهما يحكم؟ فما علمت ما يقول ولا دريت إلى ما يشير حتى فتح الله وبلغ بي ما بلغ.

أقام في رحلته مدة ثم انصرف يريد مصر، وكان له غرض في الاجتماع مع أبي حامد الغزالي، فجعل طريقه على البيت المقدس، فلما تحقق أبو حامد أنه يؤمه حاد عنه، ووصل الحافظ أبو بكر فلم يجده. فقصد جبل لبنان وأقام هناك مدة، وصحب به رجلًا يعرف بعبد الله السائح من أولياء الله المنقطعين إلى الله تعالى. ثم أراد الحافظ أبو بكر أن يقصد أرض مصر، فعرض على أبي محمد عبد الله السائح صحبته والمشي معه، وقال له: أنت ههنا بمعزل لا تلقى أحدًا ولا يلقاك أحد، وإن مت لم تجد من يواريك، وفي مخالطة الناس ومقابلتهم ونشر العلم وحضور الجماعة في الجمعة ما لا يخفى عليه، فقال له عبد الله: أنا ههنا آكل الحلال وأعيش في المباح من ثمر هذه الأشجار، ولا أجد في غير هذا الموضع من المباح ما أجد فيه.

فقال له الحافظ أبو بكر: إن تنظر مصر تنظر موضعًا يعرف برشيد فيه شيئان مباحان: الملح والحطب، نقيم به، ويكون عيشنا من هذين المباحين، فقال له عبد الله: أنت لا يتركك الناس، وأفارق موضعي وأفارقك. فعاهده أن لا يفارقه، وركبا الطريق إلى مصر حتى وصلا رشيد، وأقاما هناك إذا احتاجا إلى قوت تحوَّجا من حطب أو ملح فباعا ما يحملانه من ذلك على ظهورهما وتقوتا بثمنه.

وبقيا هناك مدة إلى أن قتل العبيدي صاحب مصر جماعة من فقهاء أهل الإسكندرية لسبب يطول شرحه، ولم يبق بها من يشار إليه، وسمع أهل الإسكندرية بكون الفقيه برشيد فركب إليه قاضيها ابن حديدة وجماعة من أهلها، فلما وصلوا إلى رشيد سألوا عنه فلم يجدوا من يعرفه إلا بعض الفقراء هناك قال لهم: أنا أدلكم عليه. اقعدوا هنا فكأن به قد وصل، فقعدوا ساعة، ووصل الفقيه من الشَّعْرَاء وعلى ظهره حزمة حطب وصاحبه معه، فقال لهم: هذا هو، ووضع الحزمة بالأرض. فأخبروه بما طرأ عليهم في الإسكندرية وباحتياج أهلها إليه، وبما له في قصدهم من الأجر، فقال لهم: قد علمت ذلك، ولكني لا أفارق صاحبي هذا بوجه — وأشار إلى عبد الله السائح — لأني سقته من موضعه وعاهدته أن لا أفارقه، فدونكم فإن ساعدني فأنا ناهض معكم، فكلموه فقال: أنا لا أمنعه لكني أقيم هنا. فقال الحافظ أبو بكر: وأنا لا أفارقه. فتضرعوا إلى عبد الله، فقال لهم: أنا هنا أعيش في الحلال وآكل المباح ولا أجد هذا عندكم. فقال له القاضي: إن صاحب صقلية — دمره الله — يؤدي جزية في كل عام لأهل الإسكندرية ثلاثمائة قفيز من الشعير وكذا وكذا، فخذ الشعير تتقوت به وتصرفه في منافعك. فقال: أنا لا أحتاج إلى أكثر من رغيف في كل ليلة. فضمنوا له ذلك.

وأقبلا معهم إلى الإسكندرية، ووفوا لأبي محمد السائح بما قالوا، ووضعوا له من الشعير عدة أرغفة، ووضعوها له في حبل، فكان يفطر كل ليلة منها على رغيف ويلزم بيته لا يبرح منه. واشتمل أهل الإسكندرية على الحافظ أبي بكر، وقعد للتدريس، ونفع الله به كل من قرأ عليه، وانتشر علمه.

وكانت بالإسكندرية امرأة متعبدة هي خالة أبي الطاهر بن عوف، فخطبته، وتزوجها وبنى بها في المدرسة، وكان لها ابن من أهل الدنيا كثير التخليط، فصعب ذلك عليه وعمد إلى خنجر واستتر في المدرسة، فلما ابهارَّ٧ الليل قصد البيت الذي كانت فيه أمه مع الفقيه فلم يجد فيه أحدًا، ووجد كل واحد منهما قد قام إلى ورده، وسمع صوت الفقيه يقرأ في الصلاة فأم الصوت وخنجره في يده، فلما قرب منه وهو عازم على قتله حالت بينه وبينه سارية من سواري المدرسة، وضرب فيها بوجهه وخر مغشيًّا عليه والفقيه لا يشعر، فلما طلع الفجر نزل إلى المدرسة فصلى الصبح ودرس وتصرفت زوجه في أثناء ذلك، فوجدت ابنها مجدلًا لا يعقل، فكلمته فلم يكلمها.

فلما فرغ الفقيه من التدريس صعد إلى منزله فأعلمته زوجه بمكان ابنها؛ فصعد نحوه فوجده على تلك الحال؛ فجر يده على وجهه وتفل وتكلم بكلمات ففتح عينيه، فلما أبصر الفقيه قال له: هات يدك؛ فأنا تائب إلى الله تعالى، والله لا عصيته بعد اليوم أبدًا ولا تركتك في هذا الموضع، انتقل إلى دار أهلك فاسكنها؛ ففعل وحسنت توبة الابن بعد ذلك.

أخبرني شيخي أبو المفضِّل عبد المجيد بن دليل قال: أصاب ابن حُديدة قاضي الإسكندرية مرض، وكان الفقيه إذا لقيه في الطريق سلك على أخرى، فأوصى القاضي بأن يغسله الفقيه عند موته ويصلي عليه؛ قال: ففعل، وكنا نجتمع على قبره في كل يوم ونختم القرآن، فلما كان في اليوم السابع أنشدنا الحافظ أبو بكر عند قبر القاضي قصيدة منها قوله يرثيه:

هذي قبورهمُ وتلك قصورهمْ
واعلم بأن كما تدين تدانُ

ولقد أخبرني أنه رآه في اليوم الذي توفي فيه، وعليه فروته التي ساقها معه من طرطوشة. وكانت وفاته في سنة ٥٢٠، روى عن جماعة من الحفَّاظ منهم الحافظ أبو بكر بن العربي، وأبو علي الصدفي، وأبو الطاهر بن عوف، وغيرهم، وتواليفه كثيرة منها التعليقة في الخلافيات في خمسة أسفار، وله كتاب كبير يعارض به كتاب الإحياء، رأيت منه قطعة يسيرة. وألَّف سراج الملوك في مجلس كان بينه وبين صاحب مصر يطول ذكره، وكان أوحد زمانه علمًا وورعًا، لم يتثبت من الدنيا بشيء إلى أن توفي وصلى عليه ابن عوف.

وترجم الإمام الطرطوشي أبا بكر بن بشكوال في الصلة، فقال: محمد بن الوليد٨ بن محمد بن خلف بن سليمان بن أيوب الفهري الطرطوشي، أصله منها، يكنى أبا بكر، ويعرف بابن أبي رنذقة. ثم ذكر أنه أخذ عن القاضي أبي الوليد الباجي بسرقطسة، وعن أبي بكر الشاشي، وأبي أحمد الجرجاني، وأبي علي التستري بالشرق، وسكن الشام مدة ودرَّس بها. قال: وكان إمامًا عالمًا عاملًا زاهدًا ورعًا متواضعًا، متقللًا من الدنيا راضيًا منها باليسير. أخبرنا عنه القاضي الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله المعافري، ووصفه بالعلم والفضل، والزهد في الدنيا، والإقبال على ما يعنيه، وقال لي: سمعته يقول: إذا عرض لك أمران: أمر دنيا وأمر أخرى؛ فبادر بأمر الأخرى يحصلْ لك أمر الدنيا والأخرى. قال القاضي أبو بكر: وكان كثيرًا ما ينشدنا محمد بن الوليد هذا:
إن لله عبادًا فطنا
طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
فكروا فيها فلما علموا
أنها ليست لحيٍّ وطنا
جعلوها لجة واتخذوا
صالح الأعمال فيها سفنا

وتوفي الإمام الزاهد أبو بكر بالإسكندرية في شهر شعبان سنة ٥٢٠.

ثم ممن ينتسب إلى طرطوشة من أهل العلم أبو مروان عبيد الله بن أبي القاسم خلف بن هاني قاضي طرطوشة. قال ابن بشكوال: إنه أجاز لأبي جعفر بن مطاهر سنة ٤٦٧ قال: وأخذ عنه من شيوخنا القاضي أبو الحسن بن واجب.٩

وعلي بن محمد بن أبي العيش أبو الحسن الطرطوشي، نزيل شاطبة، تصدر للإقراء بها، وكان من المتقدمين في هذا العلم مع الصلاح والفضل، أخذ القراءات عن أبي الحسن بن الدوشن، وأبي المطرف بن الوراق، وأبي محمد بن جوشن، وأخذ عنه أبو بكر بن طاهر بن مفوِّز، وأخوه أبو محمد عبد الله، وأبو الحسين بن جبير، ترجمه ابن الأبار في التكملة، ولم يذكر سنة وفاته.

وأبو عبد الله محمد بن يوسف الطرطوشي سكن ميورقة، يعرف بابن ختى فضل، روى عن أبي إسحاق بن فتحون، وتفقه بأبي إبراهيم بن عايشة، وحدَّث ودرس ببلده الفقه، وكان قائمًا على المدونة معروفًا بالصلاح، أخذ عنه أبو إسحاق بن عايشة، وقال: توفي سنة ٥٩٣ في أولها وهو ابن ستين سنة أو نحوها.

ومحمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن أبي العيش اللخمي من أهل طرطوشة، وسكن شاطبة، يعرف بابن الأصيلي، ويكنى أبا عبد الله، تجول في طلب العلم؛ فأخذ القراءات عن أبي علي منصور بن الخير، وسمع من أبي عبد الله بن الحاج، وأبي عبد الله بن أبي الخصال، وأبي القاسم بن ورد، وأبي عبد الله ابن أخت غانم، ولقي أبا محمد البطليوسي، وأبا الحجاج بن يسعون، وأخذ عنهما، وقيل: إنه نشأ بالمرية، وتصدر بشاطبة للإقراء والتعليم بالعربية، فانتفع به الناس، وكان موصوفًا بالمعرفة والفهم، ضعيف الخط، حدث عنه أبو الحسين بن جبير؛ سمع منه الموطأ في سنة ٥٥٧، وقد لقيه ابن عياد وكتب عنه يسيرًا، وذكره ابن سفين، وقال: توفي سنة ٥٦٦، وقرأت بخط محمد بن عياد أنه توفي سنة سبع وستين، قال: ومولده بطرطوشة سنة ٤٩٦، ترجمه ابن الأبار في التكملة.

وخلف بن هاني العمري من أهل طرطوشة، ومن ولد عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — يكنى أبا القاسم، روى عن أبي بكر أحمد بن الفضل الدينوري، سمع منه بقرطبة سنة ٣٤٦، وروى أيضًا عن أحمد بن معروف وغيرهما، وحدث وأسمع. روى عنه ابنه أبو مروان عبيد الله بن خلف وأبو المطرف بن حجاف، وأبو محمد بن أبي دليم من شيوخ أبي داود المقري، سمع منه بطرطوشة سنة ٤٠٥، وهو إذ ذاك ابن تسع وسبعين سنة، وتوفي ليلة السبت للنصف من رمضان سنة ٤٠٨، ودفن يوم السبت بمقبرة طرطوشة وقد نيَّف على الثمانين، ذكره ابن بشكوال، وغلط فيه هو والحميدي قبله، ولم يذكرا وفاته ولا جوَّدا خبره، وهما عندي عن أحمد بن أبي زكريا العائذي، وأبي عمر بن عياد، وغيرهما، قال ابن الأبار١٠ في التكملة.

وخلف بن تقي الأموي من أهل طرطوشة، يكنى أبا القاسم، روى عن أبي سعيد خلف الفتى الجعفري، وكان سماعه منه في سنة خمس وعشرين وأربعمائة، ولم يذكر ابن الأبار القضاعي في كتابه التكملة عن هذا الرجل سوى هذين السطرين.

وخلف بن فتح بن عبد الله بن جبير من أهل طرطوشة يعرف بالجبيري، ويكنى أبا القاسم، وهو والد أبي عبيد القاسم بن خلف الجبيري الفقيه، كانت له رحلة إلى المشرق ومعه رحل ابنه، وهو صغير، وكان من أهل العلم والنزاهة، وعليه نزل القاضي منذر بن سعيد بطرطوشة في ولايته قضاء الثغور الشرقية. أخبر أبو بكر بن أبي جمرة عن أبيه عن أبي عمر النمري إجازة، قال: أخبرني أبو مروان عبيد الله بن قاسم الكزني، وكان من ثقات الناس وعقلائهم، عن أبي عبيد الله القاسم بن خلف الجبيري الطرطوشي، قال: نزل القاضي منذر بن سعيد على أبي بطرطوشة، وهو يومئذ يتولى القضاء في الثغور الشرقية قبل أن يلي قضاء الجماعة بقرطبة، فأنزله في بيته الذي يسكنه، فكان إذا تفرَّغ نظر في كتب أبي فمرَّ على يديه كتاب فيه أرجوزة ابن عبد ربه يذكر فيها الخلفاء، ويجعل معاوية رابعهم، ولم يذكر عليًّا فيهم، ثم وصل ذلك بذكر الخلفاء من بني مروان إلى عبد الرحمن بن محمد، فلما رأى ذلك منذر غضب وسب ابن عبد ربه، وكتب في حاشية الكتاب:

أوَمَا عليٌّ لا برحت ملعَّنًا
يا بن الخبيثة عندكم بإمامِ
رب الكساء وخير آل محمدٍ
داني الولاء مقدَّم الإسلامِ

قال أبو عبيد: والأبيات بخطه في حاشية كتاب أبي إلى الساعة. وكانت ولاية منذر للثغور مع الإشراف على العمال بها والنظر في المختلفين من بلاد الإفرنج إليها سنة ٣٣٠.

وخلف مولى جعفر الفتي أبو سعيد المقرئ بطرطوشة، توفي سنة ٥٢٥، هكذا جاء في بغية الملتمس للضبي، ويظهر أنه وقع خطأً في الرقم، والصحيح أنه توفي سنة ٤٢٥ لا ٥٢٥، وقد ترجمه ابن بشكوال في الصلة، فقال: خلف مولى جعفر الفتي المقرئ يعرف بابن الجعفري، سكن قرطبة، يكنى أبا سعيد، روى بقرطبة عن أبي جعفر بن عون الله وغيره، ورحل إلى المشرق، وسمع بمكة من أبي القاسم السقطي وغيره، وبمصر من أبي بكر الإدفوي، وأبي القاسم الجوهري، وعبد الغني بن سعيد الحافظ، وبالقيروان من أبي محمد بن أبي زيد وغيره.

ذكره الخولاني وقال: كان من أهل القرآن والعلم نبيلًا من أهل الفهم، مائلًا إلى الزهد والانقباض، وحدَّث عنه أبو عبد الله بن عتَّاب وقال: كان خيِّرًا فاضلًا منقبضًا عن الناس، وخرج عن قرطبة في الفتنة وقصد طرطوشة، وتوفي بها سنة ٤٢٥، وقال أبو عمرو المقرئ: توفي في ربيع الآخر سنة ٤٢٩.

وأبو محمد عبد الله بن فيره من أهل طرطوشة، كان عالمًا بالفرائض والحساب معلمًا بذلك، أخذ عنه أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي، وحكى عنه أنه سمعه يقول:

اكترى تاجر من جمَّال جمله، فلما استوى على ظهره صرخ بأعلى صوته:

يا حبذا صَلْصَلَة الدراهمْ
عند حلول الكُرَب العظايمْ

فأجابه الجمَّال:

لولا هواها لم أكن ملازمْ
خدمة من لست له بخادمْ

نقلنا هذا عن ابن الأبار في التكملة.

وعبد الله بن موسى التميمي، من أهل طرطوشة، يكنى أبا محمد، أخذ القراءات عن أبي داود سليمان بن نجاح، وتصدَّر للإقراء ببلده، وأخذ عنه أبو علي بن عريب، عرض عليه القرآن غير مرة بالسبع، قال أبو العباس بن اليتيم: وفيه عن ابن عياد. قاله ابن الأبار في التكملة.

ونافع بن أحمد بن عبد الله الأنصاري من أهل طرطوشة، سمع بدانية أبا بكر بن برنجال، وبمرسية القاضي أبا بكر بن أسود، ورحل إلى إشبيلية، فسمع بها من القاضي أبي الحسن شريح بن محمد موطَّأَ مالك وصحيح البخاري، وأجاز له جميع روايته في رمضان سنة ٥٣٥، وكان فقيهًا مشاورًا معنيًّا بسماع العلم وروايته، قال ابن الأبار في التكملة: قرأت بعض خبره بخط ابن خير.

وأحمد بن مالك بن مرزوق بن مالك بن عباس الطرطوشي، يكنى أبا العباس، ولي قضاء بلده، وله نباهة ورواية عن أبيه وعن أبي محمد البطليوسي، وتفقه بأبي محمد بن أبي جعفر، انتقل في تملك الروم طرطوشة إلى بلنسية، فتوفي بها سنة ٥٥٣، ترجمه ابن الأبار في المعجم الذي ذكر فيه أصحاب القاضي أبي علي الصدفي.

ومحمد بن يحيى بن مالك بن يحيى بن عائذ ولد أبي زكريا الراوية، من أهل طرطوشة، يكنى أبا بكر، تأدب بقرطبة، وسمع بها من قاسم بن أصبغ، ومحمد بن معاوية القرشي، وأحمد بن سعيد، ومنذر بن سعيد، وأبي علي القالي، وغيرهم، وكان حافظًا للنحو واللغة والشعر، يفوت من جاراه على حداثة سنه، شاعرًا مجيدًا مترسلًا بليغًا، ورحل مع أبيه إلى المشرق سنة ٣٤٩، فسمع بمصر من ابن الورد، وابن السكن، وحمزة الكناني، وأبي بكر بن أبي الموت، وغيرهم. وسمع أيضًا بالبصرة وبغداد، وخرج إلى فارس، وسمع هناك، وجمع كتبًا عظيمة، وأقام بها إلى أن توفي بأصبهان معتبطًا مع الستين وثلاثمائة، ومولده بطرطوشة صدر ذي القعدة سنة ٣٢٣، ذكره ابن حيان، وقد نقلنا هذه الترجمة عن ابن الأبار.

ومحمد بن عبد الجبار الطرطوشي، وفد إلى المشرق، ذكره العماد في الخريدة، ونقل ذلك صاحب نفح الطيب عنه، ولم يذكر من أحواله سوى أنه كان يخضب بسواد الرمان.

ومحمد بن حسين بن محمد بن عريب الأنصاري من أهل طرطوشة، يكنى أبا عبد الله.

سكن سرقسطة، وتجول كثيرًا في بلاد الأندلس والعدوة، وغلب عليه علم العبارة؛ فشهر بها، وكان وجيهًا عند الملوك، مترددًا عليهم، ورغب إليه أبو بكر بن تغالويت أمير سرقسطة في إقراء ابنه، فأجابه إلى ذلك، وتصدر هنالك في سنة ١٥٠٨ «من خط ابن عياد»، روى ذلك ابن الأبار في التكملة.

وعبد الرحمن بن معاوية، من أهل طرطوشة، استشهد في قتال الروم سنة ٢٨٨، قال الضبي في بغية الملتمس، ذكره أبو سعيد: وطاهر بن حزم مولى بني أمية من أهل طرطوشة، روى عن يحيى بن يحيى بن كثير الليثي وغيره، مات بالأندلس سنة ٢٨٥ شهيدًا في المعرك، ذكره في بغية الملتمس.

ومحمد بن أحمد بن عامر البَلَوي، من أهل طرطوشة، وسكن مرسية، يعرف بالسالمي؛ لأن أصله من مدينة سالم، ويكنى أبا عامر. كان من أهل الأدب والعلم والتاريخ، وله في ذلك كتاب سماه «بدُرر القلائد وغرر الفوائد»، وله أيضًا في اللغة كتاب حسن وكتاب في الطب سماه الشفا، وكتاب في التشبيهات، وكتب للأمير محمد بن سعد، وكان له حظ من قرض الشعر حدث عنه عبد المنعم بن الفرس، لقيه بمرسية، وأبو القاسم بن البرَّاق كتب إليه، وتوفي سنة ٥٥٩ أو نحوها ذكره ابن الأبار.

وأبو علي حسين بن محمد بن حسين بن علي بن عريب الأنصاري من أهل طرطوشة، أخذ القراءات ببلده عن أبي محمد بن مؤمن، وبسرقسطة عن ابن الوراق، وتفقه بأبي العباس بن مَسْعَدة قاضي طرطوشة، وروى الحديث عن أبي علي الصدفي، وأبي بكر بن العربي، وسمع من أبي العرب الصقلي الشاعر أدب الكاتب لابن قتيبة، لقيه بطرطوشة، وقد قارب المائة سنة، وسكن المرية، ثم تحول إلى مرسية، وكان من الأدباء المعدودين.

وروى ابن الأبار في التكملة أنه أخذ العربية والآداب عن أبي محمد بن السيد، وأبي بكر اللباني، وأبي محمد عبد الله بن فرج السرقسطي، وأنه صحب أبا القاسم بن ورد، وحكى أبو العباس بن اليتيم أنه أخذ القراءات أيضًا عن أبي طاهر بن سوار، وأنه كان يروي أدب الكاتب بعلو عن أبي بكر بن عبد البر عن أبي يعقوب بن خُرَّ زاد النجيرمي عن أبي الحسين المهلبي عن القاضي أبي جعفر بن قتيبة عن أبيه أبي محمد، وهو سند عزيز الوجود. قال ابن الأبار: إنه انتقل من سرقسطة إلى المرية، فأقرأ بجامعها، وخرج منها قبل الأربعين وخمسمائة، وكان شيخنا أبو محمد بن غلبون يقول: إنه خرج منها لما دخلها النصارى في سنة اثنتين وأربعين، فاستوطن مرسية، وتصدر للإقراء بها، وقدم للصلاة والخطبة بجامعها، وانفرد في وقته بطريقة الإقراء، وأخذ عنه الناس، وكانت له حلقة عظيمة، وكان ربما علم بالعربية، والغالب عليه التجويد والتحقيق، قال: وكان أديبًا حسن البلاغة سلس القياد في الخطابة، حسن الخط (من فوائد ابن حبيش).

وأبو محمد بن شعيب بن سعيد العبدري من أهل طرطوشة، سكن الإسكندرية، روى عن أبي عمرو السفاقسي وأبي محمد الشنتجيالي. وأبي حفص الزنجاني، وأبي زكريا البخاري، وأبي محمد عبد الحق بن هارون وغيرهم، لقيه القاضي أبو علي بن سكَّرة بالإسكندرية، وأجاز له، وحدث عنه أبو الحسن العبسي المقري (ترجمه ابن بشكوال في الصلة).

وأبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن عائذ الطرطوشي، سمع من أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي وأبي العباس العذري وغيرهما، وتوفي في سنة ٤٩٥ (ترجمه ابن بشكوال في الصلة).

وأبو الحسن علي بن صالح بن أبي الليث بن أسعد العبدري بن عز الناس. ولد بطرطوشة، ونشأ بدانية، ورأس الفتوى بها، وقتله السلطان محمد بن سعد بن مردنيش سنة ٥٦٧، سمع أبا محمد بن الصيقل، وأبا بكر بن العربي، وأبا القاسم بن ورد، وكان فقيهًا متقنًا وعالمًا بالأصول والفروع، دقيق النظر، جيد الاستنباط، لسنًا فصيحًا، وكان كبير فقهاء دانية، أخذ عنه أبو عمر بن عياد، وابنه محمد، وأبو محمد بن سفيان، وأسامة بن سليمان، وأبو القاسم بن سمحون، وكانت ولادته سنة ٥٠٨ في طرطوشة (ترجمه ابن الأبار).

وعتيق بن علي بن سعيد بن عبد الملك بن رزين العبدري أبو بكر، يعرف بابن العقَّار، أصله من طرطوشة، نشأ بميورقة، واستوطن بلنسية، وقرأ على ابن هذيل، وابن النعمة، وأبي بكر بن نمارة، وأجاز له السلفي، وكان من أهل التحقيق والتقدم في الإقراء مع الفقه والبصر بالشروط، ولي قضاء بلنسية وخطابتها، قال ابن الأبار في التكملة: وكانت في أحكامه شدة، أخذ عنه الناس القراءات والحديث، وقرأ عليه بالسبع محمد بن إبراهيم بن جوبر، وذكر وفاته سنة ٦٠٠، وقال: إنه ولد سنة ثلاث وثلاثين بعد الخمسمائة.

وعقيل بن عطية أبو طالب القضاعي، المراكشي الدار، الطرطوشي الأصل، روى عن ابن بشكوال، وأبي القاسم بن حبيش، وأبي نصر فتح بن محمد، وولي قضاء غرناطة، وكان مقدمًا في الحديث، وله رد على أبي عمر بن عبد البر وتنبيه على أغلاطه، سمع منه أبو جعفر بن الدلال، وأبو الحسن بن منخل الشاطبي، وولي بآخرة من عمره قضاء سجلماسة، وتوفي بها في صفر سنة ٦٠٨ عن ستين سنة (ترجمه ابن الأبار في التكملة).

وأحمد بن أيمن الطرطوشي، فقيه مشهور، رحل إلى المشرق، وسمع من محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي وغيره، ذكره أبو الوليد بن الفرضي (ترجمه ابن عميرة في بغية الملتمس).

وأحمد بن علي السبتي المعروف بالطرطوشي أبو العباس، فقيه محدِّث، يروي عن أبي علي الصدفي وغيره (ترجمه ابن عميرة في بغية الملتمس).

ومحمد بن علي بن عبد الرحمن بن عائذ الطرطوشي، ومن بيت أبي زكريا العائذي، أجاز له أبو علي كتاب آداب النفوس لأبي جعفر الطبري، وقرأت ذلك بخط أبي علي، وأبوه على أحد أصحاب الباجي والعذري وبقراءته، سمع الصدفي بحاضرة بلنسية صحيح مسلم على العذري في سنة ٤٧٤، وقد ذكره ابن بشكوال.

وأبو الإصبغ عبد العزيز بن علي بن عبد العزيز من أهل طرطوشة، سمع من أبي بحر الأسدي وغيره، كان من أهل الفقه والأدب، عارفًا بالفرائض والحساب، مشاركًا في الطب، توجه رسولًا من أهل بلدة طرطوشة إلى يوسف بن تاشفين سلطان المرابطين، فتوفي بغرناطة سنة ٥٢٣.

وصارم بن عبد الله بن تمحيص، ولي قضاء طرطوشة وقضاء بلنسية.

وصارم بن تمحيص بن صارم بن عبد الله بن تمحيص، وهو حفيد المتقدم الذكر، وهم بيت مجد ونباهة.

وأبو عامر محمد بن عبد الوهاب بن عبد الملك بن غالب بن عبد الرءوف بن غالب بن نفيس العبدري، من بلنسية، أصله من طرطوشة، يكنى أبا عامر، سمع من أبي محمد البطليوسي، وأبي محمد بن عطية، وكتب بخطه علمًا كثيرًا، وكان ضابطًا حسن الوراقة (عن ابن الأبار).

ولاوي بن إسماعيل بن ربيع بن سليمان، يكنى أبا الحسن، من أهل طرطوشة. قال ابن الأبار في التكملة: حُدثت أن أصله من غرب العدوة، صحب أبا داود المقرئ وأخذ عنه القراءات، ولازمه بدانية من سنة ٤٨١ إلى سنة ٤٩١، وله سماع على أبي علي الصدفي.

وأبو عبد الله محمد بن يوسف الميورقي، أصله من طرطوشة، وقد ترجم لسان الدين ابن الخطيب في كتابه الإكليل أديبًا جليلًا اسمه أبو الحجاج يوسف بن علي الطرطوشي.

ونعم الخلف بن عبد الله بن أبي ثور الحضرمي من أهل طرطوشة أو ناحيتها، رحل إلى المشرق، وأدى الفريضة، ولقي بمكة أبا عبد الله بن محمد بن عبد الله الأصبهاني، فسمع منه في سنة ٤٢٢، حدث عنه ابنه القاسم بن نعم الخلف بيسير (ترجمه ابن الأبار في التكملة).

وأبو عبد الله محمد بن يونس بن سلمة الأنصاري يعرف بالطرطوشي؛ لأن أصله منها، وإنما ولد ببلنسية سنة ٥٠٩، كتب عنه ابن عياد، وترجمه ابن الأبار في التكملة. هذا ما حضرنا الآن من أسماء من نبغ في العلم من أهل طرطوشة. ثم نعود إلى جغرافية البلاد فنقول: إذا سار المسافر من طرطوشة جنوبًا قاصدًا إلى بلنسية مر به القطار الحديدي على جسر من الحديد فوق نهر إبرُه، فيمر بمناظر بديعة وبقاع مريعة واقعة بين جبلي «مونتسيا Montsio» و«كارو Coro» علو الأول ٧٦٤ مترًا، والثاني ٨٦٠ مترًا، وبعد أن يجتاز مسافة ١٤ كيلومترًا من طرطوشة يصل إلى بلدة يقال لها: «أولديكونه Uldecona»، وسكانها نحو من سبعة آلاف نسمة، موقعها بحذاء جبل مونتسيا الذي ذكرناه، وفي هذه البلدة برج مثمن. ثم يمر فوق نهر «سينيه Cenia» الذي هو الحد الفاصل بين مملكة بلنسية القديمة وبين كتلونية، ويجد المسافر عن اليمين برجًا مربعًا من بقايا حصن قديم، وينظر البحر من عن شماله. وعلى مسافة ٤٤ كيلومترًا من طرطوشة توجد مدينة «فيناروز Vinaroz» أهلها نحو من تسعة آلاف أكثرهم صيادو سمك وفيها بعض معامل١١ ثم تصل إلى مدينة «موريلا Morella»١٢ سكانها ثمانية آلاف نسمة، وكان يقال لها في القديم «كاسترا آليا Castra Aelia» في زمن الرومانيين، وهي على مسافة ستين كيلومترًا إلى الشمال الغربي من فيناروز، ولها جبال شديدة الارتفاع، وكان لهذه البلدة شأن عظيم نظرًا لمنعتها، وشاع ذكرها في الحرب الكرلوسيَّة سنة ١٨٤٠، وفيها كنيسة باسم السيدة مريم يرجع عهد بنائها إلى سنة ١٣١٧، ومن موريلَّا طريق عربات إلى «الكنيت Alcaniz» يصل الراكب من موريلا إلى الكنيت بعد قطع ٨٣ كيلومترًا.

هوامش

(١) يقول الحميري بن عبد المنعم: إن مفرَّغ وادي طرطوشة في البحر يقال له «القبطيل»، ويعرف أيضًا بالعسكر؛ لأنه موضع عسكر به المجوس واحتفروا حوله خندقًا أثره باقٍ إلى الآن.
(٢) أما صبح الأعشى، فيجعل ماردة مكان لاردة، فهو يقول في الجزء الخامس صفحة ٢٦٧ من الطبعة الأميرية بمصر ما يلي في عرض البحث عن ملوك قشتالة:

ولما فشلت ريح بني عبد المؤمن المستنصر بن الناصر استولى الفونش على جميع ما فتحه المسلمون من معاقل الأندلس، ثم هلك الفنس (أي الفونس)، وولي ابنه هرانْدُه (أي فرديناند)، وكان أحول، وبذلك يلقب، فارتجع قرطبة وإشبيلية من أيدي المسلمين. وزحف ملك أراغون في زمنه فاستولى على ماردة وشاطبة ودانية وبلنسية وسرقسطة والزهراء والزاهرة وسائر القواعد والثغور الشرقية.

قلنا: هذه المدن لم يرتجعها ملوك أراغون في وقتٍ واحد. وأما الزهراء والزاهرة فلم نعلم ماذا يقصد بهما صاحب الأعشى، فإن كانتا مدينة الزهراء التي بالقرب من قرطبة وقصر الزاهرة الذي فيها فليس بصحيح أنهما دخلا في حوزة ملك أراغون، وإن كان ذلك أمكنة أخرى فهي لم تظهر لنا حتى الآن، ولعل هذه الجملة من خطأ النساخ.
وأما ماردة فلم يأخذها ملوك أراغون فيما نعلم، وإنما ارتجعها ملك ليون الفنش التاسع سنة ١٢٢٨، وهي في غرب الأندلس لا في شرقها ليستولي عليها ملوك أراغون الذين ليست ماردة من خطتهم؛ فلهذا نرجح أن المقصد هو لاردة لا ماردة، وأنه وقع تصحيف أوجب هذا الاختلاط. ولاردة هي من الثغور الشرقية، كانت دائمًا تابعة لسرقسطة مذكورة معها، وكانت من مملكة بني هود. ولقد لحظنا أن المقري في النفح وقع أيضًا في هذا الوهم، وجعل ماردة مكان لاردة، وعدها من خطة بني هود، أو أن هذا الوهم من النساخ لا من المؤلف.
(٣) نشر لاوي بروفنسال في كتابه «الكتابات العربية في إسبانية» الكتابة المنقوشة على الحجر المتعلقة بإنشاء عبد الرحمن الناصر دار الصناعة البحرية في طرطوشة المحفوظة في الجدار الخارجي الشمالي من كنيسة هذه البلدة، ولها مثال عنها في المتحف الآثاري بطرَّكونة والمتحف الآثاري الوطني في مجريط، وهذه الكتابة هي عشرة أسطر بالخط الكوفي البسيط، وهي هذه:

بسملة … أمر بإنشاء هذه الدار عدة للصناعة والمراكب عبد الله عبد الرحمن أمير المؤمنين — أيده الله — فتم بناؤها على يدي قائده وعبده عبد الرحمن بن محمد بعون الله ونصره في سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، وكتب عبد الله بن كليب.

قال لاوي بروفنسال: إن هذه البلاطة التذكارية هي من أجمل الوثائق التاريخية الحجرية المحفوظة من أيام إسبانية الإسلامية؛ قال: والملحوظ من قوله: «عدة للصناعة والمراكب» أنها لم تكن للإنشاء فقط، بل لإصلاح الأساطيل الخليفية.
ثم نقل لاوي بروفنسال كلام عبد المنعم الحميري بشأن طرطوشة، وهو: وعلى المدينة سور صخر من بناء بني أمية على رسم أوليٍّ قديم، ولها أربعة أبواب، وأبوابها كلها ملبسة بالحديد، ولها أرباض من جهة الجوف والقبلة ودار الصناعة، قد أحذق على ذلك كله سور صخر بناه عبد الرحمن بن النظَّام، وبها جامع من خمس بلاطات، وله رحبة واسعة، بني سنة خمس وأربعين وثلاثمائة … إلخ.
ولاوي بروفنسال يظن أن عبد الرحمن بن النظَّام هذا هو عبد الرحمن بن محمد الذي تم إنشاء دار الصناعة هذه على يديه.
وقد فاتنا أن نذكر في الجزء الثاني عند الكلام على طرَّكونة نقل الكتابة التي وجدت في حائط من كنيسة طركونة الكبرى عند الباب، وهي هذه: «بسم الله، بركة من الله لعبد الله عبد الرحمن أمير المؤمنين — أطال الله بقاه — مما أمر بعمله على يدي جعفر فتاه وموليه سنة تسع وأربعين وثلاثمائة.» وهذه الكتابة هي بالخط الكوفي البديع، ثلاثة أسطر في الرخام؛ سطران متقابلان وسطر من فوقهما، وعلو هذه الكتابة متر و٢٦ وعرضها ٧٦ من المتر، ولا شك أنها كتابة متعلقة ببناء الجامع الأعظم في طركونة أو بترميم فيه، وهو الجامع الذي في مكانه توجد الكنيسة الآن. وأما جعفر المذكور فيها فالأرجح أنه هو جعفر الذي كان يدير أمور الأبنية الخليفية في زمن الحكم الثاني، واسمه جعفر بن عبد الرحمن، وقد ورد ذكره في كثير من الكتابات القرطبية.
(٤) الشَّقَفُ هو الخزف، وقيل: الكِسَر منه، الواحدة شَقَفَة، وفي البلاد الشامية يستعملون الشقفة بمعنى القطعة مطلقًا.
(٥) زكن الخبر زكنًا، وبالتحريك، وأزكنه: علمه، وأزكنه الخبر إزكانًا: أفهمه إياه، ولا يتعدى بالحرف؛ ولذلك قالوا في قول قعنب بن أم صاحب:
ولن يراجع قلبي ودَّهمْ أبدًا
زَكِنت منهم على مثل الذي زكنوا
إنه على التضمين، وذلك بإيداعه فعل زكن معنى اطلع، كأنه قال: اطلعت منهم على مثل الذي اطلعوا عليه مني، وأما قول ياقوت هنا: «وأزكن عليه»، فهي عامية حجازية بمعنى أعلمه، وأما في الفصيح فلا يتعدى هذا الفعل بالحرف.
(٦) قال أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحميري في كتابه «الروض المعطار» عن طرطوشة ما يلي بالحرف: من بلنسية إلى طرطوشة مائة ميل وعشرون ميلًا مسيرة أربعة أيام، وهي في سفح جبل، ولها سور حصين، وبها أسواق وعمارات وضياع وفعلة وإنشاء للمراكب الكبار من خشب جبالها، وبجبالها خشب الصنوبر الذي لا يوجد له نظير في الطول والغلظ، ومنه تتخذ الصواري والقرى، وهو خشب أحمر صافي البشرية بعيد التغير لا يفعل فيه السوس ما يفعل في غيره من الخشب، ومنها إلى طرَّكونة خمسون ميلًا، وبينها وبين البحر الشامي عشرون ميلًا. وقصبة طرطوشة على صخرة عظيمة سهلة الأعلى، وفي الشرق من القصبة جبل الكهف (وهو جبل أسود)، والمصلَّى والمدينة في غربي القصبة وجوفيها، وعلى المدينة سور صخر من بناء بني أمية على رسم أوَّلي قديم، ولها أربعة أبواب، وأبوابها كلها ملبسة بالحديد، ولها أرباض من حومة الجوف والقبلة ودار الصناعة قد أحدق على ذلك كله سور حجر حصين بناه عبد الرحمن بن النظَّام، وبها جامع من خمس بلاطات، وله رحبة واسعة بني سنة ٣٤٥، وبها أربعة حمامات، وسوقها في الربض القبلي جامعة لكل صناعة ومتجر، وهي باب من أبواب البحر ومرقى من مراقيه، تحلُّها التجار من كل ناحية، وهي كثيرة شجر البقس، ومنها يفترق إلى النواحي، وخشبها الصنوبر له خاصية في الجودة تفوق جميع خشب الأمصار.
وقصبة طرطوشة في المنعة والسمو إلى حد لم يستوفِه بالصفة إلا عبد الملك بن إدريس الكاتب المعروف بالجزيري حين سجنه بها المنصور بن أبي عامر، فقال يصف حاله هناك من قصيدة طويلة مشهورة (كامل):
في رأس أجرد شاهق عالي الذرى
ما بعده لمؤمل من ممصرِ (كذا)
يهوي إليه كل أعور ناعق
وتهب فيه كل ريح صرصرِ
ويكاد من يرقى إليه مرةً
من دهره يشكو انقطاع الأبهرِ
وأول هذا الشعر:
ألوي بعزم تجلدي وتصبري
نأي الأحبة واعتماد تذكر
شحط المزار فلا مزار ونافرت
عيني الهجوع فلا خيالٌ يعتري
وقصرت عنهم فاقتصرت على جوى
لم يدع بالواني ولا بالقصر
ومن أهل طرطوشة الفقيه الإمام الزاهد أبو الوليد الطرطوشي الفهري، نزل الإسكندرية صاحب التعلقة في الخلاف وكتاب الحوادث والبدع، وغير ذلك، سكن بغداد، وتفقه على أبي بكر الشاشي، وسمع بها الحديث، وهو مالكي المذهب. قالوا: وزهده أكثر من علمه، وانتفع به جماعة، وانجلب إليه أكثر من مائتي فقيه «مفتٍ»، ومن كبار أصحابه أبو الطاهر بن عوف، وسند بن عفان الأزدي، وعاصر الغزالي، وله في إحيائه كلام، وكان منحرفًا عنه سيئ الاعتقاد فيه، وكانت وفاته بعد العشر والخمسمائة. ا.ﻫ.
وقال عن طرَّكونة ما يلي: بينها وبين لاردة خمسون ميلًا، وطرَّكونة مدينة أزليَّة قاعدة من قواعد العمالقة (ليس للعمالقة هنا مدخل إلا أن يكون أراد بهم الأولين أو الجبابرة)، وجعلها قسطنطين في القسم الثالث من الأندلس، وأضاف إليها مدن ذلك القسم، وهي مبنية على ساحل البحر الشامي، ومعالمها باقية لم تتغيَّر، وأكثر سورها باقٍ لم يتهدم، وهي أكثر البلاد رخامًا محكمًا، وسورها من رخام أسود أبيض، وقليلًا ما يوجد مثله. ومن الغرائب بطرَّكونة أرحاء نصبها الأُوَل تطحن عند هبوب الريح وتسكن بسكونها، وذكر أهل العلم باللسان اللطيني أن معنى طرَّكونة «الأرض المشبهة بالمجنة»، وكانت في قديم الزمان خالية؛ لأنها كانت فيما بين حد المسلمين والروم، والأخياس فيها كثيرة (ربما يكون أراد بها السجون، ولكن المشهور أن السجن يقال له المخيس لا الخيس، فيجوز أن يكون المقصود بالأخياس جمع خيس — بكسر أوله — وهو منبت الطرفاء وأنواع الشجر والأجمة، ويجوز أيضًا أن تكون الكلمة مصحفة عن أحناش)، ومبانيها كبيرة، وبها أساطين رفيعة مما تضل الأوهام في حكمته ويعجز المتكلفون اليوم عن صنعته.
وذكر شيخ ثقة من أهل شبراته يقال له ابن زيدان أنه كان يخرج في السرايا إلى تلك الناحية، فنزل في بعض خرجاته مع جماعة من أصحابه في البنيان الذي تحت مدينة طركونة، فأرادوا التحول منه فضلوا ولم يهتدوا منه لمخرج، وترددوا كذلك ثلاثة أيام حتى هدوا في آخر اليوم الثالث لما أراد الله من إبقائهم، وزعم قوم أنهم وجدوا هناك بيوتًا مملوءة قمحًا وشعيرًا من الأزمان السالفة قد اسود حبه وتغير لونه، وفي هذه المدينة يكمن المسلمون عند طلب الفرصة في الغزو، وفيها يكمن العدو أيضًا للمسلمين.
(٧) ابهارَّ الليل بالتشديد: طال، ومنه حديث النبي أنه سار ليلة حتى ابهارَّ الليل. وقال الأصمعي: ابهارَّ الليل حتى انتصف، وهو مأخوذ من بهرة الشيء، وهو وسطه.
(٨) وقد ترجم هذا الإمام العلامة صاحب نفح الطيب، وقال: إنه زار قبره في الإسكندرية، وروى من نظمه قوله من رسالة:
أقلِّب طرفي في السماء ترددًا
لعلي أرى النجم الذي أنت تنظرُ
وأستعرض الركبان من كل وجهة
لعلي بمن قد شم عرفك أظفرُ
وأستقبل الأرواح عند هبوبها
لعل نسيم الريح عنك يخبِّرُ
وأمشي وما لي في الطريق مآربٌ
عسى نغمة باسم الحبيب ستذكرُ
وألمح من ألقاه من غير حاجةٍ
عسى لمحة من نور وجهك تسفرُ
وروى له أيضًا:
يقولون: ثكلى ومن لم يذق
فراق الأحبة لم يثكلِ
لقد جرعتني ليالي الفراق
كئوسًا أمرَّ من الحنظلِ
قال: وعبر عنه ابن الحاجب في مختصره الفقهي في باب العتق بالأستاذ، وكان رحمه الله صحب أبا الوليد الباجي، وأخذ عنه مسائل الخلاف والفرائض والحساب، وقرأ الأدب على أبي محمد بن حزم بإشبيلية، ثم ذكر صاحب النفح رحلته إلى المشرق حسبما ذكر في ترجمته بالصلة والتكملة وبغية الملتمس، وقال الصفدي في ترجمة هذا الإمام: إن الأفضل ابن أمير الجيوش، أنزله في مسجد شقيق الملك بالقرب من الرصد، وكان يكرهه، فلما طال مقامه به ضجر، ثم قُتل الأفضل وولي بعده المأمون بن البطائحي، فأكرمه إكرامًا كثيرًا، وله ألَّف الشيخ «سراج الملوك»، ومن تأليفه مختصر تفسير الثعالبي، والكتاب الكبير في مسائل الخلاف، وكتاب بدع الأمور ومحدثاتها. ولما توفي صلى عليه ولده، ودفن قِبَل الباب الأخضر بإسكندرية. وكان القاضي عياض ممن استجازه ولم يلقه، وحكي أنه كتب على سراج الملوك الذي أهداه إلى أمير مصر:
الناس يهدون على قدرهم
لكنني أهدي على قدري
يهدون ما يغني وأهدي الذي
يبقى على الأيام والدهرِ
وترجمه ابن العماد الحنبلي صاحب «شذرات الذهب في أخبار من ذهب»، فلم يزد على نقل ما نقلناه هنا من تراجمه، إلا أنه روى أبياتًا قال إنها منسوبة إليه، وهي هذه:
إذا كنت في حاجةٍ مرسلًا
وأنت بإنجازها مغرمُ
فأرسل بأكمه خلابة
به صمم أفطس أبكمُ
ودع عنك كل رسول سوى
رسول يقال له الدرهمُ
وقال الطرطوشي: كنت ليلةً نائمًا في بيت المقدس، فبينما أنا في جنح الليل إذ سمعت صوت حزين ينشد:
خوف ونوم إن ذا لعجيبُ
ثكلتك من قلبٍ فأنت كذوبُ
أما وجلال الله لو كنت صادقًا
لما كان للإغماض منك نصيب
قال: فأيقظ النوام، وأبكى العيون.
(٩) وقع في ترجمة عبيد الله بن خلف بن هاني هذا خطأً في ترجمة ابن بشكوال له، نظنه من خطأ النسَّاخ، فإنه يقول: عبيد الله بن القاسم بن خلف. والحقيقة أنه عبيد الله بن أبي القاسم خلف بن هاني. وقد ترجمه ابن الأبار بقوله: عبيد الله بن خلف بن هاني العمري من أهل طرطوشة، يكنى أبا مروان، سمع أباه أبا القاسم خلف بن هاني، وأجاز له أبو بكر أحمد بن الفضل الدينوري، وحدث عنهما وولي القضاء ببلده، حدث عنه القاضي أبو الحسن محمد بن واجب وغيره. أكثره عن ابن عياد.
(١٠) وقد جاءت ترجمة خلف بن هاني هذا في بغية الملتمس لابن عميرة الضبي، وقال: إنه يكنى أبا القاسم، وإنه حدَّث بطرطوشة سنة ٤٢٢، وإنه سمع من أبي بكر الدينوري سنة ٣٤٦، وقال: إنه روى عنه القاضي ببلنسية أبو المطرف عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن الجحاف. ولكنه لم يذكر أنه عُمَري من ذرية الفاروق — رضي الله عنه — وكذلك جاءت ترجمته في الصلة لابن بشكوال، وهي لا تزيد على ما يلي: خلف بن هاني يكنى أبا القاسم، حدَّث بطرطوشة سنة ٤٢٢ عن أبي بكر أحمد بن الفضل الدينوري، سمع منه القاضي أبو المطرف عبد الرحمن بن عبد الله بن جحاف المعافري. ا.ﻫ.
فمن هنا يظهر للقارئ الفرق بين رواية ابن الأبار ورواية ابن بشكوال في شأن هذا الرجل والخلاف في تعيين سنة وفاته.
(١١) ذكر لاوي بروفنسال في كتابه «الكتابات العربية في إسبانيا» كتابة منقوشة على حجر بقي مدة مستعملًا أسكُفَّةً لباب في أحد بيوت فيناروز، ثم أخذ هذا الحجر ووضع في المتحف الآثاري بمدرسة «سانتو دومنقه» بأوريولة، والكتابة سطران كل سطر منهما على جانب من الحجر، وهي بالحفر النافر وبالخط النسخي ونصها:

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا. كل نفس ذائقة الموت.

… توفي … الحسين بن عبد الله بن رحمون إلى … ي يوم الأحد الثامن للصفر عام تسعة وثلاثين وستمائة.

قلنا: تاريخ هذا القبر يتأخر عن تاريخ أخذ النصارى لبلنسية والبلاد المجاورة لها بثلاث سنوات؛ لأنهم استولوا عليها سنة ست وثلاثين وستمائة.
(١٢) ينسب إلى هذه القصبة أبو محمد القاسم بن علي بن صالح الأنصاري المريي المقرئ نزيل دانية، أخذ القراءات عن أبي العباس القصبي، وأبي الحسن بن اليسع، وعن ابن العريف الزاهد، وعن أبي بن عبد الله بن غلام الفرس، وقرأ عليه التفسير سنة ٥٢٩، وتصدر بدانية للإقراء، وأخذ عنه أبو بكر أسامة بن سليمان الداني، ذكره ابن الأبار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤