قرطاجنة

وهي مرسًى حربيٌّ في جون طبيعي محاط من كل الجهات بجبال عليها قلاع، وفي داخل الجون مدينة هي قرطاجنة CARTHAGENA، ولم أجد في هذه المدينة آثارًا عربية ظاهرة مع أن العرب عمروها كسائر مدن الأندلس، ولم يتَّسع لي الوقت أن أنقِّب عن آثار العرب فيها؛ لأني بت فيها ليلةً واحدة وثاني يوم ٢٣ أغسطس رجعت على طريق مرسية قاصدًا مدينة القَنْت، فوصلنا إلى محطة مرسية نفسها، ونزلنا من القطار، وركبنا قطارًا آخر قاصدين القنت، فأول محطة وقف القطار بها اسمها «بنيال Beniel»، والراجح أن اسمها من أصل عربي، ولكني لم أتبين هذا الأصل، ثم وصلنا إلى محطة أوريولة، وهي المدينة المشهورة، وكان لها اسمٌ آخر، وهو تدمير، ومرجها هو الغاية في الخصب، والقنَّب فيه بكثرة، ثم مررنا بمحطة بلدة اسمها «قلُّوزة شقوره Callosa Segira»، وقبل الوصول إلى هذا المحط رأيت غابة نخيل وقنبًا كثيرًا. وبعد اجتيازنا قلوزه هذه لم نزل نشاهد شجر النخل وكذلك الزيتون، وكيفما توجه الإنسان في الأندلس لا بد أن يرى الزيتون.
ثم وصلنا إلى «الباترة Albatra»، والنخيل بها كثير إلى الغاية، والسهل مد النظر، والجبال الجرد محيطة بالمروج الغنَّاء، وتسمى الجبال التي في الشمال جبال «كريفيلانت Crevilente»، والتي في الجنوب جبال «قلُّوزة»، ولو لم يكن للعرب جاذب إلى هذه البلاد سوى هذا النخل الكثير لكفى، ويكثر أيضًا في هذه البقعة شجر الرمان.
ثم وصلنا إلى كريفيلنت، ولها سهول خصبة وكروم متسعة وزيتون ورمَّان وخرُّوب، وكل ذلك من الكثرة بمكان. ثم وصلنا إلى محطة «ألش Elche»، وفيها غابة نخل لا يوجد مثلها في الأندلس، تخيل لك أنك في أفريقية أو في جزيرة العرب، ورأيت بين النخل أناسًا يصنعون الحبال كما يصنعونها في مزَّة الشام وفي ألش خروب ورمان وزيتون، وكله لا ينقطع.

ثم وصلت إلى القنت الساعة الثانية عشرة ونصف الساعة، فرأيتها بلدة لطيفة خفيفة على الروح أخف جدًّا على الروح من قرطاجنة، وبمدخلها أيضًا غابة من النخل، وللبلدة مرسى لطيف على البحر له رصيف منتسقة فيه صفوف من النخل. ووراء القنت جبل عليه حصون، وهو قريب من البحر يكاد يتدلَّى إلى الماء.

سافرت الساعة الثامنة والنصف من القنت إلى دانية في قطار حديدي صغير يجري على خط ضيق، فذهب بنا إلى الشمال على شاطئ البحر، ولم يمضِ إلا قليل حتى دخلنا في كروم زيتون وعنب يُسقَى بجداول، ومررنا بعد ذلك بغيضة نخل، ورأينا كثيرًا من الخروب والسهل منبسط ترابه أبيض ينتهي إلى سلسلة جبال عالية، فالذي يرى هذا النخل كله لا يظن أنه في قارة أوروبة. وبعد نحو ساعة من مسيرنا دخلنا في أرض ذات آكام قاحلة وأودية يابسة، ثم لم تزل هذه الآكام تصاحبنا والبحر من جهة أخرى يصاقبنا، حتى رجعت الأشجار تظهر شيئًا فشيئًا، لا سيما الخروب والزيتون واللوز. وقد وقف بنا القطار في ثلاث محاط، وذلك في مسيرة ساعة واحدة، وكانت المحطة الثالثة عند مدينة صغيرة فوق البحر اسمها «فيلَّا كويوزا»، ثم عبرنا على جسر عالٍ فوق نهر يابس عميق، وسرنا في أرض تربتها بيضاء، والخروب واللوز هناك بكثرة زائدة، وهذان الصنفان من الشجر يكثران في الأراضي الناشفة.

ثم سألت من رافقني في القطار من أهل فيلَّا كويوزا هل عندهم آثار عربية في بلدتهم، فقالوا: لا نعرف سوى أن الكنيسة كانت في الأصل جامعًا. ثم وقفنا في محطة يقال لها «بني دورم Beni Dorm»، ونظنها بني دارم في الأصل تحرَّف لفظها بلسان الإسبانيول، وفي الجوار قرى كثيرة أسماؤها بني وبني؛ أي أسماء عربية، وهي: بني منتل، وبني فايو، وبني أرطاة، وبني أرفيح، وبني اليوبة، وبني دوليش، وبني أرنبيش، وغيرها، مما ظهر لنا أصله العربي مثل بني أرطاة، ومما لم يظهر، وربما كانت هناك عائلات إسبانية من الأصل استعربت بجوار العرب، فأطلقوا عليها لفظة بني؛ ولهذا أمثال مثل بني «قسيٍّ» في شرقي الأندلس وبني «أنجلينو»، وبني «سباريكو» في إشبيلية وغير ذلك.
والأراضي في كل هذه المسافة ليست فيها مياه جارية وترابها أبيض، إلا أننا نحو الساعة العاشرة ونصف الساعة وصلنا إلى قرية لطيفة مشرفة على البحر لها آكام رفيعة تتخللها زرائع تُسقى من عيون جارية، واسم هذه القرية «ألطيه Altea»، ومن يدري فقد تكون محرفة عن آل طي، فإن المقرِّي في النفح يقول: إن منازل طي بقبلي مرسية.
ثم وقفنا بمحطة قرية اسمها «قليوزه Caliosa de Ensarria»؛ أي الأنصارية بلا شك؛ لأن القبائل التي كانت تنسب إلى الأنصار من عرب الأندلس لا تعد ولا تحصى، ولهم أماكن تعرف بهم. ثم دخل القطار في جبال صخرية قريبة من البحر، ووصلنا إلى محطة يقال لها «كلب Calape»، وأمامها سهل صغير ممتد إلى البحر، ثم بعده جبل ناتئ من نفسه في البحر شاهق يرتفع عن البحر نحوًا من أربعمائة متر كأنه جبل طارق صغير.
ثم وصلنا إلى محطة يقال لها «بنيسَه Benisa»، وأظنها محرَّفة عن بني سعد، وهي عِذْي، وفيها كروم وزياتين، ورأيت فيها نواعير تدور دواليبها على الحيوانات كنواعير ساحل الشام. ثم وقفنا بمحطة يقال لها «طولاذه Teulada»، والإسبان يلفظونها بالذال المعجمة، ثم دخلنا في جبال صخرية بغاية الوعورة، ومررنا بنفق تحت الأرض، وشاهدنا بلدة اسمها «حافية» في سفح جبل اسمه «برنيا»، وسمعت الأهالي يلفظون الحاء كما نلفظها — نحن العرب — لا كما يلفظها الإفرنج؛ أي هاءً.
ثم وصلنا إلى محطة بلدة اسمها «غاتَه Gata»، فهل أصلها قاتَه أو هي محرَّفة لا نعلم أصلها. ثم مررنا وراء الجبل المشرف على البحر، وأخذت الأرض هناك تميل إلى الحمرة، لكن الخرُّوب لا يزال كثيرًا، وكذلك اللوز، وكذلك كروم العنب، وشاهدت مساطيح الزبيب كما هي عندنا في جبل لبنان.

وفي الساعة الثانية عشرة نهارًا وصلت إلى دانية، وهي اليوم بلدة صغيرة لها حصن على رأس رابية مشرفة على البحر تعلو عنه ٣٠ أو ٤٠ مترًا، وهذا الحصن من بناء العرب، ووراء دانية جبل يعلو خمسمائة متر عن البحر، وبسفوحه قرى عامرة وجنان زاهرة. علمت أنه انكشف مؤخرًا في دانية مقبرة عربية، فنسفوها كلها وأهدوا حجارتها متحف بلنسية.

هذا الخط كله شديد الحرارة في الصيف: مرسية، وأوريولة، وقرطاجنة، والقنت، ودانية، إلا الأماكن الجبلية، وفي النهار قد تهب ريح تخفِّف الحرارة، إلا أن هذه الريح قد تنقطع ليلًا فلا يمكن النائم أن يقبل الغطاء، وقد بت ليلة واحدة في مرسية، وليلة في قرطاجنة، وليلة في القنت، وليلة في دانية، وما أتذكر أنني قدرت أن ألقي على نفسي لحافًا أو غطاءً مهما كان رقيقًا، وكنت مع ذلك أترك النوافذ مفتوحة، وأحيانًا أترك الباب أيضًا مفتوحًا؛ حتى أتمكَّن من الرقاد، فلا عجب إن كان العرب أحبوا هذه السواحل وعمروها؛ لأنهم آتون من الأقاليم الحارة.

في ٢٥ أغسطس ركبت الساعة الثامنة صباحًا قطارًا قاصدًا شاطبة فبلنسية، فمررنا بكروم وزياتين كثيرة، وشاهدت مساطيح الزبيب، ثم أخذنا نمر ببساتين البرتقال، ووقفنا بثلاث محاط أهمها محطة «أوليفا Oliva»، وهي بلدة صغيرة لطيفة تغطيها بساتين البرتقال، ووراءها إلى الشمال الجبل، ثم وصلنا إلى «كنديا Gendia»، وأظنها البلدة التي يسميها العرب «أندة» المحفوفة بأجمل بساتين بلنسية، وهي على مسافة أربعة كيلومترات من البحر. ثم بعد أن تجاوزناها نحو بلنسية ضاق السهل بين الجبل والبحر، ثم وقفنا في محطة «جاراكو Jaraco»، ثم وصلنا إلى طبرنة، وهي في سفح جبل تحف بها البساتين والكروم، ثم وقفنا في محطة «بلدينية Valdiagna»، ثم في محطة «لابرَّاقه Labarraca» لعلها البرَّاقة، ولكن لم أجد هذا الاسم في كتب العرب. ومن قبل أن نجتاز طبرنة كان الخروب متصلًا، وكذلك حراج الصنوبر، ولم نزل كذلك نشاهد هذه الحراج إلى أن قاربنا بلنسية، فعندها دخلنا بين بساتين البرتقال، ورأينا كثيرًا من شجر النخل، ونزلنا بمحطة «قرقاجنت Carcagente».
ثم سرنا بقطار آخر إلى بلنسية، فرأينا غوطة بلنسية الشهيرة، وهي كلها مغطاة بالبرتقال والتوت وأصناف الفواكه والزرائع، والماء يجري في الجداول من كل نواحيها، ثم وقفنا في جزيرة شقر ويقولون لها «السيرة Alcira»، وهي على نهر صغير هو نهر شقر، ومرج بلنسية شبيه بمرج غرناطة في الخصب وكثرة الشجر والزراعات، لكنه أكثر دوحًا من مرج غرناطة، وفيه القرى الكثيرة كما في غوطة دمشق، وتخيَّلت نفسي بإزاء بساتين البرتقال كأني في بساتين صيدا أو يافا أو طرابلس الشام، إلا أن رقعة بساتين بلنسية أوسع. ثم وقفنا بمحطة «الجنيت Algenet»، وهناك خف الشجر، وصار أكثر المرج مباقل وزراعات حبوب متنوعة.
ثم وقفنا بمحطة يقال لها «بني فيُّو Beni-Fayo» ظهر لنا منها برج عربي بقرب سكة الحديد، ورأيت برجًا عربيًّا آخر في وسط البلدة. ولا أعلم أصل كلمة بني فيُّو، وإنما أظن أنها بني حيُّو، وأن حيو مرخَّم عن حيُّون، والترخيم كثير في العربي لا سيما في المغرب.
هذا ومن بعد أن تجاوزنا بني فيو قاصدين بلنسية انقطعت البساتين بعض الشيء، وصارت الأشجار من الخروب والزيتون، ولكن لم تلبث خضرة السقي أن رجعت وظهرت آثار الوادي الأبيض. ثم وقفنا بمحطة بلدة اسمها «سيلا Silla»، ولا شك أنها أسيلة التي ذكرها ابن الأبار. ثم وقفنا في محطة بلدة اسمها «كاتاروجه»، ولم يظهر لي أصلها، ثم وقفنا بمحطة بلدة هي أقرب أرباض بلنسية إلى نفس المدينة، وهذه المحطة هي «الفافار Alfafar» وبني توزر، فأما الفافار فأظنها محرفة عن الحفار أو الحفر؛ لأنهم يقلبون الحاء فاءً، كما قالوا في البحيرة البفيرة، وأما توزر فهو اسم بلدة في إفريقية في نواحي الزاب الكبير من أعمال الجريد، وهي كثيرة النخل والبساتين، فلعل الذين عمروا هذه البلدة كانوا من ناقلة توزر، ثم وصلنا إلى بلنسية نحو الساعة الثانية عشرة، فكانت المسافة إليها من دانية بالقطار الحديدي أربع ساعات. وبلنسية ثالث مدينة في إسبانية من جهة العَظَمة، لا يوجد أعظم منها سوى مجريط وبرشلونة، وهي قد خلعت عنها الثوب العربي تمامًا، فإني لم أجد فيها آثارًا عربية قديمة كما وجدت في طليطلة وإشبيلية وقرطبة وغرناطة، بل كل ما وجدته من آثار العرب أبراج وبوابات معدودة. ثم إني وجدت في المدن الأخرى — لا سيما في إشبيلية — أبنية محدثة قلَّدوا فيها طراز البناء العربي، ولكن لم أجد شيئًا من ذلك في بلنسية، وإنما سمعت الموالية العربية باللغة الإسبانية في المقاهي بواسطة الحاكي؛ أي الكراموفون. ا.ﻫ. فهذا ما وجدته في دفتر جيب محفوظ عندي عن انطباعات ذهني بما رأيته من مرسية إلى بلنسية.
ثم وجدت أيضًا تقييدات في الدفتر نفسه عن مسيرتي من بلنسية إلى مجريط، وذلك بعد أن ذهبت من بلنسية إلى الجزائر الشرقية، وأقمت بميُّورقة نحوًا من عشرين يومًا، فرجعت إلى بلنسية، ومنها قصدت مجريط، وطريقها إلى مجريط هي غير طريق مرسية، فها أنا ذا أنقل ما قيدته يومئذ من لمحاتي؛ قلت: في الساعة العاشرة قبل الظهر ركبت القطار من بلنسية قاصدًا مجريط، فبقي يخبُّ بنا في غوطة بلنسية بين زرائع متنوعة وأشجار ملتفَّة الغالب عليها البرتقال، والجداول والأنهار تشق هذه الغوطة من كل جهة، ثم إنه بعد مسير ساعة بالسكة الحديدية وصلنا إلى أوعار تغيَّر فيها النسق، وانقطعت النسبة، ولكن هذه الأوعار لم يطل أمرها حتى رجعنا إلى مرج أخضر ذي زرائع وكروم من عنب ورمَّان وتوت، والجداول تسقيها أيضًا. ثم وقفنا في محطة شاطبة، وهي بلدة بين المرج والجبل، فالمرج أمامها والجبل وراءها، وعلى الجبل قلعتان شاهقتان، واسم الجبل «برنيسا Bernisa»، والمرج كله من بلنسية إلى شاطبة معمور بالقرى أشبه بغوطة الشام. ثم انتهينا من المرج، وسرنا إلى الوعر، ووقفنا بمحطة بلدة فيها قلعة قديمة عظيمة يقال لها «مُنتيشة» وبالإسبانيولي Montesa، وقد ذكر هذه القرية صاحب نفح الطيب وقال: إنه ينسب إليها عدد من العلماء، لكنه لم يذكر منهم أحدًا.

فأما ياقوت في معجم البلدان فقد ذكر منتيشه بالفتح ثم السكون وكسر التاء المثناة من فوقها وياء وشين معجمة، قال: إنها مدينة بالأندلس قديمة من أعمال كورة جيَّان، حصينة مطلَّة على بساتين وأنهار وعيون، وقيل إنها من قرى شاطبة (وهو الصحيح)، منها أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عياض المخزومي الأديب المقرئ الشاطبي، ثم المنتيشي، روى عن أبي الحسن علي بن المبارك المقري الواعظ الصوفي المعروف بأبي البساتين، روى عنه أبو الوليد يوسف بن عبد العزيز بن الدبَّاغ الحافظ. ا.ﻫ.

ثم مررنا بقرية «الكُدية»، وهي على ٦٣ كيلومترًا من بلنسية، ولا يخفى أن اسم الكدية عربي، ومعنى الكدية: الأرض الغليظة، وتأتي أيضًا بمعنى الصَّفاة العظيمة الشديدة. ثم نحو الساعة الثانية عشرة وقفنا عند محطة بلدة اسمها «موجَنْتا»، وقد ورد في دليل بديكر أنها مدينة قديمة بناها العرب، وفيها حصن باقية آثاره، وهي على ٨٢ كيلومترًا من بلنسية، وأرضها في غاية الخصب، وقد كثر الزيتون هنا بدلًا عن الخرُّوب.

ثم وقفنا بمحطة في الوعر اسمها «باريلَّا Parilla»، ثم صعدنا في الجبل وما برحنا في التصعيد حتى وصلنا إلى نفق طويل ١٥٠٠ متر، ومن قبله مررنا بنفقٍ قصير، والجبل هناك يقال له جبل مارياكا، فاصل بين «شارة إنقيرة Sierra de Ingeurra» في الشمال الغربي، وشارة «غروزه Grosa» في الجنوب الشرقي، وعلى مسافة مائة كيلومتر وصلنا إلى مدينة البونت، وسكانها اليوم أربعة آلاف نسمة، وهي في مكان عالٍ، والفرق بين البونت، وبلنسية هو فرق الصرود عن الجروم، وهناك الأشجار نادرة؛ فالأرض مغطاة بكروم العنب.
ونحو الساعة الثانية عشرة وثلاثة أرباع الساعة وصلنا إلى محطة «إنسينا Encina»، وهي ملتقى الخطين: الخط الحديدي الآتي من بلنسية إلى مجريط، والخط الآخر الآتي من القنت إلى مجريط. ثم في الساعة الواحدة وربع الساعة وصلنا إلى بلدة يقال لها: «المنصا Almansa»، وهي بلدة عربية يسير إليها طريق الحديد في جبال عالية، وأما نفس البلدة؛ فهي واقعة على بسيط من الأرض، والجبال تحيط بذلك البسيط، ولها صخرة مرتفعة مشرفة، فوقها حصن قديم، وفيها حوض ماء من بناء العرب طوله ألفا متر وعرضه ألفا متر وعمقه ثمانون مترًا، وقد بُني هذا الحوض على شكل سد بين الجبلين كلما ارتفع السد نحو الجبل انخفض البناء، فهذا الحوض يقال له في العربية: «المصنع»؛ ولذلك نقول بلا تردد: إن «المنصا» هي مقلوب مصنع، ويظهر أن الماء قليل هناك والأرض في غاية الخصب، فأحدث العرب هذا المصنع لأجل ري الأراضي، ولكنه الآن في حالة الخراب.
وقبل الساعة الثانية وصلنا إلى محطة بلد يقال له: «ألبيرة Alpera»، وفي هذا البلد يوجد كهفان فيما سمعت منقوش فيهما على الصخور صور حيوانات ورجال يقال إنها باقية من العصر الجليدي، وفي تلك النواحي يكثر شجر البلوط، وقد بقينا نحو ساعتين في القطار نسير في بسائط من الأرض مرتفعة، وكلها من الأراضي الجيدة التي تزكو مزروعاتها. والساعة الثانية وثلاثة أرباع الساعة وصلنا إلى «شنجالة Chinchilla»، وهي من المدن التي كانت عامرة في زمان العرب، وسيأتي ذكرها، وهي اليوم ملتقى سكَّتيْ الحديد اللتين إحداهما تذهب إلى مرسية والأخرى إلى قرطاجنة.
وفي الساعة الثالثة مررنا بقرية اسمها «سيلَّا»، ثم وصلنا إلى «البسيط»، وهي مدينة صغيرة منقسمة إلى قسمين: الأعلى والأدنى؛ فالحارة العليا هي الحارة القديمة والحارة السفلى هي الحارة العصرية. وأراضي هذه البلدة بسائط لا نهاية لها، فهي اسم على مسمًّى. وفي ما بعد البسيط إلى الشمال قناة ماء تسمَّى قناة «سان جورج»، وقناة أخرى تسمى قناة «ماريا كريستيا»، تنحدر مياهها إلى مستنقعات واقعة في أراضي البسيط، تتولد منها حميَّات. ثم وصلنا إلى «مينَيَّا»، وفي الساعة الرابعة وصلنا إلى «الروضة»، ثم في الرابعة ونصف الساعة وصلنا إلى بلدة يقال لها: «فيلَّا روبلادو Villarrobledo»، وفي هذه البلدة عشرة آلاف نسمة، وفيها شجر البلوط بكثرة، ومنه اشتق اسمها. والأرض هناك سهول مد النظر.
ثم وصلنا إلى بلدة اسمها «سوق وليم»، وبالإسبانيولي Socuéllamos، ثم مررنا ببلدة اسمها «كريبتانا Criptana»، وهي قصبة فيها ثمانية آلاف نسمة، وفيها مطاحن كثيرة وزراعة، ولكن سوق وليم فيها حراج من شجر البلوط له ثمر حلو مرغوب فيه، ثم وصلنا إلى مدينة «القصر Alcazar de San Juan»، منها يذهب الخط الحديدي إلى الأندلس؛ أي إلى جنوبي إسبانية. وسبب تسمية هذه البلدة بالقصر هو أن العرب كانوا بنوا فيها حصنًا عظيمًا، ثم لما استرجع الإسبانيول بلاد الأندلس جعل فرسان ماريوحنا مقرَّهم في هذا الحصن، واليوم سكان هذه البلدة اثنا عشر ألفًا، وفيها معامل لاستخراج البوتاس والسودا؛ لأن هذين المعدنين يوجدان في جوارها، وفيها تجارة عظيمة للخمر. ثم في نحو الساعة السادسة ونصف الساعة وقف بنا القطار في «عَرَنْجَوِيز» ا.ﻫ.
وأضيف إلى ذلك أنه من بلدة القصر إلى الشمال يمر المسافر على بلدة يقال لها «فيلَّاكانا Villacanas»، وهي صغيرة، ستة أو سبعة آلاف نسمة، معيشة أهلها من الغنم، وأرضها ليست بِعِذى، بل هي تشرب من الجداول، ومنها إلى الشمال بلدة يقال لها القصر أيضًا El Caser، وعلى مقربة من هناك أعلى موقع تجري منه مياه نهر تاجُه ونهر وادي آنة. ثم يصل المسافر إلى بلدة يقال لها «قسطيلَّاجو Castillego»، وفي جوارها معدن الجفصين، وبعد ذلك إلى الشمال بلدة «قونكة»، وقد تقدم ذكرها.

جاء في جغرافية الشريف الإدريسي: من مدينة مرسية إلى مدينة بلنسية خمس مراحل، ومن مرسية إلى جنجالة خمسون ميلًا، وقال: إن مدينة جنجالة متوسطة القدر حصينة القلعة منيعة الرقعة، ولها بساتين وأشجار، وعليها حصن حسن، ويعمل بها من وطاء الصوف ما لا يمكن صنعه في غيرها بإتقان الماء والهواء، ولنسائها جمالٌ فائق. ومن جنجالة إلى قونكة يومان، وهي مدينة أزلية على منقع ماء مصنوع قصدًا ولها سور وليس لها ربض، ويصنع بها من الأوطية المتخذة من الصوف كل غريبة. ا.ﻫ.

وكثرة الصوف في تلك الجهات جعلت صناعة هذه الأوطية غاية في الإتقان. ثم إنه من عرنجويز إلى مجريط مسافة خمسين كيلومترًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤