الدولة الإسلامية … كيف نشأت؟

فرغنا من المقدمات التمهيدية في حال بلاد العرب قبل الإسلام، فنتقدم بعد ذلك إلى الكلام في نشوء الدولة الإسلامية وكيف تكونت وتطورت، حتى صارت على ما عرفناه منها في أوج التمدن الإسلامي.

(١) الدعوة الإسلامية

(١-١) نشأة النبي الأولى

تلك كانت حالة العرب في الحجاز لما ظهر النبي صاحب الشريعة الإسلامية ودعا الناس إلى التوحيد وأظهر دعوته سنة ٦٠٩ للميلاد وعمره أربعون سنة، ولا يتسع المقام لتفصيل سيرته، وإنما نذكر هنا ما يتعلق بالموضوع لبيان الأسباب التي رافقت ظهور الدعوة وساعدت على انتشارها.

ولد صاحب الدعوة الإسلامية وقد مات أبوه، وبعد ست سنوات ماتت أمه فكفله جده عبد المطلب، وكانت له السقاية والرفادة من مناصب الكعبة وكان له مقام رفيع في قريش، لكنه توفي بعد سنتين، فكفله عمه أبو طالب وكان وجيهًا محترمًا، فشب محمد في بيته كأحد أولاده، وكان أبو طالب صاحب تجارة مثل سائر قريش، فكان إذا خرج في تجارة اصطحبه في أسفاره، فاشتهر منذ حداثته بالحصافة والذكاء وصدق السريرة حتى لقبوه بالأمين واشتهر في مكة بهذا اللقب، فعرفت بأمره خديجة بنت خويلد وكانت ذات ثروة وتجارة فعهدت إليه في الاتِّجار بمالها فاتجر وربح فازدادت إعجابًا به، فعرضت عليه الزواج بها فتزوجها فاتسعت حالة وأصبح من أهل الرخاء واليسار والكل يحبونه ويحترمونه.

(١-٢) الدعوة

ولما بلغ الأربعين من عمره مال إلى الخلوة والاعتزال عن الناس فأوى إلى الجبال والشعاب كما يفعل النساك، وأول ما ابتدئ به «الرؤيا الصالحة»، وفي رمضان من تلك السنة (يناير ٦١١ ميلادية) كان معتزلًا بنفسه في غار حراء بجبل النور على ثلاثة أميال من مكة،١ فنزل عليه الوحي وقرأ عليه أول سورة من سور القرآن ودعاه إلى أن يرددها وراءه، فرددها، وأصابه الروع، وأسرع إلى زوجته خديجة وأنبأها بما وقع وقال إن الملك أمره أن يقول «اقرأ باسم ربك الذي خلق» الآية، فقرأها، وإنه خرج إلى وسط الجبل فسمع صوتًا من السماء يناديه «يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل» فذعر وأسرع إلى خديجة فأخبرها، وكان لها ابن عم اسمه ورقة بن نوفل قرأ الكتب ونظر فيها وخالط أهل التوراة والإنجيل وسمع أقوالهم، وكان مشهورًا في مكة بسعة العلم في الدين والنبوات، فذهبت إليه وأخبرته بما كان فقال «والذي نفس ورقة بيده، لئن صدقتني يا خديجة لقد جاء الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وإنه نبي هذه الأمة».

فرجعت خديجة إليه وأخبرته بقول ورقة فاطمأن باله، ولكنه لم يرَ إظهار دعوته، لعلمه بما سيكون لها من ثقل الوطأة على قريش، لما فيها من تعييب آلهتهم وتحقير أصنامهم، وفي ذهاب تلك الأصنام ذهاب تجارتهم وأموالهم وكل آمالهم، ولم يكن من الجهة الأخرى يتوقع إذا أنبأهم برسالته أنهم يصدقونه فعمد إلى بث دعوته سرًّا بين أقرب الناس إليه، قضى في ذلك ثلاث سنين فاجتمع حوله نفر قليلون في جملتهم ابن عمه علي بن أبي طالب وكان لا يزال غلامًا وأبو بكر الصديق وكان من وجهاء قريش وأبو عبيدة بن الجراح وغيرهم، فهمَّ بدعوة الناس جهارًا وبدا بعشيرته الأقربين فكلف ابن عمه عليًّا أن يصنع لهم طعامًا يدعو أهله إليه وفيهم عمومته بنو عبد المطلب وأولادهم وهم نحو أربعين رجلًا، فدعاهم إلى بيت أبيه أبي طالب، فلما فرغوا من الطعام هم محمد بالكلام وكان أهله قد سمعوا بدعوته سرًّا واستخفوا بها، فلما هم بالكلام علموا أنه سيدعوهم إلى ترك الأصنام وعبادة الله فابتدره عمه أبو لهب وكان أشدهم وطأة عليه فأسكته فسكت وتفرقوا ولم يقل شيئًا.

لكنه لم يفشل ولا ضعفت عزيمته فأعاد الوليمة ثانية وقد صمم على التصريح بما في ضميره فلما فرغوا من الطعام قال «ما أعلم أن إنسانًا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، فقد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني في هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟»٢ فظلوا ساكتين وكان سكوتهم استخفافًا، فتقدم علي ابن عمه وقال «أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليهم» فأخذ النبي برقبته وقال «هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا» فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب «قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيعه» ثم انصرفوا.

(١-٣) النبي وقريش

على أن استخفافهم هذا لم يقعده عن عزمه ولا أبعده عن قومه، فبدلًا من وقوفه عند ذلك الحد، تهيبًا وحذرًا جاهر بسب الأصنام ونسب أهله وآباءهم إلى الكفر والضلال، فلما علموا بمجاهرته بسب الأصنام أجمعوا على عداوته ومقاومته وتعمدوا أذاه، لكنهم لم يروا سبيلًا إلى ذلك وهو في كفالة عمه أبي طالب … فجاءوا عمه وفيهم أبو سفيان فقالوا له «يا أبا طالب إن ابن أخيك عاب ديننا وسفَّه أحلامَنا وضلل آباءنا فانهه عنا أو خلِّ بيننا وبينه» فردهم أبو طالب ردًّا حسنًا ووعدهم خيرًا.

ثم رأوه لا يزال ماضيًا في سب آلهتهم فعادوا إلى أبي طالب وقد اشتد بهم الغيظ وقالوا له «إن لم تنهَ ابن أخيك وإلا نازلناك وإياه حتى يهلك أحد الفريقين» فعظم ذلك على أبي طالب وأدرك عاقبة الأمر فلما عادوا من عنده قال لابن أخيه «يا ابن أخي إن قومك قالوا كذا وكذا» فظن أن عمه يخذله فشق عليه ذلك وقال «يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا الأمر» وبكى وهم بالانصراف فناداه عمه وقال له «قل ما أحببت، فوالله لا أسلمك أبدًا».

وكانت دعوته في أثناء ذلك تذيع على مهل، وقد أسلم جماعة من خيرة الناس كان لهم شأن عظيم في التاريخ الإسلامي منهم أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وحمزة بن عبد المطلب (عمه) وعمر بن الخطاب، وكان لإسلام هذين الأخيرين وقع حسن عند النبي، لأنهما كانا من أهل الوجاهة والقوة.

أما سائر أعمامه وأهله فلما يئسوا من وساطة عمه أبي طالب، رأوا أن يحتالوا في استرضائه بالحسنى، فبعثوا إليه وقد اجتمع كبارهم في ندوة … فجاء فاستقبلوه بالترحاب وقالوا له «يا محمد إنا قد بعثنا إليك وإنا والله لا نعلم رجلًا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه قد غلب عليك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب، حتى نبرئك منه أو نعذر فيك».

فقال لهم «ما بي ما تقولون وما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني رسولًا، وأنزل علي كتابًا وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم».

فلما لم يروا سبيلًا إليه جعلوا يعذبون الذين أسلموا وصدقوا دعوته والمسلمون صابرون على ذلك العذاب، حتى إذا اشتد أذى قريش لهم وضاقوا ذرعًا عن تحمل ما كانوا يسومونهم من سوء العذاب والإهانة، أشار النبي على الذين ليس لهم عشيرة تحميهم أن يخرجوا من مكة إلى أرض الحبشة، فهاجروا إليها تباعًا فبلغ عدد المهاجرين ٨٣ رجلًا ما عدا النساء والأولاد، وهي الهجرة الأولى، ولا يخفى ما تقتضيه الأسفار من مكة إلى الحبشة من المشقة، لما في ذلك من ركوب البحر وخصوصًا في تلك الأزمان مع ما حملوه معهم من النساء والأطفال، فيدل ذلك على ما كان عليه هؤلاء من الاعتقاد المتين بالإسلام.

ويليق بنا الوقوف هنيهة في هذا المقام لإبداء ما ارتسم في مخيلتنا من أمر هذه الدعوة على أثر مطالعتنا الطويلة في تاريخها فنقول:

هل كان يعتقد صدق رسالته؟

زعم بعض الكتاب من غير المسلمين أن صاحب الشريعة الإسلامية إنما قام بهذه الدعوة، طمعًا في السيادة ورغبة في ملاذ الدنيا.

وأما نحن فلا نرى مسوغًا لهذا القول وتاريخ الدعوة يدل دلالة صريحة على أنه إنما قام بها عن صدق وإخلاص، فلم يدع الناس إلى الإسلام إلا وهو يعتقد اعتقادًا متينًا بصحة رسالته وأن الله أرسله لبث تلك الدعوة، ولولا هذا الاعتقاد لم يصبر على ما ناله من الاضطهاد وضروب العذاب، وقد رأيت أنه كان قبل ظهوره بالدعوة موضع احترام أهل مكة كافة، وأهله يحبونه ويكرمونه وهو في عيش هنيء، لما اكتسبه من أسباب اليسار بزواجه بخديجة واتجاره بأموالها، فأصبح بعد ظهوره بالدعوة وقد ناصبه أهل مكة العداء وساموه أنواع العذاب وأهانوه، حتى نقموا على بني هاشم، لأنهم أهله فتعاقدوا أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم وكتبوا بذلك صحيفة أودعوها في جوف الكعبة، فاضطر بنو هاشم أن ينفروا إلى الجبال فأقاموا في الشعب ثلاث سنين لا ينزلون مكة إلا خفية — إلا من جاهرة بعداوته للمسلمين كأبي لهب ونحوه.

ولا يعترض على ما تقدم بأنه لم يثبت إلا لاحتمائه بعمه أبي طالب، لأننا رأيناه بعد وفاة عمه أكثر ثباتًا منه في حياته، مع أن الناس أصبحوا أكثر اضطهادًا له مما كانوا قبل وفاته، وخصوصًا بعد وفاة خديجة وقد ماتا قبل الهجرة بثلاث سنين، فتتابعت بموتهما المصائب عليه، واستبدت به قريش ولا سيما عمه أبو لهب والحكم بن العاص وعقبة بن أبي معيط، لأنهم كانوا جيرانه بمنزله، فكانوا يلقون الأقذار في طعامه، ويرمونه بها وقت صلاته.

حتى إذا لم يعد يستطيع صبرًا على هذا الضيم لجأ إلى الطائف، لعله يلقى فيها من ينصره ويؤمن بدعوته، فلم يلقَ إلا الإعراض والأذى، فعاد وقد يئس منهم لكنه لم يرجع عن حرف من دعوته، ولم يكتفِ أهل الطائف بإعراضهم عنه بل أغروا بعض سفهائهم وعبيدهم أن يسبوه ويصيحوا به ففعلوا حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى الحائط وردوا السفهاء عنه فرجعوا، فأحس عندئذ بما هو فيه من ضيق فشكا أمره إلى الله، وعاد إلى مكة ولم يغير ذلك شيئًا من عزيمته، فلقيه قومه هناك وهم أشد وطأة عليه مما كانوا من قبل.

فاعتبر حاله بعد ذلك الرجوع وقد نبذه الناس قريبهم وبعيدهم مع علمه أنه إذا رجع عن دعوته لقي منهم ترحابًا وإكرامًا كما صرحوا له جهارًا، ولكنه لم يكترث لشيء من ذلك ولا أهمه أمر الدنيا.

فلولا اعتقاده المتين بصدق الدعوة التي قام بها وأنه منتدب لهذه الرسالة من الله سبحانه وتعالى لما صبر على ذلك كله.

(١-٤) أهل المدينة والدعوة

ولما يئس من أهله ومواطنيه جعل يعرض نفسه على القبائل في أيام الحج لعله يلقى من يصغي إليه وأهله يعترضونه ويقفون في سبيله، وخصوصًا عمه أبو لهب فإنه كان إذا رآه في جماعة يخاطبهم في شأن الإسلام اعترضه وقال للناس «إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه»، ولكن ذلك لم يقعده من دعوة الناس وما زال يعرض نفسه عليهم في المواسم، حتى بايعه نفر من أهل يثرب كانوا وسيلة لنشر الإسلام في تلك المدينة في برهة قصيرة.

ولعل السبب في سرعة انتشار الإسلام هناك كثرة من في المدينة من اليهود وهم أهل كتاب يعتقدون الوحي ويدركون معنى النبوة، وليس فيهم من يخاف على تجارته إذا بطلت عبادة الأصنام، بل هم يفضلون إبطالها لتسقط مكة وتنهض مدينتهم وخصوصًا إذا هاجر إليها صاحب الدعوة نفسه وصارت مركزًا للدين الجديد يحج إليها الناس بدلًا من حجهم إلى مكة واليهود كما لا يخفى أهل النظر في التجارة وأصحاب فراسة في أبواب الكسب، ناهيك بما كان بين تينك المدينتين من المنافسة والمسابقة والتحاسد، لتباعدهما في الأنساب، لأن أهل مكة من العدنانية وأهل المدينة من القحطانية عرب اليمن، فنشطه أهل يثرب ودعوه إليهم على أن ينصروه، فهاجر إليهم سنة ٦٢٢ للميلاد، وهاجر معه من بايعه من قبيلته وهم «المهاجرون»، تمييزًا لهم عن الفئة الأخرى من الصحابة وهم «الأنصار» أهل يثرب، سموا بذلك، لأنهم نصروا النبي في مدينتهم، وبهذه الهجرة يؤرخ المسلمون وقائعهم إلى الآن، وقد سميت يثرب — عندما عم الإسلام أهلها — بمدينة النبي، تم اختصر إلى المدينة، ولزمها هذا الاسم إلى الآن.

•••

ولقي المسلمون في المدينة ترحابًا عظيمًا فاشتد أزرهم وتحولوا إلى محاربة أهل مكة، فجعلوا يناوئونهم في أثناء مرورهم بتجارتهم بين الشام ومكة وفي أماكن أخرى، ووقعت بين الجانبين وقائع كثيرة هي الغزوات المشهورة، أعظمها غزوة بدر الكبرى التي انتصر المسلمون فيها وكانت فاتحة انتصاراتهم في الغزوات الأخرى، حتى أخضعوا جزيرة العرب كلها وفتحوا مكة وأسلم القرشيون كافة، فوجه النبي التفاته إلى العالم الخارجي وخاطب الملوك يدعوهم إلى الإسلام كما سيأتي.

١  ابن الأثير ٢١ ج٢.
٢  أبو الفداء ١١٩ ج١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤