مناصب الدولة الإسلامية

انتهينا من الكلام في نشوء الدولة الإسلامية وتكونها فننتقل إلى الكلام في تنظيمها الإداري ودواوينها وإدارات حكوماتها وتاريخ كل منها، وخصوصًا الكلام في كيفية نموها وتفرعها إلى تلك المناصب.

(١) نمو الدولة الإسلامية

نشأت الدولة الإسلامية في المدينة في السنة الأولى للهجرة، والمسلمون يومئذ من الصحابة لا يزيد عددهم على بضع عشرات، بعضهم من المهاجرين وبعضهم من الأنصار، فجعلوا أساسها المساواة والمؤاخاة والتعاون، فقد ذكرنا أن النبي آخى بين المسلمين ومكن المؤاخاة بأن جعل أموالهم واحدة ومصالحهم واحدة كما يستدل من قوله: «من ترك كَلًّا١ فإلينا ومن ترك مالًا فلورثته»، وقد كان الاشتراك في المصالح داعيًا إلى زيادة الاتحاد، وأعمال الدولة يومئذ محصورة في النبي وتشمل السياسة والإدارة والدين، ففرضت الصلاة والزكاة وغيرهما من الفروض التي تعد من قبيل الدين، ولا نبحث فيها إلا من حيث دخلها في تأسيس الدولة.

أما صلاة الجماعة فكانت تبعث على الاتحاد والنظام والطاعة للنظام العام من الناحية الاجتماعية، وأما الزكاة فقد كانت من أول الأمر مظهرًا من مظاهر التساند الاجتماعي بين طبقات الأمة، ولم تعتمد عليها الدول الإسلامية كمصدر رئيسي من مصادر الدخل، فقد تركت الدول أمرها للناس ولم تجمعها للخزانة، إلا في حالات قليلة.

ولا يخفى أن للدول نظمًا مختلفة، ففيها الملكي والجمهوري والمطلق والمقيد، ولكل دولة قوانين تختلف عما للأخرى مما لا يحصره وصف، ولكنها ترجع كلها إلى أمرين أساسيين تشترك فيهما جميعها، وهما المال والجند، وما من دولة مهما كان نوع نظامها إلا وفيها الجندية والمالية، إذ لا قوام لها بدونهما، وربما كانت الحاجة إليهما في أوائل الدولة أشد مما بعدها، والمسلمون هم الجند، والزكاة والضرائب المختلفة التي تقررت شيئًا فشيئًا هي الموارد المالية التي تقوم بتكاليف الدولة فكان أساس الدولة الإسلامية هذه الآية: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ.

(١-١) الزكاة

الزكاة توطد عرى الاتحاد بين أفراد المجتمع الإسلامي، والاتحاد هو أساس الإسلام، وذلك لأنها تؤخذ من أغنياء المسلمين مما يزيد من أموالهم وتعطى للفقراء منهم، وتسمى الزكاة في كثير من الأحيان صدقة، وقد بدأ المصطلحان بمعنى واحد، ثم اختلف استعمالهما بعض الشيء فيما بعد، وللأئمة والفقهاء في ذلك آراء تعني من يدرسون الأصول، ولكن المؤرخ يهتم بناحية الزكاة الاجتماعية وبأهميتهما كمورد من موارد الدخل الاجتماعي للدول الإسلامية، وقد أشار إلى معناها الاجتماعي رسول الله عندما قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن، إذ قال له «إنك تأتي قومًا أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا فأعلمهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب».

وفي فرض الزكاة على الأغنياء وإعطائها للفقراء حكمة عالية، لأنها تسترضي الفقراء وهم الجمهور الأكبر وخصوصًا في عصور الجاهلية أيام الاستبداد والاستئثار، وقد جاء الإسلام لنصرة الضعيف والمساواة بينه وبين القوي، ولذلك كان خصوم الدعوة المحمدية من كبار القوم الذين ساءهم أن يشاركوا فقراءهم بأموالهم وأن يكونوا إخوة لهم.

وبعد واقعة بدر الكبرى سنة ٢ﻫ حدثت الغنائم والجزية كما سيأتي، فأصبحت موارد الدولة في العهد النبوي وعهد أبي بكر منحصرة في الزكاة التي تجمع من أغنياء المسلمين وتفرق في فقرائهم، والغنائم المكتسبة بالغزو وتقسم في المحاربين، وما فرضوه على من دخل في ذمتهم من اليهود والنصارى في بلاد العرب من الجزية ونحوها، ويتولى ذلك كله النبي أو خليفته، وكانت الأموال التي ترد من الغنائم تفرق فيهم على السواء، الصغير والكبير، الحر والعبد، الذكر والأنثى، فإذا جاء المدينة مال من بعض البلاد أحضر إلى المسجد وفرق على ما يراه النبي أو الخليفة بلا قيد ولا ضبط ولا يبقى منه باق.

(١-٢) الديوان

ولما فتحت البلاد في زمن عمر بن الخطاب، واختلط العرب بالروم والفرس، واتسع سلطان المسلمين وكثرت وارداتهم وتعددت مصادر الدخل، اضطروا إلى ضبط ذلك وتقييده وتعيين ما يدخل وما يخرج منه، فرأى عمر أن يضبط الوارد في الدفاتر، فيدفع منه رواتبَ معينةً في العام إلى كل على قدر استحقاقه، والذي يبقى من الأموال يحفظ للانتفاع به عند الحاجة، فشرع في ذلك في السنة العشرين للهجرة (وقالوا في السنة الخامسة عشرة) وهو ما يعبر عنه بالديوان، اقتداء بما كان عند الفرس والروم.

ونظر عمر فيمن حوله من المسلمين فإذا هم طبقات ودرجات، باعتبار أدوارهم في إنشاء هذه الدولة وتوسيع سلطانها، فرأى أن يجعل عطاء كل واحد منهم على قدر خدمته، ولكنه اعتبر أيضًا القرابة من النبي فميز أهله بشيء خاص كما سنفصله، واستناب عنه في تدوين ذلك كاتبًا يتولى ضبطه.

ولما تكاثرت موارد المال إلى المدينة أنشأ عمر خزانة أو دارًا سماها «بيت المال»، وهو أول من فعل ذلك من الخلفاء، وإن كنا نرى ذكر بيت المال في عهد أبي بكر فما هو إلا من قبيل القياس، لأن أبا بكر لم يكن يفضل عنده مال يحفظه في خزانة أو بيت.

فانقضت دولة الخلفاء الراشدين (سنة ٤٠ﻫ) وأصحاب المناصب فيها:
  • (١)

    الخليفة.

  • (٢)

    عماله في الأمصار.

  • (٣)

    كاتب يكتب له الكتب ويتولى أمر الديوان.

  • (٤)
    خادم خاص كانوا يسمونه الحاجب.٢
  • (٥)

    خازن يتولى بيت المال.

  • (٦)

    قاضٍ يقضي في الخصومات.

فلما أفضت الخلافة إلى بني أمية وأصبح الأمر ملكًا سياسيًّا وكثرت مخالطة المسلمين للأعاجم، جعلت تلك الإدارات تتفرع وتتوسع، عملًا بناموس الارتقاء العام، وأضافوا إليها مناصبَ اقتبسوها من الروم والفرس، وقضى عليهم الترف وأبهة الملك أن يتخذوا الخدم والحشم والحجاب والحراس، فحدث في عهد بني أمية الحرس وديوان الخاتم والبريد وديوان الخراج مما سيأتي بيانه.

ولما آل الأمر إلى بني العباس زادت عوامل الاختلاط وزاد ميل الخلفاء إلى الترف والرخاء، فاستنابوا من يقوم مقامهم في مباشرة الأعمال، فاستحدثوا منصبي الوزارة والحسبة وغيرهما، وتفرعت المناصب الأولى وتشعبت على مقتضيات الأحوال، ثم أحدثت كل دولة من دول الإسلام مناصبَ اقتضتها أحوالها، فاختلفت في بغداد عما في قرطبة، وفيهما عما في القاهرة مما لا محل لتفصيله.

(٢) تشعب المناصب

كان الخليفة في عهد سذاجة الدولة هو الذي يراقب أعمال الدواوين بنفسه، وكان عماله لا يزالون من أهل الزهد والتقوى لا يحتاجون إلى من يراقب أعمالهم أو يستطلع خفاياهم، ولم يكن للخليفة أموال خاصة ولا ضياع تحتاج إلى كتاب أو حساب، وكان إذا كتب إلى أحد عماله كتابًا ختمه بخاتمه بيده، وربما كتب الكتب بيده، فلما اتسع سلطانهم، وتبدلت وجهة الخلافة من الدين إلى السياسة، ومال الخلفاء إلى التقاعد وتقليد القياصرة والأكاسرة، استخدموا من يقوم بتلك الأعمال، فأقاموا من يباشر أمور الدولة عنهم وهم الوزراء، ومن يراقب تصرف العمال في الأمصار وهو صاحب ديوان البريد، ومن يتولى ختم الرسائل وتقييدها وهم أصحاب ديوان التوقيع أو الخاتم، ومن يتولى النظر في ضياعهم وأملاكهم وهم عمال ديوان الضياع، ومن ينظر في حسابات حاشيتهم وخدامهم وهم عمال ديوان الخاص، واقتضت حضارتهم أن يضربوا النقود ويتخذوا الطراز، فأنشأوا دار الضرب وديوان الطراز، ودواوين أخرى بعضها لعرض الرسائل وبعضها لغير ذلك، مثل ديوان الترتيب وديوان العزيز، وهذا ما كان يشبه الباب العالي.

وكان الكاتب في عهد الخلفاء الراشدين هو الذي يتولى الديوان على ما وضعه عمر، فيدون ما يرد من أموال الخراج والجزية وغيرهما، وما ينفق على الجند والعمال والقضاة وغيرهم، ويتولى مكاتبة العمال، فلما اتسعت أعمال الدولة تشعب ذلك الديوان إلى ما يختص بحسابات الخراج والجزية وهو ديوان الخراج، وإلى ما يختص بالنفقة على الجند وغيرهم وهو ديوان الزمام والنفقة، وإلى ما يتعلق بغير ذلك مثل ديوان الإقطاع وديوان المعادن، وإلى ما يختص بتدوين أسماء الجند وطبقاتهم ورواتبهم وهو ديوان الجند، وتفرع من ديوان الجند ديوان الأساطيل وديوان الثغور وغيرهما، وأفردوا لمراسلات العمال وغيرهم ديوانًا خاصًّا هو ديوان الرسائل أو الإنشاء.

وكان بيت المال مخزنًا عامًّا لكل أموال المسلمين، فتفرع في أيام الأمويين والعباسيين إلى عدة فروع، بعضها لأموال الصدقات، وبعضها لأموال المظالم، وبعضها لأموال الورثة، وبعضها لغير ذلك، وعلى هذا النمط تشعبت المناصب الأخرى، فتفرع من القضاء ديوان المظالم والحسبة والشرطة ونحو ذلك مما لا يمكن حصره.

وشأننا في هذا المقام النظر في نشأة الدواوين الأساسية وتاريخها وسائر أحوالها، ولا ينجلي ذلك إلا إذا نظرنا في أصولها وكيف تكونت وتفرعت، والأحوال التي دعت إلى ذلك، فنبدأ بالخلافة وتوابعها وملحقاتها، فولاية الإقليم، فالوزارة، ثم نفرد لكل من الجند والمال وغيرهما بابًا خاصًّا.

١  الكَل (بفتح الكاف) اليتيم … والعيال والثقل والذي لا ولد له ولا والد والضعيف.
٢  الدميري ٢١٠ ج٢ «نقلًا عن المهذب».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤