شارات الخلافة

وشارات الخلافة أيضًا ثلاث: الخطبة، والسكة، والطراز.

(١) الخطبة

هي الدعاء للخلفاء على المنابر في الصلاة، وأصلها أن الخلفاء كانوا يتولون إمامة الصلاة بأنفسهم فكانوا يختمون فروض الصلاة بالدعاء للنبي والرضا عن الصحابة، فلما فتحوا البلاد وبعثوا إليها العمال، صار الولاة يتولون إمامة الصلاة في ولايتهم، فكانوا إذا صلوا ختموا الصلاة بالدعاء للخلفاء، وأول من فعل ذلك منهم عبد الله بن عباس لما تولى البصرة على عهد الإمام علي، فإنه وقف على منبر البصرة وقال: «اللهم انصر عليًّا على الحق»١ واتصل العمل على ذلك فيما بعد، وصار الدعاء للخليفة في بلاده علامة سلطانه عليها، ولما ضعف شأن الخلفاء في بغداد كان المتغلبون من السلاطين أو الأمراء يشاركون الخلفاء بذلك فيذكرون أسماءهم بعدهم، ثم صار السلاطين يستقلون في الدعاء لأنفسهم، ولا يزال الدعاء على المنابر لأولي الأمر إلى اليوم.

(٢) السَّكة والنقود

ومن شارات الخلافة — أو هي شارات الملك على الإطلاق — الختم على النقود بطابع من حديد ينقش فيه اسم الخليفة أو السلطان ويقال لها السكة، وهي لازمة للدولة وإليك خلاصة تاريخها.

(٢-١) نقود العرب قبل الإسلام

كان العرب قبل الإسلام يتعاملون بنقود كسرى وقيصر، وهي الدراهم والدنانير، وكانت الدنانير على الإجمال نقودًا ذهبية، والدراهم نقودًا فضية بما يقابل الجنيه والريال عندنا، وكانوا يعبرون عن الذهب بالعين، وعن الفضة بالورق، وكان عندهم أيضًا نقود نحاسية، منها الحبة والدانق، ومرجع قيمة هذه النقود إلى الوزن، لأن المراد بالدينار قطعة من الذهب وزنها مثقال عليه نقش الملك أو السلطان الذي ضربه، والمراد بالدرهم وزن درهم من الفضة، ويسمونه الوافي، ويقدرون الدينار اليوم بثمانية وأربعين قرشًا مصريًّا، وكان الدينار عندهم عشرة دراهم، وربما اختلفت قيمته إلى ١٣ أو ١٥ درهمًا أو أكثر، على حسب الأحوال، فكان الدرهم يقابل أربعة قروش ونصف في المتوسط.

الدراهم

وقد ذكر صاحب الأحكام السلطانية أن الدراهم الفارسية كانت ثلاثة أوزان منها درهم على وزن المثقال عشرون قيراطًا وهي الدراهم البغلية، ودرهم وزنه اثنا عشر قيراطًا، ودرهم وزنه عشرة قراريط، وذكر غيره دراهم وزن الواحد منها ستة مثاقيل ويسمونها الدراهم السمرية الثقال، ودراهم وزنها خمسة مثاقيل وهي السمرية الخفاف، وكلها فارسية.

الدنانير

وكانت الدنانير عند العرب قبيل الإسلام صنفين: دنانير هرقلية أو رومية ودنانير كسروية أو فارسية، وكذلك كانت الدراهم، ولكن الغالب أن تكون معاملتهم بالدنانير الرومية والدراهم الفارسية، ولذلك كانت الهرقلية أعز عندهم وأرغب، حتى ضربوا المثل بجمالها وزهوها.

figure
الدينار الرومي.
والدينار لفظ لاتيني، والأصل فيه الدلالة على قطعة من الفضة تساوي عشرة آسات، والآس درهم من دراهم الروم، والدينار ضرب أولًا لهذه الغاية، وهو مشتق عندهم من Deni أي عشرة، وكان وزنه سبع الأوقية الرومانية أو جزء من مائة من الرطل «الليبرة»، أي أنهم كانوا يقسمون الليبرة من الفضة إلى مائة دينار، ثم ضربوه مع الذهب، فصار عندهم ديناران: الواحد من الفضة، والآخر من الذهب، وعنهم أخذ الفرس فضربوا نقودًا مثلها وسموها باسمها.
figure
الدينار الفارسي.

(٢-٢) النقود الإسلامية

وما زال العرب يتعاملون بالنقود الرومية والفارسية، حتى ظهر الإسلام وافتتحوا البلاد وأسسوا الدولة الإسلامية فعمدوا إلى إنشاء تمدنهم، فكان في جملة عوامله السكة، فضربوا الدراهم والدنانير أولًا مشتركة بينهم وبين الروم والفرس، منها قطعة ضربها خالد بن الوليد في طبرية في السنة الخامسة عشرة للهجرة، وهي على رسم الدنانير الرومية تمامًا بالصليب والتاج والصولجان ونحو ذلك، وعلى أحد وجهيها اسم خالد بالأحرف اليونانية Xaved وهذه الأحرف (Bou)، ويظن الدكتور مولر المؤرخ الألماني ناقل هذا الاسم أنها مقتطعة من «أبو سليمان» كتبه خالد بن الوليد.
figure
نقود خالد بن الوليد.

وهناك قطعة أخرى ضربت باسم معاوية، ولكنها على مثال دينار من دنانير الفرس برسمه وشكله إلا اسم معاوية عليه، وقد نقلنا رسمه عن الدكتور مولر المشار إليه أيضًا.

figure
نقود معاوية بن أبي سفيان.

وذكر الدميري في كتاب «حياة الحيوان» ضربًا من النقود يقال لها البغلية، قال إن «رأس البغل» ضربها لعمر بن الخطاب بسكة كسروية عليها صورة الملك وتحت الكرسي مكتوب بالفارسية «نوش خور» أي: كُلْ هنيئًا.

وذكر المرحوم جودت (باشا) أنه رأى نقودًا ضربها الأمراء والولاة في عهد الخلفاء الراشدين، أقدمها ضرب سنة ٢٨ﻫ في قصبة هرتك طبرستان، وعلى دائرها بالخط الكوفي «بسم الله ربي»، ورأى نقدًا مضروبًا سنة ٣٨ﻫ على دائرته هذه العبارة أيضًا، ونقدًا ضرب سنة ٦١ﻫ في يزد على دائرته «عبد الله بن الزبير أمير المؤمنين» بخط بهلوي، وقال المقريزي:

وأول من ضرب المعاملة في الإسلام عمر بن الخطاب في سنة ثماني عشرة من الهجرة على نقش الكسروية وزاد فيها «الحمد لله محمد رسول الله»، وفي بعضها «لا إله إلا هو» وعلى جزء منها اسمه «عمر»، وعبد الله بن الزبير ضرب بمكة دراهم مستديرة، وهو أول من ضرب هذه الدراهم ونقش بدائرها «عبد الله» وبأحد الوجهين «محمد رسول الله» وبالآخر «أمر الله بالوفاء والعدل».

(٢-٣) عبد الملك والنقود

على أن هذه المسكوكات لم تكن تعتبر رسمية في الدول الإسلامية، بل كانت أكثر معاملاتهم بالنقود الرومية والفارسية، فاتفق في أيام عبد الملك بن مروان «سنة ٦٥–٨٦ﻫ» أن هذا الخليفة أراد تغيير الطراز من الرومية إلى العربية كما سيجيء، فشق ذلك على ملك الروم، فبعث إليه يهدده بأن ينقش على دنانيره شتم النبي فعظم هذا الأمر على عبد الملك، فجمع إليه كبار المسلمين واستشارهم، فأشار عليه أحدهم بمحمد الباقر أحد الأئمة الاثني عشر من الشيعة وكان يقيم في المدينة، فلم يشأ عبد الملك أن يستنجد أحد أئمة بني هاشم — وهم مناظروه في الملك — لكنه لم يَرَ بدًّا من استقدامه فكتب إلى عامله في المدينة أن «أشخص إليَّ محمد بن علي بن الحسين مكرمًا ومتعه بمائة ألف درهم لجهازه و٣٠٠٠٠ لنفقته، وأرح عليه في جهازه وجهاز من يخرج من أصحابه»، فلما قدم محمد إلى دمشق استشاره عبد الملك فيما ينويه ملك الروم في الإساءة بالإسلام، فقال محمد «لا يعظم هذا عليك، ادع هذه الساعة صناعًا فيضربون بين يديك سككًا للدراهم والدنانير، وتجعل النقش عليها صورة التوحيد وذكر رسول الله «ص» أحدهما في وجه الدرهم أو الدينار والآخر في الوجه الثاني، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه والسنة التي تضرب فيها تلك الدراهم والدنانير، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهما عددًا — من الأصناف الثلاثة التي العشرة منها وزن عشرة مثاقيل، وعشرة منها وزن ستة مثاقيل، وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل، فتكون أوزانها جميعًا واحدًا وعشرين مثقالًا — فتجزئها من الثلاثين فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل، وتصب صنجات من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان، فتضرب الدراهم على وزن عشرة مثاقيل، والدنانير على وزن سبعة مثاقيل».

ففعل ذلك عبد الملك، وبعث نقوده إلى جميع بلدان الإسلام، وتقدم إلى الناس في التعامل بها، وهدد بقتل من يتعامل بغير هذه السكة من الدراهم والدنانير وغيرها، وأن تبطل تلك وترد إلى مواضع العمل حتى تعاد إلى السكة الإسلامية.

هذا ما قاله الدميري، ولكن ابن الأثير ينسب هذا الرأي إلى خالد بن يزيد بن معاوية، وغيره ينسبه إلى غيره، وتسمى دنانير عبد الملك الدنانير الدمشقية، وأمر الحَجاج عامله في العراق أن يضرب الدنانير على ١٥ قيراطًا من قراريط الدنانير، ثم صار أمراء العراق يضربون النقود لبني أمية في الأكثر.

(٢-٤) نقش النقود

ونقش نقود بني أمية على أحد الوجهين في الوسط «لا إله إلا الله وحده لا شريك له» وحول ذلك «بسم الله ضرب هذا الدرهم في بلد كذا سنة كذا» وفي الوجه الآخر بالوسط «الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد» وحولها «محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون» وكانت هذه الكتابة تنقش على الدينار والدرهم على السواء.

figure
نقود عبد الملك بن مروان.

وأبطل المسلمون استخدام النقود الرومية والفارسية وغيرها من ذلك الحي، وأجود نقود بني أمية الهبيرية التي ضربها لهم عمر بن هبيرة، والخالدية نسبة إلى خالد بن عبد الله البجلي، واليوسفية التي ضربها يوسف بن عمر، وكلهم من عمال العراق لبني أمية، فلما أفضت الخلافة لبني العباس لم يكن المنصور يقبل في الخراج من نقود بني أمية سواها.

figure
نقود إسلامية صقلية.

وللنقود الإسلامية تاريخ طويل لا محل له هنا، وفي كتابنا «تاريخ مصر الحديث» رسوم أكثر النقود الإسلامية وأسماء ضاربيها، ولكننا نقول بالإجمال إن المسكوكات الإسلامية ضربت في كل عواصم الإسلام وفي أشهر مدنها في العراق والشام والأندلس وخراسان وصقلية والهند وغيرها، وهي تختلف رسمًا وسعة ونصًّا باختلاف الدول والعصور.

وكانت الكتابة على النقود تنقش بالحرف الكوفي، ثم تحولت إلى الحرف النسخي الاعتيادي سنة ٦٢١ﻫ في أيام العزيز محمد بن صلاح الدين الأيوبي بمصر.

figure
نقود العزيز بن صلاح الدين.

ويظهر أنهم لم يكونوا يذكرون اسم البلد الذي ضربت النقود فيه إلى أوائل القرن الثاني للهجرة، وكانوا إذا ذكروا تاريخ الضرب سبقوه بلفظ «الستة» ثم أبدلوها بلفظ «عام»، وكثيرًا ما كانوا يقولون شهور سنة كذا أو شهور عام كذا أو في أيام دولة فلان، وكان يكتب التاريخ أولًا بالحروف على حساب الجمل ثم كتب بالأرقام، وأقدم ما عثروا عليه مؤرخًا بالأرقام سنة ٦١٤ﻫ.

(٢-٥) دار الضرب

وكانت دار الضرب ضرورية للدولة كما نراها ضرورية في هذه الأيام، إذ لا تخلو دولة من دول الأرض المتمدنة من دار تضرب فيها النقود، وكان ذلك شأن الدول الإسلامية في كل أدوارها، ولم تكن تخلو عاصمة أو قصبة من دار للضرب، في بغداد والقاهرة ودمشق والبصرة وقرطبة وغيرها شيء كثير، وكان لدار الضرب ضريبة على ما يضرب فيها من النقود يسمونها ثمن الحطب وأجرة الضراب، ومقدار ذلك درهم عن كل مائة درهم أي واحد في المائة، وربما اختلفت هذه الضريبة باختلاف المدن، فكان للدولة من ذلك دخل حسن.

وأما مقدار ما كان يضرب في الدولة من النقود فيختلف كثيرًا، ويتعذر تقديره لاختلاف أحوال السَّكة عندهم، فقد يمر على الدولة أعوام وهي تتعامل بنقود دولة أخرى ولا دار للضرب عندها، أو ربما كانت تضرب نقودًا في عاصمتها وتتعامل بنقود غيرها أيضًا مما لا يمكن ضبطه، ولكننا نأتي بما اتصل بنا من هذا القبيل على سبيل المثال، فقد ورد في نفح الطيب للمقري أن دار السكة في الأندلس بلغ دخلها من ضرب الدراهم والدنانير على عهد بني أمية في القرن الرابع للهجرة ٢٠٠٠٠٠ دينار في السنة وصرف الدينار ١٧ درهمًا، فإذا اعتبرنا هذا الدخل باعتبار واحد في المائة عن المال المضروب، بلغ مقدار ما كان يضرب في الأندلس وحدها من ممالك الإسلام ٢٠٠٠٠٠٠٠ دينار أو نحو عشرة ملايين جنيه، وذلك نحو ضعفي ما كانت تضربه إنجلترا قبل الحرب العالمية الأولى وهي في إبان قوتها الاقتصادية وثبات عملتها، فإذا أضيف إليها ما كان يضرب في القاهرة عاصمة الدولة الفاطمية، وفي بغداد عاصمة الدولة العباسية، وفي غيرها من المدن الإسلامية يومئذ، كان مبلغ ذلك شيئًا كثيرًا.

وكانت صناعة ضرب النقود في تلك العصور لا تزال في أبسط أحوالها، وهي عبارة عن طابع من حديد تنقش فيه الكلمات التي يراد ضربها على النقود مقلوبة، ثم يقسمون الذهب أو الفضة أجزاء بوزن الدنانير أو الدراهم، ويضعون الطابع فوق تلك القطعة ويضربون عليها بمطرقة ثقيلة حتى تتأثر وتظهر الكتابة عليها، وكانت هذه الحديدة تسمى أولًا «السكة»، ثم نقل هذا المعنى إلى أثرها في النقود وهي النقوش، ثم نقل إلى القيام على ذلك العمل والنظر في استيفاء حاجاته وشروطه وهي الوظيفة، فصار علمًا عليها، ويدخل في دار الضرب كثير من الوظائف، وفيها عدد كبير من العمال، من الوازن والضارب وصاحب العيار وغيرهم.

(٣) الطراز

ومن شارات الخلافة أيضًا الطراز، وهو قديم في الدول من عهد الفرس والروم، وذلك أن يرسم الملوك والسلاطين أسماءهم أو علامات تختص بهم في طراز أثوابهم المعدة للباسهم من الحرير أو الديباج أو الإبريسم، كأنها كتابة خطت في نسيج الثوب لحامًا وسدى بخيط من الذهب، أو بما يخالف لون الثوب من الخيوط الملونة من غير الذهب، ما يحكمه الصياغ بحيث تصير الثياب الملوكية معلمة بذلك الطراز، للدلالة على أن لابسها من أهل الدولة من السلطان فما دونه، كما هي الحال في لباس أجناد هذه الأيام، فترى على بعضهم شرائط القصب والأزرار الصفراء ونحوها من علامات الرتب، كرسوم التيجان والسيوف والنجوم ونحوها.

وكان ملوك الفرس والروم يجعلون رسم ذلك الطراز بصور ملوكهم وأشكالهم، أو صور أخرى تشير إلى الملك، فلما استقر المسلمون على عرش الأكاسرة والقياصرة وعظمت دولتهم أحبوا الاقتداء بهم، ولم يستحسنوا اتخاذ الصور فاعتاضوا بكتابة أسمائهم وكلمات أخرى تجري مجرى الفأل أو الدعاء.

(٣-١) الطراز العربي

وأول من نقل الطراز إلى العربية من ملوك المسلمين عبد الملك بن مروان الأموي، لأن الخلفاء الراشدين ظلوا على سذاجة البداوة كما تقدم، فلما أفضت الخلافة إلى بني أمية وخالطوا الروم، وساروا على خطواتهم في أكثر شؤون دولتهم، وكان في جملة ذلك الطراز على أثوابهم وستور منازلهم وقراطيسهم «والقراطيس بُرَدٌ مصرية كانوا يحملون بها الآنية والثياب» فاتخذ المسلمون الطراز كما كان عند الروم والكتابة عليه بالرومية، وظلوا على ذلك أيام عبد الملك بن مروان فجعله في العربية، وبدأ بالقراطيس وكانت تنسج بمصر، وأكثر من في مصر لا يزال على النصرانية، فكانوا يطرزونها بالرومية وطرازها «بسم الآب الابن والروح القدس»، فظهر الإسلام وفتحت مصر والشام والطراز باق على ما كان عليه، وكيفية تنبه عبد الملك لذلك، أنه كان يومًا في مجلسه فمر به قرطاس فرأى عليه الطراز بالرومية، فلاح له أن يستطلع فحواه فأمر أن يترجم بالعربية، فلما وقف على الترجمة أكبر أمرها وقال «ما أغلظ هذا في أمر الدين والإسلام أن يكون طراز القراطيس وغير ذلك مما يطرز من ستور وغيرها من عمل مصر تدور في الآفاق والبلاد وقد طرزت على هذه الصورة»، ثم كتب إلى أخيه عبد العزيز بن مروان عامله على مصر بإبطال ذلك الطراز، على ما كان يطرز به من ثوب وقرطاس وغير ذلك، وأن يستبدلوا تلك العبارة بصورة التوحيد «لا إله إلا هو» ففعل، وظل هذا طراز القراطيس في سائر أيام الدول الإسلامية، ولم يغير شيء من جوهره، وكتب عبد الملك إلى عمال الآفاق جميعًا بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم، ومعاقبة من يخالف ذلك بالضرب الوجيع والحبس الطويل.

فلما حُملت هذه القراطيس إلى بلاد الروم، وعلم الإمبراطور بخبرها وعلم ترجمة ما فيها أنكره واستشاط غيظًا، فكتب إلى عبد الملك «إن عمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم ولم يزل يطرز بطرازهم، فإن كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت، وإن كنت قد أصبت فقد أخطأوا، فاختر إحدى الحالتين» وبعث إليه بهدية يسترضيه بها للرجوع إلى الطراز، فرد عبد الملك الهدية وأخبر الرسول أن لا ردَّ عنده، فأعاد إليه أضعافها وطلب الجواب، فلما لم يرد عليه جوابًا غضب الإمبراطور وبعث يهدد بنقش سب النبي على النقود، فكان ذلك داعيًا إلى تنبه عبد الملك إلى ضرب النقود الإسلامية الحقيقية كما تقدم.

ذلك ما كان من أمر القراطيس، والظاهر أن المسلمين تنبهوا للطراز على الأثواب من ذلك الحين، فجعلوا على ملابس أجنادهم ورجال دولتهم شارة الخلافة، وهي اسم الخليفة أو لقبه أو نحو ذلك، وبقاء هذا الطراز على شارات الدولة وبنودها وكسائها يدل على بقاء سلطانها، فإذا أراد أحد الولاة الخروج من طاعة الخليفة قطع الخطبة له وأسقط اسمه من الطراز، كما فعل المأمون لما بلغه وهو على خراسان أن أخاه الأمين نكث بيعته.

(٣-٢) دور الطراز أو الكسوة

وأنشأ الخلفاء للطراز دورًا في قصورهم تسمى دور الطراز، لنسج أثوابهم وعليها تلك الشارة، وكان القائم على النظر فيها يسمى «صاحب الطراز»، وهو ينظر في أمور الصياغ والآلة والحاكة فيها ويجري عليهم أرزاقهم ويشارف أعمالهم، وبلغت تلك الدور أفخم أحوالها في أيام الدولتين الأموية والعباسية، وكانوا يقلدون أعمال هذه الدور لخاصة دولتهم وثقات مواليهم، وكذلك كانت الحال في دولة بني أمية بالأندلس، وفي الدولة الفاطمية بمصر، ومن كان على عهدهم من ملوك العجم.

ومن هذا القبيل ما كان يسمى في الدولة الفاطمية بدار الكسوة، وكان يفصل فيها جميع أنواع الثياب والبز وقيمة ما كان يخرج منها من الكسي ٦٠٠٠٠٠ دينار في العام، وكانت خلعهم على الأمراء الثياب الديبقي والعمائم بالطراز الذهب، وكانت قيمة طراز الذهب والعمامة خمسمائة دينار، وكانوا يفرقون الكسوات مرتين في العام، مرة لتفريق كسوة الصيف، ومرة لتفريق كسوة الشتاء، على جميع أهل الدولة من الخدم والحواشي من العمامة إلى السراويل، وقدروا عدد القطع التي صدرت منها سنة ٥١٦ﻫ فبلغت ١٤٣٠٥ قطع، وفي المقريزي فصل خاص في تعداد ضروب الألبسة التي كانت تفرق في تلك الدار.

وما زالت دور الطراز في الدول الإسلامية على نحو ما تقدم، حتى ضاق نطاق تلك الدولة وضعف أمرها وتعددت فروعها، فتعطلت هذه الوظيفة من أكثرها، ولكن الطراز نفسه لم يبطل في ملابسهم، على أنهم لم يعودوا يصنعونه في دورهم، بل صاروا ينسجون ما تطلبه الدولة من ذلك عند صناعه من الحرير أو من الذهب الخالص، ويسمونه المزركش ويرسم اسم السلطان أو الأمير عليه، كذلك فعل السلاطين المماليك بمصر، ويشبهه في الدولة العثمانية رسم الطغراء العثمانية، والشرائط المزركشة على ألبسة الضباط وغيرهم من رجال الدولة، والعلامات الأخرى في الدول الأخرى.

وأما الهلال في الدولة العثمانية فلم نقف على ما يقابله في دول الخلفاء سوى ما كان يؤخذ من ألوان الرايات عندهم، واختصاص كل لون بدولة كما سيجيء، والظاهر أنهم كانوا يطرزون أسماء الخلفاء أو ألقابهم على راياتهم وأسلحتهم، كما كانوا يضربونها على نقودهم.

فقد ذكر ابن خلكان في ترجمة العزيز بالله الفاطمي، أن مملكته اتسعت وفتحت له حمص وحماه وشيزر وحلب، وخطب له المقلد بن المسيب صاحب الموصل بالموصل وضرب اسمه على السكة والبنود. وفي كلام أبي الفداء عن استيلاء بجكم على بغداد أنه اتصل بخدمة ابن رايق وانتسب إليه حتى كتب على رايته «الرايقي»، فالظاهر أن تطريز الاسم على الرايات والبنود بعد أن كان خاصًّا بالخلفاء في أوائل الإسلام شاع في أواخر الدولة بين الأمراء وكل ذي سلطان.

figure
اسم السلطان بيبرس.

وكانوا يعدون من قبيل شارات الملك أيضًا السرير والمنبر والتخت والكرسي، وذكروا من شارات الخلافة الآلة وهي الألوية «وهي الأعلام» الرايات والموسيقى. سيأتي الكلام عليها في باب الجند.

١  ابن خلدون ٢٢٥ ج١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤