الفصل الأول

المنهج العلمي … لماذا؟

(١) مدًى واسع ممتد

قبل الخوض في تعريف مفهوم المنهج العلمي والتعرُّف على أبعاده وآفاق عالمه، نسأل قَبلًا: لماذا هذا الخوض؟ لماذا يُعَد طرح مفهوم المنهج العلمي مهمةً وأمانة ورسالة؟ ولماذا يُعَد اكتساب هذا الطرح تنميةً عقلية حقيقية ومبتغاة؟

قد يبدو للوهلة الأولى أن الإجابة على هذا، تأتي توًّا من حَلَبة المنهج العلمي؛ أي البحث العلمي ذاته كقوة عظمى امتلكها الإنسان، وأهم مُنتَج مؤثِّر في واقعه، لتكون الإجابة: إن الطرح المتكامل لمفهوم المنهج العلمي، المستشرف للآفاق والمستقصي للجذور — على نهج الطرح الفلسفي — إنما يجعل العلماء أكثر ألفةً بعالمهم، يضع النقاط على الحروف، فيزداد طريق التقدم العلمي وضوحًا، وتزداد معدلاته صعودًا.

ربما يكون هذا جانبًا من الإجابة على السؤال المطروح، ولكنه ليس الإجابة كلها ولا حتى أهم ما فيها، الفلسفة حين تعمل على تعريف وتقنين مفهوم المنهج العلمي، فإنها لا تجرِّد محض طريقة يتَّبعها العلماء في بحوثهم، كأدواتٍ فنية خاصة بأهل حرفةٍ بعينها وإن علا شأنُها، إنما تُبلوِر أسلوبًا من أساليب التفكير الملتزم والمثمر، هو أنجع طريقة امتلكها الإنسان للتعامل مع الواقع وحل مشكلاته. يقول جان فوراستيه Jean Fourastie: «إن للمنهج العلمي مدًى يمتد من العالِم إلى الإنسان المتوسط، ومن الميكانيك الموجية إلى الأحداث المبتذلة في الحياة اليومية؛ فليس هناك مجالان منفصلان: مجال العلم ومجال الحياة. والمنهج العلمي ليس تقنية خاصة بذوي الاختصاص، كما يختص خبراء التأمين بنظام الاحتمالات، والقضاة بالقانون، وعلماء الآثار المصرية بالهيروغليف، بل هو أحد الوسائل المعطاة لكل إنسان، وأكثر هذه الوسائل سهولةً وضمانًا لمعرفة العالم، الذي انتظم فيه الإنسان: الكون والأرض والنباتات والحيوانات والأشخاص.»١

المنهج العلمي في جوهره آلية إيجابية فعَّالة، لتَعامل الإنسان مع وقائع عالمه، تقوم على التآزر والتحاور بين قدرات الذهن ومعطيات الحواس، وهذه آلية كامنة في كل عقلٍ بشري، وتبلغ أقصاها في البحث العلمي، تمامًا كما نقول إن القدرة الفنية كامنة في كل إنسان، وأي طفل لا بد أن يمارس الرسم، لكن هذه القدرة تبلغ أقصاها مع الفنانين العظام، أو أن القدرة على الكتابة كائنة لدى البشر أجمعين، وأي تلميذ لا بد أن يكتب موضوع الإنشاء، لكن هذه القدرة تبلغ أقصاها لدى الكتَّاب العظام. كذلك آلية الحوار الإيجابي المثمر بين الذهن ووقائع العلم كائنة في كل العقول، في مدًى واسع ممتد، وينبغي العمل على تنميتها دائمًا، وهذه الآلية تبلغ أقصاها وذروتها في العلم والبحث العلمي.

وإذ نستقي خلاصة طريق وطريقة العلماء في معاملهم نشدانًا لتقنين هذه الآلية، نجدها تقوم على فرضٍ أبدعه عقل الإنسان/العالِم، يخرج منه بنتائج جزئية يهبط بها إلى الواقع التجريبي ليختبر الفرض، فيقبله أو يعدِّله أو يرفضه، ليكون مسير ومصير الفرض في نسق العلم وفقًا لشهادة التجريب على كفاءته في حل المشكلة المطروحة للبحث، وأداء المهام المعرفية التي وُضع من أجْلها. إنه الحوار الخصيب والتآزر الجميل المثمر بين العقل والتجريب، الفهم والحواس، اليد والدماغ، الفكر والواقع؛ لذا كان المنهج العلمي صورة مثلى لما يمكن أن نسميه: العقلانية التجريبية. وفي تفعيل هذا نتعلَّم تكاملًا بين مَلَكتين إدراكيتين أو القوتين المعرفيتين، فلا جنوح لطرفٍ ولا إقصاء لآخر.

في المنهج العلمي يتجلى العقل حين يرسم سبلًا موجَّهة ناجحة، حين ينطلق بمجمل طاقاته وقدراته أقصى انطلاقة في محاولاته الجسورة لوضع الفروض العلمية، لكنها دونًا عن كل انطلاقات العقل، ملتزمة بالواقع بما تنبئ به التجربة، لتتعدل الفروض أو تُقبل أو تُلغى وفقًا له. المنهج العلمي التجريبي يُنصِت لشهادة الحواس ومعطيات الوقائع، فتعيِّن موضع الخطأ والكذب في الفرض حين يتعارض معها، يتم تصحيحه والبحث عن فرضٍ جديد متلافٍ لذلك الخطأ، يُعرض بدوره على محكمة التجريب، ويتم تعديله بفرضٍ جديد … وهكذا دواليك في متواليةٍ لتقدمٍ لا يتوقف أبدًا. البحث العلمي فعالية مستمرة، تحمل في صلب ذاتها عوامل لتناميها وتقدُّمها المتواصل دومًا. كل إجابة يُتوصَّل إليها تطرح تساؤلات أبعد، فيؤدي كل تقدُّم إلى تقدمٍ أعلى. ومهما علونا في مدارج التقدُّم فلن تغلق المعامل أبوابها، ولن ينتهي البحث العلمي أبدًا، بل يزداد حميةً ونشاطًا في سعيه الدءوب المتخطي دومًا لحاضره، مغيِّرًا إياه.

إن العلم صنيعة الإنسان، فعالية نامية باستمرار، كل خطوة قابلة للتجاوز، للتقدم؛ لذلك ليس العلم بناءً مشيدًا من حقائق قاطعة، بل هو نسق من فروضٍ ناجحة، كل يوم فروض أنجح من سابقتها، أجدر وأقدر على الوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة. كل يوم جديد يتلافى أخطاء وقصورات القديم، فيلغيه أو على الأقل يستوعبه ويتجاوزه، ويقطع في طريق التقدم خطوة أبعد منه، في صيرورة — تغيُّر مستمر نحو الأقرب من الصدق، الأفضل والأقدر.

وفي خِضم هذه الحركية التقدمية الجبارة، ينتصب مارد المنهج العلمي، بوصفه الثابت الديناميكي إن جاز التعبير، أو القوة المثمرة الولود لكلِّ ما يتواتر من تغيُّرات. في رحاب هذا المارد تقوم وقائع التجريب بدورِ ناقدٍ قاسٍ، لا يعرف الرحمة حين تعيينه لمواضع الخطأ؛ دور الفيصل والفاروق بين الصدق والكذب، القاضي الحاتم ذي الحُكم الموجب النفاذ: إنها مسئولية عسيرة أمام الواقع والوقائع، لا يقوى على الاضطلاع بها إلا المنهج العلمي.

ولعل تفعيل المنهج العلمي في مداه الواسع الممتد، يمكن أن يأتي بأبسط نواتجه في أن نضطلع بشيءٍ من هذه المسئولية إزاء الواقع والوقائع، مما يؤدي إلى كبح جماح الاسترسال في الإنشائيات والخطابيات، والخوض في لغو القول، والأغاليط، والمكابرة، والدفاع عن القضية ونقضيها، فضلًا عن الدفاع عن قضيةٍ خاسرة، تشهد الوقائع ببطلان أسانيدها … أو استمرار وسائل فاشلة تشهد الوقائع بعجزها عن بلوغ غاياتها؛ إنه مدًى واسعٌ ممتد.

(٢) تقدمية والروح نقدية

نلاحظ كيف فَرضت مقولةُ التقدم والتقدمية ذاتها، منذ مستهل حديثنا عن المنهج العلمي، ويحق القول إن البحث العلمي هو التمثيل العيني لمقولة التقدم في حضارة البشر، والمضمار الوحيد فيها الذي يملك ضمانات كافية، تشهد بأن غده سيكون أثرى وأقوى من يومه، مثلما جاء يومه أثرى وأقوى من أمسه.

التقدُّم Progress يعني السَّيْر قُدُمًا إلى الأمام، وهذه الكلمة الإنجليزية مأخوذة من الكلمة اللاتينية Progressus، التي تعني قطْع حيِّز إلى الأمام، سواء في الزمان أو في المكان؛ قطع مسافة في السَّير، وأيضًا تقدُّم في العمر. وقد برز مفهوم «التقدم» كمصطلح فلسفي مهم في العقود الأخيرة من القرن السابع عشر، ليفيد قيمة إيجابية تمثِّلها حركة خطية، ليست دائرية وليست تراجعية. وقامت مقولة التقدم بدورها المعروف في الفكر الغربي، وكانت من مقدمات عصر التنوير في القرن التالي. وأخيرًا جاء عصر ما بعد الحداثة في النصف الأخير من القرن العشرين، وطُرح مفهوم التقدم لمناقشاتٍ مستجدَّة في الفكر الغربي. ومن ناحيةٍ أخرى، كان الفكر الإسلامي في المشرق، قد شهد الحركة الوهابية، التي أكَّدت أن التقدُّم حركة قهقرية. ثم ظهرت تيارات فلسفية لا تمانع في أن ترى التقدم عودةً إلى الوراء، إلى عصورٍ مضت بدت لهم لا تُبارى ولا تُمارى. وبصرف النظر عن هذا وذاك، رُبَّ قائلٍ إن الفن التشكيلي في عصر النهضة أفضل منه الآن، أو إن تأثيث المنازل على الطراز الكلاسيكي أجمل من تأثيثها على الطراز الحديث، أو إن طعام الأجداد أشهى من طعامنا اليوم، أو إن العمارة في مرحلةٍ ما كانت تحمل زخمًا جماليًّا، افتقدناه الآن وكانت مريحة أكثر … إلخ، ولكن لا يقولن أحدٌ البتة إن العلم في أيةِ مرحلةٍ سابقة كان أفضل منه الآن، أو في أيةِ مرحلةٍ لاحقة.
من أجمل جمالات العلم والمنهج العلمي، أن قيمة التقدم فيه محسوسة تمامًا، ولا مجال لخلافٍ أو جدالٍ بشأنها. نعم تموج فلسفة العلم بمناقشاتٍ عاصفة حول طبيعة التقدم العلمي، وهل هو تراكم متوالٍ: كشفٌ فوق كشفٍ ونظريةٌ بجوار نظرية، أم هو ثورة مستمرة: استيعابٌ وتَجاوز مستمر لما هو كائن، انسياب دورات جديدة بمنطلقات جديدة، تتيح دائمًا رؤيةً أوسع وسيطرةً أعلى … أم إن التقدم العلمي حوار جدلي بين التراكم والثورة، بمعنى تراكم تراكم ثم ثورة … تراكم تراكم ثم ثورة.٢ وأيضًا ثمة الجدال حول معايير التقدم العلمي: هل هي معرفية نظرية أم براجماتية عملية، أم كلتاهما معًا؟ ولكن التقدم في حد ذاته؛ مثوله في العلم ومثول العلم فيه، واعتماد المنهج العلمي طريقًا مفضيًا له، مسألة محسومة، قيمة منطقية لها مقاييسها الكمية وتحديداتها الدقيقة.

من أيةِ زاويةٍ التقدمُ في العلمِ غايةٌ منشودة ومأمولة ومتحققة، ببساطةٍ تعني حذف قصورات وأخطاء، تعني مزيدًا من الاقتراب من الصدق/الحقيقة، تعني توصيفات أوفى وقوًى تفسيرية أعلى وتنبؤات أدق، وبالتالي مزيدًا من السيطرة على الظاهرة، ومزيدًا من حلولٍ لمشاكل وتحقيق أهداف، والأجمل أن التقدم ليس فقط غاية منشودة في العلم، ثاوٍ في منهجه، بل هو واقعٌ ماثل متحقق دائمًا.

•••

وكما اتفقنا، المنهج العلمي في جوهره هو العقلانية التجريبية؛ فلا تجريبية فجة غشوم تنحصر في معطيات الحواس، تسوخ فيها بغير أن تشرئب عنها، ولا تحليق للعقل في سُدُم الفكر الخالص المنذرة بالتشتت والتهاويم والجنوح. إنه حوارٌ مستمر وضابط بين الطرفين؛ بين الفكر والواقع. وكما ذكرنا لا جنوح لطرفٍ ولا إقصاء لآخر؛ فيقي من مغبة التطرف المتصلب والمنفلت نحو حدٍّ أو طرف بعينه، تمامًا مثلما يقي المنهج العلمي من وبال القبول الأعمى، لمراسم جاهزة والتصلُّب بين أُطُرها، ما دام كل شيء فيه خاضعًا للاختبار والنقد والتمحيص؛ خاضعًا لمحكمة التجريب.

ليست التجربة معينًا نغترف منه الفرض العلمي، بقدْر ما هي ساحة اختبار الفرض العلمي واستنطاقه واستشهاده واستجوابه وتمحيصه؛ بعبارةٍ: موجزة التجريبية العلمية في جوهرها هي الاختبارية والقابلية للاختبار testability، وأن تكون العبارة تجريبية فهذا يعني أنها قابلة للاختبار، وأن تكون العبارة التجريبية علمية، فهذا يعني أن المنهج العلمي هو اختبارها اختبارًا عسيرًا لأقصى درجة ممكنة. ويمكن أن نلاحظ عبقرية اللغة العربية التي وضعت مصطلح «المختبر» مرادفًا للمعمل، ورمزه النمطي أنبوبة «الاختبار» الشهيرة. إن التجريبية هي الاختبارية، وهي النقدية. الاختبارية النقدية هي سرُّ التقدم المستمر في العلم. والروح العلمية روحٌ نقدية على الأصالة.

•••

يتقدم الآن كارل بوبر Karl R. Popper (١٩٠٢–١٩٩٤م) فيلسوف المنهج العلمي الأكبر، الذي قيل عنه: «إنه المفرد العَلَم الذي يُشار إليه بالبنان، حين طرح السؤال عن المنهج العلمي.»٣ وقد مثَّل كارل بوبر نقطةَ تحوُّل بأن استندت فلسفته على أن الخاصة المنطقية المميزة للعلم، هي القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب، للمواجهة مع الواقع والوقائع، للنقد والمراجعة واكتشاف الخطأ؛ اكتشاف موطن الكذب والتعارض مع الواقع؛ لتصويبه والاقتراب أكثر من الصدق/الحقيقة، فيتأتَّى التقدم المستمر. وضع بوبر معالجته الشاملة للمنهج العلمي ومنطقه، على أساس الاختبارية التكذيبية، التي لا تعدو أن تكون أسلوب النقد المختص بالعلم، والذي يجعله دائم التقدم، مؤكدًا أن النقد دماء الحياة للتفكير العقلاني وللتقدُّم في العلم، وفي الحضارة على الإجمال. إن بوبر في فلسفته الرائدة للمنهج العلمي يعوِّل التعويلَ الأكبر على مفهوم النقد، وقيمة النقد والدور العلمي للنقد، حتى وضع بطاقة لفلسفته هي «العقلانية النقدية».

التفكير العلمي هو ذاته التفكير النقدي، والمنهج العلمي منهاج نقدي. النقد بمعناه الحرفي؛ أي بمعنى الحرص الدائم على تصيُّد الأخطاء، وتعيينها من أجل تصويبها، هو لا سواه روح العلم والأنفاس المترددة في صدره، هو مَعلَمه. قد يتبدَّى التفكير العلمي بوصفه المقابل للتفكير الأسطوري، ولكن يمكن القول إن العلم له هو الآخر أساطيره. وقد يقدِّم تصورات يصعب على الحس المشترك، والإنسان العادي في حياته العادية، أن يتقبلها أو يتعايش معها؛ أشهر الأمثلة على هذا نظرية النسبية لآينشتين، حيث تتغير الكتلة بتغيُّر السرعة، والزمن بُعْد رابع يتباطأ هو الآخر بزيادة الكتلة، ويسير بسرعاتٍ واتجاهات مختلفة. والعلم يقدِّم أفكارًا وتصورات حاشدة ومحملة بالكثير، تقوم بدورٍ كبير وتتحمَّل مسئوليات معرفية جسيمة، ثم يقلع عنها وتذوي جانبًا، وأشهر الأمثلة على هذا فرض «الأثير» لتفسير انتقال الضوء والإشعاع؛ لذا أمكن القول بشكلٍ ما إن العلم هو الآخر يصنع أساطير. يظل الفارق الحقيقي الحي بين الفكر العلمي والفكر الأسطوري، أن الأساطير تظل ثابتة على حالها دائمًا، وقد يُضفي عليها التفكير الإيقاني المتزمت (الدوجماطيقي) مزيدًا من الثبات. أما المنزع النقدي في العلم والمنهج العلمي، فيغيِّر دومًا من أساطيره في اتجاه التقدم، والاقتراب الأكثر من الصدق؛ لأن النقد يحذف الخطأ ويقلِّل دومًا نطاقه.

إن المنهج العلمي هو أسلوب التفكير النقدي، هو عقلانية نقدية بقدْر ما هو العقلانية التجريبية. وتبقى ملاحظة أنه في الآن نفسه أسلوب التفكير المبدع، ولما كان هذا الإبداع مسئولًا أمام محكات المنطق وقياسات الواقع، أمكن أن نسميه أيضًا العقلانية الإبداعية.

(٣) إبداع ومسئولية

حين يُقال المنهج العلمي بألِفِ ولامِ العهد كمفردٍ عَلَم، يكون المقصود عادةً هو المنهج التجريبي. وقد اشتهر العلم الحديث بتجريبيته، وبات القول إن العلم تجريبي يشبه القول إن الشمس تشرق في النهار والماء هو الماء. على أن التجريبية كما أشرنا ليست معينًا نغترف منه الفرض العلمي، بل ساحة لاختباره. في المنهج العلمي يجتاز الفرض والتمحيصات المنطقية، والقياسات الكمية الدقيقة والاختبارات التجريبية، ليحصل على جواز المرور إلى نسق العلم، فيمثِّل إضافةً وحصادًا علميًّا وحصيلة معرفية. الفرض الناجح هو اللبنة والإنجاز الملموس. والسؤال الآن: من أين يجيء الفرض أصلًا؟

لعل هذا السؤال يناظر السؤال: من أين يجيء الحب؟ فلا إجابة محددة على أي منهما، وإذا كان هذا سؤالًا عن المصدر؛ «فليس هناك مصدر معيَّن لا سواه للمعرفة. والمعرفة لا تتمتع بأية مصادر غير قابلة للخطأ، لا في الحواس ولا في العقل».٤ كل فرض وكل اقتراح وكل مصدر على الرحب والسعة، ما دام كل اقتراح يمكن تعريضه للنقد، للاختبار واكتشاف أخطائه وتصويبها، والانتقال إلى وضعٍ أفضلَ في صيرورة التقدم المستمر. والمنهج العلمي بعقلانية النقدية، تأطيرٌ لمنطق الكشف العلمي والتقدم الدائم.

وليس المنهج العلمي في هذا خطوات محددة أو طريقًا مرسومًا للوصول إلى الفرض الجديد، إنه ليس طريقًا للكشف، بل منطق له؛ لا يرسم طريق الوصول إلى فرضٍ جديد، بل يرسم أسلوب التعامل مع الفرض وكيفية اختباره والتحكم في نتائج الاختبار. نظرية المنهج العلمي تبدأ من الفرض، أما ما قبله وأفضى إليه فليس من اختصاص فلسفة المعرفة (= الإبستمولوجيا) أو فلسفة المنهج (= الميثودولوجيا)، بل من اختصاص علم النفس التجريبي الذي يدرُس ظاهرة الإبداع.

لا يمكن الوصول إلى الفرض العلمي الجديد عن طريق خطواتٍ محددة. الكشف العلمي ليس عملية آلية، بل عملية خلق وإبداع، تأتي من الذكاء الإنساني في تفاعله مع الحصيلة المعرفية، الخيال الخصيب والعبقرية الخلاقة، الإطار الثقافي الملائم الذي يَهِب العالِم محفِّزات للإبداع … كل هذه عناصر فاعلة. ولا يمكن الوصول إلى الإبداع الأصيل في الفن أو في الفكر، أو في أي موقف حياتي عن طريق خطوات محددة. والعلم بدوره أكثر المناشط الإنسانية حيويةً وإبداعية.

لا يأتي الفرض العلمي الجديد إلا بعد إلمامٍ بالحصيلة المعرفية السابقة، وهذا هو ما نسميه: الدرس الجاد، ويجسِّد الطابع الجمعي التعاوني، الذي يميِّز عالم العلم. ثم يقدح العالِم ذهنه ليتوصل إلى حلٍّ للمشكلة المطروحة للبحث. هذا الحل حدس، تنبته الموهبة العلمية الفردية والعبقرية الخلاقة في انشغالها العميق بالمشكلة المطروحة، وإحاطتها بهذه المشكلة درسًا وبحثًا. لقد أكَّد هنري بيرجسون H. Bergson (١٨٥٩–١٩٤١م) على الجهد العقلي العظيم المبذول في كل إبداع، فما بالنا بالإبداع العلمي!
عُني العالم/الفيلسوف هنري بوانكاريه H. Pioncaré (١٨٥٤–١٩١٢م) بالطبيعة الإبداعية الحدسية للكشف العلمي، وأضفى عليه طابع المفاجأة والتركيز، وأنه يأتي إلى ذهن العالم كومضة. وقد كانت أبحاث بوانكاريه من الخطوط التمهيدية، والمقدمات العامة التي تأدت إلى نظرية النسبية الخاصة مع آينشتين. ويظل فرض الكوانتم العبقري، وقد نما وتطوَّر في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، بفعل رعيلٍ من العلماء المبدعين هم بحقٍّ فرسان الكوانتم؛ يظل هذا الفرض مكمن الجمر، وهيكل النور في التعملق الراهن للعلم، واقتحامه الواثق المقتدر الفعال لعالَم ما دون الذرة. الأب الشرعي لفرض الكوانتم هو العالم الألماني ماكس بلانك M. Plank (١٨٥٨–١٩٤٧م)، طرح عام ١٩٠٠م فرض اعتبار الأجسام تكتسب الطاقة أو تعطيها، لا باستمرار كسيل، بل على «كوانتمات»، و«كوانتم» وهو المصطلح الذي اختاره، كلمة لاتينية تعني مقدارًا أو كمية أو وجبة.٥ كشهادةٍ حاسمة يقول ماكس بلانك: «كل فرضية تظهر في عالم العلم تعرض نوعًا من الانفجار المفاجئ، وقفزةً في الظلام لا يمكن تفسيرها منطقيًّا، ثم تدق ساعة ميلاد نظرية جديدة، وبعد أن ترى نور العالم تسعى جاهدة إلى النمو والتقدم باستمرار، ويتوقف مصيرها أخيرًا على المقاييس.»٦

كل كشف علمي يحوي عنصرًا إبداعيًّا حدسيًّا قائمًا على الحب العقلاني لموضوع البحث. تتواتر سِيَر وأقاصيص العلماء أنفسهم، وهم يقررون أنهم توصلوا إلى النظريات العلمية، بالعديد من الطرق المختلفة وليس بأية خطوات محددة، قد تظهر النظرية العلمية كومضة إلهام، في حالات الحلم أو ما يشبه الحلم. أثناء النوم رأى كيكوليه تخطيطه لجزيء البنزين، ورأى مندليف ملامح الجدول الذري، ورأى نيلز بور النظام الشمسي كنموذج للذرة. تشرق النظرية العلمية في الذهن كما يشرق أي إبداع إنساني آخر؛ فقد تومض فجأة، وقد تهبط رويدًا كضياء الفجر.

لذلك نجد مماثلة بين روح العلم وروح الفن، شاعت في فلسفة العلم في العقود الأخيرة من القرن العشرين. وعمل شيخ فلاسفة العلم في فرنسا جاستون باشلار G. Bachelard (١٨٨٤–١٩٦٢م) بالذات على أن يفلسف العلم والفن معًا من المنطلقات القيمية نفسها. عالم الفن من خلق الإنسان، جميع الأعمال الفنية صنعها الإنسان الفنان، وكذلك عالم العلم من خلق الإنسان، وجميع النظريات العلمية من صُنْع الإنسان العالم، يخلقها ثم يحاول فرضها على العالم لتفسِّره، فهي «شِبَاك يحاول بها اصطياد الواقع التجريبي، والجهود مستمرة دائمًا لجعل ثقوبها أضيق وأضيق».٧ ولا يمكن وجود منطق ومنهج لعملية الخلق والإضافة في العلوم أكثر من إمكانية وجوده في الفنون. وكما قيل عن حق: «كعبقرية خلاقة يقف جاليليو ونيوتن وآينشتين على قَدم المساواة مع مايكل أنجلو وشكسبير وبيتهوفن.»

وكشأن الإبداع في الفن، نجد الإبداع في العلم يشترط هو الآخر الخيال الخصيب، بدون الخيال لا إبداع علمي، ولن تكون المحصلة أكثر من بياناتٍ إحصائية. الفنان مبدع والعالم مبدع، الخيال شرط الإبداعية، هو الفارق بين الإنسان المبدع القادر على إضافة تصورات مستجدة، وبين الإنسان العادي الذي يظل محصورًا فيما هو كائن، دون قدرة على الارتفاع عنه والإضافة إليه. الفنان والعالم كلاهما قادر على الإبداع؛ لأنه مسلَّح بالخيال، كلاهما ينطلق مع خياله الخصيب إلى أقصى الآفاق، ولكن الفنان يظل وعمله أو إبداعه الفني هنالك في آفاق الخيال، التي مكَّنته موهبته من الصعود إليها، بل إن الفنان القدير ينتزع المتذوق من عالمه ويجذبه هو الآخر هنالك. أما العالم فسوف ينطلق مع خياله أقصى انطلاقة، تتيح له التوصُّل إلى فرضٍ جسور. وبقدْر جرأة وقوة الخيال، تكون جرأة وقوة الفرض العلمي. وعلى خلاف موقف الفنان نجد العالم عليه أن يعود مجددًا إلى عالم الواقع والوقائع، ليختبر الفرض ويحدِّد مسيره ومصيره. ولن يدخل فرضه عالم العلم أصلًا إلا إذا كان قابلًا للاختبار التجريبي الجاد، الذي يحكم بكذبه حال تناقضه مع وقائع. بتعبير كارل بوبر، الفرض العلمي لا بد أن يكون قابلًا للتكذيب، يحمل في تضاعيفه تنبؤات منطبقة على العالم الذي نحيا فيه. إنها المسئولية إزاء الواقع والوقائع، قد تقوم المحكات المنطقية والرياضية في العلم بدورٍ يناظر دَور المحكات الجمالية في الفن، ولكن استشهاد الوقائع والالتزام بهذه الشهادة ينفرد بها العلم التجريبي، وتميز الإبداع العلمي. المسئولية إزاء الواقع هي التي تميز انطلاقة الخيال الإبداعي العلمي عن أية انطلاقة سواها.

•••

القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب كخاصةٍ منطقية مميزة للقضية العلمية، تبرز لنا أيضًا كيف يتميز المنهج العلمي بدورٍ كبير للأمثلة النافية والوقائع المكذبة. إن مواجهتها والتصويب بهديها وجهٌ من وجوه قصة التقدم العلمي المتواصلة دومًا. المنهج العلمي ملتزم بالبحث عن وقائع مكذبة وأمثلة معارضة إن وُجِدت، مقابل أنماط التفكير الأخرى التي لا تبحث إلا عن الأمثلة المؤيدة والشواهد على صدقها، إن لم تلوِ عنق الوقائع لتكون شاهدة في كل حال.

مجمل القول، إن التجريبية هي القابلية للاختبار، هي القابلية للتكذيب … والتقدم المستمر، هي استشهاد الواقع والالتزام بهذه الشهادة، هي الخاصة المنطقية المميزة للعلم التجريبي ومنهجه. إنها المسئولية إزاء الواقع والوقائع، التي تتجلَّى بوصفها جوهر التجريبية العلمية. ويمكن القول إن هذه المسئولية هي رسالة المنهج العلمي.

المنهج العلمي يستحث العزم على السَّير في طريق الإبداع واستغلال قوى الخيال المنطلق، ولكنه الإبداع المسئول وخيال تُحاسب سبحاته حسابًا دقيقًا. المنهج العلمي إبداع ومسئولية، عقلانية تجريبية تتآزر فيها المَلَكات المعرفية، روح نقدية تقدمية تحمل بين شطآنها قِيَمًا منشودة من قبيل التخطيط والتفكير الملتزم، والتنافس لحل المشكلات في تعددية الرأي والرأي الآخر، ثم الالتجاء إلى محك الواقع المشترك بين الذوات أجمعين للفصل بين المتنافسين. والأهم من هذا كله البحث الدءوب عن الأخطاء والقصورات الكائنة في كل محاولةٍ إنسانية، والمجال المفتوح دومًا للمحاولة أو النظرية الأقدر والأجدر والتقدم الأعلى، وبالتالي الاحتمالية والنسبوية؛ فلا شيء مطلق أو يقيني. نعم هناك التزام ولكن ليس ثمَّة حقيقة نهائية، تُتَّخذ مبررًا لكبح انطلاق العقول والسيطرة، وفرض الوصاية على العقل.

هذه بعض ملامح ناضرة للمنهج العلمي، لاحت لتغري بمزيدٍ من التعريف به والتعرُّف على عالمه. وطريق التعارف المترسم يقتضي أن نطرح الآن التساؤل: ما «المنهج» أصلًا؟

١  جان فوراستيه: معايير التفكير العلمي، ترجمة فايز كم نقش، منشورات عويدات، بيروت، ١٩٦٩م، ص٨، ٩.
٢  في تفصيل فلسفة التقدم العلمي: الفصل الأول، «العلوم الطبيعية … منطق تقدُّمها»، من كتابنا: «مشكلة العلوم الإنسانية: تقنينها وإمكانيات حلها»، ولهذا الكتاب أكثر من طبعة، الطبعة السابعة، دار رؤية القاهرة، ٢٠١١م، ص ٢٢–٥٣.
٣  John Polkinghorne, Beyond Science: Wider Human Context, Cambridge University Press, 1996, P. 14.
وقارن: عرْضنا النقدي لهذا الكتاب الجميل في: ما وراء العلم، السياق الإنساني الأرحب، سلسلة عروض، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، ٢٠٠٠م.
وراجع: د. يمنى طريف الخولي، فلسفة كارل بوبر: منهج العلم … منطق العلم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الثانية، ٢٠٠٢م.
٤  Karl Popper, Conjecture and Refutation: The Growth of Scientific of Knowledge, Routledge & Kegan Paul, London, 4th edition 1976, P. 15.
٥  تعرَّضنا لتفصيل المنظور الفلسفي لنظرية الكوانتم، وكيفية الوصول إليها في الفصل الرابع من كتابنا: «فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول، الحصاد، الآفاق المستقبلية»، الطبعة الأولى من سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ديسمبر ٢٠٠٠م، والطبعة الثانية عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ٢٠٠٨م. وثمَّة عرضٌ أعمق وأكثر تفصيلًا في: رولان أومنيس، «فلسفة الكوانتم: فهم العلم المعاصر وتأويله»، ترجمة د. أحمد فؤاد باشا ود. يمنى طريف الخولي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، أبريل ٢٠٠٨م.
٦  النص مأخوذ من: د. ياسين خليل، «منطق المعرفة العلمية»، منشورات الجامعة الليبية، ١٩٧١م، ص١٧٦.
٧  Karl R. Popper, Logic of Scientific Discovery, 8th impression, Hutchinson, London, 1976, P. 59.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤