نحو مرقص الحياة (٢)

في ليل مسترخي السدول سرت على شط بحر الأيام مع السائرين، سرت نحو مرقص الحياة في ليلة غار نجمها وادلهم ديجورها؛ على شط بحر الأيام سرت مع السائرين بين ما طمسته عصور، وخلفته عصور، وشادته عصور، على شط بحر الأيام سرت أتلمس سبيلًا قريب المنفذ نظيفًا أنيقًا، لئلا تلطخ الأوحال نعلي الإغريقي الأبيض، وتمزق السموم وريقات زهرة رأسي، زهرة الياسمين التي زنت بها رأسي.

أنوار المرقص هناك عيون تناديني، وفي كلٍّ من قدميَّ جناحان يحثانني على الرقص قبل الوصول. يا لطول الطريق المتشعبة في الدجى! يا لطول الطريق! ويا لهول الطريق! أليس من هادٍ يهديني بين جماهير السائرين؟

•••

جاءني خيال سائلًا وفي صوته لهجة المتأدب: إلى أين تقصدين؟

قلت: أرأيت القصر العظيم الذي تتهامس في صدره أسرار الألحان، ونوافذه ألحاظ أنوارٍ تناديني؟ أرأيت القصر العظيم؟ إنما إليه أقصد لأنه مرقص الحياة.

قال: وما عملي إلا قيادة الناس إلى المرقص، قيادة من شاء من السائرين.

قلت مبتهجة: أصحيح ما أنت قائل؟ ومن أنت إذن لتفعل ما أنت فاعل؟

قال يقدم نفسه: أنا الغريب. أنا الغرباء. أنا التاجر والطبيب والمهندس والمحامي والنائب والحاكم. أنا العامل والخادم، والباني والهادم، وأنا المتهم والقاضي. أتعاطى جميع الحرف، وأعمل للناس وهم لي يعملون. أخدمهم في بابي ليكون كل منهم لي في بابه خادمًا. أقدم لهم ما لا يحصلون عليه بدوني، وأعقد فيما بينهم بروابط لولاها ما تبودلت فائدة، ولا اشترك في منفعة. أنا الغريب الذي تجعله المصلحة قريبًا لكل غريب.

قلت: عرفتك يا سيدي. هذا سواري أعطيكه فقدني نحو مرقص الحياة.

في مركبة الغريب سرت مسافة طويلة، قطعنا جبالًا وأودية لم أر منها الصعاب، ولم تتعثر قدمي فيها بالصخور، وإذ وصلنا سلسلة الأطواد المتساندات في حدود الأفق، ودَّعني الغريب لأن مركبته لا تستطيع المسير، ودَّعني الغريب ومضى.

•••

دارُ المرقص اقتربتُ منها قليلًا، ولكن بيني وبينها سلسلة الأطواد المتساندات. رأيتني وحدي، فلذعني البرد، وهدَّدتني دياجير الآفاق، وشاكتني أشياء لم ألمسها بيدي. وإذا خيال يقترب متعمدًا مماشاتي، فوقفت واجفة وسألتُ: من أنت الذي تعترضني في طريقي؟

أجاب وفي صوته شرٌّ واستهزاء مهين: من أنا؟ أنا الدياجير المهددة، وأنا الأشياء الشائكة في الظلام. أنا النميمة والاغتياب والوقاحة والشراسة والامتهان. أنا الشفة التي تبتسم هازئة لأن وراءها أنيابًا تنهش نهشًا. أنا اليد التي تضرب لتثأر بلا ثأر. أنا القلب الذي يكظم الحقد والضغينة بسبب وبلا سبب. أنا الكيد والغيرة والخبث والحسد، وأنا الذم القبيح المختبئ وراء شهد التمليق وتكلف السكوت. أنا العدو. أنا الأعداء.

قلت مرتعشة: لعلك تعني سواي بهذا الكلام. أنا لا أكره أحدًا، ولا أحقد على أحد، ولا أعداء لي. وإذا صدر مني أذًى فإما عن سهو، وإما عن سوء تفاهم، وأنا أول من يتألم له بعد حدوثه.

أجاب وقد تضخمت معاني البغض في صوته: بل إياك أعني، أنا عدوك أنت ولا أستطيع أن أكون لك إلا ذلك. عبثًا تتحاشين طريقي، وعبثًا تتبعين سبل الحذر والتحفظ. سوف أؤذيكِ بأصغر الأسلحة، وأوفرها اقتدارًا، وأحدها مضاءً، وأبعدها عن منطقة العقوبة: اللسان.

وبينا كلماته تنقضُّ عليَّ كالصواعق، توارى عني ففطنتُ لنفسي. فطنت لنفسي فوجدتني أقطع نفقًا ضاق منه الجو، وثقل فيه ضغط الهواء، حتى خِلتُه قبرًا ملأته عقارب توجعني، وحيات تلسعني، وألسنة لهيب تكويني. سرتُ هائمة والعبرات متحجرات في أقاصي قلبي. ولما عثرتُ على منفذ أخرجني من النفق الرهيب، وجدت تحمسي يأسًا، والأجنحة في قدميَّ أغلالًا. خلفت سلسلة الأطواد المتساندات، ولم يبق بيني وبين المرقص إلا منبسطات السهول. عندئذ بكيت ثم مسحت دموعي المتسابقات لأفسح مجالًا لدموع جديدات، ثم قلت: ترى لأي شيء يوجد في الوجود شيء؟

•••

بلطف النسيم امتدَّت اليد إليَّ. يد ترسل أناملها نورًا، وتبعث من حركاتها حرارة تدفِّئ روحي. ولما أن أجفلتُ قال صاحب اليد: هاتي يدك.

فنظرتُ إلى الخيال قائلة: كفاني ما لقيت من الخيالات في طريقي. إني لا أطلب مساعدة أحد، وقد عدلت عن الذهاب إلى المرقص، فدعني وحيدة في كآبتي، دعني في سآمتي ويأسي وحيدة.

قال: لا أستطيع أن أدعك هنا، ولا أنت تستطيعين إلا قبول مساعدتي.

قلت: كيف ذلك؟ ومن أنت؟

قال وكأن ابتسامات الملائكة قد تجمعت في صوته إخلاصًا وحلاوة: أنا الصديق. أنا ذاك الذي يشعر ويدرك ويفهم ويعلم. أنا ذاك الذي يعلم. أنا التعزية وموضع الثقة والأمان. أنا الصديق.

قلت: لا ثقة لي بأحد، وأنا لا أعرفك ولا أريد أن أعرفك.

قال: إرادتك وعكسها عندي سيان. هذه السهول لا يعرف خفاياها غيري. طريقك فيها وليس لك من دليل غيري. وعندي لك رسالة وقد جئتُ مرغمًا لأبلغها إليك.

قلت: ممن هذه الرسالة؟ وما هو مضمونها؟

قال: لا أدري. لقد دفعتها إليَّ يد الخفاء، وحجمها في نفسي يدلني على أنها ليست لي، ثم زاد وفي صوته إلحاح وكآبة: خذيها، هي لك! وستعلمين سرَّها ساعة تأخذينها وتناولينني رسالة أخرى لي عندك. كذلك قال لي الصوت المجهول الذي بعث بي إلى هذا المكان. خذي ما لك وأعطيني ما لي!

•••

إلى بحر الأيام، حوَّلت نظري طالبة إرشادًا، إلا أن صوت الأمواج متشابه لمن لا يسأل، ولكن في أنة الأمواج لكل سائل جوابًا، فارتفع الحباب قليلًا قليلًا ونمق لي الأمثولة بحروف فضية: «يقسم المرء الناس إلى غريب وعدو وصديق؛ فذاك يبتغي الدرهم متاجرًا متأدبًا، والآخر لا يظهر إلا معاندًا معذبًا منتقمًا، وهذا يتكلم باسمًا ودودًا فينطلق صوته وبسمته إلى سويداوات القلوب، ويستقر صوته وبسمته في سويداوات القلوب. وما كان كلٌّ من هؤلاء إلا مؤدبًا مرشدًا إلى سبل الحياة، وما كان كلٌّ منهم إلا أستاذًا يدرس عليه ما لا يعلم من سواه؛ لأنه يحمل في يده رسالة خفية قد أؤتمن عليها من آلهة الغيب والأسرار.»

•••

على شط بحر الأيام سرتُ مع السائرين. ومن منهل الغبطة المتدفق فيَّ سكبت تعزية. ومن الشمس المنيرة في جناني وزعت أنوارًا على الذين معي من السائرين. وزعت من شمس جناني أنوارًا ومن منهل غبطتي تعزية على المحزونين من السائرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤