السهرات الراقصات

دنا موسم السهرات الراقصات فيمَّمها أهلُ المدينة أفواجًا، وسرتُ في جملة السائرين بثوبي القرمزي المردَّن، والقلب يحدوني بشدو الشباب والطرب، وما خطوتُ في القاعة الساطعة خطوة حتى ترنحت لتوقيع العازفات والعازفين، واستحثني تمايل الراقصات والراقصين، فأغفلتُ ذكر اللواعج والتباريح، ونسيت أنه بينا في رحبات الجذل يتمتع السعداء ويلهون إذا في كهوف القدر تتفطر حشاشات وتدمع عيون.

رقصت مع كل راقصٍ ذي كياسة، واحتسيت الكوثر من كئوس عسجدية، وبسمت شفتاي لكل شفة باسمة، ولمعت عيناي لكل عينٍ لامعة. ولما طاف طائفُ الكرى بين أجفاني عدتُ مستوفية السرور إلى مضجعي، ونمتُ نومة طويلة عميقة.

واستيقظت في الغد فأذهلني أن أشعر بترضرضٍ في روحي، وبطعم الفناء في فمي، وبأثقال تميع على صفحة وجداني كأنها أحمال الدماء.

وفي السهرة الثانية حيَّاني أظرف رجل بين الرجال وقال: «هل لك في دورة تتوافق وأنين الأوتار؟»

قلت: «بل عفوتُ اليوم عن نفسي وعن أبناء الأنس أجمعين، فلا هم يتعبون بمراقصتي، ولا أنا أُتحف بتعليقهم عليها.»

قال: «إذن نجلس في خلوة المقصف حيث الشراب والحلوى والمجاملة.»

قلت: «لا، بل على الشرفة الصغيرة حيث النور رقيق يمازج الظلام ولا يزيلهُ. اتصل بي محدِّثٌ ألمعي، فكل سهرتي هذه إصغاء.»

ففتل شاربيه بأناقة، ورنا إلى طرفيهما بإعجاب ثم انحنى شاكرًا لأنه متواضع، ثم سار بي إلى الشرفة وقال: «تفضلي إذن واستريحي على هذا المقعد ذي العلاقة بصاحبة الملايين.»

قلت: «ومن هذه؟ هات بطرف من حكايتها!»

ففعل بظرف وأضحكني شديدًا، ثم قدَّم إليَّ زهرة أهدى مثلها ذلك النبيل إلى تلك العظيمة، وسرد حكايتهما، ثم تلا عليَّ رسالة جاءتهُ من تلك الجميلة، وأخرى وردت إليه من ذلك الوزير، وسرد حكايتهما.

ثم حدثني عن آخرين وأخريات. وكان الراقصون يتتابعون أزواجًا متخاصرة وذاكرة نديمي سجل حفظت صفحاته الأمينة تواريخ الأفراد والجماعات صعودًا إلى آباء الآباء بما يزينها من فضل، وما أقله! وما يشوبها من نقص، وما أوفره! وتطرَّق إلى الإلماع عن تأثيره الحالي في تقسيم الممالك، واتفاق الدول، وعقد المؤتمرات، وسن القوانين. تلك شئون لم يكن ليعرفها أحد، وإنما هو كان يُسِرُّ بها إليَّ لأنه ينظر إليَّ بعين الإكبار والإعجاب، وكل ما يتبع هذين أو يسبقهما من الاعتبارات، فكنتُ أصغي متفكهة ضاحكة؛ إذ أجد فيما يقول ظرفًا لا يبارى، وتوقدًا لا يخمد، وفطنة لا يلحقها كلل أو نضوب، إلا أني كنت أهمس لنفسي: «ليته يسرد لي حكايتي لأعلم كيف هي في الغد تكون!»

وأتينا على آخر السهرة فقلت بإخلاص: «ما كان أقصر هذه الساعة!»

ففتل شاربيه بأناقة، ورنا إلي طرفيهما بإعجاب، ثم انحنى شاكرًا لأنه متواضع، ثم قال مشيرًا إلى رجل بطيء الخطى، مهيب المنظر، مرَّ على مقربة منا؛ قال: «لا أدري ما إذا كانت قصيرة في نظر هذا.»

فسألت: «ومن هو هذا؟»

أجاب محدثي: «هذا أحد اثنين: فإما يظل صامتًا فلا يدرك المرء لسكوته معنًى ولو عاشره مليون سنة، وإما يتكلم … فينطبق عليه قول يزعم أحد الظرفاء أن الله قاله عن الرئيس ابن سينا!»

قلت: «ألا أخبرني بما يزعم ذلك الظريف أنه تعالى قاله عن ابن سينا!»

فحدثني نديمي قائلًا: «يزعم صاحبي المليح النكتة أنه لما مضى ابن سينا إلى ربه جاءه المَلَكان وسألاه: «ما هو الله؟»»

فأجابه لفوره: «هو أُسْطُقس فوق الأُسْطُقسات.»

فتبادل الملكان نظرة فلم يفهما، فذهبا إلى الحق — سبحانه — وقالا: «ربنا، لقد جاء الساعة عبد من عبيدك البشر، رجل يتكلم كالمتكلمين، ولكننا لا نفقه لقوله معنًى.»

فسأل الحق — جلَّ وعلا: «وماذا يقول هذا الرجل؟»

فأجاب الملكان: ربنا، سألناه: «ما هو الله؟» فقال: «هو أسطقس فوق الأسطقسات.»

فأطرق المولى — سبحانه — وقد أُلبس عليه مغزى الكلام وقال: «إن أمر هذا الرجل لغريب! وما اسمه، أيها الملكان؟»

فقال الملكان: «ربنا، اسمه عبدك الرئيس ابن سينا.»

فضحك ذو الجلال وقال: «هاهاها! لقد عرفته؛ فدَعاه وشأنَه. هذا رجل قضى عمره متكلمًا فلم تفهم خلائق الأرضين كلمة من أقواله.»

ذاك، على زعم صاحبي، ما قاله الله — تعالى — عن الرئيس ابن سينا.

فضحكت ثم ضحكت، وودعت محدثي قائلة: «حقًّا إنك رجل ظريف!» وهمست لنفسي مرة أخرى: «ليته سرد لي حكايتي لأعلم كيف هي في الغد تكون!»

•••

واستيقظت في الغد فأذهلني أن أشعر بترضرض في روحي، وبطعم الفناء في فمي، وبأثقال تميع على صفحة وجداني كأنها أحمال الدماء.

وبكى فيَّ قلبي لما شهدته من الدعوى الفارغة، واللغو المزعج، والتمثيل الكاذب، والعاطفة السقيمة، ثم قلت مصممة: «إذن فالليلة لا رقص ولا حديث.»

وجنَّ الليل فقصدت إلى السهرة الحافلة. تجنبت قاعة الراقصات والراقصين، وهربت من أظرف رجل بين الرجال، وانتحيت مكانًا فيه ينفرد الرجل السكوت.

بادرته بالتحية فلم يردَّ التحية، وألقيت عليه الأسئلة فلم يُحِرْ جوابًا، وإنما نظر إليَّ نظرة رأيت وراءها محافل الأجيال ومواكب الدهور، فجلستُ في ظلِّ سكوته، ولم يكن سكوته سوى سكوت الفضاء المملوء بحفيف الأفلاك، وانبسطت دوائر فِكْره، وترامت قليلًا قليلًا فاحتوت هالة كياني، واجتذبتني منه القوة السرية إلى سويداء قلب الوجود؛ حيث الليل الأليل يفضي إلى برج الأضواء.

وانتهت السهرة قبل أن تبتدئ. ولما عدت إلى مضجعي لم أرقد إلا لأواصل السير في عالم السكوت.

واستيقظتُ في الصباح فحركت روحي جناحيها وقد لونتهما أشعة قوس الغمام، وارتفعت جبهتي تحت تاج معنوي قد ركز عليها، ونَمَوتُ وكَبرتُ فجأة؛ لأن مختلف الرغبات في المعرفة والاطلاع انبثقت فيَّ.

وها قد انقضت ملايين أعوام فيها تعلمتُ جميع لغات الإنس والجن، ووعيت جميع علومهم، واستظهرت جميع مصنفاتهم، وتتلمذت لجميع أساتذتهم، وجادلت جميع فلاسفتهم، ومحَّصت جميع أقوالهم، وسبرت أغوارهم، وتسلقت جميع قممهم، ولمستْ قدماي الداميتان عتبات الغيوب دون أن أظفر بإدراك أبسط معنًى يجول في خاطر الرجل السكوت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤