أين وطني؟

عندما ذاعت أسماء الوطنيات.

كتبت اسم وطني ووضعت عليه شفتيَّ أقبِّلهُ.

وأحصيت آلامه مفاخرة بأن لي كذوي الأوطان وطنًا.

ثم جاء دور الشرح والتفصيل فألممت بالمشاكل التي لا تحل.

وحنيت جبهتي وأنشأت أفكر.

وما لبث أن انقلب التفكير فيَّ شعورًا.

فشعرت بانسحاق عميق يُذلُّني.

لأني، دون سواي، تلك التي لا وطن لها.

يوقظني في الصباح نفير الجيوش المودعة. ولدوي أبواق النحاس أنغام تثقلها دموع الفراق، وأهازيج يُجنحها طلب التفادي والاستبسال، فأمقت الظافرين، وأودُّ لحظة أن أتوحد وإياهم لأنسى في ثروتهم فقري، وفي بطشهم هواني.

وإذ تمرُّ مواكب الأمم المظلومة منكِّسة أعلامها وراء نعوش الشهداء، وهتاف الحرية والاستقلال يتغلب على أنين الثكل والتفجع منها، أعتز لأني ابنة شعب في حالة التكون والارتفاع، لا تابعة شعب تكوَّن وارتفع ولم يبق أمامه سوى الانحدار.

ولكن الشعوب تهمس همسًا يطرق مسمعي، فهؤلاء يقولون: «أنتِ لستِ منَّا لأنك من طائفة أخرى.» ويقول أولئك: «أنتِ لستِ منا لأنك من جنس آخر.»

فلماذا أكون، دون سواي، تلك التي لا وطن لها؟

•••

ولدتُ في بلد، وأبي من بلد، وأمي من بلد، وسكني في بلد، وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد، فلأي هذه البلدان أنتمي، وعن أي هذه البلدان أدافع؟

يمضي الموتى تاركين للأحفاد وراثات حسيَّة ومعنوية ينعمون بها، وشرفًا قوميًّا يعززونه، وتقاليد يحافظون عليها. أما أنا فلم يبق لي من آثار موتاي سوى الأثقال المعلقة في يدي وعنقي؛ أثقال إذا حاولت طرحها والفرار جرَّت قدماي ما هو أثقل منها، فهبطتُ على طريق جلجلتي تشير نحوي أصابع المتشفِّين الساخرين، وليس من يد رحيمة تعين وتؤاسي.

وأما متاع موتاي فاستولى عليه أولئك الأباعد، ولو تخلوا عنه لتحكم بي هؤلاء الأقارب الذين عيَّرتني منهم القحة بصفات انقلبت عندهم عيوبًا، وأنكر عليَّ الحسد منهم والخمول حقَّ التمتع بما اشتريته بالجهود والعبرات.

بأي اللهجات أتفاهم والناس، وبأي الروابط أرتبط؟ أأتقيد بلغة جماعتي وهي، على زعمهم، ليست لي ولم توجد لأمثالي؟ أم أكتفي بلغة الغرباء وأنا في نظرهم متهجِّمة عليها؟ أأصون عادات قديمة يحاربها اليوم الناهضون، أم أقبل الأساليب الحديثة فأكون لسهام المحافظين هدفًا؟

إذا جاملت العتيَّ توصلًا إلى ما لا غنى عنه قالوا عبدة تمرِّغ جبهتها في التراب وتتزلَّف، وإذا جعلت لي من المصارحة سلاحًا، ومن الأنَفَة حصنًا، سطت عليَّ اليدُ الحديدية، ومزقتني ألسنة «الإخوان»، وانفضَّ من حولي «المخلصون»؛ لأنهم إنما خلقوا لمساعدة نفوسهم.

فلماذا قُدِّر عليَّ أن أكون ابنة وطن تنقصه شروط الوطنية، فأمسي تلك التي لا وطن لها؟

•••

كل أمة تحدِّث عن عظمتها وفضلها على المدنيَّة ونبلها في صيانة حقوق الضعفاء، فبأي الأمم أعجب؟

وكل أمة — دون سواها — تحمي ذمار الحرية، وتذود عن العدل والمساواة والإخاء، فعلى أي الأمم أتكل؟

وكل دين — دون سواه — احتكر لأتباعه الشرف والفضيلة في الحياة، والسماء والألوهية بعد الممات؛ فأي الأديان أعتنق؟

وكل حزب يدَّعي الصدق والعصمة، وكل فرد صائب الرأي يضحي الخير الخاص للخير العام، فأي الأحزاب أصدِّق؟ وأي الأفراد أتَّبع؟

ما سمعت وصف بلاد إلا سعى إليها اشتياقي.

ولا حُدِّثت عن بسالة أمة وسؤددها إلا تمنيتها أمتي.

ولا أصغيت إلى صوت قوم إلا خلته صوت يأسي وأملي.

ولا تبينت عيوب شعب ومفاخره إلا أدركتها صورة مفاخري وعيوبي.

ولا رمت طائفة طائفةً بالتعصب والمغالاة إلا وجدت فيَّ هذه المغالاة وذاك التعصب.

ولا تخيلت مسافات الأرض وأبعاد الفلك والصحاري والبحار والكواكب والعوالم إلا اهتاجني الحنين إليها كأنها أوطان يردد هواؤها ترنيمة طفولتي، وتنتظرني فيها قلوب الأحباب والخلان.

أمَّا وقوى إعزازي تتوزَّع باستهتار وجنون، فلماذا تتجمع قوى اكتئابي عميقة مرهفة؛ لأني أنا وحدي في الدنيا، تلك التي لا وطن لها؟

•••

بنسيم وطني امتزج الوحي والنبوءات.

ومع أشعة الشمس فيه انتشرت صور الجمال.

فكانت له حياة وهَّاجة متلظية وراء مظاهر الجمود والهجران وخيالات الآلهة تسيرُ أبدًا فيه متمهلة متأملة.

من القمم والأودية، من الصخور والينابيع، من الأحراج والمروج تتعالى معاني بلادي في الضحى، وعند الشفق تتكامل أرواحُ الأشياء وتتجمهر كأنها تتداول في إنشاء عوالم جديدة.

أحبُّ عطور تربة الجدود ورائحة الأرض التي دغدغها المحراث منذ حين، أحب الحصى والأعشاب، وقطرات الماء الملتجئة إلى شقوق الأصلاد.

وأحب الأشجار ذات الظل الوارف؛ أكانت محجوبة في أحشاء الوادي أم أسفرت مشرقة على البحر البعيد.

وأحب الطرق الوعرة المتوارية في قلب الغاب، وتلك المتلوية على أكتاف الجبال كالأفاعي البيضاء، وتلك السبل الطويلة الممتدة الممتدة وكأن الغبار الذهبي منها ينتهي إلى قرص الشمس.

ولكن أيكفي أن نحب شيئًا ليصير لنا؟ وهكذا رغم حبي الأفيح أنا في وطني تلك الشريدة الطريدة لا وطن لها.

جرَّبتُ من الوطنيات صنوفًا: وطنية الأفكار والأذواق والميول.

وتلك الوطنية القدسية المثلى: وطنية القلوب.

فوجدتُ في عالم المعنى ما عرفته في عالم الحس.

إلا بقعة بعيدة تفرَّدت فيها الصور وتسامت المعاني.

ثقَّفني أبناءُ وطني، وأدَّبني أبناء الأوطان الأخرى.

وأسعدني أبناء وطني، وأسعدني الغرباءُ أيضًا.

ولا ميزة لأبناء وطني في أنهم أوسعوني إيلامًا.

فقد نالني من الغرباء أذًى كثير.

فبأي الأقيسة أقيس أبناء الوطن؟

ولماذا أكون أنا وحدي تلك التي لا تدري أين وطنها؟

•••

أيها السعداء ذوي الأهل والأوطان، عرِّفوا لي سعادتكم وأشركوني فيها!

رضيتُ حينًا بأنه ليس للعلم والفلسفة والشعر والفن من وطن. أما اليوم فصرتُ أعلم أن للعالم والفيلسوف والشاعر والفنان وطنًا. صرت أعرف ضعف الإنسان الذي إذا مال إلى النوم والراحة طلب مضجعًا ناعمًا لجسمه المضنى، لا مرجًا واسعًا يتناوله منه الحر والبرد، ولا بحرًا عرمرمًا تبتلعه منه اللجج.

إني أعبد تفطُّرك الصامت، أيها الفيلسوف القديم، أنت الذي بعد أن اكتشفت آيات الفكر وعجائبه، أرسلت زفرة كأنها شكوى الدهور فقلت: إنما أريد صديقًا لأموت لأجله.

وأنا أجثو الآن خاشعة أمام ذكرك مردِّدة ما يشبه قولك: إنما أريد وطنًا لأموت لأجله أو لأحيا به!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤