نشيد نهر الصَّفَا

عين زحلتا قرية لطيفة يعرفها الذين اعتادوا الاصطياف في جبال لبنان، وألطف من القرية نفسها غابات الصنوبر التي تحيط بها، وأجمل من هذه وتلك منظر نهر الصفا المتدفِّق عند قدم الجبل، وعلى بعد أمتار قليلة منه يركن نهر القاعة.

كل من النهرين يسرد حكايته الأبدية على الأشجار المصغية إليهما بحللها السندسية. ويظل النهران في اندفاع وشكوى، وروح الوادي تئن في أثرهما إلى أن تلثم مياههما مياه البحر العظيم.

هنا سالت صور الكون الهيولية وذابت ذرَّات الأثير.

هنا اجتمعت بلابل أرفيوس لتعيد ذكرى أوريديس ذات القلب الكسير.

هنا تنهدت العطور تنهداتها الغرامية، وتحولت الورود إلى أشعةٍ سحرية.

هنا اغتسل قوس قُزح؛ فترك في الماء من ألوانه ألحانًا فضية.

ومن دماء الأحلام المتجمدة استخرج قوس قزح ألوانه السرمدية.

هنا بعث بأسراره إلى الأرض مع خيوط من الأثير ذهبية.

هنا نامت الأشباح بين أجفان بنات المياه، فامتزج النور بالظلام، وتلاشت اليقظة بالمنام.

هنا ناحت حمائم الشعر، وغنَّت أطيار الأنغام.

هنا لثمات النسيم شوقٌ وهيام.

ومداعبة الموجة للموجة تبادل نظرة وابتسام.

وجمود الشاطئ حقد على فتور الليالي ومعاكسات الأيام.

هنا ارتعاش الأوراق على الغصون تحية همت من مقل الكواكب وسلام وتمايل الأفنان ودلالها نجوى ملك الوحي والإلهام.

هنا ليلة أنوار، وفجر ظلام، وألغاز ملامس وألوان وأنغام.

حينما يمر الفجر على قمم الجبال يرى صورته في هذه المرآة البلورية، يرى رمز الشبيبة مع ما يتبعها من الآمال النضرة كالأزهار، والميول المتنقلة كالأطيار، ثم يأتي الغروب ساكبًا في أعماقها مرارة أحزانه، مع ما يرافقها من النظرات المتحولة، والابتسامات المتغيبة، والجباه الكئيبة، والشفاه المتحركة بالصلوات، الساكنة بالتأملات.

هنا عيدان الأشجان تبكي، تبكي بقلب جريح، وفي كل لحظة يخيل أنها تسلم نفسها الأخير، بشهيق فيه من اللوعة والكتمان والتجلد بقدر ما فيه من المجد والعظمة، من البسالة وعزة النفس الأبية.

لكن المياه لا تموت ولا تحيا، بل تعيد ذكرى الماضي، وتهمس بنبوءتها في المستقبل، وتكرر أصوات الأفراح، وتردد آهات الأتراح.

هنا لغز من ألغاز الحياة، وليلة من ليالي الزمان، وأنا لغز أمام هذا اللغز، وليلة إزاء هذه الليلة. أهيم وحيدة على الشاطئ الحزين، أنظر ولا أرى، أسمع ولا أفهم، أبحث ولا أجد، أستعلم ولا أعلم … فؤادي يخفق مع فؤاد النهر الخفي، ونفسي قيثارة الأحلام والألحان، لكني لغز حي تائه في ظل الغصون، ينظر مستفسرًا إلى لغر آخر فلا يجد فيه إلا صورته، فيود تمزيقها وسحقها وإن أحبها!

•••

عند احتضار النهار، ذهبت إلي رأس النبع وجلست على صخرة قائمة في وسط المياه المتسلسلة من صدر الصخرة الكبيرة. جلست وأرواح الخيال تتنشق الأريج العطري المعانق شعور بنات المياه، وآلهة الألوهية الأربع يتلاعبون بدقائق الشفق سابحين على أمواج الظلام، وحول أشباحهم تلتف أكاليل البنفسج وقلائد الياسمين، وفي ثغورهم يلمع فتيت النجوم، بينا أبكار الشعر تسر لأخواتها خفايا اليأس والرجاء تحت أشجار الصنوبر، وعذارى الطرب تستخرج من عناقيد «باخوس» خمرًا تسكر به الآلهة، ومن سكر الآلهة يولد الشعراء والأنبياء.

وعلى هذه الصخرة حيث أنا أحلم ثملة بما شربته مشاعري من رحيق الخيال العلوي، كان يجلس الأمير بشير الشهابي الكبير. كثيرون بعده وقبلي جلسوا هنا وفؤاد كل منهم منقبض تهيبًا وخشوعًا أمام أنفاس الطبيعة وأصوات الخلود، وما يجول بخاطري الآن كان يجول بخاطرهم؛ لأن الأفكار تتشابه في المصدر، وفي النتيجة، رغم تشعبها وتفرعها، والرغائب الكثيرة اللاصقة في أعماق النفس البشرية هي هي في كل آنٍ ومكان.

جميعنا طرح السؤال الذي ألقيه الآن على المياه المتراكضة: هو سر الأسرار الغامضة الذي يرجعه صدى الهياكل المشادة في قدس أقداس البشرية: من أين وإلى أين؟ من أين وإلى أين؟

من أين تأتين أيتها المياه؟ وإلى أين تذهبين؟

من أين أتينا وإلى أين نذهب؟ …

المياه تتدفق إثر المياه مهللة مكبرة، وقد رفعت أصواتها في الغناء والنحيب، ودمدمت العناصر فيها أسرار الفيض الإلهي، ورفرفت على جوانبها أجنحة الخلود …

من أين وإلى أين …؟

ثقل دماغي بأفكار لا أُدركها، وضاق مني الصدر لهموم لا أعرف ماهيتها، فنزعت عن ساعدي ساعة وضعت في أسورة ذهبية، ونظرت إليها قائلة: «أيتها الساعة، أنت رمز الوقت الجاري في نهر الزمان، فيسير قاصدًا بحر الأبدية. ها أنا أغطسك في هذه المياه … عسى أن تحفظي في حياتك المعدنية أثرًا لرموز معنوية.» ثم جمعت بعض الحصى الملوَّنة الجميلة الراكدة في أعماق النهر، قائلة: «أيتها الجواهر، سأحملك معي إلى وادي النيل لتذكريني بالعواطف الكثيرة التي تلاطمت في فؤادي أمام نهر الصفا … أنت ذكر الأبدية التي حييت فيها لحظة.»

وإذ رفعت عيني إلى الأفق رأيت مقلة الزهرة ترقب يد ملك الظلام الراسمة على رداء الليل صور الهيئات السماوية.

فغادرت رأس النبع مرددة: أنهر الصفا! من وأين وإلى أين؟

•••

أنهر الصفا! جئتك تعبة الروح والجسد معًا.

قرأت خلاصة الأحوال الحاضرة فدوَّى في مخيلتي هدير المدافع، وتمثلت لناظري صور الحرب المخيفة، ثم قصدت الاجتماعات فملأ أذني ضجيجها التافه، وضجرت نفسي من معانيها السطحية ومراميها الخبيثة. عجبت لبلاهة الإنسان، وركاكة ميوله، وفتور همته! إذ ذاك سمعت اسمك الموسيقي فأحببته؛ لأن فيه جمالًا وعذوبة وسلامًا.

لقد أحرقت قدميَّ الرمال الحارة، ومزقت يديَّ أشواك الحياة، فجئت أستخلص من أعشابك بلسمًا لجروحي، تعلق بأهدابي غبارُ المادة محاولًا إخفاء الجمال المعنوي عن عينيَّ، فأتيت أغسل أهدابي بمياهك المقدسة.

جئت لأرطب يديَّ وعينيَّ برضابك العذب.

ثقُل فؤادي عليَّ، فأسرعت لأبعث به معك إلى روح البحر العظيم الذي يناديك من عمق أعماق زرقته البعيدة.

أنت ابن الغيوم، وألعوبة الحرارة الهوائية، وضحكة المادة الدائمة، وقهقهة الجو بين الهضاب والأودية. أنت قبلة الشمس للبحر. أنت أنشودة الجبل في الوادي. أنت الروح الصغيرة المسرعة إلى أحضان الروح الكبيرة.

أنت عميق كأسرار الجنان، عذب كنظرات الولهان، وفي اسمك ألوان وألحان.

أنت تهلمم١ بي، أيها النهر، فخذني معك بعيدًا عن الحياة وضوضائها، خذني معك … لكن ما هي نسبتي إليك؟

أنت مجموع سوائل لا وجدان لها، ولا قلب يخفق بين أجزائها، وأنا … أنا شيء آخر. أنت لغز بين البحار والآفاق، وأنا لغز بين الحياة واللانهاية. أنا أعرف أني لا أفهمك، وأشعر بجهل الإنسان وشقائه، أما أنت … ما لنا ولك؟

سيري، أيتها المياه، سيري واتركيني. اسقي النباتات والأعشاب، ضعي لآلئ في ثغور الورد، رطبي صدر الأرض الملتهب، ترنمي في وحدة الوادي، أسردي حكايتك التي لا تنتهي. اندبي هللي، اصرخي اهمسي، أنشدي انْحَبي، اطربي احزني. كل هذا ننسبه إليك. نحن أبناء النشوة والكآبة.

سيري أيتها المياه ودعيني أبكي. لقد تلبد جو فكري بالغيوم القاتمة. وقلبي — ما لك وله! — منفرد حزين …

١  تهلمم: هلمم دعاه قائلًا له: هلمَّ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤