الفصل الأول

تشكيل عقلية أوغسطينوس: شيشرون وَماني وَأفلاطون وَالمسيح

لا يمكن في مقدمة قصيرة عن فكر أوغسطينوس أن تُعرَض أيضًا سيرةٌ ذاتية له. فنظرًا لأنه كَتَب أشهر السِّيَر الذاتية القديمة وأكثرها وقعًا وأثرًا، جَذَب الجانب النفساني للرجل وشخصيته بطبيعة الحال اهتمامًا شديدًا. كان يتمتع بين القدماء بقوة لا مثيل لها على التعبير عن المشاعر. وكتاباته أيضًا تُعدُّ مصدرًا أساسيًّا للتاريخ الاجتماعي لعصره. ليس في وسع هذا الكتاب أن يتناول ذاك الجانبَ من شخصيته، لكنه يُعنى بِتَشَكُّل عقليته. وكان هذا التشكل عملية طويلة؛ حيث إنه بدَّل رأيه بخصوص بعض النقاط، وطوَّرَ وجهة نظره بخصوص نقاط أخرى. ووصف نفسه ﺑ «الرجل الذي يكتب وهو يتطور، والذي يتطور وهو يكتب» (الرسائل Epistulae). وكانت التحولاتُ التي شهدها وثيقةَ الصلة بضغوط الخلافات المتعاقبة التي لعب فيها دورًا؛ ولذا فإن الإشارة المرجعية للبيئة التاريخية محوريةٌ للفهم. ولكننا، بخلاف ذلك، لسنا معنيين هنا ﺑ «حياته وأيامه».
fig1
شكل ١-١: أقدم صورة للقديس أوغسطينوس. تصويرٌ جصيٌّ، القرن السادس.
وُلد أوريليوس أوغسطينوس عام ٣٥٤ ميلاديًّا وتُوفِّيَ عام ٤٣٠. وقد عاش كلَّ حياته، فيما خلا خمسة أعوام منها، في شمال أفريقيا الخاضع للحكم الروماني، وكان خلال الأربعة والثلاثين عامًا الأخيرة من عمره أسقفًا لمدينة بحرية تضج بالحركة والنشاط، كانت تُعرف آنذاك باسم هيبو، وتُمثلها الآن مدينة عنابة بالجزائر. وفي ميناء هيبو، كانت الكتب حِكرًا على القديس أوغسطينوس، ولم تكن خلفية عائلته ذات ثقافة عالية، فقد حصَّلَ هو تلك الثقافةَ من طريق التعليم. ومن خلال كتاباته التي يتجاوز ما تبقَّى منها ما وضعه أيُّ مؤلِّف قديم، أمسى يُمارس أثرًا واسعًا لا على معاصريه وحسب، بل وخلال السنوات اللاحقة أيضًا على الغرب بأسره. ويمكن إيجاز مدى هذا الأثر بواسطة سرد النقاشات التي كانت جزءًا من إرث الرجل:
  • (١)

    كان لاهوت وفلسفة أساتذة جامعات العصور الوسطى وبُناة تلك الجامعات ضاربَيْن بجذورهما في الأفكار الأوغسطينية عن العلاقة بين الإيمان والعقل. عندما جمع بيتر لومبارد كتابه «الحِكَم» (١١٥٥) ليقدم مرجعًا أساسيًّا لعلم اللاهوت، استقى نسبةً كبيرة من أفكاره من القديس أوغسطينوس. وكذا معاصره جراتيانُ استَشهد بالعديد من النصوص من أوغسطينوس؛ إذ ألَّفَ المرجع الأساسي للقانون الكنسي.

  • (٢)

    لم تتملَّص طموحات الصوفيين الغربيين قطُّ من أثره؛ وذلك إلى حدٍّ كبير نظرًا لمركزية فكرة حب الرب في تفكيره. لقد رأى أولًا المفارقة التي مفادها أن الحب الباحث عن السعادة الشخصية يوحي ضمنًا، بضرورة الحال، بشيءٍ من إنكار الذات وألم تحوُّل الإنسان إلى شيء بخلاف ذاته الحقيقية.

  • (٣)

    وجد الإصلاح دعامته الأساسية في نقد التنسُّك الكاثوليكي في العصور الوسطى باعتباره يستند إلى الجهود البشرية بقدرٍ أكثر من النعمة الإلهية. وردَّت حركة الإصلاح المضاد بأن المرء يستطيع أن يؤكد سيادة نعمة الله دون أن ينكر أيضًا حرية الإرادة والقيمة (أي «الجدارة») الأخلاقية للسلوك الحسن. والْتَجأ طرفا الجدل كلاهما بدرجة كبيرة إلى نصوص أوغسطينوس.

  • (٤)

    شهد القرن الثامن عشر انقسامًا شديدًا بين الذين يؤكدون كمال الإنسان والذين يرون طبيعة الإنسان مثقلة بثقل الغرور الشخصي والجمعي؛ وبتعبير آخر بما أطلق عليه أوغسطينوس «الخطيئة الأصلية». آمن رجالات التنوير بأن الكمال الفعلي للإنسان يُعرقله الإيمان بالخطيئة الأصلية، ولم يَرُق لهم أوغسطينوس كثيرًا. واستاءوا إذ وافق الفيلسوف كانط الذي أعلن بفصاحة شديدة المبدأ التنويريَّ الذي يقضي بأنه على المرء أن يجازف بالتفكير بنفسه على المبدأ القائل بأن الطبيعة البشرية يشوِّهها الشرُّ المتطرف المتفشي.

  • (٥)

    في ردة فعل ضد حركة التنوير، ساوت الحركة الرومانسية ما بين صُلب العقيدة والمشاعر بدلًا من نتائج الجدالات الفكرية. لم يكن أوغسطينوس مطلقًا معاديًا للفكر، لكنه لم يظن أن الفكر له الكلمة العليا، كما أنه كان رائدًا لتقدير إيجابي جدًّا للمشاعر البشرية. فنحن ندين له باستعمالنا لكلمة «قلب» بهذا المعنى.

  • (٦)

    كان أوغسطينوس أكثر الأفلاطونيين المسيحيين حدةً، وبذل جهدًا جهيدًا من أجل إرساء أسس التآلف ما بين المسيحية والتوحيد الكلاسيكي النابع من أفلاطون وأرسطو. لقد ترك أفلوطين في القرن الثالث بعد الميلاد أثرًا عظيمًا فيه بفضل تنظيمه للتقليد الأفلاطوني، لكن أوغسطينوس أمسى أيضًا واحدًا من أكثر النقاد جميعًا بصيرةً لهذا التقليد الفلسفي الذي دان له هو نفسه بالكثير.

  • (٧)

    رأى أوغسطينوس بشكل أوضح بكثير من سابقيه (وقبل مَن جاءوا بعده بوقت طويل جدًّا) أن القضايا ذات الأهمية القصوى تثيرها مشكلة العلاقة ما بين الكلمات والواقع الذي يحاولون توصيفه. كان أوغسطينوس رائدًا في الدراسة النقدية للتواصل غير اللفظي.

وعاش كلٌّ من أنسلم وَتوما الأكويني وَبترارك (الذين لا تخلو جيوبهم مطلقًا من نسخة من كتاب «الاعترافات Confessiones»)، وَلوثر وَبيلارمين وَباسكال وَكيركجور في جلباب أوغسطينوس الفضفاض. كانت كتاباته من بين الكتب المفضلة للفيلسوف النمساوي فيتجنشتاين، وكان أبغض الناس لنيتشه. وتنبأ تحليله النفساني بأجزاء من أعمال فرويد؛ فهو أول من استكشف وجود «اللاوعي».

وكان أوغسطينوس «أول رجل حديث»؛ بمعنى أن القارئ يشعر معه أن الكاتب يخاطبه على مستوًى من العمق النفساني غير مسبوق، ويجد أمامه نظامًا متناسقًا من الفكر، أجزاء كبيرة منه ما برحت تجذب بقوة الاهتمام والاحترام. ولقد أثَّر في الطريقة التي تَفَكَّرَ بها الغرب بالتبعية في طبيعة الإنسان وما نعنيه بكلمة «الرب». ورغم أن أوغسطينوس كتابعٍ من أتباع أفلاطون لم يكن معنيًّا بقدْرٍ كبير بالبيئة المادية الطبيعية، وألَّفَ مؤلَّفاته وهو يخشى أن تُجرى الأبحاث العلمية دون احترام للاعتبارات الأخلاقية، فإن فرضية العالِم الحديث بأن النظام الرياضي والعقلانية هما السمتان الرفيعتان في العالم لم يكن لها من نصير بليغ في الماضي أفضل منه. ولذا، فقد أسهم إسهامًا كبيرًا في التوجه نحو النظام المخلوق الذي جعل نشأةَ العلم الحديث ممكنًا. ومن ناحية أخرى، لا يمكن قراءة أوغسطينوس بإنصاف إذا عومل بخلافِ ما كان عليه في حقيقة الأمر؛ أعني رجلًا من العالم القديم تشكَّلت عقليته وثقافته بالكامل بفعل آداب وفلسفة اليونان وروما، ووضَعه اعتناقُه المسيحيةَ بدرجةٍ ما في صراع مع الماضي الكلاسيكي. وفيما يتعلق بهذا الماضي، وقف أوغسطينوس موقف الناقد والناقل لعالَم العصور الوسطى والعالَم الحديث.

وكما افترض اليونانيون، بشيء من المنطق، أن أحدًا لم ينافس هوميروس في كتابة الشعر، أو كَتَبَ التاريخَ بطريقة تُضارع هيرودوت وثوسيديديس، أو فلسفة لم تكن محض سلسلة من الحواشي لكتابات أفلاطون وَأرسطو وَالرواقيين وَإبيقور؛ نسب الرومانيون مكانة النموذج الكلاسيكي لساداتهم السابقين؛ شيشرون للنثر والخطابة، وفيرجيل وَهوراس للشِّعر. على أيام أوغسطينوس، كان هناك رجال متعلمون يحفظون خُطَب كاملة لشيشرون وكافةَ أعمال فيرجيل عن ظهر قلب. ونظرًا لأن اختراع الطباعة جعل الكتب أقل تكلفة نسبيًّا من المخطوطات، فقد بدت قدرات الاستظهار تلك غير ذات جدوى، وتكاد تكون مستحيلة بالنسبة إلينا في عصرنا هذا، ولكن في العالم القديم وفي العصور الوسطى استند الكثير من التعليم المدرسي إلى التعليم بالاستظهار في سنٍّ يمكن التأثير فيها بسهولة. انطبع نثر شيشرون وشِعر فيرجيل بشدة على عقل أوغسطينوس لدرجة أنه لم يستطع أن يكتب عدة صفحات دون أن يسترجع أعمالهما أو يُلمِّح إليها لفظًا. وفي شبابه، قرأ أيضًا بإعجاب شديد تاريخَ الجمهورية الرومانية المظلم لسالوست والأعمال الكوميدية لتيرانس. وكانت هذه الأعمال أيضًا جزءًا من الهواء الأدبي الذي تنسَّم نسائمه بطبيعة الحال. وفي أعماله النثرية كان كثيرًا ما يورد عبارات هنا وهناك بِتَصَرُّف مستقاةً من الأدب اللاتيني الكلاسيكي. ولم يتم العثور على تلك الإشارات الضمنية إلا مؤخرًا نسبيًّا، ومن المؤكد أن هناك المزيد منها بانتظار إماطة اللثام عنه.

لم يكن أوغسطينوس متفردًا في عصره من حيث امتلاكه لهذه الثقافة الأدبية العالية؛ فخلفيته الثقافية كانت خلفية أفريقية رومانية، وتحديدًا ثقافة الأقاليم المستعمَرة الثرية التي طالما تمتَّعت بالسلام والرخاء وقطنها أناس مثقفون جدًّا زَيَّنوا فيلاتهم بالفسيفساء والتماثيل البديعة، كتلك التي يستطيع المرء أن يراها في متحف باردو بتونس. منذ الفتح الإسلامي للمنطقة، بعد وفاة أوغسطينوس بأكثر من ٢٠٠ عام، انتمى الجانبان الشمالي والجنوبي للبحر المتوسط إلى عوالم ثقافيةٍ — إن لم تَكُنْ تجاريةً — منفصلةٍ، وتكلَّم أهلهما لغاتٍ مختلفةً، فيما خلا فترة الهيمنة الفرنسية القصيرة نسبيًّا خلال العصور الحديثة. في عصر أوغسطينوس، انتمى الشمال والجنوب إلى عالم واحد، وتكلَّما وكتبا بلاتينية فصيحة تحدَّث بها الأفارقة بلكنة إقليمية مميزة. وأمدَّ شمال أفريقيا إيطاليا بالجزء الأغلب من غلالها. وكانت الرحلة الصيفية من قرطاج أو هيبو إلى بوتسوولي أو أوستيا جولةً بحريةً قصيرةً يقوم بها عدد من السفن كل أسبوع، وكان الاتصال بإيطاليا متواترًا وسهلًا يسيرًا. وكانت ثروات أفريقيا الرومانية غالبًا تتجاوز ثروات إيطاليا حتى بين العائلات الميسورة الحال، وكان لدى الأقاليم الأفريقية إحساس قوي باستقلالها وبرغبتها في صنع قراراتها بنفسها.

أفرزت أفريقيا الرومانية كُتَّابًا مميزين: ففي القرن الأول، كتب مانيليوس دليلًا نثريًّا عن علم الفلك؛ وفي القرن الثاني صعد نجم فرونتو مُعلِّم الإمبراطور ماركوس أوريليوس؛ وَأبوليوس ابن مدينة مداوروش الكاتب الأكثر بيعًا، لا لكتابه «الحمار الذهبي» (التحولات) وحسب بخليطه المميز من السحر والدين والجنس، ولكن أيضًا لكتيباته المُسْهبة المؤثرة حول الفلسفة الأفلاطونية؛ وَأولوس جيليوس مؤلِّف «ليالي أتيكا»، وهو دليل مختصر نوعًا ما لتبادل أطراف الحديث بفعالية أثناء حفلات العشاء. وعاصر أوغسطينوس الكاتبَ اللاتيني ماكروبيوس، الذي أمست تعليقاته على «حلم سيبيو» (الكتاب السادس من «الجمهورية») مصدرًا رئيسًا للمعلومات المتعلقة بالفلسفة الأفلاطونية الجديدة للغرب في العصور الوسطى. وعاصر أوغسطينوس أيضًا مارتيانوس كابيلا الوثني باختياره الذي ألَّفَ، ربما بعد وفاة أوغسطينوس، كتاب «الزواج بين فقه اللغة وعطارد (رسول الآلهة)» ليعلِّم قراءه عناصر الفنون الحرة السبعة، وليبيِّن كيف لدراستها أن ترتقي بالإنسان إلى الفردوس.

وخلال القرن الثاني، أقامت إرسالية مسيحية نَشِطة في شمال أفريقيا عددًا كبيرًا من الأبرشيات التي تُرجم الإنجيلُ الإغريقي إلى اللاتينية من أجلها. كان من بين المُهتدين شخصياتٌ رائعة مثل ترتليان الذي لمع نجمه في نهاية القرن الثاني، وهو مؤلِّف مفردات اللاهوت الغربي وأستاذ في الجدل الساخر الموجَّه ضد النقَّاد الوثنيين أو المهرطقين الخَطِرين. وهناك قبريانوس أسقف قرطاج الذي انتُخب فور تعميده بفترة وجيزة، واستُشهد بعدها بعشر سنوات عام ٢٥٨ مُصِرًّا على التمسك بالطهارة الطقسية للكنيسة الكاثوليكية والسلطة القضائية للكهنوت الرسوليِّ. وفي عصر قسطنطين العظيم في بداية القرن الرابع، كتب أفريقيَّان مسيحيَّان دفاعاتٍ عن عقيدتهما ضد النقاد الفلسفيين؛ ودان أرنوبيوس وَلاكتانتيوس نوعًا ما بالفضل إلى المؤلفين اليونانيين المسيحيين السابقين لهما.

كانت التركيبة السكانية لأفريقيا الرومانية مختلطة جدًّا؛ ففي المزارع، كان الفلاحون مزيجًا من البربر والفينيقيين الذين يتكلمون البونيقية. وفي موانئ مثل قرطاج وهيبو، كان كثير من التجار يتكلمون اليونانية وتربطهم علاقات وثيقة بصقلية وجنوب إيطاليا، وهي المناطق التي كان في تلك الحقبة (ومن بعدها لفترة طويلة) يتحدث أهلها اليونانية على نطاق واسع. لكن اللاتينية كانت لغة المتعلمين والجيش والإدارة، وكانت ثقافة أوغسطينوس المنزلية والمدرسية لاتينية كليًّا، ولو أن أمه مونيكا كانت تحمل اسمًا بربريًّا.

كانت مدينة قرطاج الرومانية القديمة مدينة تجارية بارزة، ولم يكن سكانها يميلون وحسب إلى المصارعات بين الحيوانات والمصارعين من البشر في المسرح المُدَرَّج، بل نزعوا كذلك إلى الأنشطة الأقل دموية كالمسابقات الشعرية والمسرحيات الراقية بالمسارح. وكانت المدينة تتمتع بِقُضاة وأطباء ومعلمين للأدب بارعين عُرفوا باسم «الرياضيين». لم يولد أوغسطينوس ولم يترعرع في هذا العالم المدني، بل كان فتًى من فتيان الريف الإقليمي حيث وُلد في بلدة جبلية داخلية تُعرف باسم «طاغست» بإقليم نوميديا التي تعتبر مفترقَ طرق، وسوقًا تُعرف الآن في شرق الجزائر باسم سوق أهراس. وهنالك كان والده باتريك يمتلك فدادين قليلة من الأرض وأَمَةً أو أَمَتَيْن، لكنه لم يكن ثريًّا على الإطلاق. تُوفي باتريك عندما بلغ أوغسطينوس مراهقته. وكان لأوغسطينوس شقيق وشقيقة، لكن ليس هناك دليل إن كان هو الابن الأكبر أم الثاني أم الثالث. التعليم بالمدرسة المحلية بطاغست، كما في كل البلدات الصغيرة المثيلة، كان يُوكَل لمعلم واحد فقط. ووجد أوغسطينوس المُعلِّم أكثر فعالية بعصاه فيما يتعلق بإلهام تلاميذه الاهتمامَ بدراساتهم. وسرعان ما انتقل إلى مُعلِّم آخر بمنطقة مداوروش الدانية. وبعد وفاة باتريك، انتقل أوغسطينوس إلى قرطاج بتمويل من جاره الثري رومانيانوس.

لاحقًا، نظر أوغسطينوس إلى الأيام التي أمضاها بالمدرسة باعتبارها تجربةً بائسة، ولا قيمةَ لها إلا كتدريب على صراعات ومظالم وخيبات أمل حياة الرشد. ولمَّا كان صبيًّا شديد الحساسية واسع الاطلاع، أحسَّ أوغسطينوس بأنه ثقَّف نفسَه بنفسه باطلاعه على أعمال المؤلفين العظماء. فالعقوبات التي تحمَّلها الأطفال، مهما كانوا يستحقونها، لم تنفع إلا الذين كانوا نزَّاعين أساسًا للانتفاع بها، وخلقت ممن سواهم جيلًا ساخطًا وأكثر معاداة للمجتمع من قبل. لم يكتب قطُّ أوغسطينوس بإعجاب أو امتنانٍ عن أيٍّ من مُعلِّميه.

بدأ أوغسطينوس، بينما كان صبيًّا بالمدرسة، يتعلم اليونانية. ورغم أنه كَرِه عناء الدراسة واللغة، فإنه سرعان ما استطاع استخدام كتاب مكتوب باليونانية كلما استدعت الحاجة ذلك، وعندما نضج أمسى على درجة من الكفاءة تسمح له بترجمة نصوص فلسفية موغلة في فنِّيَّاتها. لكنه لم يحلم قطُّ بأن يُتقن أعمال هوميروس والأدب اليوناني كما فعل عدد من الأرستقراطيين الرومانيين المتأخرين. وصرَّح بشعور لم يكن غريبًا على الغرب اللاتيني العتيق؛ ألا وهو أن الغرب حَرِيٌّ به الآن أن يتمتَّع بكبرياء فكرية. لقد كان بحاجة لأنْ يقف على قدميه ولا يكتفي وحسب بالتكيف مع الأعمال اليونانية النادرة لخطباء لاتينيين ثانويين. لم يكن الناس يعرفون آنذاك أو يريدون الإقرار بأن بطلهم فيرجل يدين بالكثير لهوميروس. لكنهم كانوا رغم ذلك على دراية بأن الإغريق كانوا، وما برحوا، أساتذةَ الفلسفة الكبار؛ فقد ألَّفَ شيشرون وَسينيكا حوارات و«رسائل» بما يلائم النقاشات الفلسفية اليونانية لتعليم الرومانيين. وكانت الحوارات الفلسفية لشيشرون منجمًا لمعلومات منظَّمة بشكلٍ واضح عن النقاشات الدائرة بين المدارس المختلفة، وفي عشرينياته تمكن أوغسطينوس من الإحاطة بمحتواها إحاطة تامة.

رغم أنه لم يكن جاهلًا باليونانية، كان أوغسطينوس دومًا أكثر أريحية مع النسخة اللاتينية إن وُجدت. وكان على دراية بمقولات أرسطو التي كانت متاحةً له باللاتينية، وأبحاثِ قوانين الاستنباط السليم. وكانت المشكلة المعقدة — «العوارض المستقبلية» — الوارد نقاشها في الفصل التاسع الشهير من أطروحة أرسطو عن «التفسير» مألوفة له أيضًا. واتفاقًا مع الأفلاطونيين الجدد المعاصرين له، استخدم أوغسطينوس اللغة التي تكتنف الشكوك المتعلقة بالمستقبل، والتي كانت أكثر حتمية مما راق لأتباع أرسطو؛ حيث أراد أن يقول إن الأحداث التي تكون بالنسبة إلينا «عارضة» (أي إنها لم تكن لتحدث إلا إذا حدث أمر فترتبت عليه) ليست مشكوكًا فيها بالنسبة إلى الرب (ردًّا على فاوست). وبتعبير آخر، رغم أن عقولنا التي نملكها محدودة جدًّا فلا يتسنى لها رؤيته، فإن المستقبل يستحيل تغييره شأنه شأن الماضي. كان أوغسطينوس مهتمًّا تحديدًا بالمنطق الرواقي والتأكيدات الأخلاقية. وكان مفتونًا بمسألة إلى أي مدًى تستطيع اللغة توصيل المعنى المتعلق بالواقع. وكان قادرًا على إجراء تحليل دقيق للمشكلات الواردة في المحاجَّة الأبيقورية المنسوبة إلى مذهب المتعة والقائلة بأننا نعني باﻟ «الخطأ» و«الصواب» في حقيقة الأمر «الممتع» و«المثير للاستياء».

ومن المفارقة أن المفكر الإغريقي الذي تشرَّبت أفكار أوغسطينوس بأفكاره أكثر من غيره بكثير كان أفلاطون، الذي لم يكن متاحًا من أعماله باللاتينية سوى النذر اليسير جدًّا. ولقد ترجم شيشرون قرابة نصف محاورة «طيماوس»، وألَّفَ كالسيديوس في القرن الرابع تعليقًا مدروسًا كان من الممكن أن يعرفه أوغسطينوس (لكنه لم يُحِطْ به علمًا على الأرجح). ولم يكن من الصعب بالنسبة إليه أن يجد نُسَخًا يونانية من الحوارات الأفلاطونية، سواءٌ في قرطاج أو في روما، حيث تلقَّى العلم لفترة من الوقت؛ فقد كان بعض مواطني المدينتين يتحدثون اللغة اليونانية. لكن يبدو أنه لم يبادر بدراسة النص الأصلي دراسةً مباشرةً.

تمثَّلت الفلسفة الأفلاطونية التي فتنت عقله في نهاية المطاف (عندما بلغ الحادية والثلاثين من عمره) في الأفلاطونية «الحديثة»، التي نطلق عليها حاليًّا الأفلاطونية الجديدة التي درَّسَها قبله بقرن أفلوطين (٢٠٥–٢٧٠) لفئة محددة وحسب، وقدَّمها بهمة ونشاط إلى العامة تلميذُه الدءوب ومحرر أعماله ومؤلِّف سيرته الذاتية فرفوريوس الصوري (حوالي ٢٣٢–٣٠٥). ورغم أن أفلوطين ألقى تعاليمه في روما، بينما عاش فرفوريوس جزءًا من حياته في صقلية، فإن الاثنين ألَّفا باليونانية حصريًّا. ورغم تجريد الأفكار وتعقيدها، كان لأفلوطين وفرفوريوس أثر هائل في الغرب اللاتيني والشرق الإغريقي على حدٍّ سواء. أعلن أوغسطينوس في أَوْجِ حماسه الأول للأفلاطونية أنه وجد في أفلوطين «أفلاطون يُبعث إلى الحياة مجددًا» (ردًّا على الأكاديميين Contra Academicos)، وهي العبارة التي تعكس بدقةٍ الأعمالَ التي كلَّف أفلوطين بها نفسه؛ حيث اعتبر أفلاطون أكثر من مجرد رجل ذي ملكات فكرية مستقلة، بل كان بالنسبة إليه مرجعًا.

وباستيعابها المذاهبَ الأساسية للأخلاق الرواقية، وقسمًا كبيرًا من المنطق الأرسطيِّ أيضًا على يد فرفوريوس، أمست الأفلاطونية الجديدة مهيمنةً بالكامل على كلِّ المواقف الفلسفية الأخرى في أواخر العصور القديمة. ترجم أعمال أفلوطين وفرفوريوس إلى اللاتينية ماريوس فيكتورينوس الأفريقيُّ الذي درَّسَ البلاغةَ والفلسفة في روما، وأدهش خلال الفترة التي لمع فيها نجمه — تقريبًا قرب الفترة التي وُلد فيها أوغسطينوس — الطبقةَ الأرستقراطية الوثنية إلى حدٍّ كبير عن طريق تعميده. وترجم فيكتورينوس أيضًا بعضَ الأعمال التي تتناول المنطق لأرسطو وفرفوريوس، ولا سيما «مقدمة» منطق أرسطو التي ألَّفَها فرفوريوس بجلاء ودقة بالغيْن، حتى إن الكتاب أمسى دليلًا قياسيًّا لألفية كاملة.

شيشرون

نبع أقوى أثر مبدئي على الإطلاق استرشد به أوغسطينوس في شبابه فيما يختص بالمسائل الفلسفية من حوارات شيشرون. ومن بين الأعمال الكثيرة التي أحاط بها أوغسطينوس علمًا لشيشرون، ثمة محاورة واحدة تُسمى «هورتنسيوس»، تبرر ضرورة التفكير الفلسفي لإصدار أي حكم نقدي حتى بالنسبة إلى أي إنسان منشغل بالحياة العامة والسياسية، كان لها أثر تشجيعي غير مسبوق على أوغسطينوس. وفي أعماله الأخيرة، لم يزل أوغسطينوس يقتبس عباراتٍ من هذا الكتاب الذي طالعه أول مرة بينما كان طالبًا في التاسعة عشرة من عمره في قرطاج. وقد أسدى شيشرون نصيحةً للعالم الروماني تفيد بدراسة الفلسفة التي وضعها أرسطو نفسه دون مَن هم أدنى منه. وكان نموذج شيشرون يتمثل في الكفاية الذاتية الشخصية وَوَعْيٍ بأن السعادة، التي يسعى إليها الجميع، لا وجود لها في حياة موغلة في المتعة الذاتية التي تدمِّر احترام الذات والصداقات الحقَّة تمامًا. وإذْ تَدبَّر مفارقة أن جميع الناس يسعون وراء السعادة بينما الغالبية العظمى منهم بائسون كلَّ البؤس، خَلَصَ شيشرون إلى استنتاج مُحَمَّل بالمعاني مفاده أن بؤس الإنسان ربما كان ضربًا من الحُكم الإلهي، وحياتنا الآن قد تكون كذلك تكفيرًا عن آثام ارتكبناها في شكل سابق من أشكال التجسد. وتضمَّنت أيضًا محاورة «هورتنسيوس» تحذيرًا من أن السعي وراء المتع الحسية، ممثلةً في المأكل والمشرب والجنس، مُشتِّت للعقل في بحثه عن الأشياء الأكثر سموًّا.

لم يكن أوغسطينوس قطُّ مسرفًا لا في المأكل ولا في المشرب، لكن رغبته الجنسية كانت جامحةً؛ ففي السابعة عشرة والثامنة عشرة من عمره بينما كان في قرطاج، ضاجع صديقة له من طبقة اجتماعية متدنية، وهي العلاقة المنتظمة التي وضعت نهايةً لمغامرات فترة المراهقة. وعلى مدار نحو ثلاثين عامًا، عاش أوغسطينوس معها مخلصًا لها بالكامل. وسرعان ما أسفرت علاقتهما عن صبيٍّ لم يكونا يرغبان فيه في البداية، لكن أحبَّاه بعد ذلك، أطلقا عليه اسم «أديوداتوس» أو «هبة الله»، وهو الاسم الموازي لثيودور أو جوناثان. صار الصبي بارعًا جدًّا، لكنه توفي في السابعةَ عشرة من عمره.

كان الأثر الفوري لقراءة محاورة «هورتنسيوس» على أوغسطينوس أن فكَّرَ جِديًّا في قضايا أخلاقية ودينية. كان أبوه وثنيًّا، ولم يُعَمَّد إلا وهو على فراش الموت وحسب. كما كان نَزِقًا، وليس مخلصًا على الدوام لزوجته. ولا يَشِي أوغسطينوس بأي علامة على شعوره بالتعلق بأبيه. أما أمه من ناحية أخرى، فقد كانت تقيَّة ومتبحرة في العقيدة المسيحية وممارسة طقوسها، كانت حريصةً على الصلاة يوميًّا في كنيستها المحلية، وكانت تسترشد عادةً بالأحلام والرؤى التي تراودها. وجعلت أمه منه متنصِّرًا في طفولته. وكمراهق شكَّاك، دَرَج بين الحين والآخر على حضور قدَّاس الكنيسة مع أمه، لكنه وجد نفسه منشغلًا أساسًا بلفت انتباه الفتيات الجالسات على الجانب الآخر من الكاتدرائية. وفي قرطاج عندما بلغ التاسعة عشرة من العمر، اكتشف أوغسطينوس أن جِديَّة الأسئلة التي طرحها شيشرون، ولا سيما فيما يختص بالبحث عن السعادة، حثَّته على مطالعة إنجيل لاتيني. ونفَّرَه غموض محتواه والأسلوب البربري للنسخة البدائية التي أنتجها مُبشِّرون أنصافُ متعلمين في القرن الثاني الميلادي. لم يكن الإنجيل اللاتيني القديم (الذي كانت عملية إعادة ترميمه على يد علماء حداثيين عملية حرجة جدًّا) لِيبهرَ رجلًا عقله مُعَبَّأ بأسلوب شيشرون الأنيق المنمق وأسلوب فيرجل التعبيري المميز، ويستمتع بالمسرحيات الراقية بالمسارح. نأى أوغسطينوس بنفسه بازدراء عمَّا بدت أسطورة ساذجة عن آدم وحواء، والأخلاق المريبة للبطاركة الإسرائيليين. إن التنافر ما بين سلاسل نَسب المسيح في إنجيل متَّى وإنجيل لوقا كان بمنزلة الضربة القاضية الأخيرة التي دمَّرت آمال عودته إلى الكنيسة مع أمه (العظات Sermones).

لذا، التمس أوغسطينوس العون في مكان آخر؛ فقد افتُتن بِعلم الفلك الذي بدا أنه يمده بدليل للحياة دون أن يظهر بشكل مبالغ فيه كالعقيدة، ومن بعد علم الفلك انجذب إلى الثيوصوفية التي كان يُدَرِّسها ماني من قرنٍ مضى (سنة ٢١٦–٢٧٧ ميلاديًّا).

ماني

عبَّرَت عقيدة ماني أو المانوية بشكل شعريٍّ عن النفور من العالم المادي، وأَمْسَتِ الأساسَ المنطقي لأخلاق موغلة في التقشف. واعتبر أتباعُ المانوية «النصفَ الأدنى من الجسد» عملًا مثيرًا للاشمئزاز من أعمال الشيطان الذي هو أمير الظلام. وكان الجنس والظلام مرتبطَيْن بعلاقة وثيقة في عقلية ماني؛ وكان الظلام بالنسبة إليه هو جوهر الشر نفسه. وقد يخيل إلى المرء أن مثل هذا الدين لم يكن ليستقطب شابًّا يافعًا كان الجنس بالنسبة إليه محوريًّا (اللهم إلا إذا كان المرء يستطيع أن ينسب كل نزواته الدنيئة لقوى الظلام ويتبرأ من المسئولية الشخصية). ورغم ذلك، تألَّف المجتمع المانوي من طبقتين أو مستويين للإخلاص. ولم يكن التبتُّل المطلق مطلوبًا إلا من أصحاب المستوى الأعلى وحسب الذي يُعرف باسم «الصفوة». أما المستمعون الذين انضم إليهم أوغسطينوس، فقد أجيز لهم ممارسة العلاقات الجنسية في فترات «آمنة» من الشهر، وأنيط بهم اتخاذ خطوات محددة لتفادي إنجاب الأطفال. ولكن إذا وُلد طفلٌ ما، فلم يكن ذلك داعيًا لإقصاء الوالد من المجتمع المانوي؛ ولذا، سُمِحَ للمستمعين العيش مع أزواجٍ لهم أو، كما في حالة أوغسطينوس، مع محظيات، لكن لم يكن هناك باعث لهم للتفكير في الجنسانية بأي شكل إيجابي؛ فهي صنيعة الشيطان.

أنكر ماني أي سلطة للعهد القديم بفرضيته المسبَّقة المتعلقة بخيرية النظام المادي للأشياء وبصانعه، وحذف جميع النصوص الموجودة في العهد الجديد التي افتَرضت إما نظامَ المادة وخيريتَها وإما وحيَ وسلطةَ نصوصِ العهد القديم باعتبارها زياداتٍ مُقحمة. وبخلاف ذلك، فقد رأى أن عهده الجديد المُنَقَّى كتاب سليم. ولقد أقرَّ بسخاءٍ بكل الأنظمة العقائدية، ونبذ المسيحية الكاثوليكية الأُرثوذكسية لكونها حصريةً بشكل مبالغ فيه وسلبيةً تجاه غيرها من الأساطير والأشكال العقائدية للعبادة. ومع ذلك، فقد أراد أن يعتبره الآخرون مسيحيًّا، حتى وهو يشدد على أن وحيه أَسَّس ﻟ «ديانة مميزة». كان «مهرطقًا»، بمعنى كونه إنسانًا يودُّ أن يبقى ضمن المجتمع في الوقت الذي يعيد فيه تفسير وثائقه ومعتقداته الأساسية بِطُرق لا يقبلها النظام السائد، ويصرُّ عليها عندما يُطلب إليه أن يصحح نفسه. ولقد وظَّف بعض الأفكار والمفردات الإنجيلية، وأجاز دورًا فدائيًّا للمسيح، فهو وحده استوعب المسيح كرمز لمحنة البشرية كلها لا كشخصية تاريخية تمشي على الأرض وتعرَّضت للصَّلْب. فالمُنقذ شبهُ المقدَّس لم يكن في واقع الأمر ليولد أو ليُقتل فعليًّا (وهو الرأي الذي يبشِّر بالمذهب الإسلامي)؛ وحادثة الصَّلَب لم تكن ضربًا من الواقع بل رمزًا للمعاناة التي تُعتبر حالةَ البشر أجمعين.

لقد فسَّرَ ماني كل شيء اقتبسه من المسيحية في إطار ازدواجي ووجودي؛ ويتجلى ذلك في الأسطورة المعقدة والمفصَّلَة جدًّا التي وضع مذهبه في قالبها. كانت المسألة المحورية بالنسبة إليه أصل الشر؛ ففسر الشر على اعتبار أن منبعه صراع كوني بدائي ما برح مستمرًّا بين النور والظلام؛ حيث أشار هذان الاصطلاحان إلى الواقع الرمزي والمادي. ولِقُوى الخير والشر في العالم نقاط ضعف وقوة بحيث لا يستطيع أن يتغلب أحدهما على الآخر. وكنتيجة للضرر الذي تُلحقه قُوى الظلام بعالم النور، أمستْ شذرات صغيرة من الإله — أو الروح — متناثرة في العالم كله في كل الكائنات الحية، بما في ذلك الحيوانات والنباتات. اعْتُبِرَ أن البطيخ والخيار يحويان مكونًا كبيرًا من الألوهية؛ ولذا كانت لهما مكانة بارزة لدى الصفوة المانوية، وكانت قوانين الطعام بالنسبة إلى طبقة الصفوة مدروسة ومُفصلة، وكان الخمر محظورًا تمامًا. طاب لمُعلِّمي المانوية ومبشريها استقطاب أعضاء الكنيسة، ويمكن استشفاف تسلل الأفكار المانوية إذ تقبَّل المسيحيون المُضيف في القربان المقدس دون كأس القربان نفسه. يمكن إبهار أعضاء الكنيسة بِوَرق البرشمان الأنيق والخطوط البديعة للكتب المانوية المقدسة والقداسة الخاصة لموسيقاها.

ورغم أن ماني كرَّسَ مكانةً خاصة في أسطورته للمسيح، فإن المكانة التدريسية العليا المعصومة لمجتمعه لم تختص بالمسيح ولا بالكتب اليهودية القديمة بل بماني نفسه، رسول الرب، والمُعزِّي الذي تنبَّأ به المسيح وأخبر أنه سيأتي من بعده لِيُظهر الحقائق التي لم يكن التابعون اليهود المخلصون جدًّا متأهبين لها. ولم يكن لدى ماني أيُّ مكان قط للخصوصية التي وَرِثتها الكنيسة من القالب اليهودي. وبحبكة غريبة، طرح ماني أسطورته الخصبة والإيروتيكية نوعًا ما، زاعمًا أنها رواية عقلانية ومتماسكة للحقيقة المُنَزَّلة، في تعارض قوي مع العقيدة البسيطة للمسيحيين الأرثوذكسيين الذين يؤمنون بالسلطة وحسب. لقد كرست الدعاية المانوية جلَّ اهتمامها للهجوم على الأخلاق الواردة في العهد القديم ودِقَّته التاريخية، وتلك الأجزاء من العهد الجديد التي بَدَت يهوديةً أكثر من اللازم للذوق المانويِّ. وفوق كل شيء، زعم المانويون أنهم يملكون الإجابة الوحيدة المُرْضيَة لإشكالية الشر: فهو بالنسبة إليهم قوة لا سبيل لاستئصالها راسخة في بنية العالم المادي. وما من أحد يمكن أن يزعم بشكل منطقي بأن الخالق المطلق لهذا العالم المضطرب يمكن أن يكون على كل شيء قدير وفي الوقت نفسه خَيِّرًا جدًّا. وإذا شئنا للحجة أن تكون متماسكة، فلا بد من التضحية إما بالقدرة المطلقة وإما بالخيرية المطلقة. ولقد سلَّمَ مُعَلِّمو المانوية بأن كلَّ الناس يعلمون دون المزيد من الإسهاب أو البحث والتمحيص المقصودَ من كلمة «شر».

خلال عشر سنوات كاملة تولى فيها أوغسطينوس مناصب تدريسية أولًا في قرطاج ثم في روما، ظل مرتبطًا بالمانويين. ولمَّا كان ناقدًا شرسًا للأرثوذكسية الكاثوليكية وواعيًا بتفوقه الفكري على أعضاء الكنيسة التي ازدرى أساقفتها لضحالة تعليمهم وقصور بحثهم النقدي، فقد تمكن من هداية كثير من الأصدقاء إلى المعتقدات المانوية. ولكن خلال العشرينيات من عمره، لم يكن يُدَرِّس الأدب اللاتيني وفنون البلاغة وحسب، بل كان يتدبر أيضًا القضايا الفلسفية والمعضلات المنطقية التي أَفْضَت إليها بطبيعة الحال دراسات البلاغة. وطفقت الشكوك المتزايدة تُثقل كاهله وتحيط به. أكان ماني على صوابٍ عندما أكَّد أن قوة النور الخيرية واهنة وعقيمة في صراعها مع الظلام؟ وكيف للمرء أن يعبد كما ينبغي إلهًا في قمة العجز والذل؟ علاوةً على ذلك، فقد منحت الأسطورة المانوية دورًا كبيرًا للنوريْن العظيمين والخيِّرين للشمس والقمر، وتبنَّت موقفًا حاسمًا من تفسير ظاهرة الكسوف الشمسي؛ ألا وهو أن الشمس والقمر يستخدمان أثناء تلك الظاهرة ستائر خاصة لحجب المشهد المفجع للمعارك الكونية. وانزعج أوغسطينوس إذ اكتشف أن الرواية المانوية كانت متعارضة مع أقوال أبرز علماء الفلك. يجوز أن يُزيل المرء الإطارَ الأسطوري الذي يحيط بالمسيحية الأرثوذكسية، ويتبقى له مع ذلك شيء عظيم الأهمية، لكن أوغسطينوس شعر أن هذا لا ينطبق على المانوية التي كانت الأسطورة فيها هي الجوهر والأساس. وبلغت خيبة أمل أوغسطينوس في الطائفة المانوية ذروتها عندما عرض شكوكه على مُعلِّم ذي مكانة مرموقة بين أتباع المانوية يُدعى فاوست؛ فقد اكتشف أن قدرة فاوست على البيان أكبر من قدرته على المحاجَّة الفكرية. عوضًا عن ذلك، اتضح أن الحياة الأخلاقية لطبقة الصفوة التي زعم منسوبوها لأنفسهم الكمال المعصوم ليست عذرية كما كان يفترض.

بدأ أوغسطينوس يبحث عن بدائل للمانوية. وكان قد بدأ يبدي اهتمامًا بالمزج ما بين المعتقدات المانوية عن التوازن ما بين الخير والشر والأفكار الفيثاغورسية الجديدة المتعلقة بالنسبة باعتبارها عنصرًا من عناصر جَمَال الكل، و«الجوهر الفرد» الخيِّر (الواحد واحد وحده وسيظل هكذا أبد الآبدين) في مقابل الشر ذي التعددية اللامتناهية. في منتصف العشرينيات من عمره، كتب أوغسطينوس كذلك كتابًا حول هذا الموضوع احتقره لاحقًا عندما خطر على ذهنه باعتباره عملًا منقوصًا ذا محتوًى عصيٍّ على الاستيعاب والفهم (الاعترافات). وتدريجيًّا، أغرقته الشكوك في تعليق الحكم. وأمسى مهتمًّا جدًّا بنظرية المعرفة: كيف لنا أن نعرف أي شيء؟ وكيف يمكننا التأكد بما لا يدع مجالًا للشك؟ وكيف يمكن أن نتواصل بعضنا مع البعض إذا كانت الكلمات يحتمل أن تكون مضللة أو تُفهم بمعنًى يختلف تمامًا عما يعنيه المتكلم؟ هل اللغة التي نتحاور بها يوميًّا، والتي كثيرًا جدًّا ما تتحدى قواعد المنطق، مصدر للنور أم الضلال؟

في هذه الحالة الذهنية المترددة، انكبَّ أوغسطينوس بِنَهَمٍ على مطالعة كتبٍ لفلاسفة متشككين وحاسمين عقائديًّا حيال عدم موثوقية وعدم حسم كل الأفكار المكتسبة والإدراك الحسي وقدرة الكلمات على أن تُطلع المرء على أي شيء مهم لا يعرفه بالفعل.

هكذا كانت الأفكار التي تدور في عقله عندما وصل إلى ميلانو عام ٣٨٤ ميلاديًّا ليتسلَّم منصبه الجديد أستاذًا جديدًا للبلاغة بالمدينة، لكن الأمل كان يحدوه بأن يرقى في المناصب. كانت ميلانو مقرًّا إمبرياليًّا. وإذا استطاع، رغم ابتسامات الإيطاليين من مخارج أحرفه اللينة الأفريقية الطابع، أن يتحدث ببلاغة شديدة بحيث يَلفت الانتباه في البلاط، وإذا تسنَّى له أن يكسب دعم المسئولين أصحاب السطوة والنفوذ، فربما يجوز أن يطمح في الترقي إلى منصب حاكم إقليم (الاعترافات). باعتراف الجميع، كانت هناك معوقات أمام طموح أوغسطينوس؛ فقد كان قرويًّا من الطبقة الوسطى لا تشفع له ولا تدعمه ثروة شخصية. علاوة على ذلك، فما برحت «زوجته العرفية» وفتاته القرطاجية ووالدة أديوداتوس تعيش معه. وما لن يثير التساؤلات إذ يصدر عن أستاذ في البلاغة بالمدينة قد لا يكون مقبولًا بمقر الحاكم. ولقد رأت أمه مونيكا، الأرملة التي لحقت به مُخلصة إلى ميلانو، أن شريكة ابنها الجاهلة وخليلة مهجعه عَقَبة مُهلكة في الطريق أمام رغبته العلمانية في التميز والشرف. وفي نهاية المطاف، أُرسلت عشيقته إلى قرطاج، وكان الفراق مؤلمًا بالنسبة إليهما. في تلك الفترة، كان أوغسطينوس قد خطب وريثةً شابَّة سيُيسِّر مهرها تحقيق آماله وأحلامه. وحتى تصل إلى السن القانونية للزواج، التفتَ أوغسطينوس إلى شريكة مؤقتة ليعزِّيَ بها نفسه؛ فهي لم تكن تمثل أهمية كبرى بالنسبة إليه، وكانت مشاعره جامدة.

في ميلانو، التقى أوغسطينوس لأول مرة في حياته بمفكِّر مسيحي يتمتع بقدرات لا تقل عن قدراته الخاصة؛ الأسقف أمبروسيوس، وهو رجل حاصل على تعليم عالٍ ويتمتع بعلاقات قوية بأصحاب النفوذ في البلاط. استقبل أمبروسيوس أوغسطينوسَ بلطفٍ وكياسة، وأجلَّتْه مونيكا وأَكَنَّت له كلَّ الاحترام ككاهن. قبل أن يمسي أمبروسيوس أسقفًا عام ٣٧٤، كان حاكمًا إقليميًّا لذاك الجزء الشمالي من إيطاليا، وساعده تلقيه تعليمَه في بيت أرستقراطي مسيحي على إتقان اليونانية. ولم يستقِ أمبروسيوس أفكاره وإلهامه لعظاته وحسب من علماء لاهوت يونانيين أمثال باسيليوس مدينة قيصرية واللاهوتي اليهودي فيلو، المعاصر الأكبر للقديس بولس، ولكنه استقاها أيضًا من أفلوطين. وعمل الدَّيْن الذي دان به أمبروسيوس لأفلوطين جنبًا إلى جنب مع الحذر بشأن الفلسفة الوثنية كدليل للحقيقة.

ثمة مفكر مسيحي آخر في ميلانو ترك أثرًا في أوغسطينوس، وهو رجل عجوز يُدعى سيمبليسيان الذي انجذب من خلاله إلى جماعة من العلمانيين المتعلمين تعليمًا عاليًا والمحتلين مكانة اجتماعية مرموقة، وكانت يجتمع أفرادها من أجل قراءة أعمال أفلوطين وفرفوريوس. ولقد أعجبوا بشدة بالقديس ماريوس فيكتورينوس الذي كرَّسَ السنوات الأخيرة من حياته لنشر المنطق الأفلاطوني الجديد دفاعًا عن المعتقد الثالوثي الأرثوذكسي. لم يكن أوغسطينوس قطُّ متأثرًا بشدة بالكتابات اللاهوتية الغامضة لفيكتورينوس، لكن قراءاته لأفلوطين وفرفوريوس بترجمة فيكتورينوس ألهبت أفكاره. وقد يبدو هذا مستغربًا للقارئ الحديث الذي يمكن أن تبدو له الأفلاطونية الحديثة معقدة وموجَّهة لفئة خاصة. إن الفلسفة الأفلاطونية الحديثة للوجود لها فرضيات مسبَّقة أو بديهيات مختلفة كل الاختلاف عن تلك الخاصة بالمنهج العلمي الحديث؛ فنقطة انطلاقها هي العقل لا المادة.

أفلوطين وفرفوريوس

تصوِّر السيرة الذاتية التي كتبها فرفوريوس لأفلوطين الهيبةَ التي كان يتمتَّع بها هذا الفيلسوف العظيم، على الأقل في دائرة تلاميذه الداخلية. كتب فرفوريوس تلك السيرة الذاتية بحيث ترافق نسخته من أفلوطين؛ وذلك لأنه أراد من ناحية أن يعرف الجميع كيف كان بطله على حق إذ استأمنه على نشر أطروحاته، وكيف أُعجب أفلوطين بشدة بالعقلية النقدية لتلميذه وقدرته على تأليف أشعار بهيجة مُلهَمة، وكيف أنه في سن الثامنة والستين تَأتَّى لفرفوريوس نفسه في مناسبة هانئة التوحد الصوفي مع الإله، وهي التجربة التي يعيشها المرء أربع مرات فقط في الحياة، حتى بالنسبة إلى أفلوطين المستنير بنور إلهي. يتمثل أفلوطين على هيئة رجل ذي عبقرية فريدة لم تكن روحه الحارسة قوة دونية، ولم يهدأ عقله من التركيز على أسمى ذُرى الفكر.

وشأنه شأن معاصره المسيحي الأكبر سنًّا أوريجن، عاش أفلوطين حياةً متقشِّفة؛ فلم يأكل ولم يَنَم إلا قليلًا، واقتات على النباتات ولم يستحم. «فقد بدا دومًا خَجِلًا من وجوده المادي»، ولم يحتفل قطُّ بعيد ميلاده. ولقد أمسى أفلوطين بالنسبة إلى كثير من تلاميذه، ذكورًا وإناثًا، رمزًا للأب الذي يستشيرونه في القرارات الحياتية كبيرها وصغيرها. وكانت لديه قدرة عجيبة على كشف الكذب، وشأنه شأن الأساقفة المسيحيين كان يُطلب إليه التحكيم في النزاعات. ولقد نجح في إقناع فرفوريوس بالعدول عن الانتحار.

في نظامه الفلسفي، انطلق أفلوطين يرسم نوعًا من الصور اللفظية للبناء الكامل للأشياء على فرض أن هناك تناظرًا حميمًا ما بين الواقع وعملية الفكر البشري. ولقد علَّقَ أهميةً كبيرة على جدلية محاورتَي أفلاطون «بارمينيدس» و«السفسطائي»، ولا سيما تحليل أفلاطون للهوية والاختلاف؛ أي إنه إذا قلنا إن «س» و«ص» هما «الشيء نفسه»، فإننا نوحي بأن ثمةَ تمايزًا بينهما إذا أردنا أن يكون التأكيد على الهوية مثيرًا للاهتمام. وعلى النقيض، فإن بيان أن «س» و«ص» مختلفان يوحي بأن ثمة رابطًا كامنًا للهوية بينهما. ولذا، وراء التعددية والاختلافات المحسوسة والمشهودة في هذا العالم، ثمة وحدة وأداء. وبالمثل فعالم المظاهر المُدرَكَة عالم دائم التغير؛ لكن التغير يفترض مسبَّقًا وجود بنية تحتية تظل دائمة أبدية.

نَسب أفلاطون صفةَ عدم التبدل إلى العالم الأسمى للوجود الذي يدركه العقل في مقابل التدفق الدائم التغير للتحول الذي تدركه الحواس الجسدية؛ ولذا، فإن نظرية أفلاطون الخاصة بالأشكال (أو الأفكار)، والمطلقات الأبدية هي كالتالي: أيًّا كان ما في هذا العالم نَصِفَه بالخيرية أو الجمال أو الحق فهو يتسم بتلك الصفات بقدرِ ما يستقي صفاته من المطلق الخاص بكل صفة. والأشكال هي الواقع الموضوعي الثابت والساري عالميًّا. علاوة على ذلك، فإن هذه المسلمات لا تدركها الحواس الجسمانية الخمس، بل عملية رياضية ببساطة للتجريد الفكري القح. وبقدرِ ما تبدو تلك التجريدات خالية من الحياة، فإن الأفلاطونية تستوعب تلك المسلمات باعتبارها سببية إلى حد كبير؛ فالموجودات الفردية يستحيل تفسيرها بمعزل، بل كأعضاء من فئة سابقة لها؛ ولذا، فالمُسَلَّم بالنسبة إلى أي أفلاطوني أكثر واقعًا من أي واقعة محددة، وهو المذهب الذي عارضه أرسطو منتقدًا كون المُسلمات تصنيفات ذهنية لا تتجسد في الواقع إلا عندما تتجسد في موجودات محددة. وفي عمله «مقدمة»، تتبع فرفوريوس فكرته الخاصة بالمصالحة ما بين أفلاطون وَأرسطو؛ إذ وضع هذين الرأيين كلًّا منهما بجانب الآخر وأعرض بوعي عن إصدار حكم يميل به إلى أيٍّ منهما.

كان أرسطو معنيًّا بالوعي بالذات الذي يتطابق فيه العارف والشيء المعروف. وطور أفلوطين هذه الملاحظة وانطلق بها لمستوًى أبعد، فصاغ علم لاهوت بَدَى الكثير من الأفكار الواردة فيه مُسَلَّمَات ذاتية البيان لأوغسطينوس. على قمة هرم الوجود هناك الواحد، ويُراد به الإله، المطلق الذي لا سبيل لمعرفته، ومع ذلك تدركه الروح كشكل من أشكال الوجود الذي يتجاوز كل المعرفة. وفي السلسلة العظيمة أو تسلسل الوجود الذي حدَّده أفلوطين باعتباره هيكل الأشياء وبِنيتها، يعتبر المستوى الأعلى علة ما دونه أيًّا كان مباشرة. تكلم أفلوطين عن التحول أو التطور الطارئ على البناء الهرمي للوجود على أنه «انبثاق»، وصورة مادية قوية، وفي عملية الانبثاق تَحْدث خسارة تدريجية؛ وذلك لأن كل أثر يكون أدنى بعض الشيء من علَّته. ورغم ذلك، فإن عدم الكمال المتأصِّل في دونيته يمكن التغلب عليه بينما يرتد إلى علته. والعلة نفسها لا يشوبها نقص دومًا بفعل عطائها السرمدي للوجود للأثر الأدنى.

لقد مَكَّنَ هذا النوعُ من التفكير في الانبثاق السببي في السلسلة الكبرى للوجود أفلوطينَ من تحقيق عدة إنجازات في آنٍ واحد؛ فمن ناحية، استطاع حلَّ مشكلة كيف يَحُول دون فقدان الإله والعالم كلَّ علاقة تربط بينهما دون أن يكف المطلق عن أن يكون مطلقًا، ودون أن يسقط العالَمُ بشكل منطقي من الوجود كليًّا. ولقد عبَّر هذا النوع من التفكير عن نوع من التعويض من طريق «التحول» إلى مصدر الوجود. ومن ناحية أخرى، فقد خفَّف من وطأة المشكلة التي تسبَّبت في حيرة ذهنية مضنية لجميع الأفلاطونيين؛ ألا وهي الإجابة عن السؤال المتعلق بكيفية ولوج الشر إلى تسلسل الأشياء في الوقت الذي كان فيه هذا التسلسل تدفقًا فائضًا من الخيرية والقوة الساميتَيْن.

درَّسَ أفلوطين أنه على قمة الهرم هناك ثلاثة موجودات مقدسة: الواحد (الإله) والعقل والروح. الواحد خَيِّر إلى أقصى حد، ولذا يتعيَّن أن تكون جميع المستويات الأدنى للبناء الهرمي دون الواحد أيضًا متمايزة عن الخيرية؛ أي أنْ تكون أدنى من الخيرية المثالية. وحتى العقل فيه شيء من الدونية ممثلة في بعض الضلالات حول عظمته. أما الروح، وهي أدنى بقدر أكبر في البناء الهرمي، فتتمتع بالقدرة على إنتاج المادة. والمادة، باعتبارها على الطرف النقيض تمامًا في البناء الهرمي من الواحد الخيِّر، تعتبر شرًّا مطلقًا وعدمًا لا هيئة له.

كره الأفلاطونيون الجدد الثيوصوفية من كل قلبهم، ومقتوا شكلها المانوي أكثر من أشكالها الأخرى. ولقد افتُتحت أطروحة أفلوطين «ضد الغنوصيين» بمجموعة من المقالات الأفلاطونية الحديثة في الجدل المناوئ للمانوية. وإذ رأى أفلوطين الكونَ كسلسلة عظيمة من الوجود، استطاع أن يعلن أن الشر ما هو إلا عيب في الوجود والخيرية متأصل في حقيقة وجود مستوًى أدنى. ولكن، ثمة تفسيران آخران للشر كانا أيضًا بارزين في تفكيره. ومن بين هذين التفسيرين، تناولَت الإجابة الأولى تبعات الاختيار الحر المُسَاء استغلاله والراسخ في احتمالية ضعف الروح، أما الإجابة الثانية، فبحثت في المادة. إن الضعف في الروح مال إلى جعْلِها مستغرقةً في أشياء خارجية ومادية؛ ولذا، فالشر الكوني اللاأخلاقي الممثَّل في عيب الوجود الراسخ في المادة يصبح جذرًا للشر الأخلاقي في الروح. «من دون المادة، يستحيل أن يوجد شر أخلاقي قط» (أفلوطين). إن وجود المادة في الروح يجلب لها الضعف ويتسبب في سقوطها. وفي الوقت نفسه، تمنَّى أفلوطين أن يتحدَّث عن انبثاق الروح وسقوطها كحدث ضروري للوفاء بقدراتها المحتملة وللخدمة التي يتعين على الروح تقديمها لعالم الحواس الدوني. ومن المنصف أن نستنتج أنه حتى أفلوطين أخفق في تحقيق مكانة واضحة ومتسقة، فبعد التحول الذي شهده أوغسطينوس، سعى إلى تصحيح أخطاء أفلوطين.

كانت مذاهب فرفوريوس شبيهة جدًّا بمذاهب سيده أفلوطين. وفي المدرسة الأفلاطونية الحديثة كان هناك شقاق حيال طائفة الأرباب؛ فقد شعر أفلوطين وفرفوريوس بالتحفُّظ تجاه المشاركة في التضحيات الهادفة لاسترضاء الأرواح. كتب فرفوريوس أطروحةً عن «عودة الروح» (أي إلى الرب). وبالنسبة إلى قراءات أوغسطينوس المثيرة بشكل متعمق، مثَّلت هذه الأطروحة موقفًا وسطًا؛ فقد سلَّمَ بأن الفلسفة السديدة يمكن استخلاصها في المعابد من المشاورات التي ينطق بها أبوللو إله الشمس عبر نَبِيَّاتِه. لكنه كتب بعين ناقدة عن الرفاق الوثنيين الذين افترضوا أن الروح يمكن تطهيرها مباشرة عبر المشاركة في الأضاحي بالمعبد أو عبر ممارسة أنشطة طقسية خارجية. وكانت الأضاحي الحيوانية أيضًا دنيوية. علاوة على ذلك، لم تكن عادةُ تناوُل اللحم بعد الأضحية متوائمةً مع المبادئ النباتية؛ ولذا، دفع فرفوريوس بأن تطهير الروح يمكن أن يتحقق وحسب ﺑ «الفرار من الجسد» الذي اتحدت به بفعل سلسلة من الحوادث المؤسفة. فبالإعراض عن اللحم والنشاط الجنسي، يمكن تحرير الروح تدريجيًّا من أصفادها البدنية.

ودرَّسَ فرفوريوس أن السعادة تكمن في الحكمة التي يمكن العثور عليها بطاعة الأمر القديم لديلفي «اعرف نفسك». باعتراف الجميع، يجعل الشرُّ الكامن في الروح الإنسانَ عاجزًا عن ممارسة التأمل الفكري المستمر، فتُمسي تلك اللحظات عابرة بالنسبة إليه. ولكن «مرِّن نفسك على العودة إلى نفسك، واجمع من الجسد كلَّ العناصر الروحانية المتناثرة والمختزلة في كتلة من القطع الصغيرة.» و«يُزج بالروح في الفقر والعوز كلما تعززت روابطها بالجسد. لكن، يمكن أن تصبح الروح خصبة حقًّا باكتشاف ذاتها الحقيقية الممثلة في الفكر.» «غايتنا تحقيق تأمُّل الوجود.» «الذين يعرفون الربَّ يستحضرونه، والذين لا يعرفونه يغيبون عن الرب الموجود في كل مكان.» يعكس كتاب «الاعترافات» لأوغسطينوس هذه اللغة.

ودَرَّسَ فرفوريوس أن الرب يحيط بكل الأشياء، ولا يحيط به شيء. والواحد موجود لكلِّ من يشارك في الوجود المتدفق من مصدره في الرب. والخيرية يجب أن تكون ذاتية الانتشار، لكن كل التعددية تعوِّل على الوحدة العليا وتسعى للعودة إليها. وفي البناء الهرمي للوجود، من البديهي أنه من الجيد أن يكون المرءُ موجودًا، وأن درجات الوجود هي أيضًا درجات للخيرية. كتب فرفوريوس يقول: «كل ما هو موجود خيِّر بقدرِ ما له من وجود؛ حتى الجسد له جماله ووحدته الخاصان» (يقول أوغسطينوس الشيء نفسه، «حول الدين الحق De vera religione»). تحتل الروح، بين الأشياء المادية والعوالم الأسمى للحقيقة البائنة، مكانة وسيطة. وبالإهمال والتحدي العنيف العصي على التفسير، من الممكن أن تغرق الروح في مستنقع الكبرياء والحسد والأشياء الشهوانية. ولكن، بضبط النفس المتقشف والتأمل الاستبطاني، يمكن للروح أن تسمو إلى كمالها الحقيقي. وهذا الكمال هو «التمتع بالرب». تبنَّى أوغسطينوس هذه العبارة الأخيرة.

واستقى فرفوريوس من أفلوطين مبدأ أنه عند قمة سلسلة الوجود — حيث لا تستطيع حواسنا الخمس الوصول — هناك ثالوث مقدس قوامه الوجود والحياة والذكاء، وهو ثالوث تبادلي كله، ويُعرَّف كوحدة يستطيع المرء داخلها أن يميز العلامات الفارقة. وهيكل الأشياء يطابق بنية الانطلاق المتناغم من المبدأ المطلق للوجود، ومن الاحتمالية إلى الواقع، ومن المجرد إلى الملموس، ومن الهوية إلى تلك الغيرية التي تعتبر أيضًا تدنيًا في مستوى الوجود. إن مصير الأرواح الأبدية العودة من حيث أتت؛ فالأرواح سرمدية أصلًا. ومبدأ العودة أو التحول هو مغزى مبدأ أفلاطون لاستعادة الذكريات؛ أي إن كلَّ المعارف ما هي إلا استرجاعُ ما عرفه المرء ذات مرة (في وجود سابق) ولكن نسيه. ولقد استعاض الأفلاطونيون الجدد، وأوغسطينوس من بعدهم، بفكرة التنوير الإلهي الذي يضيء من داخل الروح مباشرة عن هذا المذهب إلى حدٍّ كبير.

قُرب نهاية حياة فرفوريوس (الذي زعم بعض الكُتَّاب المسيحيين أنه كان مسيحيًّا في شبابه ثم ارتد عن دينه)، ألَّفَ هجومًا مطولًا ولاذعًا على المعتقدات المسيحية والجدارة التاريخية للأناجيل. لم يكن كتابه الذي هاجم فيه المسيحية معروفًا بالنسبة إلى أوغسطينوس. ولكن، يجوز وصف أعمال فرفوريوس بإنصاف بأنها تقدِّم فلسفةً دينية بديلة مصممة، سواء عن عمد أو من دون عمد، لتوفِّر منافسًا للمسيحية وترياقًا لها.

فتنت مجموعة أفلاطونيي ميلانو أستاذهم في البلاغة الجديد بترجمات فيكتورينوس لأعمال أفلوطين وفرفوريوس. وقد كان للُّغة التي تعرض لها أوغسطينوس في تلك الأعمال التي تتناول معضلة الشر والتجربة الصوفية للعالم اللاماديِّ السامي أثرٌ عظيمٌ. كان الأفلاطونيون الجدد يقولون له إن الروح لها قوة المعرفة الذاتية الفورية والراسخة بداخلها. علاوة على ذلك، فهذه القوة يمكن أن تتحقق وحسب عند تنحية إدراكات الحواس الخمس جانبًا، فيشهد العقل عملية تطهير، بفعل الجدل، تطهِّره من الصور المادية وتسمو به إلى الرؤية المقدسة السعيدة التي تحدَّث عنها أفلاطون. ولقد آمنوا بأن هذه قوة طبيعية للروح تتحقق بينما تحتضن الروح تدريجيًّا النورَ والحقيقةَ المقدسين.

وصف أوغسطينوس لاحقًا في الكتاب السابع من «الاعترافات» كيف أنه حاول في ميلانو أن يتأمل تأملًا عميقًا المنهج الأفلاطونيَّ الجديد؛ فقد حررته الأفلاطونية من المفهوم المانوي للإله باعتباره مادةً مضيئة خفية. وبالاستبطان بمعزل عن الناس وبممارسة طريقة الارتداد الجدلي من الخارجي إلى الداخلي، ومن الدوني والمادي إلى السامي والذهني، نال رؤية عابرة للحقيقة السرمدية والجمال غير المتبدل. وأصيب بالإحباط بسبب سرعة زوال تلك التجربة العميقة جدًّا، وحقيقة أنه وجد نفسه بعدها مستغرقًا في كبريائه وشبقه كما في السابق. ومع ذلك، عرف أوغسطينوس أنه في تلك «اللحظة المضيئة العابرة» حظي بلمحة مذهلة للوجود السرمدي الذي لا يتبدل، والواقع اللامادي الذي يتجاوز بالكامل ذهنه المتغير دومًا (الاعترافات). ولا يوجد تلميح لاقتراح في كتاباته اللاحقة، التي كتبها كمسيحي، يفيد بأن تجربةَ ما قبل التحول هذه لم تكن حقيقية بأي حال من الأحوال. لاحقًا في «الاعترافات» (الكتاب الحادي عشر) سيتبنى أوغسطينوس تقريبًا لغة مطابقة حول الوحدة بين الحب والهيبة، تلك الهيبة المترتبة على تأمل الآخر المنيع والبعيد جدًّا و«المُغاير»، والحب النابع من الدراية بالآخر الذي هو مألوف جدًّا وقريب جدًّا؛ الهيبة المقابلة للسمات السلبية والمجردة، والحب الذي يروم التعبير عنه بكلمات شخصية وبصراحة شديدة.

وفي قلب التجربة التي وصفها استقر الإيمانُ بأن المخلوقَ المحدود القدرات لديه شوق نَهِم للإشباع الموجود وحسب فيما يتجاوزه، وفيما يتجاوز في حقيقة الأمر القدرة البشرية على التعبير أو الوصف.

fig2
شكل ١-٢: رؤية القديس أوغسطينوس للقديس جيروم بريشة فيتوري كاراباشيو، مدرسة سان جورجيو ديلجي شيافوني، البندقية.

أعادت العظاتُ الأفلاطونية الحديثة الناصحةُ بكبت الشهوات والحواس المادية أوغسطينوسَ إلى تحذير شيشرون من أن الانغماس الجنسي لا يمثل أرضًا خصبة للجلاء الذهني. وورد في الورقة الدعائية لفرفوريوس حول التغذي بالنباتات الصرفة أنه «كما يتعين على القساوسة بالمعابد الإعراضُ عن الجماع لكي تتحقق لهم الطهارة الطقسية ساعةَ تقديم الأضحية، كذلك على الروح الفردية أن تكون طاهرة بالقدر نفسه كي تنال رؤية الرب.» أدرك أوغسطينوس أنه «منساق بفعل ثقل الحياة الشهوانية.» لم يكن مسيحيًّا، ورغم ذلك اكتشف بواسطة مسيحيين أمثال سيمبليسيان في ميلانو تجربةً ذات أهمية نفسية عظيمة له؛ حيث منحته تأكيدًا كاملًا وكذا وعيًا بزواله الشخصي في مقابل الوجود السرمدي للواحد. واكتشف أنه ممزق في صراع ما بين الفلسفة التأملية التي دعت روحه إلى أشياء أسمى من الجسد، وعادةِ النشاط الجنسي التي شعر بسببها بأنه مقيد، والتي طالما وجد فيها مصدرًا للإشباع الجسدي، إن لم يكن النفسي أيضًا. وبدأ يعقد الآمال على أن ينال الحصانة والعفَّة في نهاية المطاف، وصلَّى من أجل ذلك، «لكن ذلك لم يتحقق بعد» (الاعترافات، الكتاب الثامن). ومما أراح باله وكان له بمنزلة الحافز في الوقت نفسه أن محاورة هورتنسيوس لشيشرون ورد فيها أن «البحث المحض عن السعادة العليا، لا نَيْلَها الفعليَّ وحسب، كنزٌ يتجاوز كلَّ ثروات البشر أو شرفهم أو متعتهم المادية.»

باتجاه الهداية

إذا كان الأثر الذي ينطوي على مفارقة لمحاورة هورتنسيوس لشيشرون عندما كان أوغسطينوس في التاسعة عشرة من عمره يتمثل في استقطابه نحو المانوية، فقد كان أثر قراءاته الأفلاطونية في الحادية والثلاثين من عمره أن حثَّته على الاتجاه نحو أكثر ما يكره فرفوريوس؛ ألا وهي الكنيسة. لقد كانت الجماعة الأفلاطونية الحديثة في ميلانو مهتمة خصيصَّى بأجزاءٍ من العهد الجديد، مثل مقدمة إنجيل القديس يوحنا أو أسلوب القديس بولس المصطبغ بصبغة أفلاطونية في الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس ٣-٤ التي قدمت أساسًا إنجيليًّا لأفلاطونية مسيحية. وكان المسيحيون في هذه الجماعة معنيين بتفسير رسالة القديس بولس إلى رومية بطريقة تفادت الحتمية والازدواجية المانوية. لقد فسَّرَ أوغسطينوس كَمَانويٍّ أن الحواريَّ لا يتعارض وحسب مع العهد القديم، بل ومع نفسه أيضًا؛ فلغة بولس عن الصراع ما بين الجسد والروح (غلاطية، رومية) اقتبسها المانويون كميثاق لإيمانهم بأن النزعات الجنسية للجسد هي أصل كل الشرور. تبنَّى أفلاطونِيُّو ميلانو الجدد وجهة نظر أقل تشاؤمًا بعض الشيء. وسرعان ما اقتنع أوغسطينوس بأن المسافة الفاصلة ما بين أفلاطون والمسيح لم تكن بالكاد خطوةً قصيرة وبسيطة، وأن تعليم الكنيسة كان فعليًّا «أفلاطونية للجمهور»، وطريقة صُوَريَّة ومجازية للتعاطي مع العقول غير الفلسفية لجعلها عقلانية على الأقل في سلوكها. وحتى نهاية حياته، وبعد أن أمست تحفظاته بشأن عناصر بعينها في التقليد الأفلاطوني محددة وواضحة بفترة طويلة، لم يكن أوغسطينوس ليقصِّر في الإقرار إقرارًا سخيًّا بالدَّيْن الذي يَدين به لكتب الأفلاطونية الحديثة. وبينما كان على فراش الموت في هيبو أثناء الحصار الطويل الذي ضربته قبيلة الواندال على مدينته، كانت آخر كلماته المؤرخة اقتباسًا من أفلوطين.

إن النزعة الروحانية الأفلاطونية الحديثة والتشديد على الاستبطان والتحرر من عوامل التشتيت بالعالم الخارجي شحذت شعور أوغسطينوس بالانسياق في اتجاهين مختلفين؛ حيث ساقته نزعته الجنسية إلى القاع. وبينما طالع رسائل القديس بولس، بدأ يفكر أن الحواري استوعب حالته بالكامل، ووجد نفسه في دوامة من الصراع الداخلي. وزاد وعيه ببؤسه ذات يوم بشدة بينما كان سائرًا في شارع من شوارع ميلانو مرورًا بشحاذ يضحك بسعادة غامرة تحت التأثير المخدِّر للخمر (الاعترافات، الكتاب الخامس). وأدرك أن شعوره عند تأمُّل الرجل لم يكن الشفقة بل الحسد. واكتشف أستاذ البلاغة أن نسخته من رسائل القديس بولس أمست مهمة بالنسبة إليه.

وفي نهاية شهر يوليو عام ٣٨٦، وفي بستان البيت بميلانو حيث كان يعيش بصحبة أمه وتلميذه الأسبق أليبيوس (وهو محامٍ بارع ما برح في عام ٣٨٦ يفنِّد المعتقدات المانوية، ولاحقًا أصبح أسقفًا لبلدة طاغست)، بلغ أوغسطينوس أخيرًا مرحلة لا بد فيها من قرار؛ فقد تدهورت حالته الصحية بسبب الربو الذي أصاب صدره، وَبَحَّ صوتُه. ولم يستطع أن يحدد إن كان هذا عَرَض لوعكته أم علة مساهمة في قراره. قرر أوغسطينوس أن يترك منصبه التعليمي، وأن يتخلَّى معه عن طموحاته بمسار عملي علماني. وكانت الذروة لمَّا تَخَلَّى عن نِيَّتِه في الزواج بالكامل. هل يستطيع أن يحمل نفسه على العيش من دون امرأة؟ علم أوغسطينوس من صديق أفريقي له يعمل في ديوانية البلاط عن وجود مجتمع من الزاهدين الذين يعيشون في ميلانو وعن تنازل أنطوني الناسك المصري عن ثروته، وسيرته الذاتية التي كتبها بابا الإسكندرية أثناسيوس وسرعان ما تُرجمت إلى اللاتينية للقرَّاء الغربيين. إذا استطاعوا أن يحققوا كبت النفس عن الشهوات، فلا بد أن ذلك باستطاعته أيضًا؛ أم إن إرادته واهنة أكثر من اللازم؟

وفقًا للسرد الوارد في الكتاب الثامن من «الاعترافات» التي كتبها بعد تلك المرحلة بأربعة عشر عامًا، أمسك أوغسطينوس بنسخته من إنجيل القديس بولس، وفتحها بشكل عشوائي، وعلى غرار الذين الْتَمسوا إرشاد فيرجل لهم في المستقبل، استرشد أوغسطينوس بأول نصٍّ وقعت عليه عيناه، وكانت الكلمات الختامية لرسالة بولس إلى أهل رومية ١٣ التي تقارن ما بين الشهوانية الجنسية والدعوة إلى أن «الْبَسوا الرب يسوع المسيح.» ووصف قراره بلغة أدبية رائعة تُردد صدى أسلوب الشاعر بيرسيوس، وعبارة مذهلة من أفلوطين، وتلميح رمزي إلى سقوط آدم من جنة عدن. وسرد كيف سمع صوتًا، إذا جاز التعبير، أشبه بصوت طفل يُملي عليه أن «أمسك بالكتاب واقرأ!» ثمة خلاف حول مقدار السرد المكتوب نثرًا والمقدار المكتوب بلغة أدبية أو بزخارف بلاغية، لكن لا شك أن هناك عاملًا أدبيًّا. ومن المؤكد أيضًا أنه في ميلانو بنهاية يوليو ٣٨٦ قرَّر أوغسطينوس أن يتخلى عن فكرة الزواج والطموح العلماني، وأن يخوض تجربة التعميد. واستقال من مهنة التدريس بالمدينة.

لم تكن هدايته مفاجأة، بل نتاج أشهر عدة من المخاض الموجِع. ولقد شبَّه هو نفسه لاحقًا عملية الهداية بالحمل والولادة. وكان هذا الاختيار إيذانًا بتحول أخلاقي أكثر منه فكري في المحتوى. والقصة الواردة في «الاعترافات» تفترض مُسبَّقًا أن أوغسطينوس عام ٣٨٦ اعتبر الشغف الجنسي العقبة الوحيدة بين روحه والتوحد مع الحقيقة المعنوية السرمدية. وما لقَّنه إياه أفلوطين وفرفوريوس أمسى الآن ممكنًا وفعليًّا بمساعدة نصٍّ من نصوص القديس بولس. وبعدها بخمسة عشر عامًا، سيعكف أوغسطينوس على الكتابة عن «الوهم» الذي يعيش فيه البعض في هذه الحياة، ومفاده أنه في هذه الحياة من الممكن للعقل البشري أن يفصل نفسه عن العالم المادي كي يستوعب «النور النقي للحقيقة الثابتة» (الانسجام بين الأناجيل De consensu evangelistarum). ومع ذلك، في تلك الفترة راودته أحاسيس «العودة إلى المرفأ بعد الرحلة العاصفة». أجيبت صلوات مونيكا لهدايته وتعميده. من المستحيل أن يهلك ابن الدموع الغزيرة.
بعد ذلك بأشهر قلائل أعلن أوغسطينوس أنه رغم أن الرغبات القديمة لم تكفَّ عن مطاردته في أحلامه، فقد بدأ يُحرِز تقدمًا؛ حيث أمسى الآن ينظر للجِماع بمقتٍ وكراهية باعتباره «حلاوة مُرَّة» (مناجاة النفس Soliloquia). لم تجعل طموحات العيش في تقشف منه ناسكًا، وكان يشتاق إلى العيش بين أصدقاء عاديين مشاركًا إياهم شغفه وحماسه لأفلاطون والقديس بولس مع شيء من أعمال شيشرون (ولا سيما مناقشات توسكولوم) بين الحين والآخر. مرت ثمانية أشهر ما بين قراره الذي اتخذه في بستان ميلانو وعيد الفصح عام ٣٨٧ عندما عُمِّدَ على يد أمبروسيوس، كما عُمِّدَ ابنه غير الشرعي أديوداتوس وصديقه أليبيوس المحامي. وخلال تلك الأشهر، أُعطي هو ومونيكا ومجموعة من الأصدقاء والتلاميذ فيلَّا على سبيل الاستعارة في مدينة كاسيكاسيوم على التلال على مقربة من مدينة كومو. وهناك استعاد عافيته، وتفكر في موقفه.
fig3
شكل ١-٣: مشاهد من حياة القديس أوغسطينوس: تعميد القديس أوغسطينوس، ١٦٤٥ بريشة بينوزو جوزولي. تصوير جَصِّي، كنيسة القديس أوغسطينوس، قرية جيمنيانو، إيطاليا.
لا تظهر هداية أوغسطينوس في كتاباته آنذاك على اعتبار أنها كانت مدفوعةً بالفرار من الشكوك الأليمة للريبة الفلسفية عن طريق الاعتصام بالسلطة العقائدية للكنيسة، فمصدر بؤسه وعدم رضاه يكمن داخله. ومع ذلك، كانت مشكلة السلطة واضحةً في الخلافات التي نشبت ما بين الكاثوليكيين والمانويين، وأقرَّ أوغسطينوس بخضوعه للمسيح ولمجتمعه، وهو ادعاء بتقرير المصير أمسى يراه لاحقًا ضربًا من الكبرياء (الاعترافات، الكتاب العاشر). منذ خريف عام ٣٨٦ فصاعدًا، أضحت كتاباته تحوي تلميحات كثيرة للإنجيل وللعقيدة المسيحية. وفي مدينة كاسيكاسيوم، كتب أوغسطينوس عن السلطة والعقل باعتبارهما سبيلين موازيين للحقيقة؛ حيث كانت السلطة ممثلة في المسيح والعقل في أفلاطون. من الممكن أن تعطي السلطة توجيهات يستوعبها العقل بالتبعية. والسلطة سابقة زمنيًّا، والعقل سابق في ترتيب الواقع. ويفضل المتعلمون تعليمًا رفيعًا اتباعَ المسار الفلسفي للعقل، ولكن حتى في هذه الحالة لا يمكن أن يكون العقل كافيًا لتوفير كل التوجيه الذي تقتضيه الضرورة. من ناحية أخرى، التعويل الحصري على السلطة لا محالةَ يحيق به خطر عظيم؛ فكيف للمرء من دون عقل أن يميز ما بين الادعاءات المتنافسة للسلطة؟ وكيف للمرء أن يميز ما بين السلطة الإلهية أصلًا وسلطة الأرواح الأدنى منزلة التي يوقرها الوثنيون الذين يزعمون قدرتهم على التنبؤ بالمستقبل بالعرافة والكهانة؟ لكن السلطة الإلهية للمسيح مثبتة باعتبارها أسمى منطق في الوقت نفسه، فهو حكمة الإله نفسها التي تطابق الثالوث الأعلى لعقل أفلوطين (الحياة السعيدة De beata vita).

وأخيرًا، على المرء أن يتساءل عن الأفكار المحددة عن الرب والإنسان التي قَبِلها أوغسطينوس كنتيجة لتعميده واعترافه بالعقيدة المسيحية. باختزالها إلى أكثر عناصرها بدائيةً وهيكلية، دعت العقيدة المسيحية أوغسطينوس إلى التصريح بالتأكيدات التالية؛ أولًا: أن العالم المنتظم ينبع من الخير الأسمى، الذي يُعتبر أيضًا القوة الأسمى، ولا نعني أفضل قوة يصادف أن يكون لها وجود، بل كمالًا لا تستطيع عقولنا حتى أن تتخيل فكرةً لأيِّ وجودٍ أسمى منه. ولذا، فإنه «هو» موضوع الهيبة والعبادة. ولا ينبغي أن نفكر في الرب على اعتبار أنه منخرط في صراع من الأدنى إلى الأعلى كالبشر (وكقوة النور المانوية)، بل على اعتبار أنه يمتلك غاية إبداعية وتخليصية متسقة فيما يتعلق بالكون عمومًا والخلق العقلاني خصوصًا. والمستوى الأسمى على سُلَّم القيمة هو الحب، الذي هو طبيعة الرب عينها.

ثانيًا: الطبيعة البشرية بحسب معرفتنا بها الآن تخفق في الانسجام مع نوايا الخالق؛ فالبؤس البشري تُخلده الأنانية الاجتماعية والفردية، فيطارد الإنسانَ الجهلُ والفناءُ وقِصَرُ الحياة وضعفُ الإرادة، وقبل هذا وذاك الإنكار المتعجرف والعنيد للخير الحقيقي. وخلاصة القول أن البشرية بحاجة إلى علاج الحياة السرمدية وغفران الخطايا أو البعث تحت مظلة حب الرب.

ثالثًا: أن الرب الأسمى تَصَرَّفَ في إطار الوقت والتاريخ الذي نحيا فيه، والذي «يسمو» هو فوقه ويتجاوزه، فيجلب لنا المعرفة والحياة والقوة والتواضع (أعظم هبة على الإطلاق) التي من دونها لم يكن أحد ليتعلَّم أي شيء. ولهذا الفعل ركيزته البالغة ذروتها في المسيح، قدوة البشرية في حياته وتعاليمه الحكيمة وعلاقته البنويَّة الفريدة باﻟ «الآب» الأسمى. لقد جسَّد المسيح هبة حب الرب بتواضع انبعاثه وموته. والوصول إلى حركة الرب هذه من أجل إنقاذ الإنسان الساقط يتسنى عبر ارتقاء الإيمان ولزوم مجتمع أتباع المسيح، وهو مجتمع هيكلي يأتمنه على الإنجيل وعلامات العهد المقدس الممثلة في الماء والخبز والخمر. وبذلك توحِّد روح القداسة ما بين الإنسان والرب، وتمنح الأمل في الحياة القادمة التي يعتبر انبعاث المسيح عهدها المطلق، وتُحْدِث تحولًا في الحياة الشخصية والأخلاقية للفرد كي يكون أهلًا لمجتمع القديسين في حضرة الرب.

خاطبت التعاليم المسيحية أوغسطينوس من خلال هذه الأفكار بأسلوب أخرويٍّ قوي يرتبط بقوة بالأخلاقيات والميتافيزيقا الأفلاطونية. وكان من الأهمية بمكانٍ أنْ جَمَعَ ما بين لغة أفلوطين السلبية الموضوعية حيال الواحد أو المطلق والمفهوم الإنجيلي عن الرب باعتباره ممثلًا للحب والقوة والعدل والغفران. ومن المحوري للتوحيد أن يُعرف سر الرب لا في هيبة الطبيعة وعظمتها فحسب، بل عن طريق كشف عن الذات أيضًا، قياسًا على الشخص الذي يُعْلِم الآخرين ما لم يستطيعوا اكتشافه بأنفسهم. ومنذ عام ٣٨٧ فصاعدًا، تناول أوغسطينوس تلك الأفكار باعتبارها مبادئ أولى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤