طفولتي

كان والدي ضابطًا في الجيش المصري برتبة «يوزباشي»، وكان الضابط المصري لا يصل إلى تلك الرتبة إلا بعد جهد عظيم؛ لأن رتب الجيش الكبيرة كانت كلها في يد الأتراك والشركس قبل الثورة العرابية، وكان ضباط الجيش يحالون إلى الاستيداع نصف مدة العمل أو أكثر، فكان والدي إذا أحيل إلى الاستيداع ذهب إلى بلدتنا في الريف، وهي بلدة صغيرة في مديرية القليوبية، وكان له بها منزل ريفي كبير جدًّا، كما كان له بضعة فدادين؛ فكان يكلف خدمه زرعها، حتى إذا طُلِبَ للعمل أجَّر الأطيان، وعاد إلى مقر عمله؛ فكان لهذا أكثر الضباط خدمًا.

وسافر والدي إلى السودان قبل أن أولد، ولم يعد، وقد ولدت بعد سفره بشهرين، وهكذا نشأت يتيمةً، فلم أرَ والدي إلا في المنام، ورُتِّب لنا مبلغ من معاشه يقوم بحاجتنا أنا ووالدتي والمرحوم شقيقي، وقد سكنت والدتي القاهرة لوجود أخي بالمدارس، ولكنها كانت تذهب أثناء الصيف عندما ينتهي شقيقي من دراسته إلى بلدتنا، فنقضي إجازة الصيف في ذلك المنزل الريفي، وكنت أُسَرُّ بتلك الإجازة، وأعمل فيها أعمالًا كثيرةً؛ إذ كان يلتف حولي كثير من أطفال جيراننا في تلك القرية، وكنت أكلفهم العمل معي، فأضرب طوبًا صغيرًا، وأبني به أفرانًا صغيرة، كنا نسوي فيها بعد ذلك ما نصنعه من الطوب، ثم نبني به منازل صغيرةً كانت على ما أعتقد غايةً في الإتقان، وكان في منزلنا الريفي بئر نأخذ منها الماء اللازم لبناء تلك المنازل، ونحيطها بالحدائق، ولعلها لم تكن غنَّاء لأننا كنا نزرع فيها بعض النباتات فقط كالفول والذرة.

وهكذا كنت أقضي إجازة الصيف لا أعرف للراحة طعمًا، وكلما انتهيت من منزل بدأت في بناء غيره، وعمل ماشية له كالجاموس والبقر والحمير والخيول والجمال، وكنت أُعْنَى بتمثيلها تمثيلًا يقرب من الحقيقة على قدر طاقتي، وكان يعجب بها كثيرون ممن يرونها لقربها من الحقيقة؛ حتى إن الأفران التي كنا نبنيها كانت تُحمى، ويظهر في جوفها اللهب كالأفران الحقيقية تمامًا، وكنت أخبز فيها الخبز الصغير الذي كنت أصنعه أحيانًا، ولم أكن مع صغر سني أبرح ذلك المنزل لاشتغالي بتلك الأعمال، ومراقبة مَرْءُوسي من أطفال القرية، ومن المدهش العجيب أني كنت آمر هؤلاء الأطفال فيطيعون، وأنهاهم فيستمعون، وكنا نقضي اليوم في عمل متواصل كأننا نقوم باكتساب قوتنا، وكأني رئيستهم الفعلية.

figure
كنت آمر هؤلاء الأطفال فيطيعون.

وكنت إذا انتهيت من ذلك، وتعب الأطفال الذين يعملون معي ابتدأت أخيط ملابس عروستي، وأعمل للجمال والخيول سروجًا من القماش المزين البديع، وهكذا كنت أقضي إجازة الصيف، حتى إذا انتهت تركت ما عنيت بعمله من المنازل والتماثيل، وانتقلت بعروستي وقطتي الصغيرة إلى القاهرة، وكنت مشهورةً بحب القطط والعناية بها؛ حتى إني كنت أكسوها ملابس مزخرفةً بشتى الزخرف، وكنت أقوم أنا بخياطتها وزخرفتها، وكانت تلك القطط والعروسة هي عملي الوحيد في القاهرة، ولم يكن معي من الأطفال من يساعدني على ما أقوم به من الأعمال إلا خادمة صغيرة في مثل سني، كنت أختلسها اختلاسًا من والدتي، وكنت أميل إلى مجالسة شقيقي عند حضوره من المدرسة، وكان يكبرني بنحو ١٠ سنوات؛ فكنت أستمع لما يقرَؤُه من القصص، وأجتهد في فهمها، وكثيرًا ما كنت أحفظ ما يحفظه هو من المحفوظات، أما أثناء النهار فكنت أقضيه كما قدمت في خياطة ملابس القطط والعروسة، ثم تدرجت من ذلك إلى خياطة ملابسي على آلة الخياطة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤