نهاية الدراسة بالمدرسة السنية

كان احتجاج الطالبات على الضابطة التي عاقبت إحداهن سببًا في أن تحقد عليَّ ناظرة المدرسة ظنًّا منها أنني أنا التي أثرتهن ضد المدرسة، ثم زاد الموقف تحرجًا بيني وبينها يوم أرادت عقابي، وطلبت مني الاعتذار فرفضت، وشاء سوء الحظ بعد هذا أن تحقد عليَّ إحدى زميلاتي لتقدمي في اللغة العربية، فتدس لي، مع أنها لم تكن معي في فصل واحد.

نعم شاء سوء الحظ أن تتهمني تلك الزميلة بالوطنية، وأن تحقد عليَّ ناظرة المدرسة الإنجليزية لهذا الاتهام الباطل؛ لأني في ذلك الوقت لم أكن أهتم إلا بالدراسة، وكنت أعتقد أن الإنسان ينفع وطنه بالتقدم في العلم لا بالمشاكسات.

وترتب على ذلك أن ناظرة المدرسة كانت تكرهني كراهةً شديدةً، ولولا حسن الحظ في أنها اصطدمت بالمرحومة السيدة فاطمة عمر، وكان ذلك الاصطدام سببًا في خروج المرحومة، وكانت أولى الفرقة التي كانت قبلي بسنة واحدة، لولا ذلك لسعت الناظرة في الإخراج، ولكن عدد الطالبات في ذلك الوقت كان قليلًا كما قدمت، وكانت هي سببًا في إخراج أولى السنة الثانية، وقد لفتت نظرها الوزارة لهذا الأمر فخشيت إن هي فصلتني، أو اضطرتني إلى الخروج أن لا توافقها الوزارة على ذلك؛ ولذلك تحملتني سنتين على مَضَضٍ وضغينة، فلما نقلت إلى السنة الثالثة بلغ الأمر بيننا أشده، فكانت تتعمد إيلامي في كل صغيرة أو كبيرة، وكان لا بد من إخراجي، أو تركي المدرسة لشدة تعنتها لولا أن زميلتي السيدة الفاضلة عائشة صبحي تركت المدرسة في نهاية السنة الثانية، وكانت ثانية الفصل، ولم يعد في فصلي بعد ذا إلا ثلاث أنا رابعتهن، وقد خشيت الناظرة إن هي طلبت إخراجي، أو اضطهدتني إلى حد يضطرني إلى الخروج أن لا توافقها الوزارة على ذلك العمل، فكانت تؤلمني حتى إذا صممت على ترك المدرسة عادت تلين وترجو.

وفي ذات يوم قالت لي كلمة جارحةً آلمتني كل الإيلام، وكان ذلك عند خروجي من آخر حصة من حصص الصباح، تألمت إلى حد تدفقت معه دموعي سيولًا، وتأثرت تأثرًا جعل حرارتي ترتفع إلى ٣٩ درجةً، وبدلًا من أن أذهب إلى الغذاء ذهبت إلى مستشفى المدرسة، وكان به في ذلك الوقت طبيب المدرسة المرحوم الدكتور علوي باشا، وقد أخفيت دموعي أمامه، وتظاهرت أن المسألة مرض فجائي؛ وذلك لأني كنت في شبابي أتعالى عن الشكوى، أما في كهولتي اليوم فقد أصبحت لا أجد في بث شكواي من الغضاضة ما كنت أجده قبل ذلك؛ لهذا كتمت شكواي من حضرة الناظرة، وكشف عليَّ الطبيب كمريضة فصرح لي بإجازة خمسة عشر يومًا، وما كاد خبر الإجازة يصل إلى حضرة الناظرة، وقد ارتديت ملابسي، وعولت أن أذهب إلى منزلي ولا أعود، ما كاد يصلها ذلك الأمر حتى هرعت إلى الطبيب، وهي ترغي وتزبد، وتقول: كيف تصرح لها بالإجازة وهي ليست بمريضة؟ وقد أدت كل حصص الصباح وهي في غاية الصحة، وكل الأمر أنها غضبت مني فتصنعت المرض. فقال لها الطبيب: إن حرارتها يا سيدتي ٣٩ درجةً بل تزيد على ذلك قليلًا، وما علمت بمريض يتصنع المرض فترتفع حرارته. قالت: لعل هذا سبب غضبها؟ قال: وإذا كان غضبها منك قد رفع حرارتها إلى درجة ٣٩، فهل يجوز لي أن أبقيها معك لترتفع حرارتها إلى درجة الموت إذا أنتِ أغضبتها مرةً أخرى؟

صمم الطبيب على إعطائي الإجازة، وذهبت جهود الناظرة سدًى، وخشيت إن أنا خرجت في حالة غضبي هذه أن لا أعود، فأتت إليَّ في غرفة الانتظار حيث كنت أنتظر الإجازة بالخروج، وقبلتني قبلةً حارةً تدل على شغفها بي إلى حد الغرام، وقالت إنها لا تمانع في أن أخرج، لكن لا بد من أن أخرج مسرورةً لا غاضبةً، وحتمت أن أستريح، وأن آكل قبل خروجي، وما كاد يتم هذا حتى هبطت حرارتي، الأمر الذي أدهشني كل الدهشة، وهنا تأكدت أن للغضب أو السرور أثرًا عظيمًا في صحتي، ولقد سبق أني ذكرت أني لما سررت في طفولتي شفيت من مرضي.

أحضرت لي الناظرة في غرفة الانتظار قليلًا من الطعام، وشيئًا من الفاكهة، وجلست تواسيني، وتطلب مني أن لا أتغيب كل تلك المدة التي صُرِّحَ لي بها، وكان ذلك يوم أربعاء فوعدتها بالطاعة، وخرجت بعد أن قبلتني ثانيةً وثالثةً، وعدت يوم السبت، ومن ذلك اليوم جعلت تتحاشى إيلامي، لكنها كانت تتمنى لي من صميم قلبها أن لا أنجح، على أنها كانت تعلم حق العلم أن أملها في عدم نجاحي ضائع لا محالة.

كنت أُكِنُّ للناظرة ما كانت تكنه لي، وفي يوم دخلت علينا في المذاكرة فحركت حقدي، وما كادت تخرج حتى ابتدأت أكتب في كناشة الأعمال الأبيات الآتية:

حلوا فراح الحزم وارتحل الحِجا
وانهد جاه العلم والآراء
حملوا على جيش الفضيلة فانثنوا
متسربلين بحلة حمراء
هذا دم الإنصاف فوق ثيابهم
يبدي فظائعهم لعين الرائي
نيران حقدي أضمرتها قلوبهم
فتسربلوا من لونها برداء
ما دام أهل النار تحجب روضنا
عنا فأين معالم السراء
إن يدعوا الإنصاف أو ينسب لهم
فوفاء عرقوب وبخل الطائي

كتبت ذلك في كناشة الأعمال بالقلم الرصاص، وما كنت كما قدمت أهتم بالسياسة، ولا أود خروج الإنجليز من مصر، ولكن هو الغيظ من الناظرة جعلني أصب جام غضبي على أبناء جنسها، شاء التجسس أن تسرق هذه الكناشة بحيلة لا أعرفها إلى الآن، وأن تعطى للناظرة، وأن ترشد إلى مكان الأبيات، وجن جنونها، ووجدت دليلًا على اشتغالي بالسياسة التي علم الله أني ما اشتغلت بها، فأرسلت الكناشة إلى وزارة المعارف تطلب عقابي، وجاءني مفتش يحقق معي فيما كتبت، فقلت: هل يعاقب الإنسان عما يجول بباله وخاطره؟ قال: كلا، ولكن ليس لأي إنسان أن يحرض على الثورة ضد الحكومة القائمة. قلت: وكيف حرضت عليها أنا؟ قال: بتلك الأبيات. قلت: إن تلك الأبيات كتبت في كراسة لا يقرؤها غيري، ولست متغاليةً، إني أنا شخصيًّا لم أقرأْها منذ كتبتها، فكيف تعد ذلك تحريضًا وهو لم يطلع عليه أحد؟ إني يا سيدي حرة في أن أكره أو أحب دون عقاب، فإذا حرضت بطرق علنية كان لكم أن تعملوا معي ما تشاءون، أما ما يخالج ضميري، وما يجول في خاطري فلا سبيل لكم إليه، على أن تلك الناظرة يجب أن تعاقب هي إذ كانت السبب في إظهار تلك الأبيات التي لولا عملها هي لما اطلع عيها أحد. وأتم المفتش التحقيق، وعرضه على المغفور له سعد باشا زغلول، فأعجب برأيي أيما عجب، وقال: حقيقة ليس لنا على قلوب الناس رقابة، وهي لم تكتب ولم تنشر، ولا تُعد هذه الكراسة إلا خيالًا يجول في خاطرها، وأمر بحفظ الأوراق، وتمت السنة النهائية بحالة يعلمها الله، على أني لم أهن فيها برغم ما كانت تُكِنُّه لي الناظرة من العداء المكين.

ولم يكن المستر دانلوب من رأي الناظرة، بل كان يعطف عليَّ ويقر وزير المعارف على رأيه فيما فعل.

تمت السنة ونجحت، وكنت الأولى بتفوق عظيم طبعًا، وشاكر نفسه يقرئني السلام، وأنا أتقبله بكل سرور.

وكان الواجب أن أعين في المدرسة السنية نفسها، ولكن حضرة الناظرة قالت إنها لا تسمح لمكان واحد يضمني ويضمها اللهم إلا القبر، ولما كانت وزارة المعارف لا تدير القبور، فقد عينتني بمدرسة عباس الأميرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤