في المنصورة

لم أستفد من حوادث الفيوم شيئًا، ولعل طيش الشباب قد غطى على كل ما يجب أن أستفيده من تلك الحوادث، فخرجت من الفيوم كما دخلتها، وقد صممت عزمي على أن أكون المثال الكامل لتلميذاتي في العصمة والكمال، لا أقول كما يقول غيري، إني أكتفي بما أعلمه عن نفسي من الكمال، بل أقول لا بد أن يعلم الناس كل هذا، كتبت على باب المدرسة أوامري السابقة، ومن أهمها «ممنوع دخول الرجال إلا ابتداءً من الساعة الثامنة صباحًا إلى الساعة الرابعة بعد الظهر»؛ أي أثناء العمل فقط.

وكنت لا أضع كغيري في مدخل مكتبي «برافان»، بل كنت أشدد على خادمي الخصوصي أن يكون على مقربة مني إذا دخل مكتبي ضيف أي رجل، وأن يدخل — أي الخادم — عليَّ بلا استئذان، كنت أقول له ذلك لا لأني خائفة من الضيوف، ولكني كنت أعلم أن الخدم هم الذين يذيعون أسرار المنازل، وأن الخادم — وهو يرى ناظرته تخالف العادة المتبعة عند سيدات الشرق من عدم مقابلة الرجال — قد يسيء الظن فيها إلى حد بعيد، فأردت أن أغلق أمامه باب سوء الظن، وأجعله يشعر أني لا أخلو برجل؛ لأني قد أمرته أن يكون على مقربة مني بحيث يراني ويسمعني؛ أي يسمع ما يدور بيني وبين ضيفي من الحوار.

وكنت إذا أردت أن أكتب إلى ناظر المدرسة الأميرية، أو أحد موظفي مجلس المديرية خطابًا أستفهم فيه عن شيء، أو أطلب شيئًا أرسلت الخطاب مع خادمي مفتوحًا حتى لا أترك له سبيلًا إلى الظن والتخمين، فيقول: هؤلاء المتعلمات يكاتبن الرجال لغايات أخرى. بل كنت أريه الخطاب، وأخبره مضمونه، وأضعه أمامه في المظروف، وأتركه مفتوحًا، وأسلمه إليه ليكون مطمئنًا إلى أن المسألة لا تتعدى العمل، ولعل الزمن نفسه كان يتطلب مني ذلك الحرص؛ فقد كان اللوم موجهًا إلى المتعلمات، وكثيرًا ما كانت الصحف تحمل عليهن، وكان الجهلاء من الناس لا حديث لهم إلا الطعن في التعليم، وتشويه سمعة المتعلمات.

فكان عليَّ والحالة هذه أن أبرهن لجميع هؤلاء أنهم مخطئون، وأن التعليم لا يفسد صالحًا، كما أنه لا يصلح فاسدًا، اللهم إلا قليلًا.

وكان لحسن حظي أن وثق الناس بي، وتحدثوا عني بالخير، ودفع هذا بعض أعيان المنصورة إلى زيارة المدرسة ليروا تلك التي سمعوا عنها كثيرًا، ولكن شاء سوء الحظ أن تكون زيارتهم بعد الساعة الرابعة، وأن لا يسمح لهم البواب بذلك؛ لأن الناظرة تقيم وحدها في المنزل، ولا تسمح لأحد من الرجال بزيارتها إلا أثناء العمل.

عز عليهم الأمر، وقد كان بعضهم من أعضاء مجلس المديرية، وهم لذلك يعتبرون أنفسهم أصحاب تلك المدرسة، لا يجوز لأحد أن يرد لهم رأيًا، أو يناقشهم الحساب فيها.

عادوا من المدرسة غاضبين، وشكوا أمرهم إلى سعادة المدير، وكان كما قدمت فاضلًا محبًّا للعلم، وكان يود أن تنجح المدرسة التي أسسها هو، وأن يثق الناس بالناظرة التي عينها، وكان يسره أن يسمع دائمًا فيها مدحًا لا قدحًا، فهدأ من ثائرتهم، وأفهمهم أني على حق فيما فعلت؛ لأني على كل حال فتاة صغيرة السن، ولا يجوز لي أن اختلط بالرجال في غير أوقات العمل.

فعل ذلك، ثم أرسل إليَّ، وقص عليَّ القصة، وقال: لقد صممت أن أصدر أمري بأن لا يزورك أحد إلا بعد أن يأخذ إذني في زيارتك. قلت: أنا لا أعطيك هذا الحق، ولست أنت بقريبي، ولا بولي أمري حتى تسمح بزيارتي أو تمنعها، ولقد صممت أن لا يكون لرجل عليَّ سلطان، ولو أردت ذلك لاتبعت الطريقة المشروعة، ومكانتك مني كمكانة كل فرد في المنصورة، فأنت رجل أجنبي عني، وإذا كان يعيب المرأة أن ترى الرجل الأجنبي كانت رؤيتي لك عارًا لا أقبله، أما إذا كان كما أعتقد أن المرأة لا يعيبها أن تقابل الرجال ما دامت متمسكةً بالفضيلة والكمال فلا بأس إذن من أن أقابلك، وأن أقابل غيرك، أما أن تتحكم أنت في أموري الشخصية فهو ما لا أقبله.

قال: لقد أردت أن أمنع عنك لوم الناس، فأقول لهم إني أنا الذي أمنعها من مقابلتكم، فلا يكون عليك مسئولية في عدم مقابلتهم، فلا يغضبون منك، ولا يغضبون مني. قلت: إني شخص كامل يجب أن أكون مسئولةً عما أفعل، ولا يهمني أن يغضب عليَّ شخص أو أشخاص ما دمت على حق فيما فعلت، وأنا أود أن أتحلى بالفضيلة مختارةً لا مضطرة، والسجين المقيد لا يوصف بالأمانة، إنما يوصف بها من يستطيع السرقة ولم يفعل؛ ولهذا أريد أن أمتنع عن الرجال إذا شئت أنا ذلك لا إذا شاء ذلك غيري. قال: جازاك الله! أنتِ تستحقين ما وصفوك به من الغلظة والشدة. قلت: ولا بأس في ذلك.

زارني بعد ذلك الرجال في أثناء العمل فسرتهم مقابلتي، وأعجبهم حواري، وأثنوا على المدرسة ثناءً حسنًا، وانتهت المسألة بميل كل أعيان المنصورة إليَّ ودفاعهم عني، وكان أعضاء مجلس المديرية يَدَّعون دائمًا أنهم أولو الأمر في مدارس المجلس، وكنت كثيرًا ما أردهم إلى الصواب فيما يدعون، وتصادف أن زارني أحد هؤلاء الأعضاء فأحسنت مقابلته، ورحبت به كعادتي المألوفة إذ ذاك لكل طارق، وأمرت الخادم أن يحضر القهوة، وكان مع العضو ضيف آخر، وغابت القهوة فأظهر عضو المجلس غضبه وتألمه لتأخر القهوة عن الميعاد، كأنه أراد أن يظهر للضيف الآخر مقدار سلطته على المدرسة وناظرتها وخدمها، فقلت له ضاحكةً: أوَتظن أن فراشي سيحضرها؟ قال: ولِمَ لا؟ قلت: لا يا سيدي إنك مخطئ، إني أعمل هنا ناظرةً لمدرسة، يهمني إتقان أعمالها المدرسية، وبيني وبين خدمي اتفاق أنه إذا كانت مراحيض المدرسة مثلًا لم تنظف فعليهم أن ينظفوها قبل أن يحضروا لي قهوةً، أو غيرها من تلك الكماليات، وليس هذا يا سيدي بمندرة دوارك، يجب أن يكون الخدم فيها على أتم استعداد لمقابلة الضيوف، بل هذه مدرسة يجب أن يكون خدمها على استعداد للقيام بأعمالهم المدرسية من نظافة وغيرها.

فلم يستطع العضو إلا أن يغض الطرف عن كلامه، وأن ينسحب بانتظام لا كانسحاب الطليان بغير انتظام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤