رضاء بعد الغضب

أعيدت المدرسة، ولكن إلغاءها ترك في نفسي أثرًا لم يُمكني التغلب عليه، كنت غير مطمئنة من عملي مع ذلك المدير، متأكدةً كل التأكيد أنه سيبطش بي متى استطاع ذلك، والمدير لا شك يستطيع أن يعمل ما يريد؛ ولهذه المناسبة «السيئة» تذكرت المدة التي قضيتها مع المغفور له صاحب الرفعة محمد باشا محمود، وكيف كان — رحمه الله — عادلًا لا يهمه إلا العمل، وقد سمعت في ذلك الوقت أنه نقل إلى البحيرة، فعملت أبياتًا من الشعر أعدد فيها مفاخره، وما كدت أخلص من هذا حتى حادثتني حضرة صاحبة العصمة حرم المدير الحالي تليفونيًّا، وأخبرتني أنها تريد زيارتي فأهلت ورحبت، وكان ذلك لأن الداخلية حتمت على هذا المدير أن يصالحني، وهو يعلم أني كنت في أشد الغضب والألم، فأراد أن يمهد لنفسه السبيل بزيارة صاحبة العصمة حرمه، وفي المساء زارتني السيدة المصونة حرمه، فاستقبلتها لدى الباب استقبالًا يليق بمقامها؛ لأنها كانت سيدةً جليلةً، وهي في الوقت نفسه حرم مدير المديرية، وسرت باستقبالي ثم ودعتها بما استقبلت به من الحفاوة والإجلال، وفي اليوم التالي أخبرني مدير التعليم أنه آتٍ لزيارتي هو وسعادة مدير المديرية، فتذكرت الأبيات التي عملتها في مدح المغفور له صاحب الرفعة محمد محمود باشا، ووضعتها على مكتبي بعد أن كتبتها بخط جميل، وهي الأبيات الآتية:

عهدناك يا ابن الأكرمين محمدًا
تشيد بالعزم الثناء المخلدا
عهدناك مقدامًا عهدناك واحدًا
تُعَد بالآلاف إذا الفضل عددا
فإن نلت باستحقاقك المجد والعلا
قد كنت قبل اليوم شهمًا مسودا
لك البيت من أعلى البيوت مكانة
وقد كنت من عهد الطفولة سيدا
فإن هنأتك القوم إذ نلت منصبًا
فإني أهني منصبًا نال مفردا
دمنهور هذا يوم مجدك فأبشري
وتِيهي على كل العواصم إذ غدا
ولو أن هذا الدهر جاد بمثله
علينا لشاد المجد فينا وجددا
حسدناك إذ نلت المراد وضيعت
صروف الليالي جل آمالنا سدى

وفي آخر الأبيات كما يرى القارئ شيء من التلميح بأسفي واستيائي لنقل ذلك المدير إلى الدقهلية، ونقل المغفور له محمد باشا محمود إلى دمنهور، وكنت أود العكس.

أخيرًا جاء الميعاد الذي حدده سعادة المدير لزيارتي، فلم أسمح بالدخول إلا بعد أن انتظر على الباب نصف ساعة، ثم صعد إلى مكتبي، ومعه مدير التعليم فوجدني جالسةً على مقعد ضخم كبير، وليس بالغرفة مقعد مثله، بل بها كراسي خيزران من العادية، وقد هيأ لي طيش الشباب إذ ذاك أن أفعل هذا لأهينه، وأجلسه على كرسي عادي في الوقت الذي أتربع فيه أنا على كرسي ضخم، فلما دخل لم أعبأ بدخوله، ولم أقم لاستقباله فحيا وجلس، ولم أرد عليه تحيته، فقال: ما لك غاضبة لا تردين؟! قلت: وما شأنك بغضبي؟ قال: أنا رئيس تلك المدرسة. قلت: وما شأنك أنت بي يا حضرة الرئيس ولست بقريبي ولا صلة لي بك، وما الذي يهمك من غضبي؟ قال: لقد جئت لأزور المدرسة. قلت: ولكنك مع هذا تعلم أني لا أريد أن أراك ولا أستقبلك. فأخذ يلين في لهجة، ويقول: لقد استقبلت زوجتي أمس استقبالًا حسنًا. قلت: وما الخطأ الذي فعلته تلك السيدة حتى أستقبلها بغير ذلك؟ ولم تكن عضوًا معكم في المجلس، ولم تدبر شيئًا. قال: ولكنها زوجتي ولها ما لي من الكرامة. قلت: نعم، إن لها كل كرامة تستحقها زوجة مدير، وليس لها في نظري من الأخطاء ما يجور إلى أن أحرمها من تلك الكرامة، ومن ذلك الاحترام الواجب لزوجة مدير.

قال: وماذا أنتِ فاعلة الآن، وقد جئت لزيارتك، وأريد أن أرى المدرسة؟ قلت: لك أن تراها كما تريد، أما أنا فلا أسير معك. قال: وكيف تُحَل المشكلة إذن؟ قلت: لا مشكلة يا سيدي؛ لأني «ح اجيب لك نايبة تاخدك تزورك المدرسة». قال بغضب: ما هذا الكلام؟ قلت: وماذا فيه؟ إني سآتيك بنائبة عني أنا لتأخذك لزيارة المدرسة، فهل في ذلك ما يغضبك؟ قال: إنك تقسين عليَّ في معاملتك، أفتظنين أني لم أعامل ناظرة غيرك؟! قلت: كلا! أعلم أنك عاملت غيري من الناظرات كما أعلم أن تلك المقابلة لا تزال مدونةً في محاضرة البوليس. قال: لقد كانت مسألةً تافهةً أثارها بعض مجانين الأهالي بالفيوم. قلت: إن في المنصورة أمثال هؤلاء المجانين، ولو أني عاملتك معاملتها لوصلنا إلى ما وصلتما إليه بالفيوم. قال: دعيك من الماضي، ولننظر إلى المستقبل، وسأرضيك بقدر ما أستطيع. قلت: لا أظن أنك ترضيني مختارًا، وإنك إن أرضيتني اليوم فستنتهز فرصة إغضابي غدًا إذا استطعتها، ورأيي أن يحترس كل منا من الآخر، وأن لا أقابلك ولا تقابلني إلا للضرورة، ويفعل الله بنا ما يريد.

قال: أعاهدك ألا أسيء إليك بعد هذا. قلت: أرجو أن تكون في هذه المرة صادق الوعد. لكنه ما لبث بعد هذا أن ضايقني مضايقةً عظيمةً فذهبت إلى مكتبه، وكان عنده بعض الأعيان، فقلت له: من العقل أن لا يعمل الإنسان عملًا إلا وله من غاية تفيده شخصيًّا، ولا أدري ما هي الغاية التي تتلمسها سعادتك من مضايقتي والإساءة إلي؟ إنك إن انتصرت عليَّ بعد ذلك فلن يعجب بك أحد، أو يصفق لك استحسانًا، بل يقولون جرب قوته ضد فتاة، وإذا أنا انتصرت عليك كان الويل والخجل لك، فما الذي يحملك على هذا؟ قال: إني لا أضايقك. قلت: ولكني أنا شخصيًّا أشعر بتلك المضايقة. قال: لعلك من رواد الزار، ولعل عليك عفريتًا يكرهني. قال ذلك بشيء من السخرية أمام الأعيان ليظهر أني امرأة كباقي النساء الجاهلات، فابتسمت، وقلت له في نفس سخريته: يجوز يا باشا أن يكون عليَّ عفريت، ولكن ما رأيك لو أن هذا الأمر قد ثبت جليًّا لأصبحت أنت شيخة الزار؛ لأن عفريتي لا يظهر إلا على يديك، أو بعبارة أخرى لا يتحرك إلا إذا زمرت له أنت وطبلت. فضحك الأعيان، وخجل سعادته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤