إيقاف الاضطهاد إلى تحسين الفرص

وضعت زيارة المغفور له السلطان حسين لمدرسة معلمات بولاق حدًّا لاضطهادي، فلم أعد بعدها مضطهدةً، بل تُركت وشأني، ولكني لم أكن أعمل بالمعنى الصحيح؛ لأني لم أكن معلمةً، ولا ناظرةً، بل كنت شيئًا بين الوظيفتين، وهذا الشيء لا عمل له في الغالب، وهو ما يسمى بوكيلة المدرسة، تضايقت من هذه الحالة، وأردت أن أبحث عن عمل آخر مهما كان أستعيد فيه نشاطي وجدي، حتى إني رجوتهم أن أكون ناظرةً لمدرسة أولية، وهي وظيفة لا تتناسب والمرتب الذي كنت أتقاضاه، ولكن كنت أراها أفضل من العطل؛ لأني أستطيع فيها أن أعمل، وأن أصلح المدرسة دون أن يعارضني أحد في ذلك الإصلاح، وكانت في نظري على حد المثل الإنجليزي «كن رأس كلب، ولا تكن ذَنَب أسد»، ولكنهم أبوا علي حتى تلك الوظيفة المتواضعة، وأخيرًا عولت على ترك العمل في الوزارة، فكتبت إلى مستشار المعارف المرحوم المستر دانلوب خطابًا باللغة الإنجليزية أقول فيه ما نصه:

أريد يا جناب المستشار أن أصارحك بما يجول في نفسي، ولكني أخشى إن فعلت ذلك أن تظن أني متهوسة لا أقدر ما لك من السلطة والسلطان، وأنا لذلك أقول لك إني أعرف جيدًا أنك مستشار وزارة المعارف؛ أي وزيرها الفعلي، وأن في استطاعتك أن تفصلني من عملي بلا ذنب، ولا يستطيع أحد أن يناقشك في ذلك، بل أنت أقوى من ذلك، فإنك تستطيع أن تمنعني من التوظف في جميع مجالس المديريات، بل أنت تستطيع بمساعدة أنصارك الكثيرين أن تمنعني من أي عمل حر مهما كان، وأنت فوق هذا وذاك الرجل الإنجليزي النافذ الكلمة، وفي البلد أحكام عرفية، فأنت تستطيع التخلص من حياتي بكلمة تخرج من فيك.

إذن أنا أعرف مقدارك تمامًا، ولكني أريد أن أسدي إليك معروفًا بأن أطلعك على ما يقال في غيبتك، والرجل القوي العظيم لا يعرف ما يقال عنه، وقد يفيده ذلك لو عرفه، فأنا أقول لك مع شدة احترامي لشخصك إني إذا دخلت غرفة نومي، وأغلقت نوافذها وأبوابها، ووثقت أن أحدًا لا يسمعني من خلق الله قلت فيك ما يأتي:

إن هذا المستشار أشر من الألمان؛ لأن أولئك الألمان يغتصبون حق محارب، أما هو فيغتصب حق مسالم، وقد اغتصب حقي بعد أن وثقت به، وسلمته إليه.

دخلت هذه المدرسة فوجدت أن كل من بها لا نصيب لهم من الأخلاق الحقيقية، فهم لا يعملون حبًّا في العمل، بل يعملون رغبةً في الوصول إلى المرتب الذي هو في نظرهم كل شيء، فعجبت كيف اجتمعت تلك الفئة، واتفقت على احتقار الأخلاق، ونبذها ظهريًّا، أما أنا فقد كنت أعمل لحب العمل، ولكني ما كدت أعمل في هذه المدرسة ستة شهور حتى أصبحت كزملائي لا أعمل إلا لتناول الأجر، فأين ذهبت أخلاقي إذن؟ ومن هو يا ترى سارقها؟ إنه هو ذلك المستشار الذي سلب غيري من الناس أخلاقهم، ثم سلب بعد ذلك أخلاقي أنا شخصيًّا، إنه شر من اللص؛ لأن اللص يسرق أموالًا تذهب وتأتي، أما هو فيسرق أخلاقًا، وهي إذا ذهبت لن تعود، وإني لهذا أقول لك بصراحة تامة: إني أريد أن أسترد أخلاقي، فاعتبر هذا الخطاب استقالة مني من أول الشهر الآتي.

وتفضل بقبول شكري واحترامي.

استلم جنابه الخطاب، وكان يعلم أن عظمة المغفور له السلطان حسين لا يرضى بخروجي من العمل مهما كانت الظروف، فلم يستطع أن يقبل استقالتي، بل فكر في إزالة ما أشكو منه، وهو منعي من السلطة في العمل، فعينني ناظرةً لمدرسة معلمات الورديان، ويظهر أنه أراد أن يحفظ لنفسه خط الرجعة فكتب خطاب تعييني بالصيغة الآتية تقريبًا:

حضرة المحترمة الفاضلة السيدة نبوية موسى، وكيلة مدرسة معلمات بولاق

بما أنك برهنت في مدة قيامك بعمل وكيلة لمدرسة معلمات بولاق أنك لا تصلحين لهذا العمل، وقد طلبت مرارًا تعيينك ناظرةً لمدرسة، ولو أوليةً، وقد رأت الوزارة تجربتك في وظيفة رئيسية، فعينتك ناظرةً لمدرسة معلمات الورديان.

وإني أترك للقارئ التعقيب على هذا الخطاب العجيب الذي يقول إن التي لا تصلح وكيلة لمدرسة معلمات أولية تعين ناظرةً لمدرسة مثلها، وهو بالطبع لا يستطيع أحد أن يفهمه.

حصل هذا في الوزارة، ولم أكن أعرفه، وفي آخر يوم من الشهر، وأنا أستعد لمبارحة المدرسة تنفيذًا لاستقالتي حضر إلى مكتب الناظرة المرحوم مغربي باشا، واستدعاني، ثم أخذ يؤنبني كيف أرسل إلى الوزارة خطابًا دون أن أطلع عليه الناظرة، وقانون المدارس يقضي أن لا يرسل أحد من موظفيها خطابًا إلى الوزارة إلا بواسطة ناظرة المدرسة، وانضمت إليه الناظرة في ذلك التأنيب، فقلت: إني لم أرسل للمستر دانلوب شكوى من المدرسة، أو من تصرفات ناظرتها حتى يجب علي أن أطلعها عليه، بل أنا أشكو منه هو شخصيًّا؛ لأنه هو الذي نقلني من المنصورة إلى هنا دون أن يستشير حضرة الناظرة في ذلك فهو خطاب شخصي له. قال المغفور له مغربي باشا: ومَنْ أنت حتى تكتبي إلى جناب المستشار خطابًا شخصيًّا؟ قلت: أنا حرة في تصرفاتي أستطيع أن أكاتب حتى الملوك إذا شئت، ولهم هم أن يردوا علي، أو أن يهملوا ذلك، فإذا رأى جنابه أني لست ممن يصغي جنابه إلى أقواله كان له أن يلقي بذلك الخطاب في سلة المهملات، ولا يعيره أي التفات، ولكن يظهر لي أنه قرأه كما يظهر لي من كلام سعادتكم، وأنكم حضرتم لتسلموني خطاب قبول الاستقالة، فضحك المرحوم ضحكته الحلوة، وقال: لقد جئت لأسلمك خطاب تعيينك ناظرةً لمدرسة معلمات الورديان، وعليك أن تذهبي غدًا إلى مقر وظيفتك الجديدة، وأن ترسلي إلى جناب المستشار خطابًا تعتذرين له فيه عن خطابك هذا. قلت: نعم سأرسل إليه ذلك، ولو استطعت لكتبته قصيدة مدح مطولة، فأرجوك أن تحمل إليه تحيتي، واعتذاري. ثم كتبت إلى جناب المستشار خطابًا آخر أقول له فيه: لقد أسأت التعبير في خطابي السابق، ولكني مع تلك الإساءة قد فعلت خيرًا، فقد أظهرت بذلك الخطاب صفاتك النادرة التي قَلَّ أن توجد في رئيس غيرك، فأنت مع قوتك وسلطانك لم تُرِدْ أن تعاقبني على سوء تعبيري، بل رددت إلي حقي كاملًا، وأظهرت بالعمل لا بالقول أني أسأت الظن بك ظلمًا، وأنك بريء مما نسبته إليك، ولولا خطابي هذا لما ظهرت فيك تلك المواهب السامية، ولا ظهر للناس خطئي فيما ذهبت إليه من اتهامك ظلمًا، أو جهلًا بصفاتك النادرة، فاقبل اعتذاري، وشكري، والسلام عليك.

تسلمت عملي في مدرسة معلمات الورديان، ومع أن مرتبي لم يزد، ولم تتغير درجتي في شيء ما، فقد سررت بتلك الوظيفة سرورًا عظيمًا، ولم أعبأ بصيغة خطاب التعيين، بل تركته على مكتبي، وزارني المرحوم الكيلاني بك، وكان مفتش التعليم الأولي بالإسكندرية، فلما وقع بصره على الخطاب قال: يجب أن تخفي هذا عن أعين الناس. قلت: وما فيه حتى أخفيه؟ وما الذي يضيرني منه من ظهوره؟ إن وزارة تعين ناظرة في مدرسة معلمات لأنها لم تصلح وكيلةً لمدرسة معلمات أخرى، فهي التي يجب أن تخجل من مثل هذا الهذيان الذي شاءت أن تتحف الناس به. فضحك وقال: صدقت.

زارني بعد ذلك مباشرةً جناب المرحوم المستر دانلوب، ومعه المرحوم كيلاني بك، وعلمت من تلك الزيارة السريعة أنه يريد أن ينتقم لنفسه فيشتمني كما شتمته، وقد صممت أن أترك له هذا الحق دون أن أعارضه فيه، وما دمت قد شتمت ذلك الرجل العظيم، فمن العدل أن يشتمني هو دون أن أعارضه في ذلك، وهكذا سرت معه على تلك النية، وكانت المدرسة تسكن منزلًا قديمًا من منازل الوقف، وكان المنزل عجيبًا في ترتيب غرفه، فلم يكن به صالات، ولكن كان به غرف صغيرة يتداخل بعضها في بعض، فلم تكن تصل إلى غرفة حتى تمر داخل أبواب كثيرة متعددة، وكانت تلك الأبواب قديمة بالية، وليس فيها شناكل تثبتها إلى الحائط المجاور، فوقف جنابه أمام أول باب، وقال لي: إن التعليم في مدرستك لا فائدة منه، ولا خير فيه ما دمت تهملين مثل تلك التفاصيل. قلت: ولكني لم أستأجر المنزل، ولا يُسمح لي بالذهاب إلى وزارة الأوقاف لأطلب منهم ذلك الإصلاح، بل إن حضرة المفتش الحاضر هو المسئول عن ذلك. قال: كلا أنت المسئولة عن كل شيء هنا، وأنت المخطئة المهملة. فسكت لأني قد صممت أن أنفذ ما أراده هو من منهج الشتائم، ولكن بعد أن ولجنا أربعة أبواب، وهو يخطب عند كل باب منها، لم أجد بدًّا من أن أبتسم لتلك الخطب، وكان كلما وقفنا بباب، وابتدأ يؤنب، يسرع المرحوم كيلاني بك إلى تزرير جاكتته استعدادًا لسماع الخطابة، فلما قربنا من الباب السادس نظرت إلى المرحوم كيلاني بك، وقلت: استعد لتزرير الجاكتة؛ فإن الباب الآتي لا شناكل فيه. ودخلنا بعد ذلك فصلًا من فصول الدراسة، وقد تضايق جناب المستشار من ابتسامي، فأراد أن يوبخني بطريقة غير مباشرة، فنظر فرأى طالبةً تبتسم فقال: يجب أن تؤنبي هذه الطالبة على ضحكها بدون سبب؛ لأن هذا سوء أدب منها. وفهمت ما أراده فأخذت أوبخ الطالبة على ضحكها بلا سبب، وأنا نفسي أضحك بلا سبب، وكان منظري أمام جناب المستشار مثيرًا للاستغراق في الضحك، فاضطر المرحوم كيلاني بك أن يضحك عند خروجنا من الغرفة، فنظر إليه المستشار بحدة، وقال له: «هل في وجهي أرجوز يضحكك؟!» فزرر المرحوم جاكتته مرةً أخرى، وبعد أن سار المستشار، وسرنا في إثره قال لي همسًا: «وانتِ ما انت عماله تضحكي من الصبح؟!» قلت: «الناس مقامات يا أفندم.»

دخلنا بعد ذلك فصلًا آخر كان المعلم يلقي فيه درس إملاء، فنظر جنابه إلى كراسات الطالبات فوجدهن قد بيضن الموضوع السابق، فنظر إليَّ شذرًا، وقال: لا أريد أن تبيض الطالبات موضوعات الإملاء فهل سمعت؟ قلت: ولكني أريد ذلك؛ لأن هذه الموضوعات الإملائية قطع أدبية مختارة أريد أن تقرأها التلميذات مرارًا، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتبييضها؛ فهن يستفدن من ذلك فائدةً مزدوجةً، فيتعلمن منه أدب اللغة، ويعتدن حسن التنسيق في الكتابة؛ لأني أحتم عليهن العناية بتحسين الخط في التبييض. قال: ولكني لا أوافق على ذلك، وأنا مستشار المعارف. قلت: نعم إنك مستشار المعارف، ولكن تلك الصفة لا تؤهلك للتدخل في هذا فأنت أرقى منه، وعملك ينحصر في أمرين؛ أن ترضى عن عملي فتبقيني فيه، أو تسخط فتمنعني منه، أما أن تقوم أنت بأعمال الناظرة، فليس هذا من الحزم في شيء، فنظر إليَّ في دهشة، ثم تحول عني إلى الجانب الآخر من الغرفة، وتبعه المرحوم كيلاني بك، وقال له: يجب أن تقنعها بعدم تبييض الإملاء. ولم أشأ أن أرد عليه في ذلك، وقد تفقد جميع غرف المدرسة، فسُرَّ من نظافتها ونظامها، وشد على يدي عند خروجه قائلًا: أهنئك. وهكذا كان الرجل عادلًا لا يغريه سلطانه. وفي اليوم الثاني جاءني المرحوم كيلاني بك، وقال لي: جئت لأقنعك بعدم تبييض الإملاء. قلت: إن الأمر الذي لم يستطعه المستشار لا يستطيعه أحد في الوزارة، فلا تتعب نفسك فيما لا يُجدي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤