نتائج الزيارة الملكية

انتهت الزيارة الملكية، وكان من أثرها أن عمل ذلك المفتش ضدي جهد المستطاع، وكان لسوء حظي أنا أن المستر دانلوب الذي كان يحميني قد عاد إلى بلاده، وانتهز ذلك المفتش الفرصة، وأفهم الإنجليز أني ضدهم، وأن بقائي كناظرة محبوبة قد يكون له نتائج لا تتناسب وحالة الحرب التي كنا فيها، وتغاضى سامحه الله عن أن مدرستي كانت المدرسة الوحيدة التي لم تُضْرِبْ، ولم تقم بأية حركة، ولكن هكذا الشخصيات تدخل في السياسة وكل شيء؛ فالرجل لأغراضه الشخصية اتهمني بما يعلم هو نفسه أنه اتهام باطل، والإنجليز يثقون في بعضهم البعض ثقةً عمياء، فلا يبحثون عن مبلغ ما يقوله أحدهم من الصحة أو من الحقيقة، وهكذا اتفق رأيهم على أن لا أعمل في التعليم عملًا جديًّا، ولم أكن أعلم بذلك الاتفاق.

وبعد الزيارة بأسبوع جاءني ذلك المفتش، وقال لي: إن الوزارة قد رأت ترقيتي؛ لأن عظمة السلطان قد سُرَّ من مدرستي سرورًا عظيمًا، وإنه جاء ليخبرني بتلك الترقية، وقد بحث في ميزانية المدرسة فلم يجد لي درجة تناسبني؛ ولهذا يريد أن يعينني مفتشةً، وأن يرفع مرتبي من ٢٦ جنيهًا إلى ٣٥. وكنت أعلم أن المفتشة ليس لها عمل خاص تقوم به مستقلةً، وأنها إنما تكتب تقاريرها لكبار الموظفين، وبعبارة أخرى للمراقب، وهو بعد ذلك حر في أن يعمل بإرشاداتها، أو أن يهملها، فأثرها في التعليم لا قيمة له، أما ناظرة المدرسة فمستقلة في عملها يمكنها بكل سهولة أن تصلح شأن المدرسة التي ترأسها، وأن توجهها إلى حيث تريد، ولقد كنت أنا أتفنن في تنفيذ أوامري إلى درجة أضطر بها الوزارة إلى إجابة طلبي مهما كان، كما فعلت في إنشاء فصل دون أن تأمر الوزارة به، وفي السماح للمعلمين بالأكل دون أن تصرح به الوزارة، وغير ذلك، ومما فعلته في ذلك الصدد أني أردت أن أقدم الغذاء لبنات المدرسة الأولية الملحقة بالمدرسة، ولم تكن الوزارة في ذلك الوقت قد سمحت لأية مدرسة أولية بهذا، وكنت أعلم أنني إذا طلبت ذلك رُفض طلبي، كما كنت أعلم أن كتبة الوزارة في غاية الكسل، وأنهم قد لا يعرضون الخطابات التي نرسلها نحن نظار المدارس على الرجال المسئولين إلا بعد ورودها بشهر على الأقل؛ ولهذا كتبت خطابًا إلى الوزارة أقول فيه:

إنه نظرًا لبعد مدرسة الورديان عن الأماكن المعمورة، وحضور التلميذات إليها من أماكن بعيدة، لا أرى مندوحةً من أن أدبر لهن مسألة الغذاء بالمدرسة، وقد عرضت على المتعهد، فقبل أن يقدم لهن الغذاء لكل تلميذة مقابل ثلاثين قرشًا تدفعها شهريًّا، ونظرًا لأن أهالي التلميذات قد ضججن بالشكوى منذ زمن بعيد من هذه المسألة، فقد رأيت أن تنفيذها لا يكلف الوزارة شيئًا، وينفع التلميذات في الوقت ذاته، وقد جمعت منهن فعلًا المبلغ المطلوب للغذاء، وسلمته للمتعهد، وهو مستعد أن يقدم لهن الغذاء في أول الشهر، فإذا رأت الوزارة غير ذلك الرأي فلتكتب لي بسرعة قبل ذلك الميعاد حتى أستطيع منع هذا.

كتبت ذلك الخطاب في الأسبوع الأخير من الشهر، وأنا أعلم أنه لن يُقرأ قبل أن يمر من الشهر الجديد أسبوعان على أقل تقدير، وهكذا بدأت الغذاء، وعُرض الخطاب على ذوي الشأن في أواخر الشهر الثاني، وخجلوا أن يقولوا إنهم لم يطلعوا على الخطاب في الوقت المناسب للرفض فاضطروا إلى إقراره، وهكذا ظفرت بما أريد رغم عدم ميل الوزارة إليه.

واحتجت في بعض الأحيان إلى غرف أزيدها على مباني المدرسة، وكانت المدرسة في بناء مستأجر تابع لوزارة الأوقاف، وكان يحيط بذلك البناء منازل أخرى تابعة لوزارة الأوقاف أيضًا.

وكتبت إلى الوزارة لتخابر الأوقاف في أن تؤجر لنا منزلًا معينًا من تلك المنازل التي تحيط بنا، وتلكأت وزارة الأوقاف في إجابة الطلب، وعرضت الأوراق على المرحوم فتحي باشا، وكان مشهورًا بتصرفاته المدهشة العجيبة، ولما قرأ في خطاب وزارة المعارف أنها في أشد الحاجة إلى استئجار ذلك المنزل بأسرع ما يكون كتب عليه وهو يبتسم كلمة «طظ»، وهكذا كلما عرض عليه أمر استئجار ذلك المنزل كتب عليه تلك الكلمة المأثورة، وأخيرًا ذهبت إليه، وقلت له: إنك تعلم يا معالي الوزير أني أنا الناظرة المصرية الوحيدة، فأنا أفتتح الآن طريق المصريات، ولو أن ملف تلك المدرسة عرض عليك وفيه إشارة من ناظرة إنجليزية لنفذت لها معاليك ما تريد. وخجل المرحوم بعض الشيء، وقال: لو أني أعلم أن ناظرة تلك المدرسة مصرية لنفذت ذلك من زمن بعيد. وطلب الملف، وكتب عليه بالتصريح بتأجير المنزل لوزارة المعارف بأسرع ما يكون.

ولكن المنزل لم يكن خاليًا بل كان مسكونًا، وقال لي مأمور الأوقاف في الإسكندرية إنهم لا يستطيعون عمل شيء لإخراج الساكن بالسرعة المطلوبة؛ لأن بيده عقدًا، ولأنه يدفع الإيجار في مواعيده، فذهبت إلى الرجل، ورجوته في أن يخلي لنا المنزل، وبحثت له عن منزل آخر من منازل الأوقاف أيضًا بأجر أقل من منزله، وعرضته عليه، ولكنه رفض وتعنت، وقد كان المنزل ملاصقًا للمدرسة فأفهمته أن المنزل مطلوب للحكومة، وأن الحكومة تعمل كل ما تريد دون أن يستطيع أحد أن يعارضها «كلام فارغ»، وكان الرجل جاهلًا لا يستطيع تكذيب ما أقول، ولكنه مع ذلك تعنت ورفض أن يترك المنزل، وفي اليوم التالي لمقابلتي له أحضرت أحد البنائين ففتح بابًا في غرفة من غرف المدرسة ملاصقةٍ لذلك المنزل، وإذا بذلك الباب الذي فتحناه يؤدي إلى غرفة نومه، وإذا به يرى أن غرفة نومه تهدم، وأن المدرسة قد اتصلت به، فرجاني أن أكف عن تتميم فتح الباب إلى أن ينقل عفشه، ونقل عفشه في الحال إلى المنزل الذي اخترته له.

وهكذا كنت أنفذ أوامري بكل طريقة ممكنة وغير ممكنة، فكنت كناظرة أقوم مستقلة بعملي، أعمل لإصلاح المدرسة ما استطعت إلى ذلك سبيلًا حتى كنت أعمل ما يراه غيري غير ممكن، أما كمفتشة فليس لي التنفيذ ولا العمل مستقلةً، وكل ما أستطيع عمله هو تقديم تقارير واقتراحات تتضخم بها دواليب وزارة المعارف دون أن يقرأَها أحد، ولقد عرفت ذلك من تجارب كثيرة إذ كنت أرى تقرير المفتش يأتيني، وعليه إشارة مراقب التعليم والوكيل بأمل اتباعه، وبعد شهر من تاريخ ذلك التقرير يأتيني تقرير آخر يناقضه، وعليه نفس الإشارات، مع العلم أني لا أستطيع تنفيذ التقريرين، ويعارض كلاهما الآخر، إذن تقارير المفتشين كانت لا تتبع إذا تعقل الناظر، وأراد أن لا يسير سيرًا مضطربًا متناقضًا، أو تنفذ لمدة شهر إذا كان الناظر عديم التفكير، ثم يمحوها تقرير آخر؛ ولهذا كنت أكره أن أعمل في التفتيش الذي لا أثر له في إصلاح التعليم؛ ولهذا كله رفضت الوظيفة التي عرضها عليَّ ذلك المفتش، ورفضت العلاوة أيضًا، ومقدارها ٩ جنيهات شهريًّا، وسافر المفتش ممتعضًا، ثم عاد فعرض عليَّ أن يكون مرتبي في التفتيش ٤٠ جنيهًا، ثم ٤٥، ثم ٥٠ جنيهًا، وأنا أرفض كل ذلك العرض.

وأخيرًا غضب المفتش، وقال: لقد جعلتني أشك في تصرفك كناظرة. قلت: إذن أنت تتهمني بأني أستفيد من المدرسة، أو من الأغذية التي تصرف للمدرسة مبلغ ٢٤ جنيهًا شهريًّا، هذا إذا عملت المدرسة ١٢ شهرًا، وهي لا تعمل إلا ٨ شهور، فعظم المبلغ المعروض عليَّ يدلك على أنك مخطئ، أما رأيي فيك بعد ذلك فهو أنك لست بمعلم، بل أنت دعي على المهنة، ولقد قرأت لأحد الأساتذة الإنجليز عبارة يقول فيها: «تنقدني كلية كذا على عمل لو أنها منعته عني لنقدتها لتعطيني إياه.» وأنا كذلك الأستاذ تعطيني وزارة المعارف مبلغ ٢٦ جنيهًا شهريًّا على عمل أنا أحبه، ولو أني غنية لأعطيتها ٣٠ جنيهًا لأستمر في ذلك العمل، فمرتبي إذن ٥٦ جنيهًا، والعمل أحبه، وأنت اليوم تعرض عليَّ عملًا مبغوضًا بمرتب خمسين جنيهًا، فرفضي في محله لا غبار عليه لمن يفهم مهنة التعليم، وخرج الرجل من مكتبي غاضبًا، وبعد ذلك ببضعة أيام استدعاني المغفور له يحيى إبراهيم باشا، وكان وزيرًا للمعارف، وقال لي: «لست ممن يكذبون، ويدعون أنهم يعارضون الإنجليز فيما يريدون، بل أنا رجل صادق أقول لكِ: إنه ليس في مصر وزير يقف أمامهم، ويبقى في كرسيه دقائق بعد ذلك، والإنجليز لا يريدون أن تكوني ناظرةً، وهم أيضًا لا يريدون الإضرار بك، وقد عرضوا عليك مرتب ٥٠ جنيهًا لإرضائك، ورفضك هذا معناه أن أضطر أنا إلى إيذائك، أو إخراجك قهرًا من العمل، وهذا ما لا أحبه.» قلت: شكرًا يا سيدي لم أكن أعلم ذلك، ولو علمته من قبل لقبلت ما عرض علي، وأنا اليوم أقبله. وشكرت للرجل صدقه وإخلاصه، فإنه لا يضر المصريين إلا أولئك الوزراء الذين يتشدقون بمقاومة الإنجليز فيما يريدون، وهم في الباطن أضعف بكثير من أولئك الذين يقولون الحقيقة؛ لأن الذي يقول من وراء الإنجليز إنه يقاومهم يضطر أن يستر قوله هذا بطاعتهم طاعةً عمياء لا نقاش فيها، أما الذين يصرحون بإطاعة الإنجليز، فقد يدفعهم هذا التصريح إلى رجاء الإنجليز في تعديل أوامرهم ولو قليلًا محتجين برغبة الشعب، ولأنهم هم أصدقاء الإنجليز الذين لا يريدون لهم إلا كل خير.

وهكذا نفعني ذلك الرجل العظيم بتصريحه، وعدت إلى الإسكندرية، وزارني صاحبي المفتش في اليوم التالي، وسألني عن رأيي في العرض الذي عرضه، قلت: لقد قبلت العرض مع الشكر. قال: إنك لم تقبليه حتى خاطبك الوزير. قلت: نعم، لأنه كلمني باللغة العربية «بالعربي» ففهمته، ولم يفهم الرجل مضمون العبارة «العربية» التي أردت بها الصراحة. فقال: ولكنك تحسنين اللغة الإنجليزية. قلت: نعم، ولكني أحسن اللغة العربية أكثر من ذلك، ولا أفهم الحقائق إلا بها. وهكذا قلت ما أريد دون أن يفهمه الرجل، ونُقِلْتُ بقدرة من لا أدري إلى التفتيش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤