مناورات

انتهت مشكلة المنزل، وسكنت المدرسة في منزلي الخاص، وكنت ولا أزال أعتقد أن البارون منشة، وهو صاحب المنزل القديم قد حُرِّضَ على ما فعل، ولا زالت اليد المحرضة تعمل ضدي، فإني ما كدت أعمل في المنزل الجديد أربعة شهور حتى زارني أحمد بك كامل، وكان في ذلك الوقت مراقبًا مساعدًا لتعليم البنات، فرحبت به اعتقادًا مني أنه جاء ليزورني، ولكن شد ما كان أسفي عندما أخبرني أنه جاء ليحاسبني عن مال جمعية ترقية الفتاة، فقلت باسمةً: وما قرابتك يا سيدي لجمعية ترقية الفتاة؟ قال: إن وزارة المعارف مسئولة عن الأموال التي تجمع باسم التعليم. فأبنت له أن المدرسة لم تصرف من مال الجمعية شيئًا، ولم يصلها من الجمعية إلا أدوات مدرسية كانت قد تركتها وديعة، وأخذت بها إيصالًا، ثم عادت فأخذت مني مبلغ ٢٠٠ جنيه ثمنًا لتلك الأدوات، وردت لي الإيصال، أما شروطي مع الجمعية، فقد كانت تمنع الجمعية منعًا باتًّا من التدخل في مال المدرسة. أظهرت له الشروط، قال: وكيف قبل عدد من القضاة أن يكتبوا معك شروطًا كهذه؟ قلت: لأني كنت مصممةً عليها، ولأن إرادتي — والحمد لله — قوية لا يقف أمامها شيء. قال: فليس لنا إذن ما نحاسبك عليه. وحياني، وانصرف.

وأخذت اليد المحرضة ضدي تحرض إنجليز وزارة المعارف على محاربتي بدعوى أني ضد الإنجليز، وإني أكرر ثانيةً وثالثةً أن التهمة كانت باطلةً، وإني أنا شخصيًّا لم أعمل في السياسة، بل وجهت كل جهودي إلى تعليم البنت، ولا أدري أكان الإنجليز يجهلون حقيقة الأمر التي لم يكن فيها من ريب أو شك، أم أنهم كانوا غير راضين عن طريقتي في تعليم البنت، فكانوا يحاربون المبدأ لا شخصه، وعلى كل حال فقد كانت الحرب مستمرةً، والقائمون بها — ولا شك — أقوياء، ولم تكن مدرستي خاضعةً لتفتيش الوزارة؛ ولهذا لم تكن وزارة المعارف تعطيني إعانةً، وقد عُرِض على كثير من وزراء المعارف محاربة المدرسة، وكان منهم المغفور له أبو السعود باشا، وجعفر والي باشا وغيره، وكنت في ذلك الوقت قد حولت مرتبي إلى بنك مصر فرع الإسكندرية، وكنت أنتظر من يوم لآخر أن تفصلني الوزارة، وتمنع صرف المرتب، ولكن الوزارة كانت متجهة إلى إغلاق المدرسة لا إلى فصلي منها؛ ولذلك كانت تحاول إعادتي بكل الوسائل، وكنت أنا أرفض، ولكي يصل أعدائي إلى إغلاق المدرسة عرضوا على صاحب المعالي المغفور له أبو السعود باشا أنهم في حاجة إلى جهودي، وأنه يجب ردي إلى العمل بأي ثمن كان، ولم يكن المغفور له يعرف نواياهم، وكان رجلًا ذكيًّا نزيهًا لا يعرف التواءً، فعرض عليَّ الأمر، وطلب مني أن أقبل العودة إلى العمل، فأفهمته ما يُحاك ضدي من الدسائس، وقلت له: لا أود بحال من الأحوال إغلاق مدرستي؛ لأني غير واثقة من حسن نية رجال وزارة المعارف، خصوصًا الإنجليز منهم، بعد ما تركهم المرحوم المستر دانلوب، وقلت له: إني مع ذلك لا أتأخر عن العمل بالوزارة إذا عينتني مفتشةً للتعليم الأولي بالإسكندرية وضواحيها، وفي الحال صدر أمر معاليه بذلك، وأرسلت نشرة إلى المدارس بذلك التعيين، ولم أشأ ترك مدرستي فنقلت كاتب التفتيش إليها، وأخليت له غرفة منها بدون أجر طبعًا، وهكذا لم تستطع الوزارة نقلي إلى مقر وظيفتي بالقاهرة، فنقلت الوظيفة إلى منزلي بالإسكندرية.

علمت المدارس الأولية بتعييني، وكانت المعلمات بالطبع يعرفن شدة حرصي على الأخلاق، فأخذن يصلحن من زيهن، ولم أَزُرِ المدارس إلا بعد ١٥ يومًا من تعييني لأعطي لهن الوقت الكافي للاستعداد بلبس محتشم، وكنت أعلم أن الكثيرات كن يذهبن إلى مقر مفتش التعليم الأولي بلبس خارج عن الكمال والحشمة، أما أنا فلم تزرني إحداهن في مقر وظيفتي؛ لأني أظهرت لمن زارتني منهن أول مرة عدم رضائي عن تعطيل أعمال المدارس، وهكذا انقطعن عن زيارة مقر التفتيش، وانصرفن إلى أعمالهن بالمدارس، وزرت المدارس بعد ذلك فلم أجد في لبسهن إلا الحشمة والكمال، وأتذكر أني لم أؤنب واحدةً منهن عن خروجها عن الكمال في ملبسها، بل كنت إذا رأيت إحداهن تلبس ما لا أريده، وجهت كلامي إلى زميلتها المحتشمة، فامتدحت حشمتها، وأطريت كمالها، وقلت إن ذلك الكمال قد زادها جمالًا وهيبةً، فكان ذلك يدفع زميلتها المتبرجة إلى الكمال والحشمة سعيًا وراء رضائي، واقتناصًا لمدحي وإطرائي، وهكذا انتظم لبس المعلمات دون أخذ ولا رد، وشعر كل أهالي الإسكندرية بذلك التغيير، فاستدعاني المغفور له أبو السعود باشا، وأثنى عليَّ فيما وصلت إليه المعلمات من الكمال في زيهن، وضايق ذلك رؤسائي من رجال وزارة المعارف، فاستمروا في محاربتي ليظفروا بما يريدون.

انتقلت الوزارة في صيف ذلك العام إلى الإسكندرية، وكان أحد كبراء الوزارة معروفًا لدى المعلمات بمسلكه وميله إلى المجون واللعب، فأخذ بعضهن يذهب إليه خفية دون علمي، وذهبت يومًا فوجدت إحدى معلمات المدارس الأولية وهي جالسة أمام مكتبه، وقد تبرجت تبرجًا معيبًا مزريًا، وما إن دخلت الغرفة حت ارتعدت الفتاة، وارتعد ذلك الكبير أيضًا، وقام ليحييني فضغط على يدي، وغمز بعينه يريد أن يلفتني إلى تبرج الفتاة، وإلى أنه غير راضٍ عن ذلك، فنظرت أنا إلى المعلمة، وقلت لها: إن سعادته يضغط على كفي مظهرًا عدم رضائه عن زيك، مع أنه كان جالسًا يحدثك، فكأنه يا ابنتي يغرر بك، وأنت أيها الرئيس لِمَ تظهر عدم رضائك الآن بعد أن جلست معك مدةً؟ أما كان الواجب عليك أن تظهر لها عدم الرضاء ساعة دخولها عليك؛ لترشدها إلى السبيل السوي لا أن تلاينها وتمازحها، وتدعي أمامي أنك غير راضٍ عن تبرجها، وتركت الفتاة الغرفة مسرعةً بالخروج، وبقي هو وقد تلجلج فلم يستطع أن يرد جوابًا.

ودخلت على المغفور له أبو السعود باشا، وأمامه ذلك الكبير، ويظهر أنه خجل من فعلته، وأراد أن يداريها فقال لأبي السعود باشا: لقد جاءتني إحدى المعلمات اليوم، وهي متبرجةً تبرجًا معيبًا. قلت: نعم، وهل علمت سعادتك السبب؟ إنها لا تقابلني بهذا الزي مطلقًا، ولكنها اختارته لسعادتك؛ لأنها تعلم أنك تموت غرامًا بمثل ذلك الزي، وترقِّي صاحباتك، فجاءت لتولعك بها علها تُرقى، أما أنا فلا تقابلني إلا كاملة محتشمة لعلمها أن في كمالها ما يحملني على ترقيتها، ولقد كان الأولى بك أن تكتم ذلك عن معالي الوزير، لا أن تذكره أمامه فيعرف ما لا يرضاه. وأقسم أن ذلك الكبير سكت فلم يجبني بشيء والحق يلجم. أما معالي الوزير فابتسم ابتسامةً لها كل مغزاها، وخرجت من عند معالي الوزير، وخرج ذلك الكبير معي، وهو يقول: لقد خُلقت شاذة، لا أنت بالرجل ولا بالمرأة، وكان الأحرى بك أن تعلمي أن من مستلزمات النساء تزيينهن وإلا عد ذلك خروجًا على الطبيعة. قلت: إن الزمن قد تغير يا سيدي، وقد أصبحت المرأة تعمل، وأصبح من مستلزماتها الجد والكمال لتستطيع إتقان عملها، وإلا خسرت الحكومة كثيرًا من توظف النساء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤