الفصل الحادي عشر

كان صلاح طفلًا لا يدري ما يصنعه أبوه، وحين بدأ ينطق الكلام ويفهَمُه وجد أباه في مكان الصدارة من البلدة جميعًا، ووجد الناس لا تُخاطبه إلا بكل إجلال. وحين بلغ الخامسة من عمره وجد أبوه أن من الطبيعي أن يذهب إلى المدرسة. وقد أحب أن يُبعِده عن القرية؛ فقد خشي أن يجتمع بالفلاحين فيعرف منهم في طفولته ما لا ينبغي أن يعرفه عن أبيه. أما القاهرة فهي بعيدة وابنُه هناك سيكون في تيهٍ عن أمرِ أبيه، وأمرُ أبيه هناك لا يعرفه أحد. وإن كان سيلتقي في القاهرة مع ياسين زوج أخته ومع عابدة أخته إلا أن أحدًا منهما لن يذُمَّ أبًا إلى ابنه، وخاصة إذا كان الأب هو المتصرف في أرضهم، ومهما يكن ظالمًا لأخته ولخليل متأبيًا أن يرفع الإيجار الذي ارتفع في جميع الأراضي، إلا أنه مع ذلك كان واثقًا أن أحدًا من الاثنين لن يذُم أبًا عند ابنه. وسيرى هناك الدكتور خليل عمه، ولكن خليل أبعدُ ما يكون عن ذلك، فإن من هو في مثل علمه لا يتصور أن يذكر أبًا عنده ولده بما لا يرضاه.

كلَّم سباعي ياسين في التليفون، وطلب إليه أن يبحث له بجوارهم في المنيرة عن شقة تسكن فيها قدرية وابنها. وقدَّر أنه بقُربه من ياسين المدرس سيكون في رعايةٍ منه طيبة، خاصة وأنه في مثل سن ابنه عمر، وسيذهبان مدرسة واحدة. وتم الأمر كما أراد تمامًا، وذهب سباعي إلى القاهرة ورأى الشقة وكانت فاخرةً واسعة؛ فقد استقر في نفسه أن تكون بيتًا له في القاهرة يلتقي فيها بمن يرى دعوتهم إلى غداء أو عشاء إذا اقتضت مصلحة أن يدعو إلى غداء أو عشاء. وبعد أن وقَّع عقد الشقة عَزمَت عليه أخته وزوجها أن يبيت ليلته عندهما، ولكنه رأى أن يبيت عند أخيه خليل. واستقبله خليل بترحاب أخٍ شريف يُحب أخاه، ويتغاضى عما يرتكس فيه مما لا يرضاه الشرفاء. وبعد العَشاء قال خليل: قل لي يا سباعي، من المؤكد أنك عندك من المال السائل ما تريد.

– الحمد لله، لا أشكو.

– لا تخف. أنا لا أنوي أن أستلف منك؛ فالحمد لله أنت لا شك تعرف أنني أكسب من عملي مكسبًا يكفيني ويزيد.

– ولماذا لم تفكر في الزواج؟

– فكَّرتُ.

– واخترتَ؟

– وسأدعوك قريبًا لتخطبَ لي، وتتفقَ على كتب الكتاب.

– أعرفها؟

– لا أظن، إنها ابنة أستاذ لي، وطبيبةٌ زميلتي.

– وستجعلها تعمل؟

– طبعًا هذا أمر لا تتصوره أنت، ولكن هل تظن مصر تستطيع أن تستغنى عن جهد طبيب أو طبيبة؟

ويقول سباعي في دهشة: مصر! وأنت ما لك وما لمصر؟

ويقول خليل في حسم: طبعًا هذا موضوع لا شأن لك أنت به.

– أنا من مصر، ألست كذلك؟

– سباعي اعمل معروف، يا أخي، لكلٍّ منا طريق في الحياة لا يتوازى معه ولكن يتقاطع. ولا يمكن أن أفهمك وأنت أيضًا لا يمكن أن تفهمني، فدَعْ هذا وقل لي: هل عندك مانع أن تشتري أرضي؟

– مطلقًا، كم تريد في الفدان؟

– أنت الذي تسألني؟ إنني لو كنتُ أبيعها لغريب لجعلتُك أنت الذي تبيعها عني.

– وهو كذلك، اشتريت.

– ادفع الثمن ولن أناقشك فيه واكتب العقد الآن.

وكتب سباعي الشيك، وكتب خليل العقد، وتمت الصفقة.

وقال سباعي: أين مفتاح شقتك؟

– في جيبي.

– نم أنت إذن، وسأترك لك المفتاح على هذه المنضدة حين أعود، حتى تخرج إلى عملك ولا توقظني.

– إلى أين أنت ذاهب؟

– ألم تقل إن الطريقَين متقاطعان؟

– فقط أردتُ أن أعلم.

– وأنت تعلم، ولكنك تتخابث عليَّ.

– ظننتُ أنك ستقضي الليلة معي نسمر؛ فإنا لا نلتقي إلا نادرًا.

– أنت ستنام.

– ما أخبار أمي؟

– قاطعتني.

– ولهذا أسألك.

– ولماذا؟

– إنها قادمة لتعيش معي.

– أحسن.

– أتظن ذلك؟

– أصبحَت لا تحتمل البلد.

– لا يُخرِج أمي نبوية من البلد إلا ما لا تُطيق.

– ما دمنا اتفقنا أن الطريقَين متقاطعان، ألا يحسن بنا ألا يناقش أحدنا طريق الآخر؟

– على كل حالٍ أشكرك.

– العفو، علام؟

– أنك جعلتَ أمي تأتي لتعيش معي.

– وسأرسل لك إيجار أرضها كل سنة.

– بل أظنها ستوُكِّلني في بيع أرضها هي أيضًا.

– وعلام توُكِّلك؟ اكتب وخذ العقد وخذ الشيك، ولتُوقِّع هي العقد عندما تُحب.

– وهو كذلك.

وتمَّت الصفقة، وقال سباعي: والآن أين المفتاح؟

– هل أنت مُصمِّم؟

– لو شفت ما أشوفه أنا حين أجيء إلى مصر لما سألتَني هذا السؤال، أتظن نفسك عائشًا يا دكتور؟

– عَلِم الله أن حياتي هي الحياة، ولكن فليتقاطع الطريقان ولا نقاطع نحن، وخذ المفتاح.

– ولكن تقاطُع الطريقَين لن يمنعك من رعاية صلاح؛ فإني سأتركه تحت إشرافك، وسجَّلتُ اسمك في المدرسة وليًّا لأمره.

– هل رأيتني عمرك أتخلى عن واجبي؟ أنا أعرف واجبي دائمًا، وصلاح ابني كما هو ابنك.

– أعرف ذلك. سلام عليكم.

وخرج سباعي إلى سهراته التي بدأ تاريخه معها في صحبة شعبان، والتي أصبح مجيئه إلى مصر مرتبطًا بها ارتباطًا يوشك أن يكون هو الوحيد.

•••

حين جاءت نبوية إلى بيت خليل وأعطاها ثمن أرضها سألته: ماذا أنت صانع بأموالك؟

– سأشتري بها كميةً من الأسهم.

– وماذا تصنع هذه الأسهم؟

– تُدِرُّ دخلًا أحسن من دخل الأرض على الأقل.

– إذن فاسمع، اشترِ بثمن أرضي أنا أيضًا كمية من الأسهم باسم أختك فاطمة وأختك عابدة واسمك، للذكر مثل حظ الأنثيَين.

– أنا متنازل عن نصيبي لهما.

– الله يفتح عليك ويعوضني فيك عما أصابني به من أخيك. فقط أريد الريع طول حياتي.

– وأنا أدفع لك قيمة الريع، واتركي أنت الريع للبنات.

– أطال الله عمرك، ولكن لا، أن أعيش على نفقتك لا مانع فهذا حقي عليك، لكن مصروف يدي لا بد أن يكون من دخل مالي أنا. حين أريد أن أعطي أحدًا من أولاد أختَيك هدية لا بد أن تكون من مالي أنا. أعط أنت لأختَيك ما تشاء لتُعينهما، أما أنا فريع الأسهم يكون لي طول حياتي.

– أمرك. وسيكون كذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤