الفصل الرابع عشر

التحق صلاح بكلية الحقوق، وقد انتسب إليها عن رغبة وليس بإرغام من المجموع؛ فقد كان مجموعه يؤهله لأي كليةٍ يختارها. وهناك تعرَّف بأصدقاءَ جُددٍ، إلى جانبِ مَن التحق معه بالكية من زملاء دراسته الثانوية. وكانت معه في نفس السنة عديلة، أُعجب بها منذ وقعَت عينه عليها. وما أيسر ما عرف اسمها عديلة عبد الغني الزاهد! ولكن في زحام الطلبة لم يكن يعرف عن أبيها شيئًا إلا اسمه. أما وظيفته، أما بلدته، ولكن ماذا يهمني من وظيفته أو بلدته؟ وماذا يهمني أيضًا من عديلة؟ إنها جميلة وفقط، وأنا لست قادمًا إلى هنا لأُحب فللحب أمكنةٌ أخرى، ولكن البنت حلوة، وحلاوتها جعلَتْني أعرف اسمها والأمر عندي ينتهي إلى هذا الحد.

ولننظر بعد ذلك في أمر هذه الكلية التي تحمل اسمًا من أشرف أسماء التاريخ، الحق وهو اسم من أسماء الله الحسنى. وإن من أسمى معاني الحياة أن يعرف الإنسان الحق، ويقف عنده. تُرى لو لم تحدث لي هذه الحادثة التافهة في أول سنةٍ لي في المدرسة الإعدادية أكنتُ انتسبتُ إلى كلية الحقوق؟ من يدري؟ لماذا لا تريد هذه الحادثة أن تفارقني؟ أهي حادثة؟ إنها واقعةٌ صغيرة، ولكنها في حياتي كانت حادثة، بل هي الحادثة الوحيدة التي ارتكبتُها، لماذا لا تريد أن تبارحني؟ كان ياسين أفندي يُدرِّس لي القرآن في الليلة السابقة على هذه الحادثة، وكان يشرح لي أن السرقة حرام، وأن الذي يَسرِق يُعاقبه الله. وفي اليوم التالي كان علينا حصةُ حسابٍ بعد الفسحة مباشرة، وبدون أي مناسبة ذهبتُ إلى الفصل قبل أن يدُقَّ جرس الحصة، وجلستُ إلى الدرج أعيد النظر في واجب الحساب ووجدتُ زميلي عبد التواب تاركًا قلم حبر على درجه. القلم رخيص كل الرخص، ولكنني قلتُ في نفسي سأسرق هذا القلم وأرى إن كان الله سيعاقبني أم لا. وبفكرة السرقة وحدها أخذتُ القلم. ربما لو كنتُ أخذتُه دون تفكير في السرقة كان الأمر قد اختلف، وإنما أنا استوليتُ عليه بقصد السرقة وأعلنتُ هذا النفسي. وبدأتُ أُوضِّح بالقلم أرقام مسألةٍ حسابية من مسائل الواجب، أمرٌ عجيب! القلم جديد، فما هذا الذي حدث؟ كيف انكسر دون أي ضغطٍ مني عليه ثم انتثر الحبر منه على الواجب كله حتى لم يَبقَ في الصفحة مكان لم تَرتمِ عليه بقعة حبر؟ أكل هذا الحبر كان في هذا القلم الصغير؟

عرفتُ الحياة بعد ذلك، وعرفت أن الله لا يعاقب كل السارقين من الحياة في الحياة، وإنما عقابهم في الآخرة. وجعلَتْني هذه المعرفة أُوقن أن الله يرعاني بعنايته، وأنه أنزل بي العقاب عند أول سرقة لي. وهو وحده يعلم أي طريقٍ كنتُ سأسير فيه لو لم يردعني في بادرتي الأولى. أم تُرى من حقي الآن أن أقول في حادثتي الأولى والتي أصبحت أخيرة؟

أهذا ما جعلني أختار كلية الحقوق؟ إن الذين انتسبوا إليها معي عن اختيار قلةٌ نادرة؛ فأغلب زملائي فيها رمى بهم إليها المجموع. لماذا؟ لماذا يرفضون الالتحاق بكلية الحقوق؟ أترانا أصبحنا في زمن لا حقوق فيه؟ هل ضاع في زماننا حق الله وحق الوطن وحق الأسرة وحق الناس؟ وإلا فما انصراف الشباب عن كلية الحقوق لا يلتحقون بها إلا مرغمين؟

ربما جعلني هذا أتفوَّق في دراستي، ولكن هل التفوُّق على الضعاف قوة؟ ليس النجاح في الكلية إذن هو المهم. إنما يوم أكون محاميًا أو وكيلًا للنيابة وأتفوَّق على الظلم وعلى الجشع وعلى نفسي. يومئذٍ أستطيع أن أدَّعي لنفسي أنني تفوَّقتُ.

•••

كان صلاح حريصًا على أن يزور عمه كل فترة وكان يجد منه لقاءً رحبًا. وقد حرص أن يذهب إليه بعد القوانين التي أتت على الجانب الأكبر من مدخَّراته، وفرح بعمه وهو يجده يقوم بعمله في العيادة وكأنَّ شيئًا لم يكن.

– المصيبة يا صلاح ليست في حجمها وإنما في الحجم الذي تُحس به أنت وفي المكان الذي تُنزِلها فيه من نفسك. وقد علَّمَتْني مهنتي أن أرى الناس. وجدتُ بعض المرضى مصابًا بالإنفلونزا وهو مع ذلك هالعٌ مرعوب كأنما هي كارثة الكوارث. ووجدتُ آخرين من ذوي العقول الناضجة والعلم الواسع والإيمان الراسخ مصابين بأمراضٍ تجعل الموت إليهم أقرب من حبل الوريد، ومع ذلك كنتُ أجدهم كالجبال الرواسي لا يحركها شيء؛ بل وجدتُ من هو سعيد فرح أنه سيلاقي ربه، فما المال يا بني؟ أنا الذي جئتُ به، وأنا القادر على أن أجيءَ به مرةً أخرى. وإنما قل لي: ما الذي جعلك تأتي وقد اقتربتَ من امتحان الثانوية العامة؟

– أحببتُ أن أطمئن عليك.

– لفتةٌ عظيمة منك هذه يا أبو صلاح، أنت مُصمِّم على الحقوق؟

– إن شاء الله.

– حين تعرف أساتذتك أخبرني عنهم فإن لي أصدقاءَ كثيرين في الكلية.

– وماذا أريد منهم؟

– أعرف هِمَّتَك، ولكن تعرُّفك بهم يجعلك تقصد إليهم في غير حرجٍ إذا أردتَ شرحَ شيء أو التوسُّع في موضوع، على كل حالٍ التعرُّف بالأساتذة ينفع ولا يضُر.

– فعلًا، حاضر، سأخبرك بأسمائهم، ولكن أين أنا من أسمائهم وأنا لم أمتحن بعدُ في الثانوية العامة؟

– نجاحك مضمونٌ، وحتى أكون أكثر تأكُّدًا تفضَّل بالذهاب إلى المذاكرة، ولا أراك إلا بعد الامتحان. وأرجوك بل آمرك أن تأتي إليَّ في اليوم الأخير من الامتحان لأطمئن.

– حاضر.

– قبل سفرك إلى الإسكندرية.

– حاضر.

ولم يستطع صلاح أن يجد عمه في العيادة يوم انتهى من الامتحان، وسافر إلى الإسكندرية، وعرف النتيجة، والتحق بالكلية، وعرف أسماء الأساتذة. وأَحسَّ أنه تأخَّر عن زيارة عمه، فقصَد إليه بعد أسبوعٍ من الدراسة كان مشغولًا فيه بالتعرُّف على الحياة الجامعية الجديدة عليه.

ماذا يُدبِّر القدر؟ ما الذي أتى بعديلة هنا؟ ومن هذا الذي بجانبها؟ أيُسلِّم عليها؟ وكيف؟ إنها تعرفه فقد رأته مدة الأسبوع كله وهو يُحملِق فيها. جمع أطراف شجاعته: مساء الخير يا آنسة عديلة، أنا زميلك صلاح سباعي وهدان.

– مساء الخير، أهلًا وسهلًا، هذا أبي.

وقال الأب وهو يحاول أن يُرغِم نفسه على تقبُّل الأوضاع الجديدة للشباب: أهلًا يا بني، مساء الخير.

وأبى صلاحٌ أن يُفوِّت الفرصة: خيرًا، ماذا تفعلين هنا؟

– أبي متعب قليلًا.

– وهل البك الوالد من زبائن الدكتور خليل؟

قال الأب في اختصارِ مَن يُريد أن يُنهي الحديث: نعم.

وقال صلاح في دهشة: هذا شرفٌ لنا كبير.

ودُهِش الأب لحظة ثم قال: ما اسمك قلت؟

وابتسم صلاح وقال: نعم، وهدان جدي هو والد الدكتور خليل وهدان.

وابتسَم الأب، وأَحسَّ بنوعٍ من هدوء بعد بوادرِ ثورةٍ من غضب: أهلًا يا بني، ونعم الناس. أنا أعرف عمك منذ بدأ اشتغاله بمهنة الطب. كنتُ أنا موظفًا صغيرًا لا أحتمل أجر الدكاترة الكبار، ودلَّني عليه أحد الزملاء. ونعم الناس يا بني.

– سلامتك يا عمي.

– والله يا بني الكبد.

ووجد صلاح نفسه قد نجح نجاحًا باهرًا؛ فليس أحب للمريض من أن يروي عن مرضه ويجد من يسمع له.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤