الفصل الثاني

أيُّ تحدٍّ تلبَّس وهدان منذ ذلك اليوم؟ كان يعرف نفسه طفلًا لاهيًا إذا دعاه الرفاق إلى اللهو. وكان يعرف نفسه أيضًا يُقبل على العمل مع أبيه كلما دعاه أبوه إلى ذلك العمل. ولم يكن يعرف في نفسه أن إقباله على العمل ما كان إلا ليستجلب إلى كيانه وجوانحه ذلك الشعور بأنه بلغ مبالغ الرجال، وأنه يستطيع أن يقوم بعملهم ويسير طريقهم ويختَطَّ في الحياة خطَّتَهم، وأنه بذلك يستطيع أن يُحدِّث نبوية وكأنه رجل، وأنه خف القطن مع أبيه، وأنه جمع مع الجامعين، وأنه في موسم الذرة يفرط ثمارها عن كوالحها، وأنه في موسم القمح يدرسُه كما رأته. كان يُحب أن يصنع هذا الصنيع، ولم يكن يدري أنه يُحب ذلك جميعه ليُنشئ منه حديثًا مع نبوية في أمسيات الصيف، وبمشهد من الحقول، ومن أشجار الكافور والعبَل، ومع روائح الزروع، ومع أنسام العبَق الإلهي تسري في خفايا الليل بِكرًا دائمًا كأنها لأول مرة تنطلق إلى أرجاء الحياة.

وحين أصابه هذا الذي أصابه وأصبح بذراعٍ واحدة ظل طَوال فترة علاجه يُفكِّر: أيصبح عاجزًا؟ أيُثير الشفَقة كلما وقعَت عليه عين؟ أيكون في الحياة إنسانًا ناقصًا لا أمل من بعدُ في نبوية؟ ولكن ماذا بعدُ؟ إن تلك وحدها كارثةُ الكوارث أجمعين، ولكنها حصلَت، وقعَت، بُترَت ذراعه، أيُصبِح على الحياة عالة؟ أيفقد نبوية ويَفقِد كرامتَه في وقتٍ معًا؟ لتريَنَّ مني الأيام ما لم تتوقَّعه مني حين كنتُ صحيحًا، بل وما لا تتوقَّعه من صحيحٍ آخرَ مهما تكن قُوَّتُه وجبروته.

لأكوننَّ أشد عنفًا عليها مما عَنفَت به عليَّ. فتًى كان في أوَّل عهده ينام في سريره ليُعالَج في ذلك الزمان البعيد كل البُعد عن زماننا اليوم، والأيام تتطاوَل به والمرض جائحٌ باترٌ والدواء بدائيٌّ يحبو ما يزال في ظلماتٍ دوامسَ من الجهل والتأخر. ماذا يصنع الفتى إذا لم يتوعَّد الحياة ويُهدِّدها؟ وما البأس عليه وهو نائم والحياة كلها يقَظَة ودأب وعمَل وكَدْح.

ولكن نبوية تعوده كل يوم، فما له إذن يقطع أن الأمل في الزواج بها قد انقطع؟! وما له يجعل فقدانها أمرًا لا مفَر منه، ولا شكَّ فيه، ولا سبيل إليه! والعجيب العجيب أنه كان يكره زيارتها، وإن كان قلبه يرى في عينَي أمه وأبيه علاماتِ تعجُّب؛ فقد كان الفتيان والفتيات يُزوَّجون في مثل هذه السن في هذه الأيام، فما لهذه الفتاة لا تقني حياءها وما لها تُصِر على زيارة فتًى بُترَت ذراعه ويصلُح لها عريسًا؟! أتظن أنه ما دامت ذراعُه قد بُترَت فهو لن يتزوج على أية حال؟ إنها مجرد ذراعٍ أيتها الفتاة! وما تمنع الذراع المبتورة الفتى أن يتزوج، فما مجيئكِ هذا كل يومٍ في جُرأةٍ لا تكون إلا لزوجةٍ كُتب كتابها ودخلَت أيضًا؟! فما كان يجوز لمن يُكتب كتابُها ولم يدخل بها زوجها أن تذهب إلى بيته وحدها، بَلْه الخطيبة، بَلْه التي ليست بهذه ولا بتلك.

عجيبٌ شأنُ نبوية في رأي الأب والأم معًا.

أما وهدان فقد استقر به الرأي على واحدةٍ من اثنتَين؛ إما أنها تُشفِق عليه في هذه المحنة الطاحنة. وإما أنها تُريد أن تُحيي مَواتَ أمله حتى ينتهي العلاج ويخرج إلى الحياة مرةً أخرى. وكلا السببين لم يستطع أن يجعل قلبه يكُف عن الوجيف وجيفًا كان يجعله يحزن كلما جاءت لزيارته، وقد كانت زيارتها يوميةً، عاليًا دراكًا يكاد يُعلِن عن نفسه للملأ الحاضرين بل والغُيَّب أيضًا.

وشُفي وهدان، وخرج للحياة، ورضي عن نفسه وهو يجعل من أحلام المرض وهذائه حقًّا واقعًا وقوعَ حياةٍ، جادًّا جدية من لا يهذي ولا يعرف إلى الهذاء سبيلًا.

هو في الغيط منذ الصباح الباكر وهو لا يعود إلى البيت إلا بعد أن تغيب الشمس وتُوغِل في المغيب. وتأتي إليه نبوية في الغيط وعلى ملأٍ من الذين يعملون فيه وتُجالسه، في أول يومٍ ذهب فيه إلى العمل. وحرص أن يجعل الحديث بعيدًا عن مواطن القلب، وحرص على ألا يتخاضع لها في الكلام وإنما شكرها؛ لأنها جاءت تُهنئه بسلامة الخروج. وشغَل نفسه بالذين يعزقون الأرض لا ينصرف عنهم ولا يميل إليها بكلمة، وإن كانت نفسه جميعًا باقيةً بجانبها لا تستطيع عنها مُنصرفًا، ولا تُطيق منها فكاكًا.

وابتسمَت نبوية بتلك الشفافية التي عرفَها الريف في قلوب فتيانه وبُنيَّاته؛ فمع أنها كانت ترى وجه وهدان وهو منصرفٌ عنها إلى فئوس العاملين إلا أنها كانت واثقةً أن نفسه جميعًا بقلبها وجوانحها بجانبها. انتظرت مليًّا ثم قالت في شبهِ همسٍ وفي صوتٍ أغَن: فُتَّك بعافية يا وهدان.

وقال دون أن ينظر إليها: مع السلامة.

وصحبَت نفسه وجوانحه وانصرفَت، وقال هامسًا لما بقي منه: ما تزال تحاول تشجيعي على مصيبتي.

وفي اليوم التالي جاءت نبوية، ولم يُطِق وهدان صبرًا، أمسك يدها وانتفَض جسمه انتفاضةً لم يعرفها في حياته قطُّ وابتعد بها عن الجميع: مجيئك بالأمس يرى فيه العاملون فتاةً تُهنئ ابن قريتها بالعودة إلى العمل. أما مجيئك اليوم فغير مقبول. عودي إلى البيت.

– وكيف أراك؟

– سأجيئ أنا إليك.

– أين ومتى؟

– أيوافقُ أبوكِ على مجيئكِ؟

– لم أسأله.

– أتظُنين أنه يوافق؟!

– إذا اتصل الأمر بي وبكَ فأنا لا أُفكِّر.

أحَسَّ بالكلمة كأنها رصاصةٌ أصابت منه كل المقاتل، ونظر إلى ذراعه المبتورة وأبقى عينَيه عليها لتُخفيا دمعاتٍ تبادَرَت، فهمَس وقال بصوتٍ لا يكاد يُسمع ولكن في نبرته أمرٌ وحسم: عودي إلى بيتك.

وفي غير تردُّد قالت وهي تُولِّي عنه: أمرك هو الأمر الوحيد الذي لا أُناقشه، فُتَّك بعافية.

وتزداد الدموع وبلًا من عينَيه، أما عافية الجسم فقد أنالُها. أما عافية الروح فهيهات!

وظل وهدان يذهب إلى الغيط كل يومٍ، ومرت شهور. وكان أبوه يظن أول الأمر نزوةَ جريحٍ فقد ذراعه ولا يريد أن يصاحب الفتية فيما يضطربون فيه. حتى إذا تتابَعَت الشهور وأوشكَت أن تكتمل عامًا أصبح الأب في غَناء عن الذهاب إلى الحقل. وراح يقضي نهاره في جلسته الحبيبة عند عبد الحميد أبو ديدة الخيَّاط الذي لا تمنعه صنعته عن الحديث، ولا عن سماع من يقرأ الجريدة له.

وكانت نبوية في كل يومٍ تذهب إلى حيث ترى وهدان وتطمئن عليه وتنصرف لا تقترب منه، ولكن لا تمضي أو تكونَ واثقةً أنه رآها.

إذن فالأمر ليس إشفاقًا، ولا هو بتشجيع.

جاءت من بعيدٍ ورآها فراح يجري إليها بكل قوته وهي قوةٌ عاتية. وما كان في حاجة إلى الجري فقد كان مُناها أن يُقبِل إليها ولو إقبالةً وانية هينة. وإنها لمنتظرة وإن استغرق خطوه إليها عامًا وأعوامًا.

– ماذا تريدين يا نبوية؟

ودون أن تُفكِّر لحظة: أريد أن أتزوَّجكَ.

ومادت به الأرض بما حوَت وصاح: أنا بذراعٍ واحدة يا نبوية.

وصاحت هي أيضًا به: وهل هذه جديدة عليَّ؟!

وفي تعجُّبٍ حزين: ألم ينقطع حبُّكِ لي حين انقطع ذراعي؟

وأجابَتْه في قوةٍ حاسمة: ومن قال لكَ إني كنتُ أُحب ذراعك؟

ويطأطئ رأسه: لم أصبح إنسانًا كاملًا.

ويعلو صوتها وهي تقول: ومن قال لك إن الإنسان ذراع أو ساق؟ إن الإنسان قلب وحنان ورجولة وإصرار. أحببتُك بعد أن فقَدتَ ذراعك أضعافَ أضعافِ ما كنتُ أُحبُّك من قبلُ، وأحببتُك حين أمرتَني ألا أجئ إليك في الغيط أضعافَ أضعافِ ما أحببتُك بعد أن فقَدتَ ذراعك. وهدان، إذا لم تتزوجني فلن أتزوج طول عمري.

وتزوَّجا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤