الفصل العشرون

كان كل ما عُني به المأمور أن يحافظ على حياة القاتل، وقد تمكَّن من ذلك، وصحبه إلى المديرية. وانقلب الاحتفال مأتمًا، وتحقق بيت شوقي:

وإذا نظرتَ إلى الحياة وجدتها
عُرسًا أُقيم على جوانبِ مأتمِ

وكان أوَّل ما صنعه صلاح بعد أن انفض معظم الناس أن يُعجِّل بسفر خطيبته وأبيها. وحين حاولَت عديلة البقاء معه أصرَّ على سفرها في حسمٍ لم تشهده منه قبل اليوم، فاضطُرَّت إلى السفر.

أُقيم المأتم في اليوم التالي، ولكن صلاح لم يكن يطيق انتظارًا. لقد رأى داخل الناس وكأنهم يقولون: غمة وانزاحت.

انتحى جانبًا بياسين: أتعرف شيئًا؟

– أعرف كل شيءٍ ولا أعرف شيئًا.

– أتذكُر حديثنا في فناء المدرسة؟

– وكيف أستطيع أن أنساه؟

– ألا تعرف على الأقل من أستطيع أن أسأله؟

– نعم أعرف.

– من؟

– أكبر أهل البلدة سنًّا، عمك سليمان النواوي كان صديق جدِّك الصدوق ولن يَكذِبك.

•••

روى سليمان النواوي كل شيء. لم يُخْفِ عنه خافية، وحين أتم حديثه قال صلاح: هل معك العقد الذي فرضه عليك أبي؟

ونادى سليمان ابنه وأمره أن يأتي بحقيبة أوراقه. وأخرج سليمان العقد دون جهد، وقدَّمه إلى صلاح. قرأه، ثم التفت إلى الابن وطلب منه ورقةً بيضاء، وصدع الابن بالطلب، وقال سليمان: ماذا ستصنع؟

– أكون أنا.

ولم يزد. وجاءت الورقة وراح صلاح يكتب ونقل بعض أشياء من العقد القديم ووقَّع الورقة، وأعطاها لسليمان. وقام وهو يقول: سلام عليكم.

– انتظر، اقعد، ما هذا؟

– لقد انتهت مهمَّتي.

– إذن، فانتظر. ربما كانت لي مهمة أنا الآخر.

– أمرك. أنتظر.

وقرأ سليمان الورقة ووجدها عقد بيع من صلاح بالأفدنة الستة خالصة الثمن، وفهم أنه كان ينقل الحدود من العقد الأول، وجرت دمعتان على خدَّي سليمان وهو يقول: عجيبة!

– وقال صلاح: ما العجيبة؟

– بل عجائب!

– ما هي العجائب؟

– العجيبة الأولى أن عيني ما زال فيها دموع، ولم تُحجِّرها السنون. والثانية أن تكون أنت ابن سباعي، وأمك من أشرف الناس ولا شك أنك ابنه فتلك عجيبة. أما العجيبة الثالثة أن عزرائيل تأخر عني طول هذه المدة وأنا لا أدري السبب. واليوم درَيْته.

– والآن أتسمح لي؟

– بل انتظر.

– ماذا؟

– الفلوس التي أرسلها إليَّ أبوك، لم أمسَّها. كما هي وهي هنا في هذه الحقيبة.

– لا تلزمني.

– أمثلي يقبل الصدقة؟

– أستغفر الله! وإنما الذي قدَّرتُه قلتَه أنت الآن، لو كان أبي صنع هذا معك وأنت تاجر فربما كنت تاجرتَ بالمال وكسبتَ منه. أما وقد فعل ما فعل بعد أن توقَّفتَ أنت عن التجارة فهذا معناه أن المال بقي عندك ولم يصنع شيئًا. ولا شك أن نفسكَ عزفَت حتى أن تشتري أرضًا أخرى، فالريع الذي أخذه أبي من الأرض حقك، فليكن ما أرسله لك من المال مقابل هذا الريع.

– منطق قد يقبله غيري؛ فقد كنتُ أستطيع أن أشتري أرضًا أخرى، وكنتُ أستطيع أن أجعل زميلًا لي في التجارة أو واحدًا ممن علَّمتُهم التجارة يتاجر لي؛ فإبقاء المال بلا عمل خطأ اخترته أنا ولم يفرضه عليَّ أبوك. والأرض اليوم ثمنها أضعافُ أضعافِ ثمنها يوم اغتصبها مني أبوك ودفع فيها نصف الثمن، فإذا كنت تريدني أن أقبل الأرض فاقبل أنت على الأقل ما دفعه لي أبوك قسرًا. إنه أرغمني على البيع بثمنٍ بخس فأذلَّ كرامتي، فلا ترغمني أنت على الشراء بلا ثمن وتزيد كرامتي ذلًّا.

– لا والله؛ فما إلى هذا قصدتُ.

– إذا أردتَ أن تُريح ضميرك فأرح ضمير الناس، وأطال الله عمرك، وثبَّتكَ على ما أخذتَ به نفسك وأعانك عليه؛ فإنَّ من كان في مثل عدلك سيلقى الكثير من المتاعب. خذ الفلوس.

– أمرك. سلام عليكم.

– مع ألف سلامة!

•••

ذهب صلاح إلى بيت شاكر، وكان ما صنعه صلاح مع سليمان النواوي قد ذاع في القرية كلها، فرحب به شاكر؛ فقد أحس أن القادم إليه إنسان. قال صلاح: أين أخوك عبد التواب؟

– في بيته.

– أرسل إليه من يستدعيه.

وجاء عبد التواب وبدأ صلاح: حياة الإنسان لا يساويها شيء في العالم، ولكن الله وحده هو القادر على أن يبعث الحياة ولا يد لي في هذا. وكل كلامٍ للعزاء في أبيكما لا يجدي فلا عوض عن الأب، ولكنني أنا أريد أن أعيش، وبيدكَ أنت وأخيك هذا أن تسمحا لي بأن أُحس أنني فعلتُ ما يجب عليَّ أن أفعله في أضعف صورة، فأستطيع أن أعيش.

وقال عبد التواب: ما المطلوب منا يا أستاذ؟

– لا شيء إلا أن تقبلا هذا العقد.

– وماذا فيه؟

– بيع باسمك واسم إخوتك مني للأفدنة الخمسة التي كان يزرعها أبوكم.

وبُهت الأخوان، وقال شاكر: والثمن؟

– العقد خالص، والثمن وصل.

وقال عبد التواب: لا يردُّ الكرامة إلا لئيم. كان غيرك يستطيع أن يقول ما شأني بما فعله أبي ويُبقي الأرض.

– ولكني أنا لا أستطيع.

– إذن فأنت جدير بالشكر.

– بل الشكر لكما أن قبلتما. السلام عليكم.

– السلام ورحمة الله وبركاته.

تردَّد كثيرًا ثم جمع أطراف شجاعته وذهب إلى عبد الحميد ابن حسن قاتل أبيه. وجزع الشاب وهو يراه واقفًا على رأسه في الدكان، وانتفَض واقفًا وبيده المقص، وهو يقول: ماذا تريد؟

– رُدَّ السلام أولًا.

– ومن أين يأتي السلام؟

– يا أخي، أبوك قاتل أبي وأنا الذي جئتُ إليك!

– من أجل هذا أعجب، ماذا تريد؟

– كل خيرٍ إن شاء الله.

– لم نَرَ الخير منكم مطلقًا.

– صدقتَ، ولكن من يدري ماذا في داخل الأيام القادمة؟ رُدَّ السلام.

– وعليكم السلام.

– اقعد.

– نقعد.

– خذ هذا.

– ما هذا؟

– أنا أعرف أنك تعلمتَ القراءة والكتابة.

وقرأ عبد الحميد: أهذا معقول؟

– نعم.

– ليس معي ثمنها.

– ألم تقرأ العقد؟

– نعم.

– ماذا فيه عن الثمن؟

– أنه خالص.

– وهو خالص.

– هذا كثير، هذا كثير. إن أبي قتل أباك من أجل هذه الأفدنة الثلاثة.

– والآن وقد مات أبي فلنترك الأيام تصنع ما عندها، ويؤدي كل منا واجبه.

وانفجر عبد الحميد عن بكاءٍ عالي النحيب، وراح صلاح يُربِّت كتفه، وقال عبد الحميد: أنا الذي جعلتُه يصنع ما صنع.

– أنت؟

– كنت دائمًا أُعيِّره أنه قَبِل الذل، وكان يقول إنني أقتله كلما قلتُ له هذا. قال لي عندما زرتُه في السجن: ثلاث رصاصات، عن كل فدانٍ رصاصة، قل لأولادك جدكم لم يكن ذليلًا.

– هل وكَّلتَ عنه محاميًا؟

– لا.

– وهل معك أجر المحامي؟

– سأُدبِّره.

– خذ هذا المبلغ، وتسمع نصيحتي في اختيار المحامي أم تظن أنني أغشك؟

– أتُقدِّم لي كل هذا وتغشني؟

– إذن فاذهب إلى القاهرة، ووكل الدكتور عبد الوهاب رفاعي أستاذ القانون الجنائي في كلية الحقوق، وهذا عنوان مكتبه. سلام عليكم.

– نعم، الآن السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبقي صلاح في البلدة يُعيد إلى كل مَن اغتصب منه أبوه أرضًا أرضه أو يُعيدها لأولاده، منهم من يردُّ الثمن ومنهم من لا يردُّ، حتى إذا اطمأن أن لم تَبقَ أرضٌ لم تعُد لصاحبها أو لورثته سافر إلى القاهرة.

وهناك ذهب إلى عمه الدكتور خليل.

– أهكذا تكون النهاية؛ موت في حظيرة بهائم؟ في أقذر مكان في القرية، بل ربما في العالم.

– إنه مجرد جسدٍ ارتمى في القذارة، وعند الموت تستوي الأمكنة.

– وربما كانت روحه قد صَعِدت وهي تحمل من القذارة أكثر مما ارتمى عليه جسده.

– هذا ليس شأنك.

– أنا ابنه.

– ولكنه أصبح إلى من لا ينفع عنده مال ولا بنون.

وأكمل صلاح: إلا من أتى الله بقلب سليم، أو كان قلبه سليمًا.

– ومن هذا الذي يستطيع أن يطَّلع على القلوب؟

– الذي لا ينفع عنده مال ولا بنون.

– فهذا شأنه اتركه له.

– يا ليتني أستطيع.

– أنت قمتَ بواجبك بعد وفاته.

– ليس بعدُ.

– ماذا بقى عليك؟

– هناك إنسان سيُقتل.

– إنه قاتل، هذا حق المجتمع.

– وحقي، ألستُ ولي الدم؟

– وماذا تريد أن تفعل؟

– رفعتُ الدعوى المدنية.

– أتريد عِوضًا عن أبيك؟

– أريد الحق أن يأخذ مجراه.

– لا أفهم شيئًا.

– لكل شيء وقته.

– بلغني ما فعلتَه في البلد.

– لم يَبقَ أحد أردُّ حقَّه إلا سعادتك.

– أنا ليس لي حق.

– سنعرف الآن.

– كم بقي لك من أرض؟

– أربعون فدانًا.

– لا بأس.

– ستصبح الآن عشرين تقريبًا.

– لماذا؟

– أرضك وأرض جدتي.

– أرضي أنا؟

– نعم.

– ما لها؟

– لا بد أن أردَّها إليك.

– لماذا وهل بعتُها قسرًا أنا الآخر؟

– لو لم يكن أبي على ما كان عليه ما بعتَ أرضك.

– أكذب لو قلتُ لكَ إن هذا كان تفكيري.

– بل تريد أن تُبْقي في ملكي أرضًا ليست من حقي.

– كان أبوك لا يتأخر عن دفع الإيجار، وكنتُ أستطيع أن أُبقي الأرض تحت إشرافه لو أردتُ ذلك ولكنني بعتُ الأرض بمحض اختياري والثمن كان مناسبًا لهذه الفترة.

– عمي أنت تعرف العبء الذي أُحس به على ضميري.

– وواجبي أن أُخفِّفه عنك، ولكن أتريد أن تُخفِّف من عبئك لأحمل أنا عبئًا أشد؟ أغشُّك؟ أغش ابني؟ أي ضمير يقبل هذا؟

– هل أنت واثق؟

– كل الثقة.

– فأرض ستي إذن.

– هي الأخرى باعتها مختارة.

– لقد رأيتُ ستي وهي تعيش معك. كانت الحسرة تملأ نفسها إلى يوم وفاتها؛ لأنها تركَت البلدَ وبيتَها. لا، لولا أبي وما فعلَه ما تركَت ستي البلد أبدًا.

– وافرض، ولكنها باعت الأرض باختيارها.

– أهذا اختيار؟ إنه الإرغام ذاته، على كل حالٍ أنا قرَّرتُ أن أتنازل عن أرض ستي لعمتي عابدة وعمتي فاطمة.

– وأنا قبلتُ عنهما هذا وقبلتُ هذا لك؛ فإن من واجبك أن تُكرم عماتك، وفعلًا كلتاهما تحتاج إلى ما يعينها على الحياة، وأنا أعمل ما في طاقتي وأحب لك أن تكون بجانبي في رعايتهما.

– إذن.

– عندي توكيلٌ منهما.

– وهذا عقدُ بيع خالص الثمن لهما وقِّعه أو لا تُوقِّعه فهو على كل حال من صورةٍ واحدة، وكلِّف سعادتك واحدًا من وكلاء المحامين ليبدأ في إجراءات التسجيل.

– لا أُحب أن أمدحك، ولكن لا بد أن أقول لك إني فخور بك.

– أرجو أن أشعر بنصف هذا الشعور نحو نفسي.

– والآن ماذا ستعمل في الزواج؟

– تأجَّل طبعًا.

– كيف؟

– عديلة من نفسها قالت لا بد أن ننتظر سنة على الأقل وأبوها أيَّد هذا الرأي بحرارة.

– وأنت ما رأيك؟

– لو لم يقولا هذا ما كنتُ تزوجتُ الآن على أي حال.

– نعم، ولكن سنة كثير.

– والله أعلم! ربما أكثر.

– كيف؟

– أتريدني أنا أن أتزوج وأفرح وأنجب أطفالًا، وهناك روح إنسانٍ متهم في قتل أبي يتردَّد الأمر فيها بين البقاء والإزهاق؟

– وأنت ماذا بيدك؟

– لا أعرف، ولكنني لا أتصور أن أتزوَّج والقضية منظورة.

– صلاح، أتكون كرهتَ عديلة؟

– بل يزداد حبي لها كل يوم عن اليوم الذي فات.

– عجيبة!

– يا عمي حتى يتزوج الإنسان، وأقول الإنسان، لا بد أن يكون مرتاح الضمير.

– يا بني، ضمير الإنسان لا يشغله إلا ما يصنعه الإنسان نفسه.

– أو ما يصنعه أبوه.

– وكل إنسانٍ ألزمناه طائره في عنقه.

– وهذا طائري يا عمي.

– أعانك الله على نفسك يا ابني.

– ادعُ لي.

– لم تقل لي فيمَ انتويتَ أن تعمل.

– عرض عليَّ عميد الحقوق أن أتقدم لأشغل وظيفة المعيد الخالية بالكلية فطلبتُ أن يمهلني للعام القادم.

– لماذا؟

– لي غرض في هذا.

– ألا تقوله لي؟

– ستعرفه في حينه.

– والنيابة؟

– هي أيضًا لم أتقدَّم لها.

– إذن فماذا تنوي؟

– طلبتُ قيدي في المحاماة.

– ومتى ستحلف اليمين؟

– أظن بعد شهر تقريبًا.

– وأين تريد أن تتمرن؟

– لم أفكِّر بعدُ.

– أتحب أن تتمرن في مكتب الدكتور عبد الوهاب؟

– وكَّلَه ابن حسن عن أبيه، وليس معقولًا أن أتمرن في مكتب يترافع عن قاتل أبي.

– إذن أُكلِّم الأستاذ عاطف البهنسي.

– عظيم.

– الآن، أي مكتب يتمنى أن تتمرن عنده، أنت جيد جدًّا يا أستاذ، وهل أنت قليل؟ وعاطف من أعز أصدقائي.

– وهو كذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤