الفصل الخامس

حين عرف وهدان من سباعي أنه دعا شعبان وأبو سريع ومُجرميه إلى الغداء بالبيت غضب كل الغضب.

– هذا بيتٌ عاش طاهرًا وأُحب أن يظل طاهرًا.

وكان سباعي في دهشةٍ من أمر أبيه؛ فقد كان يظن أنه سيفرح غاية الفرح أن ابن عز الدين بك قَبِل الغَداء عنده.

– يا أبا، إنه ابن عز الدين بك.

وازداد ذهول سباعي وأبوه يقول له: طظ! وما عز الدين بك بتاعك هذا؟

– يا أبا، عز الدين بك كبير الناحية.

– بالإجرام والقتل والاعتداء على حرمات الله والناس.

– رجل عترة.

– عند من لا يخافون الله أمثالك. إنما في الحقيقة هو ليس رجلًا أصلًا.

– ليس رجلًا؟!

– الرجل هو الذي يشُق الحياة إلى الآخرة بطاعة الله لا بعصيانه، وبإحياء البشر لا بقتلهم، ومن قتل إنسانًا واحدًا فهو عند الله كمن قتل الناس جميعًا.

– انظر يا أبي إلى الثروة التي كَوَّنها.

– بسيطة.

– مائتا فدان من لا شيء بسيطة.

– وألف وألفان بسيطة، ما دامت وسيلته إلقاء الذعر في قلوب الناس، والاستيلاء على حقوقهم بالباطل.

– على كل حالٍ يا أبا أنا لم أدعُه.

– دعوتَ ابنه ودعوتَ المجرمين الذي يعملون لحسابه.

– أريد أن يكون لنا قيمة في البلدة وفي الناحية.

– فشرت أنت وضيوفك جميعًا. إن قيمتنا في قلوب الناس أعظم منهم ألف مرة.

– يا أبا، إنه نائب الدائرة.

– بالرعب والقهر وليس بالاختيار، ولو ملَكَ الناسُ أمر أنفسهم دون خوف لاختاروا أي شخص يمثلهم فيكون تمثيله لهم شرفًا وقيمة، يختارون متعلمًا أو يختارون شريفًا لا لصًّا ولا قاتلًا.

– فما احترام الناس هذا؟

– ألا تعرفه وتعرف من أين يصدُر من نفوسهم؟

– إنهم يهابونه.

– إنهم يخافونه، وإنهم لا يحترمونه. إنما الاحترام هو ذلك الذي تنطوي عليه نفوسهم بحريتها المطلقة وليس بما يخشَونه منه إذا هم حجبوا عنه احترامهم. إن أخاك خليل محترمٌ بعلمه في بلدتنا أكثر من عز الدين هذا، الذي تتشرف بمعرفة ابنه وبدعوته إلى الغداء عندك.

– خليل أخي. لا يا أبا، شرع الله عند غيرك.

– بل هذا هو شرع الله والناس. أما شرعك أنت فشرع الشيطان المسعور من بني آدم.

– والآن ماذا ترى؟

– وهل تركتَ لي رأيًا؟ لقد دعوتَ فعلًا، ولا أحب أن أجعل منك طفلًا أمام الناس.

– مصيبةٌ سوداء لو عرف عز الدين بك رأيك فيه.

– أويُشرِّفك هذا؟ نعم فعلًا مصيبة سوداء، ومعرفته مصيبة سوداء أيضًا؛ ولهذا كنتُ أرجو أن أقضي الأيام الباقية لي لا أعرفه ولا يعرفني.

– الحق عليَّ يا أبا.

– حين أموت أخاف أن يكون عز الدين وأمثاله هم مثلك الأعلى.

وأوشك سباعي أن يهتف: يا ليت. ولكنه كتمها وسأل أباه: أتحضُر معنا الغداء يا أبا؟

– وأنا ما شأني؟

– إنه بيتك.

– بل بيتك ما دمتَ دعوتَ فيه فأنت تعرف أنه بيتُك. وإن لك هذا الحق لا أنازعك فيه، وإنما أغضَبَني اختيارك لمدعُوِّيك، ولكن الأمر لله.

•••

حين استقر المقام بشعبان ورجال أبيه في الدوار أصبح الدوار فجأة خلية نحل، وراح كلُّ من يعمل في البيت يُعِد العُدة للغداء. وتسامع أهل القرية جميعًا بهذه الدعوة فتولاهم نحو سباعي ذلك الشعور العجيب الذي يجمع بين الخوف والرهبة والاحترام المرتعِد. ولم يحاولوا أن يضعوا الحدود الفاصلة بين هذا النوع من الاحترام وبين ما يُكِنُّونه لوهدان من احترام فيه حب وفيه تقارُب ومَودَّة. لقد تعوَّدوا أن يكتموا ما يعتمل في نفوسهم نحو عز الدين ومجرميه، وأصبحَت هذه العادة منهم طبيعة لا تُناقَش ولا يُحلِّل مداها إنسان، ولا يحاول أحد أن يتتبع جذورها. هم فقط أحسُّوا أن سباعي أصبح شخصًا مهمًّا؛ لأنه دعا ابن عز الدين، وأبو سريع، ورجال أبو سريع وقَبِلوا الدعوة.

تناولوا الغَداء وضمَّتْهم حجرة الاستقبال في الدوار مرةً أخرى. وقد كان الدوَّار شأن أمثاله في بيوت الأعيان بعيدًا عن الدار موصولًا بها في وقت معًا؛ فهو جلسة الرجال، وليس له بحرمِ البيت وحريمه صلة، إلا أن يأتيهم منه المطعم والمشرب، ثم لا اتصال.

قال شعبان وقد انتفش على الكنبة مزهوًّا بمكانة أبيه: مبسوط يا سباعي؟

– رضًا، والحمد لله.

– الحمد لله على كل حال، ولكن لماذا الرضا؟

– يا سلام! أتكون مُشرِّفًا عندي أنتِ وهؤلاء الرجال السباع ولا يكون الحال رضًا؟

وضَحِك الجميع.

وقال أبو سريع معلقًا على السباع: يا سباعي!

وعلا الضحك مرةً أخرى؛ أما رجال أبو سريع فلأنهم لا بد لهم أن يضحكوا ما دام أبو سريع يضحك. وأما شعبان وسباعي فليُفهِما أبو سريع أنهما فَطِنا إلى قفشتِه وتلاعُبه بالسباع وسباعي وسرعة خاطره أيضًا، ولكن شعبان يقول مواصلًا حديثه: يا حبيبي أنا أسألك: هل أنت مبسوط في حياتك؟

– وهي أيضًا رضًا، والحمد لله.

– لماذا؟

– وماذا أريد أحسن من هذا؛ آكل شارب نايم أشوف أرض أبي، وأُنتج منها أحسنَ محصولٍ. ماذا أُريد أحسن من هذا؟

– وهل هذه عيشة؟

– وما العيشة؟

– تعال معي إلى مصر وأنا أُعرِّفك العيشة على حقيقتها.

– يا سلام!

– رحت مصر؟

– طبعًا.

– أين ذهبت؟

– زرتُ المشايخ، وزرتُ أقاربنا هناك وأصدقاءنا، ودخلتُ السينما، ورحتُ إلى المسارح، وشفت كل حاجة في مصر.

– دخلت كباريه؟

– كبا… وماذا؟

– كباريه.

– آه، لا، سمعت عنه فقط.

– سمعتَ عن ماذا؟

– يقولون عن الأوبرج وشيءٍ آخر اسمه الأريزونا.

– يقولون.

– سمعتُ.

– ولم تَرَ؟!

– الكذب خيبة، لا لم أَرَ.

– فأنت لم تَرَ مصر.

– أهذه هي مصر؟

– عندي أنا. أنا يا بني حين أذهب إلى مصر لا شأن لي لا بأقارب ولا بغيره. كم صاحب أعرفهم، أصل إلى بيتنا هناك وأدور عليهم بالتليفون، وعينك ما تشوف إلا النور.

– وأين هذا النور؟

– في الأوبرج.

– أتذهب إلى الأوبرج؟

– ولا أُحب غيره. جرَّبتُ كل كباريهات مصر، لم يملأ عيني إلا الأوبرج. الملك يذهب إلى هناك.

– شفته؟

– مرة.

– واحدة؟

– كفاية.

– ما شكلُه؟

– سمين وضخم، إنما الحق له هيبة.

– ملك، ملك يا عم ملك، المأمور عندنا يهزُّ المديرية، شف ملك ماذا يفعل.

– ليس هذا هو المهم.

– الملك ليس مهمًّا؟!

– هناك ليس مهمًّا بالمرة. المهم أشياءُ أخرى.

– مثل ماذا؟

– اسمع يا عم. أنا رجل أحب العمل، ولا أحب الكلام.

– ولكننا الآن لا نملك إلا الكلام.

– فشَر، ونملك العمل أيضًا.

– كيف؟

– أنا مسافر الخميس القادم، تجيء معي؟

– أجيء.

– صحيح؟!

– وهل أُلاقي فرصةً أحسن من هذه؟

– اتَّفَقْنا.

– اتَّفَقْنا.

•••

حوت غرفة الاستقبال في المساء قومًا آخرين؛ فقد تصدَّرها وهدان كشأنه كل ليلة، والتأَم حوله أصدقاء جلستِه يكادون لا يتغيَّرون في ليلة عن الأخرى؛ فأغلبهم تعوَّد هذه الجلسة والحديث بينهم متصل منذ سنواتٍ، وفي أيام أم كلثوم يُعِدُّون العُدة لسماعها في راديو وهدان. وقد كان الاستماع إلى الراديو لمدةٍ طويلة يحتاج أن يذهب أحدهم بحماره إلى المركز في اليوم السابق ليملأ البطارية الضخمة؛ فهي بطاريةُ سيارة، ويعود بها في اليوم التالي. ولم تكن أم كلثوم تُغنِّي في هذه الليلة وإنما هو الحديث، حديث في كل شيء. وأحيانًا كان يُلِم بالجلسة أصدقاءُ غير منتظمين، إما أن يكونوا أصحاب مصلحة يريدون قضاءها مع وهدان أو مع أحد جلسائه، أو يكون قدومهم لمجرد السمر والحديث. وفي هذه الليلة جاء إلى الجلسة عبد الحميد أبو ديدة الذي توقَّف عن العمل كخياط للقرية تاركًا الصنعة لابنه بعد أن أوهَنَه الكِبَر. وأصبح لا يخرج من البيت إلا في القليل النادر، وكانت تنعقد في بيته هو أيضًا جلسة مثل جلسة وهدان هذه، فلم يكن غريبًا أن يكون إلمامه بدوار وهدان نادرًا، وقد أوسعه وهدان ترحيبًا. وقد حرص سباعي أن يحضر الجلسة ليرى نفسه موضع الإكبار والتقدير بعد دعوة الغداء التي عَرفَت القرية جميعًا بشأنها. وما هذا بعجيبٍ؛ فإن أي دعوةٍ في القرية هي حديث القرية جميعًا، ولكن مجيء شعبان ورجاله أمرٌ يعرف سباعي أنه هَزَّ القرية كلها من الأعماق. وتهيَّأ سباعي لسماع كلماتِ التقدير على دعوته تلك. وقد رأى فعلًا نظرات الاحترام ماثلةً في أعيُن معظم أهل الندوة. وحين بدأ الحديث بدأ بطبيعة الحال عن مجيء شعبان وأبو سريع، فإذا وهدان يقول في هدوءٍ وفي حسم: إذا تكلَّمتُم في شأن هذه الدعوة فاسمَحُوا لي أن أنصرف.

وانقَمَع الحديث عنها تمامًا، وأحس سباعي لذعةَ أسفٍ أنه لم يتمتَّع بما كان يهفو إلى التمتُّع به. والتَوَى الكلام إلى غير هذا مما تعوَّدوا أن يأخذوا فيه. وما هي إلا بعض الساعة حتى استأذن عبد الحميد أبو ديدة، وقال وهدان: لماذا يا عم عبد الحميد؟ لم نشبع منك يا رجل.

– عمك كبر يا وهدان. أنا حتى في داري أترك ضيوفي كل ليلةٍ يُكمِلون حديثهم، وأقوم أنا ويعذرونني يا ابني. كبرنا يا وهدان.

– أنت الخير والبركة. أَوصِل عمك عبد الحميد إلى بيته يا سباعي.

ويقول عبد الحميد في صوتِ مَن يرغب في هذا التكريم الذي تعوَّد عليه، والذي جاء في هذه المرة آملًا أن يحدث: وما لزوم التعب؟

– تعبك راحة، يا عم عبد الحميد.

ويصيح سباعي راجيًا أن يسمع من عبد الحميد ما فوَّته أبوه عليه من تكريم: تحت أمرك، يا عم عبد الحميد.

وما يكاد الطريق يخلو بالاثنَين حتى يقول عبد الحميد: لقد جئتُ اليوم خصيصًا من أجل خلوتنا هذه.

– خيرًا، يا عم عبد الحميد.

– أنتَ دعوتَ اليوم شعبان.

– حصل.

– اخطب أخته.

– ماذا؟!

– ما سمعت.

– وهل هذا معقول يا عم عبد الحميد؟ بنت البك تقبلُني أنا؟!

– وأنت ما عيبك؟!

– على الأقل يقولون لم يتعلم.

– وهل تعلَّم أبوها أو أخوها أو تعلَّمَت هي؟ إنما هما كلمتان عَرفَت بهما كيف تفُك الخط.

– أنا والحمد لله مستور في القرية، ولكن بالنسبة لعز الدين بك أنا فقير.

– ولا فقير ولا حاجة.

– كيف؟ وأين ما أملك مما يملكون، وإيجاراته من الأوقاف وحدها تُدِر عليه دخلًا قَدْر دخلنا مائة مرة أو قل مائتَين؟

– اسمع ما أقولُ لك، اخطب أخته.

– إن رفضوني فستكون سُبَّة.

– لن يرفضوك.

– وأنت كيف عرفت؟

– هذا شأني.

– فقط قل من أين عرفتَ.

– من سني الكبيرة، من الزمن، من الناس الذين عرفتهم. اسمع كلامي يا ولد، أنا في مكانِ جَدِّك، ومن سِنِّه أيضًا.

– إذا تمَّت هذه الزيجة يا عم عبد الحميد لا أدري كيف أكافئك.

– أنت يا ولد تكافئني؟ أنت يا ولد ابن وهدان، وأبو وهدان عاش عمره كله على باب دكاني، أتظن أنني جئتُ إليك لكي تكافئني، وماذا أصنع بمكافأتك؟ هل سآخذها معي إلى الآخرة؟ إن أردتَ أن تكافئني حقًّا فإني أوصيك بابني حسن؛ فهو قليل الحيلة، وأنا لم أترك إلا ثلاثةَ أفدنة دفعتُ فيها عيني وانكفائي على ماكينة الخياطة عشرات السنين.

– ربنا يُطيل عمرك يا عم عبد الحميد، وحسن في عينَيَّ الاثنَين.

– يكفيني هذا. ارجع أنت. سلام عليكم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤