الفصل التاسع

حين اجتمعَت أُسرة وهدان بعد وفاته بفترةٍ قال خليل كلامًا قاطعًا: يا أمه، أنت الكبيرة، ولا رأي قبل رأيك ولا بعده، ولكننا نعرف أن هذا الحديث لا يطيب لك. ونعرف معنى أن تفقدي المرحوم، ولكننا فلاحون، والأرض جامدةٌ صلبة بلا عواطف، ولا بد لها من خدمة، وأنا لي رأي.

– يا خليل يا بني، أنا ليس لي أرض، الأرض أرضكم.

وقال سباعي: بل كلها أرضُك.

وقالت فاطمة: اسمعي يا أمه، أنت تُديرين الأرض كما كان يفعل أبي، ويُساعدك سباعي.

وقالت عابدة: ونعم الرأي يا فاطمة، وماله يا أمه، أنت فلاحة بنت فلاح وسباعي ابنك.

ونكس سباعي رأسه في مراوغةٍ مكشوفة وقال: أنا تحت أمركم، إلا أنني أحب أن أتسلَّم نصيبي.

وقالت الأم في أسًى وفي تؤدة: طول عمرك مستعجل يا سباعي!

وقال سباعي: ليس في الأمر استعجال، هذا شرع الله.

وقالت الأم: لا إله إلا الله، وهل نازعَك فيه أحد … ولكن أنت كذا طول عمرك مستعجل!

وقال سباعي: يا أمه أبدًا.

وقالت نبوية: إن لم تكن عجولًا لانتظرتَ على الأقل حتى تسمع رأيي.

وقال سباعي: أنا آسف يا أمه، الحق عليَّ، قولي رأيك.

وقالت نبوية: الآن لا أقول.

وقال سباعي: ورحمة أبي إلا قُلتِ رأيك.

وقالت نبوية: ماذا كنت تريد أن تقول يا خليل؟

– كنت أريد أن أُوفِّر عليكم كل هذا الحديث، أما الآن وبعد أن قالت فاطمة ما قالت ووافقَت عابدة على كلامها فلا بد أن أسمع رأيك أولًا.

واندفع سباعي قائلًا: هذا ليس رأي فاطمة ولا عابدة، هذا رأي الشيخ ياسين والأستاذ حسونة.

وقال ياسين: أولًا يا سباعي أنا وحسونة جالسان ولم نفتح فمنا بكلمة. وأُقسِم بعهد الله أننا لم نلتقِ قبل هذا الاجتماع ولم نتفِق على هذا الصمت، ولكنني رأيتُ أن هذا هو الخليق بي. ويبدو أن حسونة رأى نفس هذا الرأي، ولو كان ما قالته زوجتي رأيي لقلتُه. وأعتقد أيضًا أنه لو كان رأي حسونة لقاله؛ فليس علينا بأس أن نشارك في شئون عائلة أصبحنا منها بحق النسب، ولكن هذه أرضكم وزوجتي والحمد لله تعيش حياتها الزوجية في رضًا، وأعتقد أن أختها كذلك. ولهذا فأنا أرجوك أن تُبعدَني عن هذه المناقشة، ويتهيأ لي أن حسونة يرجوك نفس هذا الرجاء.

وقال حسونة: الله يفتح عليك يا ياسين، ليس لي بعد ما قُلتَ كلمةٌ واحدة أزيدها.

واستخزى سباعي بعض الشيء وأطرق، وقالت نبوية: ألم أقل لك يا سباعي إنك دائمًا مستعجل؟!

وقال سباعي: الحق عليَّ مرة أخرى، قولي أنت رأيك.

وقالت نبوية: الأمر لله، أقول: أنا لا أريد من الدنيا إلا أن أكون أمكم، وأن أبقى في هذا البيت لأفتحه لكم جميعًا حين تأتون إليه، وبهذا أشعر أنني استطعتُ أن أرُدَّ بعض الدَّين الذي في رقبتي للمرحوم الذي عشتُ معه ما عشتُ، ولم أرَ منه في لحظة من اللحظات ما يُسيئني، حتى إذا غضب كان يدخل إلى حجرته ويقفل بابها على نفسه حتى لا أراه مُكشرًا، أرض؟! أنا لن أشوف، وإن كنتُ كما قالت فاطمة فلاحة وبنت فلاح إلا أنني منذ تزوجتُ أباكم لم أخرج إلى الغيط، حتى حين كنا فقراء في أوَّل حياتنا رتَّب لنا مصطفى السقا حتى لا أخرج لملء الجَرَّة، فأي أرضٍ هذه التي أشوفها؟ وهل تسمح سني بذلك؟ يا أخي، أنا كفاية عليَّ أن أجعل البيت دائمًا مستعدًّا لاستقبالكم، غير هذا أنا ليس عندي كلام، وما تشوفه أنت وأخوك أنا مسئولة أن أجعل فاطمة وعابدة تقبلانه.

وقال خليل: أطال الله عمرك يا أمه، وأبقاكِ لنا جميعًا، نعم الرأي، الحقيقة أنني الآن أصبحتُ طبيبًا، والطبيب يحتاج لوقته كله حتى يكون طبيبًا ناجحًا، وأنا متأكد أنكم تحبون أن يكون أخوكم ناجحًا. والحقيقة أيضًا أن سباعي كان دائمًا ابن الأرض يعرف كل شيء عنها، وكان أبي يعتمد عليه منذ كان سباعي صبيًّا، وحين أصبح شابًّا كان هو الذي يُشرِف على الأرض ويكتفي أبي بأن يعرف منه ما فعل، وكان أبي يبيع المحصول وبحضور سباعي، أليس هذا كله حقًّا؟!

وهيمنَت أصوات بالموافقة فأكمل حديثه: وأن يجلس كل واحدٍ منَّا آخر السنة ويرى حساباته أمرٌ أنا لا أحبه؛ فقد تقتنع فاطمة بالحساب ولا أقتنع أنا مثلًا، فالرأي عندي أن أقعُد الآن مع سباعي، ونرى ما أنتجَتْه الأرض في السنوات الثلاث الأخيرة، ونُقدِّر إيجارًا معقولًا يعود بالربح على سباعي مقابل إدارته للأرض وتعبه فيها، ويكون كلٌّ منا على علم طول السنة بما سيحصل عليه آخر العام.

وقالت الأم في حسم: كلامٌ معقول.

ونظرت فاطمة إلى أختها وبادلَتْها عابدة النظر، وتلمَّسَت كلٌّ منهما رأيًا عند زوجها فلم تجدا اعتراضًا، وقالت فاطمة: موافقة.

وقالت عابدة: نكتب عقود إيجار.

وقال خليل: نكتب عقود إيجار.

وقال سباعي والفرحة تملأ عليه منافذ الهواء: على بركة الله.

•••

حين خلا سباعي إلى شعبان بعد مأتم أبيه سأله شعبان عما فعله مع إخوته فأخبره، وفكَّر شعبان مليًّا، ثم قال: بعد الأربعين أُريدُك في أمرٍ مهم.

•••

كان شعبان إنسانًا آخر غير أبيه وغير الذي عَرفَه فيه أبوه، فإن تكن الأرض هي كل حياة أبيه يقتل في سبيلها الناس ويعتصر دماء البشرية، فإن شعبان لم يكن يرى في الأرض إلا وسيلةً تُمكِّنه من قضاء أيامه مقلوبةً، ومن أن يجعل نهاره كله سوادًا؛ لأنه فيه دائمًا يحب أن يكون نائمًا ولياليه كلها بيضاء بالنور المُلقَى على أجساد الراقصات، وهن بعض كاسياتٍ، أو حمراء بالضوء الشاحب الهارب في خجل من جسومهن وهنَّ عاريات؛ تلك هي الحياة عنده، وإن كان في حياة أبيه يُعاوِنه في الزرع ويغضي عما يفعله بالبشر، فما كان هذا منه إلا لينال ما يُنفِقه على صنعته الوحيدة في الحياة، وهي المتعة والمتعة المشتراة وإنها لباهظة الثمن.

وإن كان أبوه يحب أن يكون عضوًا في مجلس النواب معتليًا كُرسيَّه على الرعب يثيره في الناس بالقتل والسرقة والغصب والنهب والجبروت، فإن شعبان كان ينظر إلى مجلس النواب هذا على أنه تسليةٌ لا طائل تحتها ما دامت لياليه لا تنتهي بما تنتهي به لياليه هو. وإن كان في حياة أبيه مرغمًا على الزراعة والسعي في الانتخابات، فلا إرغام اليوم عليه. وقد كان شعبان في القمة من سعادته بزوجته الرضية التي لا ترى فيما يفعله من سهر أمرًا غير عادي، وإنما هو مألوفُ ما يصنع الرجال، وما عليهم في ذلك من بأسٍ ما داموا آخر الليل أو أول النهار ينامون في أسِّرة منازلهم. وكانت قد ولدَت لشعبان سمية ووليد، فهي مشغولة بأبنائها والمال عندها دائمًا موفور بما يرسله إليها أخوها، أو يعطيه لها حين يزور مصر. وهي تشتري ما يعن لها أن تشتري، وربما كان الشيء الوحيد الذي كانت تتوق إليه هو زيارة أمريكا وأوروبا. وقد كان زوجها يعتذر عن عدم تنفيذ هذه الرغبة بمشغوليته في أملاك أبيه، مُخفيًا الأسباب الحقيقية التي يتقدَّمها جهله باللغة، ولكنه أمام إلحاحها وافق على السفر معللًا نفسه أن اللغة التي يجب أن يتحدَّث بها عالمية، وربما وجد في باريس مثلًا من يفهمها خيرًا مما يفهم الفرنسية نفسها، وحدَّد لسفره انتهاء المعركة الانتخابية، فحين قُتل فيها أبوه تأجل الموعد إلى أن تمر فترةٌ مناسبة. وهكذا كان شعبان في مشاغله وآماله بعيدًا كل البعد عن مشاغل أبيه وآماله. وكان أبعد ما يكون عما يفعله أبو سريع. وقد كان واثقًا أن أبو سريع لن يبقى معه بعد موت أبيه إلا ريثما تمر فترةٌ تسمح له أن يجد مستأجرًا آخر؛ فما كان شعبان يتصور أن يقتل أحدًا في سبيل أي شيء إلا أن يعوقه عن متعته في الملاهي.

ولهذا لم يكن غريبًا أن يقول شعبان لسباعي بعد إحياء ذكرى الأربعين لوفاة أبيه: ما رأيك يا سباعي أن تصنع معي ما صنعتَه مع إخوتك؟

وذُهل سباعي، أحقًّا ما يسمع؟! ويسأله أيضًا: ما رأيك؟ وهل فيها رأي؟ لقد بدأَت الآمال تتحقَّق من أوسع الأبواب.

•••

حين غادر سباعي بيت شعبان قصد من فوره إلى بيت أبو سريع.

– السلام عليكم.

– أهلًا سباعي بك مرحبًا، القهوة يا ولد، يا مرحبًا، أهلًا وسهلًا.

– أهلًا بك يا أبو سريع، قهوتك مشروبة يا أبو سريع، إلا أنني أريدك في كلمتَين.

– تحت أمرك، عن إذنكم يا رجال.

وينظر الرجال بعضهم لبعض في دهشةٍ شديدة، ثم يقومون الواحد منهم تلو الآخر، وقبل أن يصل أولهم إلى الباب يصيح سباعي: يا سلَّام.

ويقف سلَّام، ويلتفت إليه في إجلال: نعم يا بك.

– أنتم طول عمركم رجال.

– تحت أمرك، مُرْ.

– هذه الزيارة …

– ما لها يا بك؟

– لم تحصل، لم تتم، لم أجئ إلى هنا، لم يرني أحدٌ منكم.

وابتسم سلام وهو يقول: وهل جئتَ يا بك حتى يراك أحدٌ منا؟ هيا بنا يا رجال.

وخرج الجميع وهم يضحكون تُشيِّعُهم جملة سباعي: ألم أقل إنكم طول عمركم رجال؟!

وحين خلا المكان بسباعي وأبو سريع قال سباعي: هل اتفقتَ مع أحد بعد عز الدين … بك.

– يا بك الأربعين كان أول أمس، من يمكن أن يُكلِّمني قبل أن يمر الأربعين؟

– لا تتفق.

– أمرك، فيه حاجة؟

– لا تتفق وبس، أفهمت؟

– أمرك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤