من الخيام إلى حومة السياسة

وجاءت البشائر بسلامة الأم، وبالولد الثالث للشريف حسين بن علي من زوجته عبدية ابنة عمِّه؛ الشريف عبد الله.

وكان ذلك في يوم من أيَّام الربيع من سنة ١٣٠١ﻫ/١٨٨٥م، فأُسمِيَ الطفل فيصلًا، وحُمل في يومه الثامن إلى عرب عُتيبة خارج الطائف للرضاع؛ عملًا بتقليدٍ هاشميٍّ قديم، يبدأ بمحمد بن عبد الله الذي أرضعته حليمة من بني سعد.

ودرج فيصل من الخيام، وترعرع في حضن البادية، فعدا حافيًا مكشوف الصدر والرأس، في الشمس المحرقة، وفي الليالي المقمرة. وتبارى وصبيان العشيرة في العَدْو، وفي القفز، وفي ركوب الخيل ورمي السهام، وهم جميعًا إخوان، أبناء الصحراء، وأبناء الحريَّة والمساواة.

ولكن الحرية والمساواة تختلفان وتتنازعان حتَّى في البادية، والصبيانُ صبيانٌ في كلِّ مكانٍ.

وصاح صائحٌ حولَ الخيام: «الغزو الغزو.» وكان أولاد العشيرة قد انقسموا قسمَين ليمثلوا أهمَّ الفصول في رواية البدو.

وأغار العربان الصغار، بعضهم على بعض، وكان فيصل ابن الشريف مِقدامًا مِغوارًا، فغنم كوفيَّة أخيه في الرضاع، وغنم قضيبه، وكان كلام وكان خصام، فتفاخرا، وتضاربا. وكادت المعركة تتحوَّل من دور التمثيل إلى الحقيقة الدَّامية، لو لم يُسرِعُ الشيخ من خيمته، والخيزرانة بيده.

فتقدَّمَ الوَلَدان واحتكما إليه، فسمع لهما ثم للشهود، وقال مُخاطبًا ابن الشريف: «اسمع يا فيصل، أنت ولدنا وهذا خُوَيَّك، ولا مُفاخرة. إن أحسنتَ إليه أحسن إليك، وإن أسأتَ أساء.»

هذه هي الأمثولة التي تعلَّمَها الولد فيصل في البادية.

وفي تلك الأثناء كان أبوه الحسين يلعب لعبة سياسية، حول أوتاد الدولة العليَّة، فرأى الباديشاه أنَّ الأفضل له وللعرب أن يكون هذا الشريف في الخيام من أن يكون خارجها، فاستدعاه إليه، فلبَّى الشريف حسين الدعوة، مُصطحبًا أهله وعياله، وأقاموا في الأستانة ضيوف السلطان — وقُلْ أُسَرَاء الكرم السلطاني — سبع عشرة سنة.

وكان الشريف حسين، مثل كل عربي شريف، غيورًا على اللغة العربية وآدابها، فاستخدم شابًّا سوريًّا من دمشق معلمًا خاصًّا لأولاده.

وجاء ذات يومٍ المعلمُ صفوت العوَّا يشكو فيصلًا إلى أبيه: «هو كسولٌ، يا مولاي، ومتأخرٌ دائمًا في مثائله، وقد هدَّدتُه بالقضيب إذا كان لا يجتهد مثل أخيه عبد الله.»

فقال الحسين: «اضربه، يَابْنِي، ولا تخف.»

ثم استدعى فيصلًا إليه، وقال له: «يا فيصل، إن كنتَ لا تجتهد في التحصيل اليومَ تندم غدًا، ولا تظن أنك شريف، وأنَّ هذا يكفي؛ الشريف يَابْنِي شريفٌ بعلمه وعمله، شريفٌ بأدبه وأخلاقه.»

•••

وكان الشريف فيصل في النصف الأول من العقد الثالث من عمره، عندما عاد إلى الحجاز مع أبيه، الذي تقلَّدَ منصب الإمارة في مكَّةَ، وعيَّنَه مُديرًا لشئون البدو، فكانت وظيفتُه تستوجب الحملات التأديبية من حينٍ إلى آخرَ، فيخرج وأخاه عبد الله بحملةٍ على الغُزاةِ والمتجاوزين.

وفي سنة ١٩٠٢، عندما ثَارَت عسير على الدولة، واحتلَّ رجال ألمع الأشداء أبها بِاسم الإدريسي، وهمُّوا بالزَّحفِ على الحجاز؛ جهَّزَ الشريف حسين حملة، بلغ عددها سبعة آلاف، وسيَّرَها على الإدريسي بقيادة الشريف فيصل. مَشَت الحملة في صيفِ ذاك العام إلى تهامة، فاستولت على القنفذة، وكان هدفها بعد ذلك أبها.

وكان في تهامة أعداء ثلاثة يَحُولون دونهم ودون العدو الآخر المحصَّن في الجبال، ثلاثة أعداء قهَّارون ذبَّاحون للجيوش؛ هم الحر، والعطش، والحمى. وقد تغلبَت الحملة على اثنين منهم، ووقعت في قبضة الثالث، فأُجبِرَت على الإناخة، وأسرت في الخيام، فهل استولت الملاريا على الحملة كلها؟

أرادَ فيصل ذات يوم أن يتحقَّقَ مقدار النَّكبة، فأَمَرَ أحد رجاله أن يقفَ على ربوَةٍ ويصيح: «العدو، العدو! دُونكم العدو!» فرُدِّدَت الصيحة في الخيام، وما استطاع أن ينهض للقتال غير خمسمائة من سبعة الآلاف، فشَكَر الله ألَّا عدو هناك.

ولكنه، بعد أن زَالَ الحر، تمكَّنَ من الزحف على أبها، فأخرج الجيش الإدريسي منها، ثم عاد الأدارسة فاستولوا عليها. ما انتصر في تلك الحملة — والحقُّ يقالُ — غير الملاريا، التي كان فيصل أشدَّ أُسَرَائها ضنكًا وأكثرهم وهنًا، فعاد محمولًا في كرسي إلى مكَّة، وقد لزمه أثر هذه الحُمَّى طويلًا، فأضعفه وهدَّ من قواه.

ومما كان من نتائج تلك الحملة أنَّ شؤمها سبقه إلى بيته واحتلَّ زاوية منه، ذلك أنَّه شاع في الحجاز، عندما جاءت أخبار الحملة، أنَّ الحمى أَوْدَت بحياة فيصل، وبلغت الإشاعة بيته، فذُعِرت ابنته الصغيرة ووقعت على رأسها، فأورثتها الصدمة شللًا أَقْعَدَها، وما نجع فيه علاجُ الأطباء.

•••

وفي السنة التالية انتُخِب فيصل نائبًا عن جدِّهِ في مجلس المبعوثان، فعاد إلى الأستانة، وكان ذلك أول عهده في السياسة، فجلس مع النواب العرب، وما قاوم رجال الحكومة. وقد تكرَّرَت سفراته بين مكة والأستانة، دون نتيجةٍ تُذكر. ما لمع فيصل في مجلس المبعوثان، ولا بَرَزَ بين مَن كانوا يديرون يومئذٍ شئونَ الدولة ويُفسدونها، بيدَ أنَّه انتمى إلى الحزب العربي، وظلَّ من المُوالِين للدولة، بل كان في بداءة أمره يقول بوجوب التفاهم بين التُّرك والعرب، وبالحكم اللامركزي.

وقامت الحرب العُظمى، ودَخَلَت تركيا الحرب، وكَانَ الشريف فيصل في سوريا مع جَمَال باشا، يُواصِلُ سعيه في سبيلِ قومه وسبيلِ دولته. وكان في الوقت نفسه رسولًا بين والده وجمال، وهو الذي بلَّغه احتجاج الحسين على إعدام زعماء العرب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤