مرجعيون

قد خابت في لندن آمالُ الأمير؛ لأنه وإن كان أثناء إقامته هناك موضوعَ إكرام الطبقة العالية من الأمَّة البريطانية، فقد أُعلِم رسميًّا أنَّ الحكومة تحافِظ على العهد الأخير الذي عقدته مع فرنسا، وأنها وإن كانت قد اشترطت عليها ألَّا تَدخل بجنودِها المدنَ السورية الأربع، فقد سلَّمت بأن تكون المساعَدة الفنيَّة والاقتصادية للحكومة العربيَّة منها لا من بريطانيا؛ لذلك أُشيرَ عليه بأن يسافرَ إلى باريس ويتفق مع كليمنصو.

سافر الأمير إلى باريس، وقابل المسيو كليمنصو ثانية، فدارَ بينهما في ٢٢ تشرين الأول حديثٌ تناوَل المسألة السورية بكلِّ فروعها، وكانت النتيجة لائحة تضمَّنَت حل المشكل على طريقةٍ تكفُل له الحكم في سوريا، ولفرنسا حق المساعدة، وللبنان توسيع الحدود والامتيازات التي يطلبها.

تردَّدَ الأمير ثمَّ لَجَأَ إلى المُساوَمة؛ فطلب أن يكون نصفُ المستشارين فرنسيين والنصفُ الآخر مِن سواهم. ألَّا يكون للمُستشار الرأي الفاصل في الأمور. ألَّا يكون في سوريا ولبنان عسكرٌ فرنسي. وقبِلَ أن يكون العسكر الوطني تحت إدارةٍ فرنسية. رفض كليمنصو الشروطَ الثلاثة، فجمع الأمير مَن كان في معيَّته يومئذٍ واستشارهم في الأمر، فارتأى فريق منهم — وفيهم اثنان من المسيحيين — أن يقبل لائحة الوزير. أمَّا الفريق الآخر — وفيهم اثنان من المتطرِّفين؛ الواحد طبيبه، والآخر أديب من نابلس درس الحقوق في فرنسا — فقد قاوَموا فكرةَ القبول وكانوا من الفائزين، فبرهَنوا في فوزهم على ضَعْفٍ في الأمير كان يؤلم المعتدلين المتعقِّلِين من أنصارهم ومريديهم.

عاد الأمير في أواخر كانون الأول إلى سوريا وهو يعلمُ أنَّ الحكومة البريطانية لا تُخاصِمُ فرنسا من أجله، وأن فرنسا لا تتنازل عن سوريا مهما كان من أمرها في المفاوَضات، وأنَّ الحكومة الأميركية لا تتدخَّل بالرغم عن لجنة الاستفتاء في أمورِ البلاد السياسية. فأيَّة خطَّة كان ينبغي له اتخاذها؟ هل في إمكانه أن يغيِّر سياسة بريطانيا الدولية؟ هل في إمكانه أن يُحاربَ فرنسا إذا شاءت الاستيلاءَ على المنطقة الشرقية؟ إذا أجبتُ سلبًا، وهو أقرب إلى الحقيقة، على السؤالَيْن، أرى بحُكمِ الحالِ أنَّ أمام الأمير سبيلَيْن، وفي كليهما شرف وحكمة ووطنية؛ فإمَّا أن يكونَ قادرًا على قيادة الشعب السوري، فيقوده في جادَّة الاعتدال إلى ما فيه المصلحة المشتركة بين الأمَّتَينِ الفرنسية والسورية، وإمَّا ألَّا يكون فيستعفي ويُعِيد مقاليدَ القضية إلى جلالة أبيه.

وماذا كان بعد رجوعه المرَّة الثانية من باريس؟ هاكُم الحوادث، وهي أصدق رواة الأخبار؛ عندما وصل الأمير إلى بيروت خطب في النَّاس، فأشار إلى ما لا يزال بينه وبين فرنسا من الولاء، فاعترضه بعدئذٍ ممثِّل الحكومة العربية فيها، وانتقد اعتداله آخَرون. وكان قد ذهب إلى استقباله واستخباره وفدٌ من الشِّيعة في جبل عامل، فلم يكلِّمهم مليًّا في بيروت، بل استصحب لهذه الغاية بعضَ علمائهم إلى الشام. وقد عُقِدَ اجتماع في وادي الحجير، فضرب أحد المشايخ خيرة — استخار الله بالسبحة — على ذبح النصارى، وكان في الحولة حكومةٌ يُدِيرها زعماءُ العصابات، والحكومة الفرنسية عالمة بها. أمَّا العرب، وهم أعداء فرنسا، فأصبحوا أعداء مَن وَالَاها، فضلًا عمَّن تعصَّبَ لها من المسيحيين. وقد كان مَن وُلِّي الأمرَ منهم، في النادي العربي وفي لجنة الدفاع بالشام، أناسًا لا يأمرون بالمنكر، ولكنهم في سبيل السياسة لا ينهَوْن عنه.

فكانت النتيجة أنَّ في ٤ كانون الثاني سنة ١٩٢٠؛ أيْ بعد وُصولِ الأمير فيصل ببضعة أيَّام، أُشعِلت في مرجعيون — باسم الوطن والسياسة — نارُ الجهل والتعصُّب والفوضى، وكان العرب مُشعِلِيها والفرنسيون مُتفرِّجين عليها.

قد كان الأمير محمود الفاعور، أمير عرب الفضل، خارجًا يومئذٍ على الحكومة، فضرب بعضَ الجنود الفرنسيين، على إثر حادثٍ عدائي في الحولة، دار الأمير بالخصاص وهدموها، فثارت عليهم العربان، فبعثوا يطلبون النجدة، ولم يكن في تلك النَّاحية يومئذٍ — مع علم الحكومة بما يهدِّد الأمن وبما ينذر من العصابات بالويل — غيرُ ألفَيْن من الجنود في المطلة وخمسمائة في الجديدة.

طلبت المطلة النجدة من الجديدة، فأرسل القومندان أربعمائة وخمسين من رجاله، فلم يَبقَ لديه غير خمسين، ولم يَكُن عند الأهالي غير مائةٍ وعشرين بُندقية واليسير من الذخيرة. أمَّا الذين هجموا على الجديدة في ليلةِ ذَاكَ اليوم فلا يقلُّ عددهم عن الأربعة آلاف، وفيهم البدو والدروز والشِّيعة، فأضرموا فيها النار وأَعمَلُوا بأهلها السيف والرصاص. حرقوا أربعين بيتًا، وقتلوا أربعين نفسًا، ونهبوا من الأمتعة ومن الريَاش ما قُدِّرت قيمتها بمائة ألف ليرة ذهبًا.

ومَن المسئول؟ قد تَحقَّقَ أن ثلاثة من البدو كانوا يأخذون المال من الحكومة بدمشق باسم العساكر فيتصرَّفُونَ بها، ثم يأخذون من العصابات قسمًا ممَّا ينهبون. وقد كان رجال العصابات العاملية يُلزِمون القرى في جبلِ عامل القيامَ بنفقاتهم، ويقدِّم رؤساؤهم التقاريرَ إلى المؤتمر العربي بدمشق. أتبغي المزيد؟ هاكَه باسم الله؛ قد أخبرني أحد أفاضل الجديدة أنهم عايَنوا بعض الجنود النظاميين فيمَن هجموا على المدينة.

figure
الملك فيصل الأوَّل يوم تتويجه ملكًا على العراق في القشلة، ونقيب أشراف بغداد السيد محمود يقرأ الدعاء.

ولكني لم أُطلِعْك على غيرِ نِصفِ الحقيقة فيما تقدَّمَ، وهاك النصف الآخر؛ إنَّ الحكومة الفرنسية أو القيادة الفرنسية العامة التي كانت مسئولة عن الأمن في البلاد، كانت تستطيع — لو شاءت — أن تردَّ عن البلاد هذه النكبات كلها، فكان قد جاء الجنرال غورو ومعه بعض القوات العسكرية التي استمرَّت تزداد لتحقيق مَقاصِد حكومته في المدن الأربع بالرغم عن اتفاق ١٥ أيلول.

فإذا ألقينا بعض التبعة على الحكومة العربية وآخَذْنا الأمير؛ لأنه لم يسْعَ — وإذا كان قد سعى فلم يفلح — في استيلائه على تلك الحكومة وإرشادها إلى ما فيه الحكمة والسداد، فإنَّنَا نلومُ أولًا الفرنسيين الذين جاءوا لحماية المسيحيين، وما كانوا في البلاد إلَّا بفضل المسيحيين؛ نلومهم لأنهم وقفوا مُتفرِّجِين وكان في إمكانهم أن يُخمِدُوا النَّار.

والذي يثبت فوقَ كل إثبات ما أقول هو أنَّ تلك الفظائع تكرَّرَت بعد خمسة أشهر، في ١٥ حزيران، في عين أبل والقُلَيْعة والجديدة نفسها، ولم تكن الحكومة مُستعدة لمقاوَمتها. طلب أهل الجديدة إِسعافًا منها فَلَم تمدَّهم بشيءٍ. جاء أحد خوارنة عين أبل إلى المسيو شاربنْتِيه، المستشار الفرنسي في لواء الجنوب، يشكو العصابات، وقد كان في صيدا قوةٌ كافية لمطارَدتهم والتنكيلِ بهم، فكان الجواب منه أن دَافِعُوا عن أَنفُسِكُم. وجاء أحد أهالي الجديدة إلى قومندان الموقع يطلُبُ منه بعض الذخيرة، وكان قد نَفِدَ ما عنده وهو يُدَافِعُ عن نفسه وأهله، فوجد القومندان في فناء الدار يُلاعِبُ أرنبًا، فطلب منه ذخيرةً فأبى. فقال الرجل: «لا تُدافِعون عنَّا، ولا تعطونَنَا سِلاحًا وذخيرة لندافِع عن أنفسنا!» فلم يكترث، ظَلَّ يُلاعب أرنبه، ثمَّ نظر إليه بِعَين الاحتقار قائلًا: «مات من الفرنسيين ألوف في الخنادق، وأنتم تشْكُون إذا مات منكم عشرة رجال.»

وجاء — بعد خراب البصرة — الكولونل نياجر لينكل بالعصابات، ففرَضَ على أهل جبل عامل مائةً وخمسين ألف ليرة ذهبًا، وفوَّضَ حاكم صيدا العسكري ورجاله، وفيهم ثلاثة من السوريين، بجمعها. فجمعوا ضِعفَي المبلغ بطرائق لا حاجةَ الآن لِذِكرها — وقال العارفون المدقِّقُون إنَّ الجُبَاة الماهرين جمعوا أربعمائة وخمسة وثمانين ألف ليرة — فدفعوا تعويضًا لأهل الجديدة خمسين ألف ليرة منها و… وأطلقت الحكومة على شارع من شوارع بيروت اسم الكولونل نياجر Le Colonel Nieger!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤