ملك سوريا

كان الشَّهر الأوَّل من سنة ١٩٢٠ ويلًا على المسيحيين وعارًا على الفرنسيين، وكان الشهر الثاني من هذه السنة بداءة الويل على العرب؛ هاجت حول الأمير فيصل الأحزاب، وهدرت في الأسواق وفي المساجد شقشقة الخطباء، واستفحلت في المؤتمر السوري قرونُ النعرات الدينية، فاشتدَّ تحمُّس بعض الأعضاء وتغيَّظَ الآخَرون، وسمو الأمير يُكافِحُ تارة ويستسلِمُ طورًا، يردِّدُ كلمة الملك الفرنسي١ ساعةَ الشدة، ويعودُ إذا ما صفا الجو هنيهةً إلى بطانته وزعمائه، حتى انتهى دور الاضطراب الأول أو علَّته، فأخفته أفراحُ اليوم الثامن من شهر آذار؛ يوم انتَخَب المؤتمرُ السوري العام بصوتٍ حيٍّ فيصلَ بن الحسين ملِكًا دستوريًّا على البلاد السورية.

حَمَلَت الأنباءُ البرقيةُ خبرَ التتويج إلى عواصم العالم، فجاء من إحداها، من باريس من مؤتمر فرساي، نَبَأُ الغضب والغرور؛ مؤتمر يتوِّج ومؤتمر يعترض ويحتجُّ، بل يُصدِرُ الأوامر وهو يتوهَّمُ أنَّ أحكامه نافذة في كلِّ مكان، لماذا قَبِلتَ التَّاج يا فيصل؟ احضر عاجلًا إلى هذا المجلس الأعلى وأفصح عن شذوذك وشذوذ الأمَّة السورية. إنها من مُضحِكات السياسة الأوروبية. هو ذا أمير عربي، في بلادٍ عربية، وقد انتخبه مؤتمرٌ عربي، فما دَخْل أوروبا أو بالحري فرنسا وبريطانيا بذلك؟! أَلَا يجوزُ لأمَّةٍ شرقيَّةٍ عربيَّةٍ سورية أن تُقيمَ ملِكًا عليها دُونَ أن تستأذن اثنين أو ثلاثة من وزراء أوروبا؟! وهم يتَّهِمُون العرب بأنهم يهتمون بأمورِ غيرهم أكثر من اهتمامهم بأنفسهم. ولكنَّ الملك فيصلًا لم يهتم بغير أمره وأمر بلاده، فلم يُلَبِّ دعوةَ مؤتمر الصلح المبجَّل.

باشَرَ الملك والمؤتمر السوري تأسيسَ حكومة جديدة وتنظيم الجيش، وكان من أعمال هذه الحكومة السورية عملٌ لم يسُرَّ بريطانيا، وآخَر زادَ بِغَيظ الفرنسيين؛ الأول هو إعلانها استقلالَ العراق مع استقلال سوريا، والثاني هو منعها الفرنسيين من استخدام سكة الحديد إلى حلب، ورفضها التعامُل بورق البنك السوري الذي أجازته حكومتُهم في المنطقة الغربيَّة.

أمَّا الفكرة اللبنانية في الانضمام إلى سوريا، فقد كانت الأحوال في المنطقة الغربية تزيدها قوةً وانتشارًا، ونَفَرَ بعض عقلاء اللبنانيين ووَلَّوْا وجوههم شطر الشام، فاعترى الجزع الحزب الأكليريكي الفرنسي، فراحَ كباره يسألون البطريرك الماروني أن يُسافِرَ ثانيةً إلى باريس ليطالِبَ المسيو كليمنصو بما وعده به لجبل لبنان، واستمرَّت حكومة الجنرال غورو تُقاوِمُ كلَّ مَن قال بالوحدة السورية، فوصلت في منهجها إلى ما كان من أمرها وأعضاء مجلس إدارة جبل لبنان. جَاءَ في البلاغ النهائي من الجنرال غورو إلى الملك فيصل ما يلي:

«وآخِر ما لجأتْ إليه حكومةُ دمشق من المآتي هو أنها اشترت بمبلغٍ قدرُه اثنان وأربعون ألف ليرة القسمَ الأكبر من أعضاء مجلس إدارة لبنان، فأوقفتهم مخافرنا بتاريخ ١٠ تموز وهم على أُهبة السفر إلى دمشق ليبيعوا أوطانهم بَيْع السلع، عابِثين بالأماني التي أعرب عنها أهل وطنهم منذُ زمنٍ طويلٍ باتفاقٍ يَقْرب من الإجماع.»

لستُ ممَّن استحسنوا الطريقة التي سلكها الأعضاء إلى غايتهم الحميدة، وكنتُ ولا أزالُ أظن أنَّ ممثِّل الأمة الشرعي لا يَخرج من بلاده كالمجرِم سرًّا، ولا يجبُنُ فَيُمَوِّه رأيه إذا كان يعتقدُ الصِّحَّةَ فيه. ولكنَّ هذه التهمةَ مِن أجنبي تَنزعُ من الوطني، مهما كانت عقيدته السياسية، سلاحَ النقد والتثريب. مثل لنفسك بريطانيًّا في باريس يَتهم أعضاء الندوة الفرنسية بالخيانة؛ أَيَغار الأجنبي على لبنان أكثر من غيرة أبنائه عليه؟ عُدْ إلى القرار الذي أصدره مجلس الإدارة تَرَ الحقيقةَ التي يُسمُّونها خيانة، وتَرَ العجبَ فيمَن يطالِع القرار كله ثم يقول إنَّ أصحابه مُسافرون إلى دمشق «ليبيعوا أوطانهم بيع السلع.»

إنَّ أصدق وأبلغ جواب إنَّما هو فيما أنقله لك من ذاك القرار:

«قد بذل هذا المجلس مزيدَ الاهتمام توصُّلًا لوفاقٍ يضمن حقوق البلدَين المتجاوِرَين، لبنان وسوريا، ومصالحهما ودوام حسن الصِّلات بينهما في المستقبل، وبعد البحث في هذا الشأن، وجد أنَّه من الممكن الوصول إلى ذلك بمُقتضى البنود التالية:
  • استقلال لبنان التام المطلق.

  • حياده السياسي بحيث لا يحارِب ولا يُحارَب، ويكون بمعزلٍ عن كلِّ تدخُّلٍ حربيٍّ.

  • إعادة المسلوخ منه سابقًا بمُوجب اتفاقٍ يتمُّ بينه وبين حكومة سوريا.

  • المسائل الاقتصادية يجري درْسُها وتُقرَّر بواسطة لجنة من الطرفَين، وتُنفَّذ قراراتها بعد مُوافَقة مجلس نوَّاب لبنان وسوريا.

  • يتعاون الفريقان في السعي لدى الدول للتصديق على هذه البنود وضمانة أحكامها.»

أمَّا سفر أعضاء المجلس «فلأجل التمكُّنِّ من العمل على ذلك بحريَّةٍ وبمعزل عن ضغطٍ خارجي، ولأجل السعي النَّاجح في المراجع الإيجابية لتقرير أحكام البنود المتقدَّم بيانها.» ولم يكن قصدهم السفر إلى الشام، بل إلى أوروبا وأميركا عن طريق حيفا؛ هو ظاهر قصدهم وحقيقته، لا ريبَ عندي بذلك، ولكنِّي أرى في الطَّريقة التي سلكوها وفي بعض المقاصد التي أخفوها أو موَّهوا بها ما يُؤاخَذون عليه.

الأسفار تقتضي النفقات، ولم يكن في الخزينة اللبنانية ما يقومُ بها، فجاء الأمير أمين أرسلان، صديق العرب واللبنانيين الأحرار، ليسعى في هذا السبيل. قال سليمان كنعان، أحد أعضاء المجلس، للأمير أمين: «لا نستطيع أن نجمع مالًا كافيًا للسفر.» فقال الأمير: «أنا أتكفَّلُ بذلك.» وبعد قليلٍ جاءهم بخمسةِ آلافٍ أُخرى عندما يجتازون حدود لبنان، وها نحن في دور التمويه الذي أفسد على الأعضاء عملهم، المال الذي جاء به الأمير أمين بمؤازَرة نوري السعيد هو من الملك فيصل لا من عارف النعماني، ولكن السند الذي كتبه سليمان كنعان بالقيمة كلها هو لِأمر النعماني وبكفالة الأمير أمين. فحبذا لو كان السند صادقًا فيكون المال من أحدِ تجار الأمَّة الذي يُشارك الأعضاءَ في عقيدتهم السياسية ويودُّ نجاحَ مَسْعاهم، ولكن المال من الملك فيصل، وهذه حجَّة الفرنسيين في الرشوة.

قال سليمان كنعان للأمير أمين: «بشرط ألَّا نَمُرَّ بالشام ولا نُقَابِلَ الملِك فيصلًا.» وكأنِّي بالأمير اللطيف الحاذق يقولُ: تأخذون ماله ولا «تميلون» للسلام! فاتفقوا أن يسافروا إلى حيفا ويرسلوا مِن قِبَلهم اثنين أو ثلاثة إلى الشام للسلام والمُفاوَضة. ولكن الأقدار تدخَّلَت؛ فقد أوقفتهم السُّلطة الفرنسية قبل أن يجتازوا الحدود، وعادت بهم مخفورين إلى بيروت؛ حيث حُوكِموا أمام مجلسٍ عسكريٍّ فرنسي، فجرَّمتهم المحكمة ونَفَتهم الحكومة إلى جزيرة أرواد ثم إلى جزيرة كورسيكا.

بعد أن أُلقِي القبض على أعضاء مجلس الإدارة بأربعة أيَّام، أيْ في ١٤ تموز سنة ١٩٢٠، أَرسل الجنرال غورو بلاغه النهائي إلى الملك فيصل، ومَطلعه هذه الكلمات:

«بينما كانت السَّكِينة سائدة في سوريا أثناء الاحتلال البريطاني، ابتدأ الفساد يوم حلَّت جيوشنا محل الجيوش البريطانية، ولا يزال آخذًا بازدياد منذ ذاك الوقت.»٢

هي الحقيقة بعينها، ابتدَأَ الفساد يوم حلَّت جيوش الفرنسيين محل الجيوش البريطانية؛ فقد كانت الجيوش الفرنسية إمَّا عاجزةً وإمَّا مُهمِلة؛ أمَّا العجز فينفيه الحزم الذي أبدته هذه الجيوش بعد البلاغ النهائي، وأمَّا الإهمال فقد يكونُ ناتجًا عن قصدٍ سياسيٍّ هو رغبتهم في الاستيلاءِ على المدن الأربع التي تعهَّدت فرنسا لبريطانيا ألَّا تحتلَّها.

أمَّا بلاغ الجنرال غورو فتُقسَّم الاحتجاجات فيه إلى خمسةِ أقسام:
  • أولًا: «الأعمال الموجَّهة إلى حكومة الاحتلال الفرنسية»؛ وفيه ذَكَرَ الحوادث المفجعة التي كانت العصابات سَبَبَها، وأنَّ حكومة دمشق قد قابلت القائمين بتنظيمها بالحفاوة والإكرام، «ونخصُّ بالذِّكرِ منهم صبحي بركات الذي أصبحت عدواته لنا أشهر من نارٍ على علمٍ.»
  • ثانيًا: «سياسة حُكومة دمشق العدائية»؛ وهي تنحصرُ، على ما يظهر، مِن البلاغ بتعيين رجال في الحكومة «معروفين بعدائهم لفرنسا.»
  • ثالثًا: «التدابير الإدارية ضد فرنسا»؛ وأهمها ما يتعلَّق برفضِ التداول بعُملة البنك السوري.
  • رابعًا: «الأعمال العدائية الموجَّهَة لفرنسا رأسًا»؛ وفيه ذَكَرَ بعض الذين أُهينوا في المنطقة الشرقية لأنهم أصدقاء فرنسا، والذين احترموا لأنهم أعداؤها؛ ومنهم الدنادشة وكامل الأسعد ثمَّ أعضاء مجلس إدارة لبنان.
  • خامسًا: «التعديات على الحقوقِ الدولية»؛ وفيه احتجاج على التجنيد الإجباري وعلى ملكية الأمير «المُغتصبة غير الناتجة عن إرادة الشعب الحرَّة»، وعلى المؤتمر السوري الذي تألَّفَ وشكِّل بصورةٍ غير مشروعةٍ.
«إنَّ هذه الأسباب تثبت جليًّا أنَّه أصبح من المستحيل الاعتماد على حُكُومَةٍ جاهَرَت بصراحَةٍ تامَّةٍ بعدائها لفرنسا … وعليه فإنَّ فرنسا ترى نفسها مُضطرَّة أن تحتاط بالوسائل اللازمة لتؤمِّن راحة جيوشها وراحة أهالي البلاد.» … ولذلك هي تطلب الضمانات التي يلي ذكرها:
  • أولًا: حق التصرف بسكَّة الحديد بين رياق وحلب.
  • ثانيًا: إلغاء الخدمة العسكرية الإجبارية.
  • ثالثًا: قبول الانتداب الفرنسي.
  • رابعًا: التداول بالعملة السورية.
  • خامسًا: مُعاقبة المجرمين الذين تَثبتْ عليهم أكثرَ مِن غيرهم مُناجزةُ العداء للجنود الفرنسيين.

وقد طلب الجنرال قبول هذه الشروط «بوجهٍ إجماليٍّ دُونَ استثناءٍ البتَّة في مُهلة أربعة أيَّام تبتدئ في الساعة الأولى ليلًا من ١٥ تموز وتنتهي في الساعة الثانية عشرة ليلًا في ١٨ منه.»

وصل البلاغ إلى الشام في مساء اليوم التَّالي، فاستدعى الملكُ للمشاورة عددًا من وُجهاء المدينة من جميع الطَّوائف، ففوَّضوا الأمر إليه ليعمل بما فيه خير البلاد. ولكن المؤتمر السوري أصدر في جلسةٍ قانونيةٍ القرارَ التالي:

«إنَّ المؤتمر السوري الممثِّل للأُمَّة السورية في مناطقها الثلاث يعتبر قراره التاريخي بمواده الثلاث التي هي:
  • أولًا: الاستقلال التام والوحدة ورفض الهجرة الصهيونية.
  • ثانيًا: مَلَكية جلالة الملك فيصل على الأساس النيابي الدستوري.
  • ثالثًا: بقاء المؤتمر مُنعقدًا يُراقب أعمال الحكومة المسئولة أمامه إلى أن يجتمع مجلس النوَّاب بمُوجب القانون الأساسي، قرارًا واحدًا لا يقبل التجزئة، وأنَّ نقْض جزء منه يعتبره المؤتمر نقضًا للقرار بحذافيره، وأنَّ المؤتمر السوري لا يعترف باسم الأمَّة السُّورية بأيَّة مُعاهدة واتفاقية أو بروتوكول يتعلَّقُ بمصيرِ البلاد ما لم يصادق المؤتمر نفسه عليها.»

في هذا القرار وطنيَّةٌ شماء لا يزدريها مَن كان له وطنٌ في العالم.

١  الملك لويس الرابع عشر الذي قال: «الدولة … إنَّمَا أنا الدولة.»
٢  وقد عيَّنُوهُ بعدئذٍ رئيسًا للاتِّحادِ السُّوري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤