الفصل الأول

نظرات في التاريخ العربي

ذكر الكندي، صاحب كتاب فضائل مصر أن أميرًا من أمرائها قال يومًا، وهو بالميدان الذي يلي الفسطاط: أتتأملون الذي أرى؟

قالوا: وما الذي يرى الأمير؟

قال: أرى ميدان رهان، وجنان نخل، وبستان شجر، ومنازل، وذروة جبل، ونهرًا عجاجًا، وأرض زرع، ومرعى ماشية، ومرتع خيل، وصائد بحر، وقانص وحش، وملاح سفينة، وحادي إبل، ومغارة رمل، سهلًا وجبلًا في أقل من ميل في ميل.

في هذه الرقعة صورة مصر، وفي هذا المركز — الفسطاط القاهرة — قلب مصر، ومصر تتوسط العالم العربي، ومن زاوية القاهرة نطلع فنرى حلقاته وأدواره متناسبة متوازنة، كل حلقة في مكانها، وكل دور في موضعه، لا يطغى شيء على شيء، الضوء موزع التوزيع العادل، والظلال كذلك.

وكانت مصر المركز لأسباب، منها: توسطها الجغرافي الظاهر، ومنها: أنها المرآة الصادقة لظاهرة عربية عامة، ظاهرة التركيب العجيب للأصل والوافد من عناصر الحضارة العربية «وهذه ظاهرة سيزداد تفصيلها فيما يلي بعد قليل»، ومنها ثالثًا: أن مصر وحدها، مصر دون سائر الأقطار العربية اتصلت أدوار تاريخها في نسق محكم مسبوك.

أما والأمر كذلك فلنا أن ننظر من زاوية القاهرة، وهذا دون افتئات ودون تَجَنٍّ.

فإذا ما فعلنا ذلك فماذا ينطبع في الذهن بعد نظرة شاملة نافذة فاحصة …؟ تنطبع حقيقة يمكن التعبير عنها بالقول:

إن تاريخ الأمة العربية هو ملتقى تواريخ الأمم، هو من تلك التواريخ بمثابة النهر الكبير تصب فيه الجداول، وتلتقي في مائه أمواه الفروع. ألا ترى أصحاب الكتب العربية التاريخية العامة يبدءون بشتى الأمم والشعوب، ثم يسيرون بها رويدًا رويدًا إلى أن يبلغوا زمن الرسالة وقيام الدولة العربية، وحينئذ يسلكون تواريخ الأمم في تاريخ الأمة العربية.

ولنتأمل قليلًا تركيب تلك الدولة العربية، وتركيب تاريخها. في هذا التاريخ يندمج كل ما يتعلق بالجزيرة العربية قبل الإسلام، بقبائلها وممالكها وأيامها وأحوالها وآدابها، هذه جزء لا يتجزأ من تاريخ الأمة العربية، ثم إذا ما انتقلنا من الجزيرة نحو البلاد التي فتحها العرب، والتي انتشروا فيها، والتي استعربت شعوبها بأقدار متفاوتة من الاستعراب، فإننا نجد تلك الشعوب متحضرة بحضارات، هي في ذاتها تتركب أيضًا من عناصر أصيلة وطارئة، وفي مختلف الأقطار التي استوطنها العرب يتنوع امتزاج عناصر الحضارة تنوعًا كبيرًا.

وتلك العناصر هي: الهندية، الإيرانية، الأرامية، اليونانية، المصرية، الإفريقية، البربرية، اللاتينية، الجرمانية، الكلنية … إلخ، وتركبت في مختلف الأقطار من هذه العناصر تراكيب متعددة، ففي أقصى الشرق يقل الأثر الإفريقي البربري الجرماني اللاتيني، وفي أقصى الغرب يقل الأثر الهندي الإيراني، ولكنها دخلت جميعًا في تركيب الحضارة العربية، وإن تلونت تلك الحضارة في مختلف الأقطار العربية بألوان متأثرة بموقع القطر وبظروفه التاريخية السابقة للفتح العربي.

ترى إذن أنْ لا بد لفهم التاريخ العربي من فهم التواريخ التي التقت به، والعجيب في أمر حضارة هذه الأمة العربية أن تناسب أجزائها، وانتظام عناصرها في نسق محبوك مسبوك يرجع إلى وضوح الملامح، وبروز التقاسيم، فلا يصعب على الناظر تبين كل جزء وكل تفصيل. كتب أحد الأقدمين في صفة أهل الأندلس كتابة تطلعنا على تلك الخاصية من خصائص الحضارة العربية قال: (وقد روى كلامه الأستاذ محمد كرد علي في كتابه: الإسلام والحضارة العربية) «أهل الأندلس عرب في الأنساب، والعزة والأنفة، وعلو الهمم، وفصاحة الألسن، وطيب النفوس، وإباء الضيم، وقلة احتمال الذل، والسماحة بما في أيديهم، والنزاهة عن الخضوع وإتيان الدنية، وهنديون في إفراط عنايتهم بالعلوم، وحبهم فيها، وضبطهم لها ورواياتهم، وبغداديون في ثقافتهم، وظرفهم، ورقة أخلاقهم، ونباهتهم، وذكائهم، وحسن نظرهم، وجودة قرائحهم، ولطافة أذهانهم، وحدة أفكارهم، ونفوذ خواطرهم، يونانيون في استنباتهم للمياه، ومعاناتهم لضروب الغراسات، واختيارهم لأجناس الفواكه، وهم أصبر الناس على مطاولة التعب في تجويد الأعمال وتحسين الصنائع، وأحذق الناس بالفروسية، وأبصرهم بالطعن والضرب.»

وإذا سألنا: لِمَ صَفَتْ عقول الفاتحين ذلك الصفاء الذي مكَّنها من تلقي ما تلقت من مختلف الثقافات على ذلك النحو الرائع الذي لم ير له التاريخ فيما نعرف نظيرًا؟ وإذا سألنا: لم حافظوا على التراث الإنساني تلك المحافظة الباهرة؟ أجبنا بأن ذلك يرجع أولًا لما فرضه عليهم دينهم نصًّا وروحًا، لما رسمته أوامره ونواهيه، شريعة وأحكامًا ومثلًا، كما أنه يرجع ثانيًا إلى ظروف الفتوح، وإلى ظروف الاستيطان في الأقاليم، فكانوا حقًّا أمة وسطًا.

ومن الصور المشرفة في التاريخ العربي توسُّط مقوماته بين طَرَفَي الإفراط والتفريط، فارتقاء الحسيات يقابله ارتقاء مماثل للمعنويات، والعناية بالزراعة وما يتصل بها من الغراسات، والتفنن في الاستنبات، والبراعة في جر المياه وصرفها، لا تقل عن العناية بالصناعات، والزراعة والصناعة شأنهما لا يقل عن شأن التجارة وما يتصل بها من تنظيم وطرائق إنهاء الحقوق والادخار والائتمان، والألفاظ المتصلة بهذا والتي دخلت اللغات الأجنبية تدل على ما كان للعرب من أصالة في هذه الشئون.

وإذا ما انتقلت من هذا إلى الحياة العقلية، ترى أن ما صُرِفَ من العناية في الأبحاث النظرية وَازَنَهُ الانتباهُ إلى التطبيقات العملية، مثل ذلك يقال عن الحياة الروحية، فلا إسراف عمومًا في رعاية ما يوجبه حق الجماعة، وما يقتضيه حق الفرد.

هذا وإذا كان التاريخ العربي ملتقى التواريخ، فإن الحرية العربية حياة الأمة العربية اتصفت هي أيضًا بصفة أساسية، هي التنوع في إطار الوحدة، وإلى هذه الصفة ترجع قوتها في الماضي، وهذه الصفة هي التي تفسر كيف أنه كلما ازداد عرب اليوم تقاربًا، كلما كانت خصائصهم الإقليمية سببًا من أسباب التكامل، وعاملًا من عوامل تبادل المنافع.

وبعد؛ فما لب الأمة العربية، ما خلاصة تاريخها، ما جماع عقلها أو روحها؟ إن أردنا إجابة في كلمة واحدة قلنا: اللغة العربية، والعربية بصفة أساسية شأنها شأن التاريخ العربي، أنزل بها كتاب الله، وبنى الأوائل علومها على القواعد وبالأساليب التي أقاموا عليها وبها سائر المرافق والأدوات والرسائل، وقد نقل المرحوم الأستاذ/محمد كرد علي في كتابه الإسلام والحضارة العربية رأيًا في العربية لعالم اللغات السامية «رنان» يصح الاستماع إليه، ولم يكن رنان هذا ممن يحبون العرب، قال: «من أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعب حل سره، انتشار اللغة العربية، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ بدء، فبدت فجأة على غاية الكمال، سلسلة أية سلاسة، غنية أي غنى، كاملة بحيث لم يدخل عليها منذ ذلك العهد إلى يومنا هذا أدنى تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة مستحكمة، ولا أدري هل وقع مثل ذلك للغة من لغات الأرض قبل أن تدخل في أطوار أو أدوار مختلفة؟» وقال: أيضًا: «ما عهدت قط فتوحًا أعظم من الفتوح العربية، ولا أشد سرعة منها، فإن العربية — ولا جدال — قد عمت أجزاء كبرى من العالم، ولم ينازعها الشرف في كونها لغة عامة، أو لسان فكر ديني أو سياسي أسمى من اختلاف العناصر، إلا لغتان: اللاتينية واليونانية، وأين مجال هاتين اللغتين في السعة من الأقطار التي عم انتشار اللغة العربية فيها؟ وأضيف واليونانية واللاتينية ميتتان والعربية حية، لغة أحياء.»

وكلما أطال الإنسان التفكر كلما آمن بأن لغة العرب كانت أعظم ما خلق العرب، لماضيهم ولحاضرهم ولمستقبلهم.

العرب بين الأمم

ما مقام العرب بين الأمم … ما أقدميتهم؟ ما أصالتهم؟ وماذا قدموا لأجيال الإنسانية؟ وبماذا ولماذا استحقوا أن يوصفوا بالأمة الوسط؟ والكلام عن مقام العرب بين الأمم يستدعي الحديث عن تطور المحيط العالمي، الذي أحاط بهم وبغيرهم، كما أنه يستدعي بيان مقام الجزيرة العربية مهد العروبة — في تاريخ الأمة الكبرى — أمة العرب في المشارق والمغارب.

وأقوم المسالك ألا نوغل في القدم إلى ما هو أبعد عن تمايز الألسنة، وعن اختصاص الشعوب شعبًا شعبًا بحصص من الأرض، فلنترك إذن ما سبق المسطور من البيان، ولنترك أمر ما كان وما لم يكن بين الساميات والحاميات إلى من يحسنونه من العلماء، وإلى من يحبون أن يخوضوا فيه دون أن يكونوا من أهله، ولنبدأ حيث تحضر الإنسان في أرض النيل وأرض الرافدين وما بينهما؛ حيث قامت الدول العامة الأولى، المصرية، البابلية، إلخ. — وهنا كان أحد أصلي الحضارة قاطبة — أي هذا الأصل المصري السوري العراقي، وكان الآخر الأصل الهندي الصيني، وفي ذلك الأصل المصري السوري العراقي مبدأ تواريخ الأمم، بما في ذلك مبدأ تاريخ العرب — ويصعب نعته بنعت واحد فإذا نعت بالشرقي — الوسيط أو الأدنى أو ما إلى ذلك، كان معنى ذلك أنه فرع على أصل يقع غربيًّا، وهذا لا يجوز، فهو الأصل وأوربا الفرع، كما أنه لا يجوز نسبته إلى آسيا أو إفريقيا أو إليهما معًا، كما لا يجوز ربطه بالبحر المتوسط وحده، أو بالنيل وحده، وجمع هذه المعالم الجغرافية في جملة يعقد الوصف — فإذا شئنا نعتًا جامعًا مشتقًا قلنا: إنه ملتقى الحضارات أو مهد الوحدانية.

ولنا أن نتصور نوعين من التغير كانا يحدثان في نطاق ذلك الملتقى: أحدهما: ما كان يحدث داخل كل وحدة من وحداته، كانتقال الحكم في مصر الفرعونية مثلًا، من أسرة إلى أسرة، وما إلى ذلك، أما النوع الآخر فتأثيره أعم، وكان مما يترتب على حركات الشعوب والجماعات المتصلة بملتقى الحضارات، هذا على وجه أو أكثر من أوجه الاتصال، دون أن ينتهي بها الاتصال به إلى الاندماج فيه — وكان من هذه الشعوب اليونان والفينيقيون وعرب الجزيرة وامتداداتها في البحار العربية وما يليها وفي بادية الشام — وقد مارس اليونان تجارتهم ومغامراتهم ونشاطهم الاستعماري في مختلف مواطن هذه الحضارة، وفي خارج مواطنها، وتعلموا من أصحابها ما تعلموا، وصاغوا ما تعلموا في الأسلوب الذي شاءته شخصيتهم، وكذلك الفينيقيون — وكذلك العرب — أثروا كثيرًا وتأثروا كثيرًا بأمم الحضارة، إلا أن شخصية الجزيرة في بداوتها وحضرها، في علاقاتها بجيرانها الأقربين، في وساطاتها التجارية الممتدة في مسالك البحار بقيت على ما هي عليه، إلى أن كان ما قدر الله للإنسانية والعرب: الدعوة للإسلام.

وبالدعوة — وبإنشاء الدولة العربية جَدَّ معنًى آخرُ للعرب والعروبة، وَجَدَّ طَوْرٌ آخر لمقام العرب بين الأمم — على أن هذا الطور الجديد لا يفهم على وجهه الحق إلا إذا بينا ما سبق إنشاء دولة العرب من أحداث خطيرة، فإن هذه الأحداث وما ترتب عليها من نتائج شكلت البيئة التي قامت فيها الدولة العربية، والتي أدى فيها العرب رسالتهم للحضارة.

لقد سبق قيام الدولة العربية أن خضعت مواطن الحضارة العراقية السورية المصرية لفارس، وأكسبها ذلك ما انتقل إليها عن طريق فارس من عناصر هندية، فزادها هذا غنى، بل وحاول الفرس مزج العناصر المختلفة في نتاج مشترك، إلا أن انعدام التوحيد الديني حال دون إيجاد ذلك النتاج المشترك، مثل هذا يقال عن محاولة الإسكندر لما غزا الولايات الفارسية وبلغ السند وأنشأ دولته المشهورة، ولما خلفه الرومان وضموا من ممالك الإسكندر، جدت ظروف جديدة، فاستطاعت فارس أن تستقل بحياتها القومية، كما أن الرومان أدخلوا في نطاق الحضارة جزءًا كبيرًا من أواسط أوربا وغربيها، وانصرف هَمُّ الرومان لتدبير رغد العيش أكثر من انصرافه للحياة العقلية، وعلى الرغم من الاضطهاد الحكومي الرسمي فقد تمكنت الدعوة المسيحية من الانتشار والانتصار على العبادات الوثنية، وأصبحت في القرن الرابع الدين الرسمي للقياصرة، ثم حدث انقسام الدولة الرومانية إلى غربية وشرقية، ثم وقوع أكثر الولايات الغربية في حكم الشعوب المتبربرة الأوربية، كما حدث أيضًا ظهور الفرق المسيحية، وما كان بينها من مجادلات.

وقد قامت الدولة العربية فيما كان لفارس، وفيما كان للروم المتبربرين من ممالك، ومع الزمن كانت الدولة العربية تواجه ملك الروم في البلقان والأناضول، وممالك الأوربيين في شمال البحر المتوسط، ثم تواجه ما كانت تواجهه فارس في الهند والصين وأواسط آسيا، ويمتد نفوذها عبر الصحراء الكبرى وعبر البحار الإفريقية الآسيوية إلى ما يقع وراءها من قبائل وشعوب ومجتمعات، ومع الزمن أيضًا انتشر الإسلام، وانتشرت اللغة العربية، فكانت الأمة العربية الكبرى، واللغة العربية فيها ضربان، لغة حضارة الدولة كلها، يستخدمها أبناؤها جميعًا لأغراض الحضارة، وإن احتفظ منهم من احتفظ بلغته أو بلهجته لأغراض المعيشة المنزلية، أو للتقاليد القومية الخاصة، أو للطقوس الدينية، ويستخدمها أكثر أبنائها لكافة الأغراض، فلم تكن لهؤلاء لغة أخرى، وفي تاريخ المجتمع العربي تلتقي تواريخ الشعوب التي تتكون منها، والحضارة التي ازدهرت في ذلك المجتمع تجمع بين القديم الذي ورث والجديد الذي أوجد، والعلاقات بين ذلك المجتمع وما حوله من الأمم تتكون من معاملات يومية سلمية دائمة، يتخللها قدر من الحرب يرمي في حقيقة الأمر إلى أن يحافظ كل فريق على ما بيده، فنشأ بذلك نوع من توازن القوى.

يوازي ذلك التوازنَ بين المجتمع العربي وغيره من المجتمعات توازنٌ داخلي في المجتمع نفسه، ثم حدث أن اختل ذلك التوازن الداخلي، وتعرض المجتمع بذلك لعوامل التفرق بين وحداته وأقاليمه — القديمة التاريخية — كيف حدث هذا؟ كان من أسبابه تعدد الفرق الدينية، وكان من أسبابه أيضًا أن الوحدات والأقاليم القديمة التاريخية استعادت في ظل الدولة العربية حيويتها، وهذه الحيويات الإقليمية نزعت نحو اكتمال الاستقلال الإقليمي، يضاف إلى هذا ما تعرضت له الدولة العربية من حركات الجماعات البدوية الآسيوية من أتراك وتتار ومن إليهم، ولا بد أن نلاحظ أخيرًا أن المجتمع العربي في تلك الأيام لم يتح له ما بلغته المجتمعات في أنحاء العالم، منذ ذلك العهد من خبرة في شئون التنظيم الدستوري، الذي يوفق بين النزعات الإقليمية المشروعة ومقتضيات الوحدة السلمية، على أن ذلك العهد من التاريخ العربي، وهو يستغرق القرون من الثالث عشر للسادس عشر، كانت له مفاخرة، فيه تألفت الجبهة المصرية السورية اليمنية، فيه تألفت ما يصح أن أطلق عليه دولة البرين والبحرين (البر المصرية والبر الشامي والبحر المتوسط والبحر الأحمر)، قلب العروبة، وفيه ردت هذه الدولة التتار والصليبيين على أعقابهم خاسرين، وقد حفظ أهلوها التراث العربي سليمًا حيًّا.

هذا على الرغم مما كان من محو الكثير من معالم الثقافة العربية في فارس وما يتصل به، وعلى الرغم أيضًا من جلاء العرب عن الأندلس، فقد كان للعرب من أهل الجزيرة فخر بناء مجتمع عربي حُرٍّ في جزائر البحار الآسيوية الإفريقية وسواحلها، وفيما يلي الصحراء من الأقطار الإفريقية.

وفي القرن السادس عشر يبدأ للعرب عهد جديد، اجتمع فيه عليهم التغلغل الأوربي من جهة، والسيادة التركية العثمانية من جهة أخرى، إلا أنهم استطاعوا متفرقين أن يحتفظوا بمقومات شخصيتهم حية، وإن خفيت مظاهرها، ثم اشتد التغلغل الأوربي في القرنين التاسع عشر والعشرين متخذًا أشكالًا شتى من الهيمنة السياسية، والتوجيه الاقتصادي، والعرقلة الاجتماعية، وتضييق الآفاق العلمية، وبعث هذا في العرب روح الكفاح من أجل الاستقلال السياسي والاقتصادي، وبالجملة من أجل حرية بناء مجتمعهم على النحو الذي يشتهون، ونُصْبَ أعينهم الآن تحرر كامل ووحدة كاملة، ومهمتهم في عالم اليوم، أن يكونوا أولًا أقوياء، فالقوي لا ينفع نفسه فحسب، ولكنه ينفع الناس جميعًا بقوته، وأن يحيلوا، ثانيًا، كما كان يفعل آباؤهم والعناصر المتباينة، أن يحيلوها نتاجًا إنسانيًّا مثمرًا، نتاجًا خير نتاج، وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا.

تعبير الفن عن الشخصية العربية

إذا شاء أحدنا أن يبحث عن مظهر تتجلى فيه الشخصية العربية — شخصية الفرد وشخصية الجماعة — فأظنه لن يجد خيرًا من فنون العرب وصناعاتهم، في تلك الفنون وفي تلك الصناعات تلاقت فنون الشعوب التي كونت الأمة العربية، تلاقت لتكون فنونًا جديدة قديمة؛ لما فيها من محافظة على تراث منتقل من سلف لخلف، وجديدة لما طرأ عليها من تحوير اقتضاه الانتقال إلى الطور الإسلامي من التاريخ، ففي الفن العربي إذن ملتقى فنون، وفي الصناعة العربية ملتقى صناعات، وتاريخ الفن العربي وتاريخ الصناعات العربية يجمعان القضايا والمسائل التي ترد في التاريخ العربي عمومًا — وإذن كان الفن العربي مرآة المجتمع العربي — وكان مرآة جلية؛ لأن المؤرخين لم يهتموا بأمره، ولم يخشوا دلالاته فتركوه أو نسوه، ولذا نستطيع أن نبدأ استخدامه في فهم الماضي العربي دون أن نبدأ بتقدير الاعتبارات النقدية، والتوجيهات الاجتماعية النظرية التي شكلت التعبير الأدبي العربي.

والمجتمع العربي لا يفرق بين فنون جميلة أو رفيعة، وفنون ليست كذلك، ولا يفرق بين الفنان والصانع، قد يكون ما يصنع أنيقًا أو ساذجًا، يرضي الذوق أو لا يرضيه، وقد تكون مادة المصنوع معدنًا نفيسًا أو طينًا، هذا ما كان يميز مصنوعًا عن مصنوع آخر، ولكنهم كانوا لا يعرفون التمييز الذي نعرفه في الوقت الحاضر، التمييز الذي يقوم على إنتاج أشياء لمجرد الرمز أو لمجرد النظر أو لمجرد التعبير عن خاطر أو ما إلى ذلك، وإنتاج أشياء هي أدوات العيش.

ومن أجل ذلك لا نجد الفن العربي موضوعًا يشتغل به النقاد، يعرضون قضاياه الفلسفية، ويبسطون آراءهم في معاييره ومقاييسه، مثلما فعلوا في الصناعتين — النظم والنثر — ولا يتحدثون في الفن إلا حينما يعرضون للحلال والحرام، للمباح والمحظور والمكروه، أو لآداب الحياة الاجتماعية، أو لشئون الصناع وأهل الحرف في المدن وهكذا، وبذلك خلا تاريخ الفن العربي من تعقيد أصاب غيره من أدوات التعبير، وانطلق أداة حرة.

لقد وصفته بالعربي: أكان كذلك؟ أيهما الأصح، الإسلامي أو العربي؟ سؤال يتكرر في مواضع أخرى، ومنذ سنوات غيروا رسميًّا اسم دار الآثار العربية، وجعلوه دار الفن الإسلامي، ما وجه الحق في ذلك؟ والذين غيروا اسم دار الآثار العربية قالوا: إن الفن كان فن الشعوب الإسلامية عربية وغير عربية، فالإسلامي إذن وصف أعم وأصدق، ونفس الشبهة تقع عند تسمية الفلسفة أو العلم، فما الرأي؟ لا أرى إشكالًا كبيرًا، فإنك تقول العلوم الإسلامية إذا أردت الدين، وتقول العلوم العربية إذا أردت علوم اللغة العربية، أو إذا أردت طورًا عربيًّا من أطوار التاريخ والعلم عمومًا؛ أي تاريخ منحى معين من مناحي الفكر الإنساني، معبر عنه باللغة العربية بصرف النظر عن المشتغلين به.

وقد عرف كذلك في التواريخ التي صنفها الأوروبيون لتاريخ العلم عمومًا، والفلسفة لا جدال في تسميتها بالإسلامية، فكذلك سماها الذين اشتغلوا بها من العرب وغير العرب، من المسلمين ومن اللاإسلاميين.

وأما الفن، فلا جدال في عظم تأثير العقيدة والمثل العليا في تشكيله، ولا جدال في أن ذلك التأثير أسبغ على الفن في مختلف بلاد المسلمين لونًا من الوحدة عظيم الشأن، ومع ذلك فيوجد في التعبير الفني في مختلف تلك البلاد قدرًا من الاختلاف، يبرر كل التبرير أن نتكلم عن الفن العربي، والفن الإيراني، والفن الهندي، وهكذا، بل يوجد في الحياة الفنية العربية بالذات في مختلف أقاليم العالم العربي ما يوجب الاهتمام بمظاهره الإقليمية في العراق، أو في مصر وسوريا، أو في الأندلس والمغرب.

تتصل قضية الأمم أو الوصف على هذا النحو بقضية أساسية من قضايا التاريخ العربي: الوحدة والإقليمية، لا جدال — كما قلت — في أن العقيدة أكسبت الفن ذلك القدر من الوحدة، الذي حدا ببعض العلماء إلى تفضيل وصفه بالإسلامي، فعلى أي وجه كان تأثير العقيدة؟ كان ذلك عن طريق إسلام الوجه لله، وعن طريق الابتكار الفني مظنة محاكاة الخلق — وإسلام الوجه لله وحده يجنب المخلوق الترفع، ويحتم عليه معرفة قدر نفسه، فالتواضع أَخَلَقُ به — وقد ترتب على التزام التواضع في اختيار مادة المصنوع، الآجُرُّ للبناء، الجص للزخرفة: الفخار أو النحاس أو الزجاج للآنية، والطريف أن زيادة الغنى واكتساب عادات المترفين أدى إلى أسلوب من الفن يجمع بين تواضع الأساس، ومقتضيات الرفاهية والتنعيم، فيبقى الفخار ولكن تكسوه طبقة من المعدن البراق، بقي النحاس ولكنه يُذَهَّبُ أو يُفَضَّض، يبقى الآجُرُّ مادةَ البناء ولكن يكسوه القيشاني الخلاب أو الفسيفساء الباهرة، وهكذا الزجاج الموشى بالمينا أو النحاس أو الخشب المطعم، وأما عن تجنبه مظنة محاكاة الخلق فآثاره معروفة، إحالة المجسات مسطحات، إحالة الحيوانات أزهارًا، المنحنيات مستقيمات والمستقيمات منحنيات، قطع الصلة بين السبب والمسبب.

وأما عن المثل العليا، وما كان من أثرها، فواضح أنها كسبت الصناعة والعاملين فيها شرفًا ونبلًا، ويكفي في هذا أن نذكر كيف كان الأنبياء يكسبون رزقهم من عمل أيديهم صنَّاعًا، وانتشار الخط العربي كان أيضًا عاملًا من عوامل وحدة الفن، هو في ذاته فن عمل فيه المسلمون جميعًا ما شاء لهم حبهم له وإعجابهم به، وهو أيضًا أساس من عناصر الزخرفة، لا يقتصر انتشاره على أقطار العالم الإسلامي، ولكن انتقل إلى الأقطار الأوربية، فاستخدمه الصناع فيها لأغراض الزخرفة، دون أن تؤدي الحروف أو الكلمات كلامًا مفيدًا، وهكذا كانت قضية وحدة الفن.

وأما قضية إقليميته: فإنها ترجع لأسباب ندرجها في الكلام على ثلاث مسائل: المسألة الأولى: نوع الفن السائد في أقاليم الدولة العربية، المسألة الثانية: تطور الفن في المجتمع العربي الذي تكوَّن في تلك الأقاليم، والمسألة الثالثة: مصير هذا الفن العربي.

أبدأ بنوع الفن السائد في أقاليم الدولة العربية عند الفتح: كان فن الآثار الضخمة الشامخة التي خلفها المصريون القدماء، أو البابليون، أو الآشوريون وأمثالهم، آثارًا ضخمة شامخة حقًّا، لا يمكن إلا معاينتها، ولكن لم يزد الأمر عن المعاينة والتعجب.

أما فنون العمارة والزخرفة، فهي الفنون اليونانية الرومية في طورها المسيحي، مطعمة في أقدار متباينة بالفن الساساني، وأما الفنون الصغرى، فهذه تتنوع بطبيعة الحال بتنوع البيئات من إقليم إلى إقليم، وظاهر أن مادة الفن يتخذها الناس في الأغلب مما يكون في متناول أيديهم، وظاهر كذلك أن الأساليب تتنوع طبقًا لحاجات الناس، وهذه الحاجات هي مما تمليه ظروف المناخ وما يتصل به، مثال ذلك الفنون المنزلية الخاصة بالأثاث والآنية والفنون الشخصية الكساء … إلخ.

وهكذا نرى أن الفنون التي كانت تسود الأقاليم العربية كانت من أسباب اتخاذ الفن العربي المتطور، منها وجهات إقليمية متباينة داخل إطار الوحدة التي أشرت إليها.

وإذا انتقلنا من هذا إلى تطور الفن في العهد العربي من تاريخ تلك الأقاليم، تبينا أن الخاصية الرئيسية لهذا التطور ترتبت على دخول الشعوب العربية الأصيلة في تلك الأقاليم في المجتمع الجديد، بمواهبها وأذواقها وأساليبها، فنشأ من ذلك الفن الجديد، تلتقي فيه — كما قلت في مستهل الحديث — العناصر القديمة بالعناصر الجديدة.

ذكر المؤرخون أن الزخارف الجصية في دير السوريان بِوَادي النطرون هي الزخارف العباسية العراقية المنتشرة في أرجاء الدولة العربية، وذكر المؤرخون أيضًا أن الأبواب الخشبية في كنيسة السيدة بربارة لا تختلف في شيء عن مثيلاتها في العصر الفاطمي.

نرى إذن أن الفن يوضح كيف أثمر التفاعل والتداخل في بناء الحضارة الجديدة في جو السماحة، في جو الكرامة؟ على أن الأقاليم العربية لم تجر الأمور فيها على وتيرة واحدة؛ فمنها ما عمه طوفان البداوة كما في المغرب، أو المتبربرين كما في العراق، أو انقطع نموه وتطوره كما في الأندلس بجلاء العرب.

ومن تلك الأقطار ما بقيت فيه حلقات التطور متصلة؛ وهذا بصفة خاصة في سوريا ومصر.

ولكن هل تعني اتصال الحلقات أننا نستطيع أن نصف الفن في طوره الراهن بأنه امتداد للفن العربي، الذي كان موضوع هذا الحديث، لا جدال في أنه توجد في وقتنا الحاضر، في حياتنا الفنية، وفي مطالب الحياة عمومًا من النزعات والمؤثرات والمشكلات ما يبرر القول بأن الفن قد دخل طورًا جديدًا قليل الصلة بالفن كما ورثناه، ليس معنى ذلك أنه مات؛ فالفن القوطي في أوربا مثلًا له بداية وله نهاية معروفتان — ولكن تأثيره لم ينته بتلك النهاية — يؤثر إذا ما استدعى الذوق محاكاته، ويؤثر إذا ما تدخل عنصرًا أو أسلوبًا في تركيب فنيٍّ معين، وقد يصدق هذا على الفن العربي: أنه بعد أن أدى ما أدى في المجتمع العربي قد تحول إلى طراز أو أسلوب تاريخي له حيويته وله رسالته.

تعبير العلم عن الشخصية العربية

وكيف يعبر العلم عن الشخصية العربية؟

نفهم أن الفن أو الأدب يفعل ذلك، ولكن العلم؟ لقد قيل: إنه لا وطن له، وإذا صح ذلك، فهو شائع في الأوطان وشائع في الأزمنة.

ولكن هذا لا يصح، أن العلم الذي ينتقل من وطن إلى وطن، أو من زمن إلى زمن لاحق، هو العلم المستخدم في تسخير القوى الطبيعية والحية لمنفعة الإنسان.

وحتى هذا التسخير القائم على التجربة والملاحظة، أو على تطبيق ما يصح بالقوانين العلمية، حتى هذا نجده يختلف من مكان لآخر ومن زمان لآخر، فمن المجتمعات الإنسانية ما كان أسبق من غيره في هذا المضمار، ومن المجتمعات أيضًا ما كان في بعض أجياله سباقًا، وفي بعضها محافظًا جامدًا قانعًا، أو محاكيًا ناقلًا عن الغير.

وأما عن العلم بالمعنى الخاص، أي بمعنى استخدام مناهج معينة لإيجاد صلات تربط حقائق متماثلة متفرقة بعضها بالبعض، ولا يهتم الباحث في عمله هذا بالتساؤل عما إذا كان لعمله هذا فائدة عملية تطبيقية في الحال أو الاستقبال، أو العلم بالمعنى الخاص الآخر، أي بمعنى استخدام العلم لتعليل أو تفسير أو وصف هذا العالم أو هذا الكون، العلم بِمَعْنَيَيْهِ هذين وثيق الصلة بمجتمع أو مجتمعات معينة، أو بزمن واحد دون سائر الأزمنة، هو الزمن الذي ابتدأ على نحو ما بالإيطالي جاليليو منذ ثلاثمائة سنة، ابتدأ متمهلًا، ثم اشتدت حركته منذ نحو قرن ونصف قرن من السنين.

لنا إذن أن نقول: إن العلم بمعانيه المختلفة يعبر عن الشخصية العربية، ولكن على أي وجه أو على أي وجوه كان التعبير؟ كان سبيلنا إلى معرفة ذلك أن نسجل للعلماء الذين كتبوا بالعربية أسماء كتبهم ورسائلهم وما ورد عنهم في أخبار الحكماء والأطباء وطبقاتهم من مآثر، وهذا كله دون تحقيق، إلا فيما ندر، ثم نلحق بهذا فضل هؤلاء العلماء على أوربا، وهذا كله — أيضًا — لا يدل على أكثر من أن الحركة العلمية في المجتمع العربي كان لها خطرها، وكان لها مقامها في الحضارة الإنسانية.

ولكن، على أي وجه أو على أي وجوه كان ذلك الخطر وذلك المقام؟ السبيل التي اتخذناها لم تهدنا إلى معرفة ذلك، وبعد، فما الذي ينبغي أن نصنع. الذي ينبغي على كل باحث أن يبدأ به هو أن يسأل الأسئلة الصحيحة، والسؤلان الصحيحان هما:
  • أولًا: إلى أي حد أقيم المجتمع العربي على العلم؟
  • وثانيًا: هل استخدم العلم في تعليل وتفسير ووصف العالم أو الكون.

للإجابة على السؤال الأول — إلى أي حد أقيم المجتمع العربي على العلم — يجب أن ندرس الآلات والأدوات التي استخدمها العرب مما ورثوا ومما استحدثوا، أي يجب أن ندرس ماذا استخدموا في بناء البيئة المادية التي عاشوا فيها؟

وفي الوقت نفسه، يجب أن ندرس الأسس العلمية التي أقاموا عليها علاقاتهم المدنية والروحية، أي ما استخدموا في بناء البيئة المعنوية التي عاشوا فيها، وما نعرفه عما ورثوا وما استحدثوا من آلات وأدوات ضئيل لا يعتد به، بالرغم من أن دراسة الأدوات والآلات هي الوسيلة الوحيدة لمعرفة ما اهتدوا إليه من تطبيقات علمية سواء أكان ذلك بالملاحظة والتجربة، أو باستعمال قوانين عرفوها عن طريق النظر.

والملم بتاريخ المكتشفات قبل زماننا الحالي، يعلم أن أكثر من أوجدوها كانوا صناعًا مهرة لا يعلمون علمًا، والأقل كانوا علماء كان لهم ولع بالصناعة؛ منهم الحاذق، ومنهم الذي يستطيع أن يشرف على عمل الصانع اليدوي.

ولهذه الحقيقة سر، سرها أن قوانين العلم في تلك الأزمنة يشوبها الكثير من الوهم أو من الرجاء الكاذب أو الخوف، وكلما خلا عقل الصانع من التربية العلمية المشوبة على هذا النحو، كلما كان أقدر على الانتفاع من دروس الملاحظة والتجربة، كلما صنع شيئًا ينفع الناس.

ومن رجع إلى طبقات الحكماء والأطباء قل أن يجد رجلًا منهم لم ينسب إليه المترجم صناعة آلة أو أداة، بل لِمَ نذهبُ بعيدًا؟ التراجم التي أوردها الجبرتي للرياضيين والفلكيين والمهندسين والكيميائيين، قل أن تجد فيها ترجمة لم يستحدث صاحبها آلة أو ما أشبه أو أشربة أو عقاقير، بما فيهم أبوه هو نفسه.

وفي كتاب وصف مصر بحث مفصل مصحوب بالرسم والمقاييس لكل ما استخدمه أهل البلاد في آخر القرن الثامن عشر من أدوات وآلات، ودرسها يدلنا على مقدار العلم التطبيقي الذي أقيم عليه المجتمع في الجانب المادي من حياته.

جانب ماديٌّ آخر نختاره من مصر، الحياة الطبية فيها لا تقوم إلا على أساس من العلم، عرف العرب هذا تمام المعرفة، نصح أحد الحكماء ولي الأمر في زمنه بقوله: «وعليك بحفظ أهل الكيميا العظمى وهم الفلاحون.» الذي يصف الفلاحين بأنهم أهل الكيمياء العظمى يدرك تمام الإدراك سر الفلاحة.

وعرف العرب أيضًا الأساس العلمي للحياة المصرية عندما نسبوا إلى أحد الحكماء الأقدمين أنه هو الذي أردم أراضي أكثر قرى مصر، وأسس الجسور المتوصل بها من قرية إلى قرية في زمن النيل، وسبب ذلك أن أكثر القرى بمصر كان أهلها إذا جاء النيل تركوها وصعدوا إلى الجبال المقابلة لها، فأقاموا بها إلى أن يذهب النيل خوفًا من الغرق، فيذهب بذلك مغل كثير، ولما علم الحكيم بذلك قاس أراضي أكثر القرى على أعلى ما يكون من النيل، وأردم ردومًا وبنى عليها القرى، وعمل بها بجسورة ما بين القرى، وفي أوساط الجسورة قناطر ينفذ الماء فيها من أرض قريبة إلى أخرى، فزرع كل واحد منهم الزرع في وقته من غير فوات، ووقف من كل ضيعة أرضًا معينة يصرف مغلها في كل سنة إلى إصلاح هذه الجسورة، وفي العهد العربي بقيت العناية بهذا، بهذا الأساس العلمي للحياة المصرية، ويذكر القفطي صاحب أخبار الحكماء أن أباه عهد إليه بديوان فدن الجسورة (كما كان يعرف) وكان له نواب وضمان ومشدون، وكان العمل فيها أتعب من جميع الأعمال، ويذكرون أن العالم المشهور «ابن الهيثم» أنه قال: لو كنت بمصر لعملت في نيلها عملًا يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقص، وقيل: إن الخليفة الحاكم استدعاه لينفذ ما وعد، وقيل: إنه عجز، وقيل: إنه تظاهر بالجنون ليتقي شر الحاكم، ولما أمن انصرف إلى عمله العلمي على النحو الرائع الذي أرَّخَه الأستاذ مصطفى نظيف.

هذا كله قليل عن البيئة المادية — أما البيئة المعنوية فشأن العلم فيها جد خطير — تكفي الإشارة إلى الأسس العلمية من منطقية ولغوية ونفسانية وفقهية لضبط عمليات الفكر والبيان والنقد، والروابط المدنية بين الأفراد والجماعات، والحقوق والواجبات، وأخيرًا وليس آخرًا التهجد والتعبد ومجاهدة النفس، فالنظرة العربية كانت محيطة نافذة، والعلم واحد متعدد الجوانب، قالوا: إن دعائمه ثلاث: المجسطى في علم هيئة الفلك وحركات النجوم لبطليموس القلوذي، وصناعة المنطق لأرسطاطاليس، وكتاب سيبويه البصرى في علم النحو العربي.

وننتقل لسؤالنا الثاني: هل استخدم العلم في تعليل وتفسير ووصف العالم أو الكون؟ كان من العرب من تحدث حديث المنجم في تأثيرات الكواكب وحركات الأفلاك، ومن تحدث حديث صاحب الطبيعة الناظر في آثارها، وما يتعلق بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وما الفاعل وما المنفعل منها، وكيفية تمازجها وتنافرها، ومن تحدث حديث المهندس الباحث عن مقادير الأنباء ولوازمها، ومن تحدث حديث المنطقي الباحث عن مراتب الأقوال ومناسب الأسماء والحروف والأفعال.

ومن هذه الأحاديث وما إليها كان الخوض في الشئون الكونية خوضًا لا يرجع إليه الآن لذاته، إنما يرجع إليه من يحب أن يعرف تعبير العلم عن الشخصية العربية في مختلف عصور التاريخ العربي، وهو تعبير إذا أضفنا إليه تعبير الفن وتعبير الأدب، كانت لدينا الصورة الكاملة بالقدر المستطاع.

يقابل هذه الصورة للحياة العلمية العربية صورة الحياة العلمية في أوربا، ثم جَدَّ مع هذه الحياة الأوربية فصل لم يَجِدَّ على حياتنا العلمية، ألا وهو النهضة العلمية التي تسيطر على عصرنا الحاضر، لِمَ لَمْ يَجِدَّ هذا الفصل على مجتمعنا؟

سؤال قد نستطيع الإجابة عنه إذا أكدنا من جديد الصلة الوثيقة التي تصل بين مجتمع وحياته العلمية، إن المجتمع إذا لم تجِدَّ عليه مشكلات تقتضي تجديد حياته، فإنه يبقى على ما هو عليه، ومجتمعنا لم يتسع الاتساع الذي اتسعه المجتمع الأوربي في العصور الحديثة، ومن ثم فلم تَجِدَّ عليه مشكلات، ولم تجِدَّ عليه أسئلة، فبقيَ على ما هو عليه حتى هذه الأيام، أيام الحضارة العلمية، وها هو ذا مجتمعنا يتحفز لإنشاء صلاته بها؛ ليستفيد ويفيد، يشارك في تقويم معوجها، وفي إشاعة خيرها بإذن الله.

الشعوبية القديمة والشعوبية الجديدة

خصوم العرب بالأمس وحاسدوهم على ما آتاهم الله من فضله عُرِفوا في الكتب القديمة باسم الشعوبية، وأعداؤهم اليوم وكارهو ارتقائهم لنا أن نُعَرِّفَهم هم أيضًا باسم الشعوبية، فلْنُمَيِّزْ في هذا الحديث إذن بين شعوبية قديمة وشعوبية جديدة.

والكلمة — في ذاتها — إن دلت على إيمان منتجاتها بحق الشعوب جميعًا في البقاء، وبأنْ لا فضلَ لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، إن دلت على الإيمان بهذا فلا غبار عليها، لكنها قديمًا … وحديثًا تعبر عن بغضاء وعن حقد، وترمي إلى الحط من قدر العرب، وإلى هدم البناء الذي أقاموه في ماضيهم، والبناء الذي يعملون في حاضرهم في تشييده.

وفي القديم ركز الشعوبيون القدماء مهاجمة العرب في تأكيد ما كانت الحياة في الجزيرة من شظف وخشونة، وفي جمع ما تفرق في دواوين الشعراء من المثالب والنقائض، ومن هذا كله رسموا الصورة التي شفت صدورهم وأطفأت نار حسدهم، من ذلك قول أحدهم، الجيهاني يسب العرب ويتناول أعراضها ويحط من قدرها: يأكلون اليرابيع والضباب والجرذان والحيات، ويتعاورون ويتساورون ويتهاجمون ويتفاحشون، وكأنهم قد سلخوا من فضائل البشر، ولبسوا أهب الخنازير، ويقول أيضًا: وليس للعرب كتاب أقليدس، ولا أنجسطس، ولا الموسيقى، ولا كتاب الفلاحة، ولا الطبيعة، ولا العلاج، ولا ما يجري في مصالح الأبدان، ويدخل في خواص الأنفس، ويقول أيضًا: ومما يدل على شرفنا وتقدمنا وعزنا وعلو مكاننا أن الله أفاض علينا النعم، ووسع لدينا القسم، وبوأنا الجنات والأرياف، ونعمنا وأترفنا، ولم يفعل هذا بالعرب؛ بل أشقاهم وعذبهم، وضيق عليهم، وحرمهم.

هذه أمثلة من تجني الشعوبية القديمة، ذكروا خشونة العيش في الجزية، وأغفلوا ما كان بأماكن كثيرة فيها من نعومة الحياة وترفها، وأثبتوا التساور والتهاجي والتفاحش، وحذفوا ما كان هناك من طيب الأعراق وصفاء الأحلام والمروءة، وزعموا أن العرب لم يكن لهم كتاب أقليدس وغيره مما عددوا، ونسوا أن استخدمه العرب، وما إليه في النظري والتطبيقي من العلم، فارتقوا بالعلم درجات فوق ما بلغ أصحاب أقليدس، وأغرب من هذا كله ادعاء الشعوبية أن ما أفاض الله عليهم من النعم يدل على شرفهم وتقدمهم وعزهم وعلو مكانهم، وهو لم يفعل هذا بالعرب، بل أشقاهم وعذبهم وضيق عليهم وحرمهم، يقولون هذا ويغفلون عما كان من نعمة الله على العرب بإخراجهم من ظلمات الشرك به إلى نور التوحيد، ثم أورثهم المشارق والمغارب، ولأحد البلغاء من الأقدمين وصف جامع لما حدث في جملة رائعة:

وقد رأيت حين هبت ريحهم (أي العرب) وأشرقت دولتهم بالدعوة، وانتشرت دعوتهم بالملة، وعزت ملتهم بالنبوة، وغلبت نبوتهم بالشريعة، ورسخت شريعتهم بالخلافة، ونضرت خلافتهم بالسياسة الدينية والدنيوية كيف تحولت محاسن الأمم إليهم، وكيف وقعت فضائل الأجيال عليهم؟

هذا وقد أخذ المنصفون من العرب على أهل تلك النحلة الشعوبية القديمة انصرافهم عن معرفة أخلاق الأمم بالبحث عن علل اختلاف إشارات أبنائها وشمائلهم وهيئاتهم، ولكنهم بدلًا من التزام جادَّة الإنصاف والتحري طاوعوا الهوى، فشَقُوا به، وطال نَصَبُهُم، وقل غُنْمُهم.

بيد أن الشعوبية الجديدة تدبر أمرها وتحبك دسها على وجه آخر، وهذه الشعوبية الجديدة وإن نبعت من منابع البغضاء القديمة، إلا أنها نوَّعَت أساليبها وخططها، وتجنبت الظهور متجمعة في فرقة واحدة، أو تحت راية واحدة، على أن الغاية واحدة وإن تعددت الوسائل، والشعوبية الجديدة عرب وأعاجم، والأعاجم منهم الشرقيون، الذين يناصبون العرب العداء منتسبون للفرنجة، ولنختر أمثلة توضح أساليبهم، وقد يقول قائل: وما الذي يدعو لسوء الظن بهم إلى هذا الحد، ولمَ لا تختلف النظرات إلى التاريخ، ولم لا تختلف التقديرات؟ والرد على ذلك أن النظر إذا صدر عن البغضاء انكشف أمره، وفقد ما يجب أن يكون للحكم العملي، من حصانة تضمن للعالم احترام اختلاف وجهة النظر، كما أن العالم أو الذي يَدَّعِي العلم إذا نطق بما أجمعت القرائن والأدلة على ضده مستجيبًا في نطق هذا لنزوات الأهواء والمصالح، ليس له أن يعترض على ضمه لشعوبية اليوم.

وليس يصح في الأفهام شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل

من أقوالهم: لا فضل للعرب ولا أصالة: ما هم إلا نقلة العلوم، ما هم إلا حملتها لمن أثبتوا فيما بعد أنهم أولى بها منهم، وفي هذا للعرب كل الفضل وكل الأصالة، فنقل العلم يفيد تحصيله ثم درسه ثم نشره، والعلم يتطور بانتقاله في المراحل، فأمر العلم إذن عند العرب جِدُّ مختلف عما يصوره «ما هم إلا نقلة العلوم» وإلى هذا ينبغي أن نفهم شيئًا آخر، أن المنابع التي نهل منها العرب كانت هندسية فارسية نبطية آرامية مصرية يونانية، وأن العرب خلقوا من هذه العناصر المتباينة مركبًا، وكانت أصالتهم الحقيقية في إجراء هذا التركيب، وبه كان انتفاع الإنسانية أتم وفخر العرب أعظم.

ويقول قائلهم أيضًا: ولنسلم بفضل العرب، ولكن أكانوا عربًا حقًّا؟ حقيقةً كتبوا تصانيفهم بالعربية، ولكن كانت الأصول غير عربية، بل كان فضلهم على علوم اللسان العربي، وعلى الآداب العربية ظاهرًا، وهذا صحيح، ولكني أعتبره مفخرة العرب؛ لأنهم نجحوا في أن يلحقوا بأنفسهم الشعوب التي تكَوَّن منها في النهاية مجتمعهم، ونجحوا في أن يلحقوهم بمجتمعهم العربي مبتكرين، خالقين، مبدعين، والابتكار والخلق والإبداع لم تكن أبدًا صفات الأذلاء؛ والذين اندمجوا من الأعاجم في هذا المجتمع العربي الجديد بدءوا بهذا الاندماج عهدًا جديدًا، أساسه تراثهم القومي متفاعلًا مع تراث غيرهم من شعوب الأمة العربية.

هذا وجه الحق في معنى العربي والمستعرب والأعجمي، وكان علينا أن نثبته، وقد استخدمه شعوبيو اليوم في بناء حركاتهم الطائفية الإقليمية التي أحبوا أن يخفوها تحت طلاء الوطنية، والدعوة الوطنية التي يستخدمها شعوبيو اليوم حق يراد به باطل، حق؛ لأن الاعتزاز بالوطن خير يثمر كل خير، ويراد به الباطل؛ لأن المنادين به يدعون إلى التفرقة، إلى التفتيت، التشتيت، وقد عرف العرب الأقدمون ما للخصائص الإقليمية من قيمة في تبادل المنافع والفوائد الثقافية والفكرية، فلم ينكروا الإقليمية الخاصة، ولكنهم عرفوا كيف ينشئون الصلات التي جعلت من خصائص الأقاليم مصدر قوة وغنى وتكامل؟ أما أن يقوم بين ظهرانَيْنَا من يزعم أن أربعة عشر قرنًا مرت منذ الفتح العربي على أقاليم الدولة العربية دون أن تؤثر في أبنائها، فسخف القول ظاهر، وأما أن يدعو إلى نقض ما كان، فدعوة لها ما وراءها من حقد وتعصب وبغضاء، وقد تلتقي في صورة الهدم هذه معاول داخلية وأخرى خارجية.

ولْنَدَعِ الكلام عن الهدم فهو كريه، ولنتركه لحديث البناء؛ لنقرر أن تاريخ المجتمع العربي في المغرب، في مصر، في سوريا، في العراق، في فلسطين، في أي قطر من أقطار الدولة العربية، ما هو إلا فصل جديد من فصول تواريخ تلك الأقطار، وأن تاريخها في عهدها العربي لا يُفْهَم دون الرجوع إلى ما سبقه.

وإن تاريخ المجتمع العربي لا يمكن فهمه دون فهم نصيب كل من عناصر هذا المجتمع وطوائفه في بنائه، فالارتباط بينهم — بين الوطنيين والمستوطنين المستعربين والعرب — وثيق، ففي مصر مثلًا، كان لأبنائها الأصليين سواء منهم من احتفظ بدينه أو من تحول للإسلام، فضل تعليم الوافدين من العرب كيف يعيشون خير عيشة تلائم الظروف الجديدة؟ من حيث أساليب الزراعة وطرائقها، ونظام حيازة الأرض ومسحها وريها، وما يستتبع هذا كله من نظم مالية وإدارية، ومن حيث الصناعات القائمة، مع استخدام المواد الأولية التي بين أيديهم على أحسن ما يتفق وأحوال البلاد الطبيعية، هذا إلى جانب وضع الأنماط والرسوم التي ترضي الأذواق المتوازنة، نجد ما يماثل هذا إذا ما انتقلنا إلى الأثر الفعلي والفني والروحي في الأدب الشعبي العربي، وفي حياة النسك والزهد.

وجملة القول أنَّ المجتمع العربي التقت فيه العناصر الوافدة والأصلية وتفاعلت وأثمرت، وأن هذا المجتمع مجتمع الجميع، وأن التاريخ العربي ملتقى التواريخ، والشعوبية الجديدة لن تنال منه أكثر مما نالت الشعوبية القديمة، ولن يكون حظ الجديدة إلا حظ القديمة، فلا يعدو أن يكون أثرًا من الآثار الأدبية.

المدينة العربية: حكومتها في الماضي والحاضر

منذ مائة عام، أو تزيد تغيرت أوضاع الحكم والإدارة في المدينة العربية تغيُّرًا كبيرًا، فانتقل الإشراف على شئون المدن إلى مجالس أو هيئات بلدية، يشترك فيها ممثلون لأبناء البلد مع موظفين تُعَيِّنهم الحكومة، ويحال على المجالس النظر في مرافق المدينة ومصالحها، ويوضع تحت تصرفها المال اللازم لمراعاة تلك المصالح.

هذا ما تتفق فيه المدن العربية الآن، إلا أن بينها اختلافات؛ اختلافات في تكوين المجالس، وفي القدر الذي أتيح لها من التصرف، وفي طبيعة المرافق المحالة عليها، وغير ذلك، وعلى هذا فبين الأنظمة والأوضاع البلدية أو الحضرية العربية من الفروق ما يبرر سعي المدن المختلفة؛ ليفيد بعضها من البعض الآخر، بإيفاد البعثات واستقبالها، وعقد المؤتمرات من الفنيين والمهتمين بالشئون الحضرية، من نواحي العمارة والاجتماعيات والثقافيات وما إليها، وقد يكون من المفيد ومن الممتع فيما نحن بصدده أن أحاول إطلاع المستمعين على كيفية مباشرة السلف لتلك الشئون في المدن العربية، أو بعبارة أخرى: على أحكام المدن العربية.

والغاية من هذه الأحكام: حفظ الدين وسياسة الدنيا، فيتعين على صاحب السلطان أن ينشئ الوظائف اللازمة لبلوغ هذه الغاية، أو المؤدية — كما نقول في اصطلاح عصرنا الحاضر — للخدمات المختلفة الضرورية والكمالية لحياة المجتمع المدني، وهذه الوظائف كانوا في الماضي يعبرون عنها بالخطط، وسأقتصر في الحديث على الخطط المتعلقة بالقضاء والمظالم، الحسبة، محاولين إظهار ما بينها من فروق، ومختتمين الحديث ببيان وجوه القوة والضعف في النظام في جملته.

هذا، ومما هو جدير بالملاحظة أن «الحسبة» بالذات نالت من انتباه الناظرين في التاريخ العربي حظًّا كبيرًا، كما لو كانت أهم الخطط، أو أن متوليها — المحتسب — أهم من في المدينة، وأدى هذا إلى اهتمام المشتغلين بذلك التاريخ بالبحث عن الكتب التي وضعت في مختلف العصور؛ لتمكين المحتسبين من حسن القيام بما ندبوا من أجله.

(ومن هذه ما نشره الدكتور العريني، من أساتذة كلية الآداب بجامعة القاهرة، باسم «نهاية الرتبة في طلب الحسبة».)

ولا جدال في أن كتب الحسبة هذه تستحق كل عناية؛ وفي كونها من خير ما يصور لنا الحياة اليومية — إن صح التعبير — في المدن العربية، إلا أنها تقل أهمية في نظر الراغب في فهم الأوضاع والأحكام في تلك المدن عن المراجع الفقهية؛ فَلِمَ اجتذب إذن المحتسب — لا القاضي — نظر الجمهور؟ بالضبط لأن عمل المحتسب كان مع الجمهور، وعلى مرأى ومسمع من الجمهور، فالحسبة هي أمرٌ بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهيٌ عن المنكر إذا ظهر فعله، وينبغي على كل إنسان أن يتطوع لهذا ولذاك كلما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ولكنَّ بين المتطوع والمحتسب فرقًا؛ فالأمر بالمعروف متعين على المحتسب بحكم ولايته الحسبة، لا يجوز له أن يتشاغل عنه، وعليه أن يجيب من استعداه.

وليس ذلك على المتطوع، وله أن يبحث وأن يفحص وأن يتخذ أعوانًا وأن يرتزق على حسبته، وأن يعزر في المنكرات الظاهرة، وله أن يجتهد برأيه فيما تعلق بالعرف دون الشرع.

وقد شرح الماوردي في الأحكام السلطانية أن الدعاوى التي ترفع إلى المحتسب تتعلق ببخس وتطفيف في كيل أو وزن، أو بِغِشٍّ وتدليس في مبيع أو ثمن، أو بمطل الدين لمستحقه مع المُكْنة.

وبالجملة فمهمته إلزام الحقوق والمعونة على استيفائها، قيل: والأمر بالمعروف في حقوق الآدميين ضربان: عامٌّ وخاصٌّ؛ فأما العام فكالبلد إذا تعطل شربه أو انهدم سوره أو كأن يطرقه بنو السبيل من ذي الحاجات، ومهمته — المحتسب — في هذه وغيرها أن يحمل الناس على المصالح العامة في المدينة؛ مثل المنع، ومن المضايقة في الطرقات، ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها، وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة.

وأما الخاص، فالحقوق إذا مطلت، والنهي عن المنكر يتناول المحظورات والمعاملات المنكرة، ومما يؤخذ ولاة الحسبة بمراعاته من أهل الصنائع في الأسواق ثلاثة أصناف؛ منهم من يراعي عمله في الوفور والتقصير، ومنهم من يراعي حاله في الأمانة والخيانة، ومنهم من يراعي الجودة والرداءة، فأما من يراعي عمله في الوفور والتقصير فكالطبيب والمعلم؛ لأن للطبيب إقدامًا على النفوس يقضي التقصير فيه إلى تلف أو سقم.

وللمعلمين من الطرائق التي ينشأ الصغار عليها ما يكون نقلهم عنها بعد الكبر عسيرًا، فيقر منهم من توفر علمه وحسنت طريقته، ويمنع من قصر وأساء من التصدي لما تفسد به النفوس، وتخبث به الآداب.

وأما من يراعي حاله في الأمانة والخيانة فمثل الصياغة والحياكة والقصابين والصباغين؛ لأنهم ربما هربوا بأموال الناس، فيراعي أهل الثقة والأمانة منهم فيقربهم، ويُبْعِد من ظهرت خيانته ويشهر أمره؛ لئلا يغتر به من لا يعرفه.

وأما من يراعي عمله في الجودة والرداءة، فلولاة الحسبة أن ينكروا عليهم في العموم فساد العمل ورداءته، وإن لم يَسْتَعْدِهِم أحد من الناس في ذلك، كما أن لهم هذا الإنكار في عمل مخصوص اعتاد الصانع فيه الفساد والتدليس، فإذا استعداه رجل وتعلق بدعواه عزم، وافتقر العزم إلى تقدير أو تقويم لم يكن للمحتسب أن ينظر فيه لافتقاره إلى اجتهاد حكمه، وكان القاضي بالنظر فيه أحق، أما إذا لم يفتقر العزم إلى تقدير أو تقويم واستحق فيه المثل الذي لا اجتهاد فيه ولا تنازع، فللمحتسب أن ينظر فيه بإلزام الغرم، ولتأديب الصانع على فعله؛ لأنه أخذ بالتناصف وزجر عن التعدي.

هذا وقد عبروا عن الفرق بين الحسبة والقضاء أجمل تعبير، قالوا: إن للناظر في الحسبة من سلاطة السلطة فيما يتعلق بالمنكرات ما ليس للقضاء؛ لأن الحسبة موضوعة للرهبنة، والقضاء موضوع للمناصفة، فهو بالوقار أحق، وعلى هذا فبين الحسبة والنظر في المظالم شبه من حيث إن موضوعهما مستقر على الرهبنة المختصة بسلاطة السلطة وقوة الصرامة، ومن حيث جواز التعرض فيهما لأسباب المصالح والتطلع إلى انكسار العدوان الظاهر، والفرق بينهما أن النظر في المظالم موضوع لما عجز عنه القضاء، والنظر في الحسبة موضوع لما رفه عنه القضاة.

والقاضي — لا المحتسب — ينظر في الحقوق التي يتداخلها التجاهد والتناكر؛ لأن الحاكم في هذه يقف على سماع بين وإحلاف يمين، ولا يجوز للمحتسب أن يسمع بينة على إثبات الحق، ولا أن يحلف يمينًا على نفي الحق.

وقد استقر الأمر في المدن العربية على أن يجمع القاضي على الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين؛ مثل النظر في أموال المحجور عليهم من المجانين واليتامى والمفلسين وأهل السفه، وفي وصايا المسلمين وأوقاتهم، وتزويج الأيامى عند الأولياء على رأي من رآه، والنظر في مصالح الطرقات والأبنية، وتصفح الشهود والأمناء والنواب، واستيفاء العلم والخبرة فيهم بالعدالة والحق؛ ليحصل له الوثوق بهم، وصارت هذه كلها من تعلقات وظيفته ونوابغ ولايته.

وأما النظر في المظالم فكانت وظيفته ممتزجة من سطوة السلطنة ونصفة القضاء، وتحتاج إلى علو يد وعظيم رهبة، ومن الخلفاء من باشرها بنفسه، ومنهم من أضافها للقضاء، كما أن منهم من جعلها لصاحب الشرطة، ثم جعلت فيما بعد في يد من عرف بالوالي، وهي في خلال هذه الأطوار فيها توسع عن أحكام القضاء، وأصبح فيها للتهمة في الحكمة مجالٌ، وأصبحت تفوق العقوبات الزاجرة قبل ثبوت الجرائم، ويحكم فيها — كما قالوا — بموجب السياسة دون مراجعة الأحكام الشرعية.

وبعد؛ فهذا وصف موجز لحكومة المدينة العربية في ماضيها الطويل، فما هي كلمة الحق في أمرها … لا جدال في أنها حققت الخير للناس، وبدأت المدينة العربية مكانًا عظيمًا وذكرًا حسنًا، ولا جدال في أن قضاتها أقاموا بأحكامهم صرحًا للعدالة جليل الشأن، وأنهم عرفوا كيف يصونون الحقوق، ويَتَوَخَّوْنَ المصالح العامة.

ولا جدال في أن محتسبيها صحوا المستهلك، أي مجموع الناس، وضربوا على أيدي المطففين والغشاشين والمدلسين والخائنين، ولا جدال في أن الناظرين في المظالم حفظوا الأمن وصانوه، لا جدال في هذا كله، ولكن للصورة جانب آخر، كما يقولون، فهذا المحتسب قد يجاوز حدود المصلحة، وقد ينتهي به الأمر إلى إرهاق الناس باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولنا أن نسأل: أكان من المستطاع دائمًا أن يكون للمدينة محتسب يعرف من أسرار الطب وطرائق المعلمين والصناع ما يُمَكِّنه من أداء عمله على الوجه المعقول؟

وهذا الناظر في المظالم لا نستطيع إلا أن نقول عنه: إنه صان الأمن بالإرهاب، لا بإنفاذ القانون، وربما جاز لنا أن نقول: إن الناظرين في المظالم على تنوع أسمائهم هؤلاء أساءوا إلى الحياة الإسلامية كما عرفها التاريخ أكبر إساءة، وكانوا أسوأ من هدر الحقوق وهدم القانون وضيع الكرامات الإنسانية.

والمدينة العربية لم تملك أداة واحدة وهيئة واحدة للإشراف على مصالحها ومرافقها، كما تملك الآن في مجالسها البلدية، كما أنها لم تملك طرائق منتظمة للرقابة على أصحاب الوظائف فيها، أو للانتصاف من جورهم وتعسفهم، وجملة القول أنَّ حكومة المدينة العربية افترضت ثبات الظروف المادية والمعنوية، افترضت عدم النمو وعدم التغيير، فإذا ما عرض لها عارض من قحط أو وباء أو تغلب عدو انهارت انهيارًا تامًّا، على أن تاريخها ترك لنا في الوقت نفسه فصولًا مجيدة من السعي للخير وفعله، من حفظ الدين وسياسة الدنيا، ومِنْ قَدْرٍ لا يستهان به من التوفيق بين سعادة الفرد ومصلحة الجماعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤