مقدمة

شاءت المقادير أن أحقق هذا العام أمنية طالما جالت بخاطري فحسبتها خيالًا: هي أن أقوم بجولة حول الكرة الأرضية عابرًا المحيطات الثلاثة الكبرى: الهندي والهادي والأطلنطي، متجولًا فيما أحاط بالمحيط الأعظم من قارات وجزائر، ما خلا شواطئ آسيا التي طفنا بها في عام فائت. ولقد تبيَّن لي بعدما حَللتُها أنَّا لا نعرف عن حقيقة الحياة فيها إلا القليل لبُعد الشُّقَّة بيننا وبينها.

جُبتُ كثيرًا من بقاع أستراليا وزيلندة وجزائر المحيط الهادي وأمريكا الشمالية، فألفيت الحياة فيها متقاربة متشابهة، وتغاير كل المغايرة ما رأيته في بلاد أوروبا وآسيا وأفريقية. وهي في جملتها تتخذ الولايات المتحدة مثلًا لها تحتذيه وتقفو على آثاره، فسنة التطور فيها تسير بخُطًى جبارة، حتى فاق العمران هناك سائر البلاد، واستحقت تلك الجهات أن تسمَّى بالدنيا الجديدة.

ويظهر بحق أن المحيط الهادي سيكون محط الأنظار ومستمد القوى — مادية ومعنوية — في الجيل المقبل؛ فبلاده كلها فتية لمَّا تجهد مرافقها أو تخور مناشطها، ولقد نجحت في جملتها من سيئات القديم وتقاليده التي ظلت ولا تزال عثرات في سبيل كثير من وجوه الإصلاح في بلاد الدنيا القديمة؛ لذلك كان يهولني هناك مدى نشاط القوم في الإنشاء والتجديد ولمَّا يزد عمر تلك البلاد على قرن وبعض قرن.

على أنها لم تسلم من سيئات المادة والمغالاة في التربية الاستقلالية والحرية المطلقة التي لا تكاد تتقيد بقانون، ولا يكبح جماحها عرف أو تقليد؛ فالفتاة تستبيح السير وفق أهوائها، ويعلم الآباء فيها ذلك وهم به قانعون وله مُنشِّطون، والأبناء لا يتورعون أن يأتوا ما راقهم دون اعتداد بأب أو رعاية لأم، والخادم يمزح مع سيده ويلهو في حضرته كأنه له ند أو به زعيم.

ولقد شجع هذا العمران هجر المنازل، والميل إلى حياة الأندية والمقاصف والفنادق، فلا تكاد تلمس للبيوت حرمة ولا تقديرًا، فهي أبدًا خاوية من ساكنيها الذين يجرون وراء عمل مادي، أو نزهة خلوية، أو ملهى يأوون إليه سحابة يومهم وساعات ليلهم، وحتى الإنسان الفطري نزيل جزائر المحيط الهادي قد جرفه ذاك التيار فحاكاهم في كل شيء.

ولست أدري ماذا عسى أن تبلغ الحال بأولئك في قرن آخر من الزمان، وقد بلغوا في القرن الفائت ما لم تبلغه أمم قبلهم في عدة أجيال.

وأني لأجدني حائرًا: أنسمي ذاك عمرانًا وتقدمًا — وهو لا شك نشاط إنتاجي يبهر العقول — أم تدهورًا وانحطاطًا نال من أخلاقنا الشيء الكثير.

وفي ظني أن مصرنا الفتية التي أضحت اليوم في فجر عهد جديد تستطيع أن تتخذ من تلك البلاد الجديدة أسوة حسنة في نشاطها المادي والعلمي، وأن تحتفظ بما ورثت من أخلاق، وتقيم في سبيل الانحلال سدودًا نتقي بها شر تلك الإباحة المقيتة.

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
محمد ثابت
أول رمضان ١٣٥٥
١٥ نوفمبر ١٩٣٦
figure
لبثنا في طوافنا حول الأرض عشرة أيام ومائة يوم، قطعنا خلالها فوق أربعين ألف كيلو متر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤