بداية الرحلة

طالما تاقت نفسي إلى طواف كامل حول الأرض، وكنت كلما فكرت في ذلك بدا الأمر متعذرًا، وانتقلت به إلى عالم الخيال والأماني، وكيف يستطيع ضعيف مثلي القيام بذلك وقد أعوزني الوقت والمال؟ قاربت عطلة الصيف ولم أصمم على شيء ولما يبق لي من القارات الخمس سوى أصغرها: أستراليا، وهل تستحق تلك الجزيرة التي ليس لها كبير شأن زيارة تكلفني كثيرًا من المال والمشاق؟ ولكني أعود فأقول: إن لي في جارتها زيلندة الجديدة وما حوت من آيات الطبيعة هي وما حولها من جزائر ما يبرر زيارة إلى أقصى الأرض مهما حف ذلك من نصب ومشقة.

طفقت أتردد على دور السياحة أتخير من السفن أكثرها ملاءمة لي في الوقت والمال، وقد أوشكت شراء تذكرة إلى أستراليا بأربعين جنيهًا في الدرجة الثانية المخفضة Tourist ، وإذا بي أتحدث إلى الرجل في الطواف حول العالم، وما أصبو إليه من جولة تعيد إلى ذاكرتي نبأ ماجلان وما قاسى، فقال الرجل: ولم لا تقوم بمثل ذلك وأنت إن فعلت تستطيعه في أربعة شهور، وبقيمة زهيدة عن طريق شركة P. & O. Peninsular & Oriental؟! فقلت: وكم أدفع لذلك؟ قال: مائة وخمسة وعشرين جنيهًا. فلم أتردد لحظة، ودفعت المبلغ وأنا أطيب ما أكون خاطرًا وأكثر بهجة.
وكان حظي في السفر على الباخرة مالويا Maloya من كبريات بواخر شركة P. & O.، وحمولتها ٢١ ألف طن، وبها من وسائل الراحة وحسن المعاملة وجودة الطعام ووفرته ما لم أجده من قبل في جميع أسفاري على كثرتها. وقد لاحظت أن جل خدامها من الهنود؛ وذلك لرخص أجورهم. والباخرة معدة لعدد من المسافرين يربو على الألفين، وقد كانا بها زهاء أربعمائة.

وقد لفت نظري علم الشركة الذي قسم إلى أربعة مثلثات الأبيض والأزرق، وهو برتغالي، والأصفر والأحمر، وهو إسباني، مع أن الشركة إنجليزية، لكني علمت أن الشركة قديمة جدًّا، ولقد ساعد أصحابها سنة ١٨٣٢ ملكة البرتغال ضد بعض الثوار، وكذلك ساعدت الشركة الملكة إيزابلا في ثورة إسبانية، فشجعت هاتان الدولتان الشركة، وفي مقابل ذلك احتفظت بالعلمين البرتغالي والإسباني شعارًا لها. ولقد اتخذت الشركة لها قاعدة تجارية هامة في عدن منذ ١٨٤١ قبل فتح قناة السويس، حتى قيل: إنها كانت فاتحة التجارة في تلك الجهات.

كان نصيبي من الباخرة في مجاورة شاب روسي مهذب، وسيم الطلعة، يشتغل بالتدريس في مدارس الهند، فما كاد يعلم بأني مصري حتي بدرني قائلًا: لماذا تعاملوننا بتلك القسوة في بلادكم؟ قلت: وأية قسوة تعني؟ قال: منذ حلت الباخرة بورسعيد والبوليس يحوطني، وقد نزل الركاب جميعًا للتريض في المدينة إلا إياي، وقد دهشت لما خبرني زميلي في الكابين بأنه عند عودته متأخرًا في المساء من المدينة رأى الجندي المصري جالسًا أمام باب الكابين وبيده البندقية ليراقبني، لكنه كان يغط في نومه ولم يشعر بوجودي؛ فلماذا تعاملون الروس هكذا وقد اعترف بنا وبحكومتنا كل العالم حتى من كانوا ألد خصومنا؟!

ولقد علمت بأنه النظام السوفييتي سائر في سبيل التوطيد والاستقرار، وأن شبح البلشفية بمعناها الذي نعرفه غير موجود في بلادهم، وأن حالة العامة في بلادهم ليست بالبؤس والانحطاط الذي نسمع عنه، فلقد تقدمت حالهم عما كانت عليه قبل الحرب — وإن كانوا أقل من فلاحي أوروبا — والدولة تُعنى بشئون الفلاح والفقير، وهي التي تدير كل المصانع والمزارع والأعمال الرئيسية، فكأن الأمة كلها مجموعة من موظفين ومأجورين تحت إشرافها، ولا يمتلك أحد عقارًا ولا شيئًا من الآلات قط، بل تلك كلها ملك للأمة، وفي يد الدولة، لكن الناس أحرار في أن يوفروا من دخلهم ما شاءوا، على أنهم كلما جنبوا مالًا وفيرًا زادت ضرائب الدخل جدًّا، حتى كادت تسوي بين دخل الغني والفقير إلا في فوارق معقولة.

قامت الباخرة تشق قناة السويس في بطء شديد خشية أن تحدث تيارات جانبية تقربها من القاع، أو تحدث ضررًا بجوانب القناة. ولقد حدثتني سيدة سويسرية كانت ذاهبة إلى الهند عن منظر القناة وبورسعيد بأنه منفر ليس به ما يجتذب الأنظار، ولا ما يحقق شيئًا عما قرأت عن مصر وخصبها وجمالها، وحتى بورسعيد بلدة بدت في نظرها قذرة غير ذات جمال، ولقد كان شعورها خيبة أمل عن مصر، فقلت بأن تلك المنطقة بعيدة عن وادي النيل الخصيب، فهي قطعة من الصحراء، والبلاد التي فوقها أسست لأغراض الإشراف على القناة ووسائل الملاحة فيها، فهي حقًّا لا تمثل بلاد مصر.

fig3
شكل ١: وسط ميدان رئيسي في بمباي.

جزنا السويس بعد منتصف الليل، وكان قيامنا من بورسعيد العاشرة صباحًا، وقد مرت بنا زهاء عشر بواخر، وهو متوسط ما يمر في كل يوم طيلة العام، ودخلنا خليج السويس الذي يبلغ طوله ١٧٠ ميلًا، وعرضه بين ١٠–٢٥، وكنا نرى على جانبيه صخورًا مشرفة متناثرة عريت عن كل نبت، وبدت إلى يسارنا عيون موسى بنخيلها الوفير، وهنا الموقع الذي احتفل فيه موسى وبنو إسرائيل بنجاتهم من فرعون وآله يوم عبر البحر سالمًا وغرق أعداؤه، وبعد ساعات بدت جبال سيناء المقدسة الشاهقة، وأعلاها جبل أم شومر ٨٠٠٠ قدم، وجبل كترينا بذروتيه: حورب ٨٦٣٠، وموسى ٧٤٥٠، وهنا كلم الله تعالى موسى تكليمًا، ثم جبل سربال ٦٧٥٠.

وقد رأينا سلسلة كترينا فاترة على بعد، لكن ذروة موسى لم تكن ظاهرة رغم تكاثر الأعين والمناظير عليها من جانب الباخرة وجماهيرها الغفيرة. مكان أثار من الذكريات أقدسها؛ فلقد نشأت في تلك الناحية ديانات ثلاث كبرى: الموسوية والمسيحية والمحمدية، رغم ما هي عليه من جدب منفر، وتربة ماحلة. وفي أحد أخاديد جبل كترينا دير للنصارى أسسه جستنيان سنة ٥٢٧ ولمَّا يزل قائمًا، وفي مكتبة الدير وُجدت أقدم نسخة من التوراة منذ خمسين عامًا.

fig4
شكل ٢: غابات شجر جارا في غرب أستراليا.
انتهى الخليج ودخلنا متسعات البحر الأحمر نفسه الذي قد يبلغ عرضه عند أقصى حدوده ١٩٠ ميلًا، وهنا تفتحت أبواب الجحيم فلفظت من هجيرها طيلة الأيام الأربعة التي لبثناها فيه، ما جعل الجميع ناقمًا على هذا البحر؛ فكان الكل حيارى ماذا هم صانعون في هذا الجو الممض الخانق. لم يهنأ لنا نوم ولا جلوس لا صباحًا ولا مساءً، ولم تكن تنعشني قليلًا إلا ذكرى الأرض المقدسة: إلى يسارنا الحجاز مثوى الرسول ، وإلى يميننا الوطن العزيز المقدس مصر والسودان، ولم يفز بهذا الشعور وتلك الغبطة من جماهير المسافرين سواي. ويا لفرح القوم ساعة أن كانوا يلمحون باخرة قادمة على بعد منا، أو حيوان الدرفيل Dolphin الذي كثرت جموعه عند نهاية البحر!

ولم نلمح من شواطئه إلا عاتي الصخر ومجدبه؛ إذ لا يكاد يصيبه من المطر شيء، ولا يصب فيه من الأنهار جدول واحد؛ لذلك كانت نسبة الأملاح في مائه أكثر منها في البحار الأخرى، وتحف بشواطئه سلاسل معقدة ذات شعاب عدة من صخور المرجان رغم عمق البحر العظيم، وكانت تعكر مياهه الهادئة طفيليات محمرة غبراء من عشب الماء هي التي أكسبته اسمه؛ بحر حوى مجموعة من الذكريات الخالدة، والظاهرات العجيبة، رغم طبيعته التي لا تستهوي من الناس أحدًا.

عدن

أخيرًا انتهى بنا الأمر إلى مياه عدن في السابعة من صبيحة الأحد ١٤ يونيو، فظهرت رباها المجدبة المنفرة منثورة في غير حصر، ووفد من أهلها مختلفي السحن والأزياء والجنسيات جمع كبير؛ هنود وصومال وعرب وأوروبيون وإنجليز إلخ.

حللنا أرض عدن وأقلتنا سيارة كبيرة ساعتين كاملتين مقابل أجر نصف جنيه لكل واحد منا، وطافت بنا شبه الجزيرة كلها، وأوغلت قليلًا في لحج قرب حدود اليمن. ومنظر عدن من البحر منفر منثور الربى، يوغل البحر فيها بألسن لا تحصى، وكانت قطع الأسطول البريطاني تنثرها جميعًا. وقد أضحت عدن من أكبر محاط الدنيا لتموين البواخر بزيت البترول، وكانت تصف أمامنا خزاناته في فناطيس هائلة، وفي أعداد لا حصر لها، وجلُّها لشركة البترول الإنجليزية الإيرانية، وغالب السفن اليوم تعتمد على البترول بدل الفحم في سيرها.

وفي متسعات البادية من وراء الصخور العاتية ميادين للطيران الحربي، ومعسكرات، ومحطات للبرق اللاسلكي، كل ذلك يشعر بمكانة عدن الحربية، وأنها من مفاتيح البحار المنيعة، تملَّكها الروم في القرن الأول الميلادي، ثم احتلها الترك سنة ١٥٣٨، وتنازعها البرتغال أيامًا ثم خضعت لحكام صغار، واضمحلت حتى بلغ سكانها سنة ١٨٣٩ «٦٠٠» نفس، ولقد قاسى أسطول الإنجليز التجاري من القرصنة التي كانت عدن مقرها، ففاوض الإنجليز القوم أن يبيعوهم البلدة، ووافق سلطان لحج على تركها مقابل ٨٧٠٠ ريال تدفع سنويًّا، لكنه نقض عهده، وسلب سفينة إنجليزية في سنة ١٨٣٩، فأخذها الإنجليز عنوة.

سارت بنا السيارة تشق الميناء في طرق رصفت رصفًا بديعًا إلى جانب البحر، ومن شرقها تقوم الربى، وأعلاها جبل «شوم شوم أو شام شان»، وعلوه ١٧٢٥ قدم، واسمه مقتبس من الشمس، وعليه تقوم أبراج السكون لطائفة الپارسي عبدة النار، ومنهم هناك عدد كبير، وقد قامت جل حوانيت التجارة والمصارف أسفلها، ثم مررنا بمحلة وطنية على البحر تسمى المعلة شهر أهلها منذ القدم ببناء السفن dhow التي غالبت البحار زمنًا، وكان الكثير منها يرسو هناك.
وبعد ليات عدة علونا إلى فوهة البركان الخامد التي تتوسطها مدينة عدن القديمة، ولم يكن الوصول إليها ممكنًا إلا بعد تسلق جوانب البركان، لكن الإنجليز شقوا أخدودًا لا يكاد يتسع إلا لعربة واحدة وصلها بالمتسعات السفلى عند الميناء، ويسمونه Main-pass، وفوقه مغارة كان يتعبد فيها هارون، وقيل: هابيل.
fig5
شكل ٣: غابات شجر الكاري.
والبلدة تقوم في مدرجاته، وجل أهلها من الهنود والعرب والصومال، ويناهز عددهم ٥٦ ألفًا، واللهجة السائدة العربية المحرفة، ولعل أعجب المناظر التي تسترعي النظر مشهد العربات على اختلاف أنواعها تجرها الجمال، بعضها في شكل براميل كبيرة لنقل الماء، والبعض في صناديق لحمل المتاع. أخيرًا صعدنا الجانب الأعلى من تلك الفوهة، فبدت أحواض المياه القديمة Tanks في ليات بعضها دون بعض، وقد رصفت بالآجر والحجارة، وقيل: إن الذي بناها الفرس سنة ٦٠٠، ويقال: إنها أقدم من ذلك بكثير.

وتتسع لحمل ٢٠ مليون جالون من ماء المطر، على أن المطر اليوم لا يكاد يسقط إلا مرة كل ثماني سنوات، ويظهر أنه كان كثير التهطال في الزمان الغابر، وكانت تلك المياه المدخرة تسقي البلاد جميعًا، وعند سقوط الماء يباع بالمزاد جملة، ويوزعه المتعهدون بالقرب والصفائح والعربات، وكلما مُلئ الخزان مرة أغرق نفرًا من الناس، وذلك فأل حسن في زعمهم.

نزلنا ذلك الجبل وسرنا صوب بلاد العرب، فمررنا بمتسعات من مناقع يجفف فيها ماء البحر لترسيب الملح، وكانت تنتثر بأكوام الملح الأبيض، وبطواحين الهواء التي تدار لنزح ما فاض من المياه، وجل ذلك الملح يصدر إلى بلاد الهند، وبعد زهاء ثلاثين ميلًا أقبلنا على بلدة الشيخ عثمان، وفيها آبار أرتوازية ركبت عليها الآلات، ومدت الأنابيب الغليظة لنقل الماء إلى جميع أرجاء عدن، فهي مصدر الماء الهام في تلك البلاد، وهناك زرعت متسعات من بساتين يانعة هي الظاهرة الوحيدة للخصب في تلك البلاد الصحراوية، وإلى جانبها بدت مباني لحج التي تدخل تحت الحماية البريطانية، وسلطانها صديق للإنجليز حميم.

ومجموع سكان الحماية كلها ٨٠٠ ألف، وتحكمها وزارة المستعمرات إلا بلدة عدن، فهي تحت حاكم الهند؛ لذلك كانت النقود المتداولة الروبية والأنا.

هنا توالت الذكريات خصوصًا عندما حدثنا الرجل أن في هذا المكان بقرب المعلة تدفن رفات قابيل قاتل هابيل، وهنا في متسعات تلك الأراضي كانت تفد ملكة سبأ لتلهو وتلعب في الشتاء، ولقد أبحرت من مياه عدن يوم قامت للقاء سيدنا سليمان عند خليج السويس.

وأظرف شيء في عدن أن الناس لا يلقون عنتًا من رجال الجمارك ولا تفتيشًا كما يحدث في سائر الثغور، فينغص على المسافر عيشه؛ فهي ميناء حرة فيما عدا الأسلحة والكحول والأعطار.

fig6
شكل ٤: تشق سكة الحديد صحراء أستراليا دون انحناء مسافة ٣٠٠ ميل.

قامت الباخرة تبرح عدن بعد أن رست في مياهها ثلاث ساعات، وما كدنا نبرح الميناء وتغيب عنا رُباه حتى تبين لنا أن الباخرة تركت اثنين من المسافرين؛ أحدهما هندي يقصد بمباي، وهو شاب قصير القامة، أسود اللون، مرح، ميال إلى اللهو واللعب، وهو طالب في جامعات إنجلترا، والآخر ألماني طويل القامة، غير جذاب السحنة، نزلا يجوبان بعض أرجاء البلدة؛ فتجاوزا الميعاد المضروب لقيام الباخرة، فلم تعبأ لهما. والعجيب أنهما مفلسان؛ فلقد جاءني الأسود بالأمس يقول بأن صاحبه الألماني قد سقطت حقيبة نقوده وهو يتريض في بورسعيد، وأصبح لا يمتلك مليمًا وهو ذاهب إلى أستراليا معي؛ فهل لي أن أقرضه جنيهات، حتى إذا ما وصل أستراليا ردها إلي؟ فقلت: ولم لا تقرضه أنت؟ قال بأني أفلس منه.

فترددت وقلت: لا إخال نقودي تكفي أن أقرض أحدًا، ومع كلٍّ سأرى ما يمكن عمله في الغداة، ولبثت حائرًا كلما ذكرت حرج موقفه، وصممت أن أقرضه شيئًا، على أني كنت ألاحظ عليه أنه كثير الاختلاط بالفتيات يساهمهن الرقص، ويشاطرهن الشراب، ويسرف في ذلك وفي شرب الدخان في مظهر لا يدل على الحاجة أو العوز، ولما أن تركته الباخرة في عدن علمت عنه أنه شبه محتال، فحمدت الله أني لم أقرضه شيئًا، وظل موضوعهما حديث المسافرين طيلة اليوم، وأنهما سيلبثان في هجير عدن أسبوعين كاملين حتى تفد الباخرة التالية ولا مال لديهما ولا متاع!

أوغلت الباخرة في مياه خليج عدن، ولبثت اليوم كله ولما ينقص الحر، لا بل أخذ في الزيادة إلى درجة كدنا نختنق معها، وأصابني صداعٌ أنا وكثيرًا من المسافرين من جرائه، ولما حان ميعاد العشاء جلس إلى جانبي ضيف هندي جديد، نحيل القامة، أسمر اللون، براق العينين، تعلوهما نظارة أعادت إلى ذكراي شبح غاندي كاملًا، وكان كلما قدم الخادم إليه صنفًا من الطعام تشكك فيه ورفضه، فجاءه رئيس الموائد فعلم منه أنه نباتي لا يأكل اللحم — وأمثال أولئك في الهند كثيرون — فأخذت أحدثه عن ذلك فقال بأنه لم يذق اللحم طوال حياته، قلت: ولماذا؟ قال: هي عقيدة أصبحت عادة متأصلة؛ فلا أكاد أطيق حتى رؤية اللحم، قلت: إذن فسأكون في جوارك من أكبر المنغصات؛ لأن جل غذائي أنا من اللحم، فتظرف الرجل وقال: كلا، بل لا يضايقه ذلك، على أني لاحظت أنه لا يفد إلى المائدة إلا عندما أكاد أنتهي من طعامي. وهو مدرس هندي في مدارس عدن الحكومية الابتدائية، وقد قال لي: بأن جو عدن شديد الحرارة مدى ثلثي العام، لكنه صحي جدًّا؛ إذ قلما تنتشر الأمراض في تلك البلدة لجفافها.

fig7
شكل ٥: البئر المباركة في الجبال الزرقاء بقرب سدني.

أصبحنا في اليوم التالي والبحر مضطرب مائج، والرياح شديدة بليلة، وهي الموسمية التي أنقصت من حرارة البحر الأحمر حتى اضطررنا أن نلبس المعاطف الخفيفة، على أن اضطراب الماء قد أصاب الكثير منا بمرض البحر، وقد أحسسته أنا وظل ينغصني يومين كاملين، والعجيب أنه انصرف عني بعد ذلك، مع أن البحر زاد شدة — ويظهر أن الإنسان إذا ما اعتاده قليلًا خفت وطأته — وظل زهاء نصف المسافرين لا يجلسون على موائد الطعام، بل يستلقون على مقاعد فوق سطح الباخرة في الهواء الطلق؛ لأنه خير علاج لإيقاف شر ذلك المرض المُمضِّ.

وكم كان يدهشني من جموع السيدات، وجلهن من الأستراليات، إدمانهن على التدخين! فأنت لا تكاد ترى الواحدة إلا والسيجارة في فمها، وصندوق السجاير الكبير في يدها إلى جانب كتابها. وتلك ظاهرة لم أشهدها في سيدات الشعوب الأخرى إلا على سبيل الاستثناء. والأستراليون معروفون بالإباحة الشديدة؛ فهم يطلقون حرية كبيرة للنساء. ومما كان يثير عجبي مظهرهن وهن يسرن عرايا إلا في ستر العورة، وكأن أزواجهن يستعرضن جمال جسومهن أمام أنظار الغير، وإذا ما أقبل المساء ارتدين مهفهف ملابسهن في أزياء عدة تتنوع بين ليلة وأخرى، ويجلس الجميع رجالًا ونساء حول حلقة الرقص.

ولا تكاد تعزف الموسيقى في التاسعة مساء حتى يقبل الكل على المخاصرة والرقص إلى ساعة متأخرة من الليل. وكانت تلك هي وسيلة التسلية الوحيدة تقام كل ليلة، أما في خلال النهار فهناك من الألعاب: تنس البواخر، والبنج بنج، والحمام، ورمي الحلقات، والأراجيح، وكيف يمكن التغلب على سأم السفر الطويل إلا بتلك الوسائل المتعددة؟!

fig8
شكل ٦: لا تزال تلك الطريقة الساذجة مستعملة في استخلاص الذهب من رمال أستراليا الغربية.

على أني لاحظت أن مزاج الإنجليز أبعد عن الموسيقى إذا قورنوا بغيرهم؛ فلا تكاد تُعزف إلا للرقص، أما في البواخر الألمانية فكانت الموسيقى تلعب أدوارها أربع مرات في اليوم على الأقل، وقد كانت معنا عائلة إسرائيلية ألمانية طريدة ألمانيا بسبب اضطهاد هتلر لها، فهاجرت لترتزق في أنحاء أستراليا، وكانت سيدتهم تشنف أسماعنا كل ليلة بعزفها الجميل على البيانو.

لبثت اليومين السالفين أُعرِض عن تناول الطعام إلا في قليل من الفاكهة الطازجة؛ خشية أن يعاودني مرض البحر، وكان شعوري به يتردد علي آنًا فآنًا، وكانت رأسي أميل إلى الثقل، وفي اليوم الثالث قمت من نومي عند الأصيل وأنا مكتئب مقطب الوجه، وبينا أنا أسير في جانب منعزل من السفينة وإذا باثنين من البحارة يحملان نقالة عليها جثة سيدة هي Miss Love، وقد فتح جانب من الدرابزين ومدت لوحة مستطيلة من خشب وضعت الجثة عليها، بعد أن حنطت ولفت في قماش لا يخترقه الماء Water Proof وأثقلت بالعوارض المعدنية، ثم أرخى عليها العلم الإنجليزي ووضعت بحيث تواجه أرجلها الماء، وعند رأسها أقيمت منضدة عليها مجموعة من الأناجيل فتحت ونكست عليها، ثم جيء بابنها، وهو شاب نحيل، وزوجها ولما يصل العقد الخامس، وأُجلِسا على مقعدين إلى جوارها، وما كاد يسمع خبرها الجميع حتى فزعوا وتكاثروا يُطلون من هنا وهناك.

وكان نصف الجثة يشرف باللوحة الخشبية على المحيط، وما كادت الشمس تغرب في السادسة والنصف تمامًا حتى نفخت الباخرة في صورها، وأبطأت سيرها، ثم وقفت في عرض البحر، وعند ذلك أمال البحار لوحة الخشب فزلقت الجثة عليها إلى اليم، وغاصت إلى حيث لا يعلم إلا الله مستقرها؛ فعلا الكدَرُ وجوهنا جميعًا، وصاحت آنسة جميلة صيحة فزع، ثم أغمي عليها، فأسرع الآخرون بإنقاذها، ثم أقبل الكل إلى الرجل وابنه يعزونهما في فقدها، وقد كانت مريضة وتقصد بلاد أستراليا للاستشفاء، فوافاها أجلها في تلك البقعة التي لم تكن تخطر ببال أحد: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ صدق الله العظيم.

fig9
شكل ٧: شارع هانان الرئيسي في كالجورلي.

ولقد عجبت لما رأيت الرجل وابنه على مائدة الطعام بعدها بقليل يأكلان معنا عشاءهما، مع أنَّا نحن لم نتناول من الطعام إلا اليسير بسبب ما خلف ذاك الحادث عندنا من أسًى، ثم سرعان ما نسي القوم الموقف، وبدا الكل في مختلف ملابسهم الفاخرة وزينتهم البراقة، ومن بينهن الغادة التي أغمي عليها، على أن الباخرة أعلنتهم بأن الموسيقى والرقص سيوقف عرضهما الليلة حدادًا على الفقيدة. وفي الحق ماذا يجدي الحزن بعد أن نفذ قضاء الله ولا راد لقضائه؟ مظهر من مظاهر الإيمان كان أجدر بنا نحن الشرقيين!

أعلن القوم عن سحب يانصيب هذه الليلة للمشتركين مقابل شلن للنمرة، وكذلك أقيمت حفلة سباق الكلاب، وذلك من ستة كلاب خشبية يتصل كل بحبل يلف طرفه في بكرة تمسك بها سيدة، وعندما تُعطى الكلمة تحاول كل منهن طي الحبل، ومَن أسرعت سبق كلبها وفاز، ولكل من النظارة أن يراهن على من شاء بشلن واحد، وقد جربت حظي في النوعين من المقامرة فلم أُصب شيئًا.

بمباي

وفي اليوم التالي وصلنا بمباي في الساعة الرابعة والنصف مساء، فبدأ الخليج تحف به الربى الوطيئة من الجانب الأيمن، وفي الأيسر تقوم المدينة على بسيط من الأرض، وفي الصدر ظهرت بوابة الهند Gateway of India في قوس مشرف، وإلى مقربة منها فندق تاج محل أكبر فنادق البلدة. وخشيت من انخفاض المد لو تأخرنا في الدخول، وعند ذلك ترسو بعيدًا، لكن كان وصولنا قبيل انسحاب المد. ولقد تعكر ماء المحيط قبل ظهور بمباي بساعة من الزمان؛ فكان يبدو وكأنه ماء النيل أيام الفيضان.

وبمباي يقع أغلبها على جزيرة مستطيلة تصلها بالهند قناطر عدة.

نزلنا البلدة بعد أن فحصت جوازاتنا وختمت بطاقات النزول إلى البر، وقد نزل من ركاب الباخرة زهاء ١٥٠٠، ولم يبق معنا من المسافرين إلا القليل، وبمباي تعد أهم الثغور التي ترسو عليها بواخر تلك الشركة. جُبنا أرجاء البلدة المجانبة للميناء فكانت آية في الفخامة والنظافة، كلها قصور شاهقة، وعلى أنماط من الهندسة متباينة، وكثير منها يحكي القلاع، وما كدنا نوغل في قلب المدينة حتى تجلت الأحياء الوطنية بشوارعها الضيقة وحركتها التي لا تحد، فالناس خليط عجيب لا أول له ولا آخر بوجوههم الممطوطة، وأجسامهم الهازلة، وألوانهم السمراء القاتمة.

fig10
شكل ٨: الميل الذهبي بحفائره ومناجمه في كالجورلي.

أما الأزياء فمدهشة في تنوعها وألوانها، وبخاصة معاطف السيدات إذا كن من الطبقة الممتازة، فكلها من الحرير المهفهف؛ هذا أحمر قانٍ، وذاك أخضر زاهٍ، والآخر أصفر فاقع، والرابع أبيض ناصع. وتلك أجمل ظاهرة تسترعي النظر في بمباي. أما السِّحنُ فلا تكاد تلمح في إحداها مسحة من جمال قط. ومن أزياء الرجال كان يستلفت النظر جماعة البارسي في كل مكان، ويلبسون على رءوسهم قلانس سوداء، وعلى أجسادهم معاطف سوداء طويلة «بلاطي» تكاد تصل إلى ما دون الركبتين.

وهم الطبقة التي بيدها أغلب رءوس الأموال، والتي تدير الشئون التجارية، فهم في جمع المال والحرص عليه يشبهون اليهود، وأكثرُ عددٍ منهم في تلك البلدة. ومما شاهدناه لهم أبراج السكون الخمسة التي تعرض فيها موتاهم عارية، حتى إذا ما نهشت العقبان البرية لحمها أُخفيت العظام في آبار هناك.

ولقد كان يهولني عدد الجماهير التي تموج بها الطرقات؛ إذ تكاد الرءوس والأكتاف تتلاصق، ولا يستطيع الواحد أن يشق طريقه بينهم إلا بجهد كبير، ورغم كثرة عربات الترام والأتوبيس لا تجد مكانًا خاليًا أبدًا، وإذا نظرت إلى البيوت من داخلها بدت كأنها خلايا النحل؛ لضيقها وكثرة نزلائها.

ورغم أن بمباي تعد أكثر بلاد الهند رقيًّا وتحضرًا، فقد كنا نرى السواد الأعظم من السكان من أشباه العرايا الذين تعلوا وجوههم علامات طوائفهم من نقط وخطوط في أشكال عدة، وجلهم يسير وأفواههم مفتحة ينضح منها ذاك اللعاب الأحمر الذي يحكي الدم، من أثر ما يمضغون من ورق شجر «البيتل» المنفر الشكل والمذاق. وقد كنت أوجست خيفة المغالاة يوم أن تكلمت عن الهند في جولتي في ربوع آسيا ووصمتها بالتأخر المعيب، لكني ألفيتني مصيبًا فيما كتبت.

لبثت أنا وزميل هندي من جزيرة سيلان نتجول في أنحاء عاصمة الهند التجارية زهاء أربع ساعات، ومن العجيب أنه لم يستطع أن يفهم من لغات القوم العدة كلمة واحدة، فلغته هو تامل، ولغات بمباي هندوستاني — وهي اللغة التي يفهمها أكبر عدد من الهنود — وججوراتي وكثير غيرها، والمثقفون يتفاهمون بالإنجليزية.

قمنا نبرح بمباي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، ولبثنا نسير إزاء الشاطئ وجبال الغات الغربية الوطيئة تبدو على بُعد إلى يسارنا، وكانت الرياح الموسمية الجنوبية الغربية حقًّا تهب في شدة لا بأس بها، وتحمل معها السحاب الذي أمطرنا كثيرًا في بمباي، وكان يسح تارة ويمسك أخرى ونحن سائرون وسط اليم.

واليوم السبت «٢٠ يونيو ١٩٣٦» قمنا والجو غائم، كثيف السحاب الذي بدا متصلًا بماء المحيط، حتى كان الجو قاتمًا مظلمًا، وظل المطر هاتنًا مدرارًا طيلة النهار إلى الظهر، ولقد فاجأتنا السفينة بالوقوف والصفير المتواصل؛ فذعرنا، ولما أن تساءلنا عن الأمر قيل: إنها تسلمت رسالة باللاسلكي أن باخرة أخرى قادمة إلى الشمال، وخشية أن تصطدم معها بسبب كثافة الجو وظلامه ظلَّت تُصفِّر، وتقف تارة وتهدئ السرعة أخرى حتى مرت بنا تلك السفينة، فاستأنفنا سيرنا بالسرعة العادية، وهي زهاء ١٨ عقدة في الساعة.

كولمبو

وفي باكورة الصباح بدت بلاد جزيرة سرنديب، وأقبلنا على ثغرها الرئيسي كولمبو — ومعناه بالسنهالية: ورق المانجو «منجه Amba ورق Cola» لكثرة ما كانت تنمو تلك الأشجار هناك، ولقد كان ثمرها يعرض في كل مكان بقيم زهيدة جدًّا — تقدم بوليس الميناء وختم الجوازات لمن يريد نزول البر، ونقلتنا لانشات الشركة مجانًا إلى الشاطئ، فكانت شوارع البلدة ومبانيها آية في الجمال وخفة الروح، خصوصًا الحي المجانب للميناء ويسمى The Fort، وحتى الأحياء الوطنية البحتة التي ركبنا لها الترام تارة والأمنبوس أخرى إلى بُعدٍ زاد على ستة أميال.
fig11
شكل ٩: النسر الذهبي: أكبر كتلة من ذهب زنتها ١١٣٤ أوقية.

كل هذه بدت جميلة تزينها الخضرة الرائعة في كل الأرجاء، فكأن البلاد قامت كلها وسط غابات لا أول لها ولا آخر؛ فلا تقع عيناك إلا على أشجار ومروج تتوسطها المساكن كبيرها وصغيرها، وكذلك الحوانيت. وتغريد الطيور على اختلاف صنوفها يشجيك أينما سرت — اللهم إلا صيحات الغربان التي تتكاثر حولك في غير خوف ولا فزع فتزعجك دائمًا — ويلفت النظر نظافة البلدة حتى في أفقر نواحيها، وكذلك دقة البوليس وحسن إشرافه على كل شيء، غير أن ذاك الجمال ينتقص منه مظهر الفقر الذي يسود الكثير من الناس، وكثرة المتسولين الذين يضايقونك إلى درجة تفقدك الاستمتاع بتلك الجنة النادرة.

وكم من مرة ذعرت على غرةٍ، حين ألفيت صبيًّا أو طفلة عارية قد أسرعت بإلقاء جسدها على الأرض تحت قدمي، وتمرغت وهي تتمسكن، ثم تمسكت بالحذاء تقبله في منظر تستنكره النفوس! وكم هاجمنا من سائقي «الركشا» وألحفوا في الحديث معنا، والإصرار على أن يقودونا إلى هنا وهناك ليطلعونا على البازار والحدائق ودور الرقص والمجون وما إلى ذلك، ونحن نرفض كل أولئك! لكن أنَّى لنا أن نغلب ذاك اللجاج الذي ينغص على الإنسان عيشه، وقبل أن نتخلص من هؤلاء بعد النهي والزجر يداهمك غيرهم.

ولقد كنا نسير ومن ورائنا جيوش من سائقي الركشا من المتسولين والسماسرة، ويا ويلنا لو وقفنا ننظر إلى حانوت أو ومعبد! هنا يهاجمنا أهله، ويتمسكون بنا أن نزور حوانيتهم لاستعراض ما هنالك فقط لا للشراء؛ فإن فعلنا ذلك تمسكوا أن نشتري هذا وذاك، وإن حاولنا ذلك ضوعفت الأثمان واستخدمت الحيل حتى غير الشريفة لإرغامك على الشراء! وأنت في ذلك الحين تحاط بعدد ممن لا دخل لهم في الأمر يزجون بنفوسهم في الحديث، وإذا فرغت من ذلك المكان طلبوا منك أجر تدخلهم هذا!

ظاهرة ما كان أجدر بالبوليس الدقيق هناك أن يقاومها أشد المقاومة، وهو إن فعل وفَّر على السائحين كثيرًا من المضايقة، وشجعهم أن يكثروا من زياراتهم لا أن يجتنبوها. ولقد حدثني بعض ركاب الباخرة أنهم لاقوا من أمثال تلك المضايقة كثيرًا في بورسعيد، فهلَّا عُني بوليسنا بالضرب علي أيدي أولئك السماسرة والمتسولين والمتدخلين حتى لا يشعر السائحون بمثل ما شعرت أنا به؛ مما كرهني في زيارة تلك البلاد.

حان ميعاد الطعام فأردنا أن نجرب المطاعم القومية لنرى ما فيها، فما كدنا ندخل واحدًا منها حتى سرت بين أصحاب المطعم وخدمه شبه موجة حِرْنا في تفسيرها، وأخذوا يتهامسون ثم تقدم رئيسهم فطلبنا إليه طعامًا، فقال: أرز وكري Rice & Curry؛ فأي نوع منه ترغبون؟ قلنا: لا ندري، فهات ما عندك. فوضع أمامنا صحفة ملئت أرزًا مسلوقًا في وسط المائدة، وأحاطها بأطباق صغيرة بها طائفة من سائل أصفر كثيف، به قطع من مواد مختلفة علمنا أن بعضها من لحم بقري أو ضاني، أو دجاج أو سمك، والبعض من خضر لم نعرف أغلبها سوى العدس والقرع، وبكل طبق نوع واحد من هذه، ومذاقها كلها حريف جدًّا.

فأخذنا نغترف الأرز في أطباقنا ونلوثه بذاك الكري، ولما طلبنا خبزًا قال بأن ليس له وجود عندهم، لكنه أحضر لنا مقاصيص من رقاق منتفخ صنعوه من دقيق الحمص. أما الفاكهة فالموز أو المانجو بالطبع. فرغنا من الطعام وعند دفع الحساب تداولوا في الأمر، ثم طلبوا ثمنًا فاحشًا غير معقول، هو زهاء عشرين قرشًا لكل منا، مع أن ثمن ما أكلنا لا يكلف الوطنيين أكثر من قرش واحد أو اثنين؛ فثارت ثائرتي وقلت بأني لن أدفع ذلك، وبعد مشادة قبلوا شلنين لكل منا، وخرجنا ناقمين على أولئك اللصوص الذين يحالون استغلال الغريب بدرجة هي السرقة بعينها.

fig12
شكل ١٠: شجرة الكاري ذات الخشب الصلب والقوام الذي يفوق خمسين مترًا.

أما الأهلون فأعمق سوادًا في لونهم من الهنود، وجلهم يرتدون الملابس الوطنية في لفافة حول الخصر يربطها حزام، ثم تتدلى طياتها إلى القدمين، وعلى النصف الأعلى قميص أو «جاكتة»، والعجيب أن جل ذلك من الحرير حتى لأفقر الناس، ومنسوجات الحرير النباتي هناك رخيصة جدًّا؛ فالقميص يبدأ ثمنه بشلن واحد، وبعضهم كان يبدو في حرير ممتاز غالي الثمن، والعجيب أن الجميع يسيرون حفاة مهما بلغ من نظافتهم ووجاهة هندامهم.

أما النساء فسافرات جميعًا إلا المسلمات — والمسلمون كثيرون جدًّا في تلك الجزيرة، ويلبس رجالهم الطرابيش، والعجيب أن الكثير كان يعرف لمجرد النظر إلى بأنني مسلم فيقول: «مسلمان»؟ فأجيب: نعم؛ فيُسرُّ ويلاطفني حتى يبرح الترام وكأنه لقي واحدًا من أهله. هذا ولم ألمح في نساء تلك البلاد كلها واحدة عليها مسحة من جمال قط، فهُنَّ أمعن قبحًا من الرجال، فكأن الطبيعة بقدر ما أسرفت في جمال نباتها وحيوانها اجتزأته من وجوه نسائها، على أن تقدير الجمال نسبي على ما بدا لي؛ لأن أحد رفقاء الباخرة من الهنود ألفت نظري إلى سيدة قال بأنها آية في الجمال، فخلته هازلًا لا جادًّا؛ لأنها كانت على جانب كبير من القبح.

ومن الديانات السائدة: البوذية، وكنا نرى قسس بوذا يسيرون حفاة وقد تدثروا بملاءات لونها فاقع — أصفر أو برتقالي أو أحمر — ورءوسهم عارية، وقد حلقت شعورها، فبدت الجمجمة براقة محمرة، إلى ذلك ديانة الهندوس، ولغات الكلام مختلفة تسودها اثنتان: التاملية، والسنهالية.

ومن الجهات التي تروق السائح كثيرًا حديقة النبات Cinnamon Garden، وبها جل طوائف النبات الاستوائي، وكذلك قنطرة فكتوريا ونهر فكتوريا الذي يجري إلى جانب البلدة.

وجو البلدة تلطفه الرياح الموسمية فيصير منعشًا جميلًا إذا حجبت الشمس سحابة خفيفة، وإلا كانت أشعة الشمس حارة محرقة، ولقد فاجأنا المطر بعد الظهر في غزارة عجيبة، على أنه لم يجاوز ساعة من الزمان، ثم عادت السماء تنقشها الغيوم المبعثرة حتى المساء حين أتينا إلى الباخرة، وكانت حركة الشحن دائبة، وجل البضاعة من شاي سيلان ذائع الصيت يرسل إلى أستراليا، وزيلندة، وسكانها من أكثر بلاد الأرض استهلاكًا للشاي.

fig13
شكل ١١: أضحت أدليد من أفخر مدن الدنيا بعد أن كانت قرية ريفية منذ مائة عام.

وفي تمام الساعة العاشرة مساء أذنت الباخرة بالرحيل؛ فدقت أجراسها، ونفخت أبواقها، وتنحت عن الميناء بأضوائها المنثورة يشرف عليها جميعًا إعلان عن شاي سيلان بالضوء الأزرق في حروف كبيرة جدًّا. ظل الركاب يتحدثون عما بقي من الأيام إلى أستراليا يستكثرونها؛ لأن الباخرة لن ترسو على البر إلا بعد تسعة أيام كاملة، وزاد الأمر وحشة أن عدد المسافرين قد انضمر جدًّا؛ لأن جلهم نزحوا إلى بمباي وكولمبو، على أن البحر أصبح في اليوم التالي أكثر هدوءًا.

وفي المساء أعلن الربان أن السفينة ستجتاز خط الاستواء الساعة السابعة والربع تمامًا من صباح الغد «الثلاثاء ٢٣ / ٦»، فقمنا مبكرين لنلمح من هذا الخط قبسًا يفصل ما بين نصفي الكرة الأرضية، والعجيب أن جل المسافرين قاموا مبكرين، وأخذوا يشيرون إلى نواحي البحر وكأنهم رأوا وسط اليم خطًّا أو فاصلًا، وكانوا مغتبطين لأنَّا بدأنا ندخل مياه النصف الجنوبي، وهي لا شك أطهر شأنًا، وأراضيها أقل زحامًا وعبثًا. وكان البحر يومنا هذا أملس هادئًا لم تكد تخدش أديمه موجة واحدة كأنه لجة من زيت براق.

ولقد أعلن الربان أن الساعات يجب تقديمها عشرين دقيقة كل يوم حتى نصل أستراليا؛ لأن انتقالنا إلى الجنوب الشرقي سيظل في زاوية واحدة لا تتغير، وكلما قاربنا الشرق بكَّر شروق الشمس، وجاء ظهر اليوم سابقًا لظهر الأمس، ولم تحفل الباخرة كثيرًا بخط الاستواء كما فعل الألمان يوم عبرته ذاهبًا إلى أمريكا الجنوبية. والحق أن البواخر الألمانية أكثر مرحًا وأدعى للترويح عن المسافرين، ويظهر أن الصلف الإنجليزي وبرودهم المعروف قد أثَّر حتى في تلك المناسبات.

ولقد كان الجو صافيًا، والنسيم عليلًا طريًّا منعشًا لم يحقق تلك المخاوف التي تزعجنا بها الجغرافيا عن خط الاستواء، وهجير حره، ووابل مطره، على أن اتجاه الرياح قد تغير؛ فبعد أن كانت بالأمس تهب وافدة من يميننا جهة الغرب أصبحت اليوم تفد من يسارنا، وهو الشرق؛ والأولى هي الموسمية الجنوبية الغربية، والثانية هي التجارية الجنوبية الشرقية.

حل المساء، وزينت الأبهاء بالثريات الكهربائية الملونة، والجوانب بالأعلام المختلفة، وذلك احتفاء بعيد ميلاد ملك الإنجليز؛ إذ قد بلغ الثانية والأربعين، وظل القوم يرقصون إلى ساعة متأخرة من الليل، لكن عددهم القليل قد أنقص كثيرًا من بهجة الاحتفال؛ إذ كنا لا نعدو الخمسين مع أن الدرجة الثانية أعدت لأكثر من ستمائة، ولا يفضل القوم السفر إلى أستراليا على بواخر P. & O.، بل يؤثرون عليها Orient Line لا لشيء سوى أن الشركة الأولى تستخدم كثيرًا من الهنود في المطعم والحجرات، أما الأخرى فكل خدامها من الإنجليز.
وإني لأعجب من عصبية القوم لألوانهم وجنسياتهم؛ فبمجرد أن يلمحوا أحدًا تشوب لونه السمرة ولو الخفيفة خالوه Coloured، ونظروا إليه نظرة أخرى، وتحرجوا معه في الاختلاط والحديث كأنه وباء يوشك أن يصيبهم. وتلك النزعة لا نلمحها تبدو ظاهرة إلا بعد اجتياز قناة السويس؛ فعندئذ يبدءون التفرقة، ويظهر أنهم يُلقِّنون ذلك أبناءهم منذ الطفولة، حتى إنَّا كنا نلاحظ صغارهم ينفرون من الهنود حتى ولو كانوا من ركاب الدرجة الأولى.
fig14
شكل ١٢: تمتاز أدليد بشوارعها الفسيحة الممتدة.

وأعجب كيف لا يقابل الشرقيون ذلك بمثله أو يزيد، بل يعترفون بتلك الذلة والمسكنة، ويتحدثون عنها وكأنها أمر واقع قضى به الله عليهم؛ فهلا تكاتفنا على مقاطعتهم، وعدم التودد إليهم، والترفع عنهم حتى يثوبوا إلى رشدهم، ويقلعوا عن ذلك الصلف الأجوف. ولقد كنت ألمح في معاملتي لهم؛ إذ كنت أنبو عنهم ولا أكثرت لهم، فكانوا هم يحاولون بعد ذلك مخالطتي وخطب ودي من نواحٍ عدة.

بدأ البحر منذ عصر الخميس يضطرب والرياح تعصف، وظل كذلك طوال الليل، وأصبح أكثر عنفًا؛ إذ كان موج البحر يعلو جوانب الباخرة فلم يستطع أحد البقاء على السطح، بل آووا إلى مضاجعهم، وكانت أغلب مقاعد الطعام خالية، وكان الجو رطبًا، والسماء محملة بكثيف الغيوم، فكان ذلك في ظني تغييرًا مستملحًا؛ إذ كنا قد بدأنا نسأم طول المسافة في جو واحد وعمل متكرر.

ولقد كان حظي هذا اليوم خيرًا من سابقه؛ إذ ربحت ١٢٫٥ شلنًا في سحب يانصيب يجريه القوم على الأرقام التسعة كل يوم مقابل شلن واحد للتذكرة. وكنت كلما طوحت ببصري إلى آفاق المياه المائجة المضطربة المخيفة ألمس عظمة الكون، وضآلة الإنسان أمام القدرة العلية، وكنت أُكبِرُ في طلائع الكاشفين جرأتهم وجميل صبرهم يوم كانوا يقطعون ذلك بالسفن الشراعية الصغيرة، ونحن على عظمة باخرتنا ومنعتها كنا نخشى أن يصيبها ضر أو أذًى.

ولقد عاكس هذا الاضطراب سرعة الباخرة، فبعد أن كانت تقطع ٤٠٠ ميل في اليوم نزلت إلى ٣٣٠ ميلًا، وقد مررنا ليلة الأمس بمجموعة من جزائر تسمى Keeling أو Cocos على اسم إنجليزي كشفها سنة ١٦٠٨، وأهملت إلى سنة ١٨٢٥ حين ذهب إليها الكابتن Ross وبهره جمالها؛ فرجع ليحضر عائلته، وإذا به يجد أسرة أخرى قد احتلتها فتنازعتا، وتغلب الأول، وأضحى حاكمًا عُرف بالحزم والعدل بين سكانها القليلين، ولا تزال أسرته تملك أغلب وسائل الإنتاج هناك إلى اليوم، مع أن الجزائر دخلت تحت وزارة المستعمرات يشرف عليها حاكم سنغافورة، وهي من محطات البرق الهامة في المحيط؛ إذ منها تمتد الأسلاك إلى كولمبو وجزائر الهند وأستراليا وموريس ومدغشقر وجنوب أفريقية.
fig15
شكل ١٣: يكثر الكانجارو حول أدليد.

ما كنت إخال أنا في أيام قليلة سننتقل من الصيف القائظ إلى القر الزمهرير؛ فلقد هبطت الحرارة هبوطًا فجائيًّا لما أن اجتزنا خط عرض ٢٠°ج، وأخذت في النقص فشعرنا ببرد الشتاء، واضطررنا إلى لبس الصوف والتحافه، وسرعان ما تغيرت الأزياء وغطيت جوانب السفينة، وانزوى غالب المسافرين إلى حجراتهم، وكانت السحب تحجب الشمس غالب الساعات، وإن تكشف عنها قليلًا فرح القوم وماجوا، ولا يكاد يستوي بهم الجلوس تحت أشعتها المحبوبة الدفيئة حتى تختفي، ويعودوا من حيث أتوا. وشتان ما بين نيران البحر الأحمر وهجيره، وبين قر تلك البحار المجانبة لأستراليا، وفي كليهما كان الامتعاض يسود أوجه القوم؛ فلا الصيف أرضاهم، ولا الشتاء أقنعهم. ومتى كان الإنسان لربه شكورًا؟

ولقد أخذ الكثير يعد عدته للنزول إلى أرض أستراليا في الغداة، ونشط البحارة في تجهيز روافعهم وفتح مخازنهم استعدادًا لتفريغ بضاعتهم في فريمانتل أول مرسى أسترالي، وكم هالتنا كثرة البريد الذي كُدِّس في آلاف الأكياس فبدا كأنه التل الشاهق! وذلك كله لجهات غرب أستراليا.

بكر الخادم ينادينا منذ الساعة السادسة والنصف صباحًا كي نسرع بالصعود للكشف الطبي، وقد علمت منذ الأمس أنه شديد، ومن الغريب أني أصبت بمجموعة من دمامل شوهت من وجهي كثيرًا، وقد كان ظاهرًا منها في يوم واحد عشرة، ولعل ذلك من شدة الحرارة في الجهات الشمالية، وخصوصًا البحر الأحمر، وكذلك بسبب الغذاء المحفوظ المثلوج مدى العشرين يومًا السالفة، ذاك الذي أثر في شهيتنا فقلَّتْ شيئًا فشيئًا، فخشيت أن يكون ذلك سببًا في منعي من الدخول فتتكرر حادثة جنوب أفريقية.

ولكن شتان بين رقة الأستراليين وظرفهم وخشونة أهل نانال وغلظتهم؛ فلقد أقبل رجال الكرنتينا ومررنا أمامهم، ونظروا إلى أيدينا وأذرعنا ثم أجازوا لنا الدخول حيث تفحص جوازاتنا. هنا داخلني الخوف أن يكون المصريون من غير المرغوب فيهم كما هي حال جنوب أفريقية، خصوصًا وأنهم سلموا جميع الرعايا البريطانيين جوازاتهم، إلا فريقًا قليلًا من الأجانب أمثالي استمهلونا حتى يفحص جوازاتنا رجل آخر، لكنه كان غاية في رقة الحاشية ولين الجانب، وقد ختم الجواز لي وتمنى لي رحلة سعيدة، فكان ذلك لا شك مطمئنًّا لي ومزيلًا للوساوس التي ساورتني طويلًا قبل وصولي إلى تلك البلاد.

فريمانتل

أسرعت لأستقبل: فريمانتل Fremantle مرسى السفن الوافدة إلى أستراليا من الغرب عند مصب نهر سوان، ذاك الذي أوفدت إليه من سدني سنة ١٨٢٦ طائفة من المنفيين لاستغلاله، وكان قائد السفينة التي حملت تلك البعثة يسمى فريمانتل، فأطلق اسمه عليها، ومنذ سنة ١٨٥٠ أصبحت فريمانتل أكبر مرسى لوفود المنفيين، وهم أول نزلاء أستراليا. بدت الميناء عظيمة الامتداد تحدها حواجز الأمواج، وتقف السفن العدة إلى مراسيها، ومن حولها الروافع المرصوصة إلى مد البصر.
fig16
شكل ١٤: الكانجارو يسابق السيارة.

والبلدة تقوم على مجموعة من رُبًى صغيرة في ڤيلات بديعة سقوفها منحدرة حمراء، وجلها بالآجر الأحمر أو الخشب، وشوارعها تعلو وتهبط إلى مد البصر. أقلتنا سيارة وسارت بنا تشق شوارع البلدة بعد أن عبرت قنطر نهر سوان، ثم سلكت سبيلها إلى پرث عاصمة غرب أستراليا، وتبعد عنها بمسافة ما بين الأهرام والقاهرة، وكانت جل الطريق تشق وسط مروج طبيعية خضراء تغص بالأحراش ويتخللها الشجر، وقد اتخذ منها القوم ضواحي كادت تملأ الفراغ ما بين البلدين، وكلها في ڤيلات أنيقة صغيرة متجاورة حول كل منها حديقة صغيرة أرضها خضراء بطبيعتها.

پرث

ظهرت پرث على الضفة الشمالية لنهر سوان الذي يتسع عندها اتساعًا هائلًا، وقد طغى على مائه ملح المحيط فأضحى أجاجًا. هنا اتسعت الشوارع واكتظت بالمباني الفاخرة، إلا أن جلها لا يتعدى الدور أو الاثنين إلا القليل من دور الحكومة والبريد والبنوك، ويشق الترام والأمنبوس أهم طرقها. أما عن السيارات الخاصة والتاكسي؛ فحدث كثرةٌ تفوق كل وصف حتى قيل لي: إن كل الناس من ملاك السيارات، وأظرف ظاهرة في شوارعها أن الإطارين عريضان جدًّا تظلهما ظلة ممدودة من زجاج أو خزف أو قيشاني بديع، ومظهر المساكن وأهل البلدة يدل على جانب كبير من الغنى والرفاهية، ولم نكد نجد ناحية قذرة أو بيوتًا قديمة متهدمة؛ فالجميع يسيرون في هندام نظيف، ووجوه جميلة، وبخاصة النساء.

ولم ألاحظ كثيرًا من الدخلاء بينهم كما لاحظت في أهل أمريكا الجنوبية وجنوب أفريقية مثلًا. والبلدة هي وفريمانتل وضواحيها تُئْوي ٢١٥ ألف نفس، وليس ذلك الغنى بعجيب؛ فهي أكبر مصدر للذهب في أستراليا حتى أطلق عليها The golden west، وكذلك كان لغلو الأجور دخل في ذلك؛ فالعامل الذي يصلح الطريق يتقاضى خمسين قرشًا في اليوم.
ولن أنسى منظر المدينة في تقوسها الجميل، وتغضنها الجذاب من ربوة في King’s park أكبر متنزهاتها الذي تبلغ مساحته ١٢٠٠ فدان، وقد نسق نصفه وترك الباقي بحالته الأولى الفطيرة Bush، وعلى جانب منه تطل الجامعة، وهي في بناء فاخر على نمط قريب من الأندلسي ببوائكه التي يعلو بعضها البعض، وبرجها الذي حاكى مآذن بلاد المغرب، وهي منحة من هبات كبار الخيرين الأستراليين، وتنتشر حولها الكليات في أبنية مختلفة.
ولقد هالني ما علمته من أن التعليم بجميع درجاته مجاني حتى الجامعة نفسها؛ لذلك لم أعجب لما علمت أن الدولة تنفق على التعليم في أستراليا فوق ثمانية ملايين من الجنيهات، مع أن سكان القارة كلهم ملايين، أعني أقل من نصف سكان القطر المصري، ومستوى الثقافة في البلاد مرتفع جدًّا.
fig17
شكل ١٥: حيوان الولابي شبيه الكانجارو.

ولقد تفقدنا حالة الأسواق لأنَّا كنا نسمع أن الأسعار عالية في تلك البلاد، وإذا بنا نجدها رخيصة؛ فالحلة الإفرنجية بثلاثة جنيهات، والحذاء بأربعين قرشًا، ولقد هالتنا معروضات اللحوم على اختلاف صنوفها، وقد كتب على كل نوع ثمنه، فكان يكتب على الرطل الضاني ٦ بنسات — والبنس الأسترالي أقل من البنس الإنجليزي — فهو يوازي نحو ثلاثة مليمات «الجنيه الإنجليزي كان يساوي ٢٥ شلنًا أستراليًّا» أي أن الرطل دون القرشين، وذلك في المدن الكبيرة، وهو لا شك في الريف أرخص؛ فالشاة هناك تُشترى بخمسة شلنات أو أقل من ذلك.

لبثت اليوم كله أتجول والجو ماطر، والسحب تسد الآفاق، وكم أمطرت من برَدٍ كثيف، ووابل غزير! هذا إلى شدة البرد وعصف الرياح، وكان القوم يستبشرون لذاك المطر لأنه المنقذ لأغنامهم وغلالهم، وقد تخلف عنهم في السنتين الخاليتين فاضطر الكثير أن يتركوا مزارعهم، ويبحثوا عن عمل آخر، ولما تأخر هذا العام خالوه أسوأ، وكادوا أن ييأسوا من إنتاج المراعي ومحصول القمح، لكنهم بدءوا يستعيدون أملهم وقد داهمهم المطر وابلًا منذ أول هذا الشهر «يونيو»، وهو موسم الشتاء عندهم. ومطرهم لا يسقط إلا في هذا الفصل كما هو الحال في الإسكندرية وبلاد البحر الأبيض عندنا في الشمال.

وكنت في تلك الجولة أزامل جماعة من الألمان الذين هاجروا من بلادهم زهدًا في هتلر وتجافيًا به؛ لأنه يسومهم سوء العذاب؛ فمثلًا أضحى لا يباح لهم البيع ولا الشراء ولا دخول المطاعم، وقد كُتِب جميعُ الحوانيت على الأبواب: «ممنوع دخول اليهود.» وأولادهم يُطردون من المدارس ويضطهدون، ويُلقون بالوحل كلما ساروا في الطريق، والعجيب أنهم إن أرادوا النزوح تركوا أموالهم في ألمانيا، ولا يباح للواحد أكثر من عشرة ماركات، أي أقل من جنيه.

أما عقاره وأملاكه فتبقى باسمه، لكنه لا يأخذ منها فائدة في الخارج، وإن باعها دفع النصف ضرائب، والنصف الباقي ظل في بنوك ألمانيا؛ لذلك احتالوا على إخراج أموالهم، فبعضهم يشتري سلعًا وتحفًا ألمانية غالية، ثم يبيعها إذا خرج بنصف ثمنها، ويحصل بذلك على بعض ماله. وقد هاجر منهم زهاء مائة ألف الآن، وهم يزيدون على ثلث المليون. وكم راقني من هؤلاء القوم ديمقراطيتهم! فقد كان معهم سيدة قال لي بأنها الطباخة، وكان يقدمها عليه في كل شيء كأنها إحدى نسائه، وكانوا يجلسون معها في الطعام والسمر لا فرق بينها وبينهم؛ ولذلك عدت نفسها واحدة منهم تحس إحساسهم. فأنَّى لنا نحن تلك المعاملة وإكرام الخدم حتى يخلصوا لنا، ويحسوا إحساسنا!

fig18
شكل ١٦: الكوالا دب أستراليا العجيب.

أما عن رفيق النوم في الباخرة فيوناني اسمه باسليوس، يقوم على مزرعة للرعي في قرية وراء فريمانتل هو وأخ له، وقد زار عائلته في سلونيك ورجع يستأنف عمله، وقد خبرني بأن الأرض هناك رخيصة، فالفدان بشلن واحد، وتُسقى المزارع إما بالأمطار، وإما بالآبار الهوائية يدقُّونها، وتُكلِّفهم جنيهين للقدم الواحدة عمقًا في الأرض. ويدهشني في أولئك القوم جلدهم على المكاره، وإقدامهم على طلب العيش في أقصى الأرض، وقد بدا لي أنه هو وأخوه يعيشان عيشة تقشف شديد، ويجمعان المال للمستقبل.

ويكاد الرجل يكون أميًّا ليس لديه من المعلومات إلا النذر القليل، وهو أقل تهذيبًا من سائر الطوائف الأوروبية التي كانت معنا، وتعوزه النظافة؛ فلم يكد يُغير ملابسه الداخلية المدة كلها، وكان يتجشى ويتمخط في غير تورع مع أن ذلك ينافي الآداب الأوروبية كلها، ولكن ما ذنبه وقد قضت عليه بذلك أمة فقيرة، وشعب منحل، وحكومة مرتبكة، ألا قاتل الله الفقر والضعف؛ فهما سبب كل ذلة وتدهور.

كنت أزمع أن أترك الباخرة هنا وأستقل سكة الحديد The Trans. Cont. لكن حذرني خبير بها كان في الباخرة فقال: بأنك ستصرف ثلاثة أيام كاملة وأنت تسير وسط صحارى مجدبة مملة، ليس بها إلا قرى ضئيلة ليست بذات شأن، وفوق ذلك فإن شدة البرد، وبخاصة أثناء الليل، لا تحتمل، ولم تزود العربات بالمدافئ والمعدات الواقية، ولن تفقد إلا كالجورلي مقر مناجم الذهب الشهيرة.
فترددت طويلًا، ثم رجحت البقاء في الباخرة بعد زيارة كالجورلي خلال اليومين اللذين وقفتْهما الباخرة في فريمانتل. أقلني القطار وبدأنا نسير في نجاد جرانيتية يكسى كثير من جهاتها بالغابات، وجلها من أشجار الكافور «اليوكالبتس» الذي يسمونه Gum Tree، والذى لا تكاد ترى غيره في غالب جهات أستراليا الخضراء، ولما كان شكله العام غير جذاب كانت كثرته سببًا في افتقار القارة الأسترالية إلى جمال الغابات، وكنا نرى بعض أشجاره تفوق عشرين مترًا في العلو.
وكنا نرى قليلًا من شجر الصندل وشجر جارا وكاري Jarrah, Karri، وهما أهم مصدر للأخشاب القيمة في أستراليا، وأغنى جهات القارة بهما الركنُ الجنوبي الغربي، وتصل شجرة الجارا ١٣٠ قدمًا، ويزيد قطرها على المتر، وخشبها متين، عظيم النفع في القناطر وعوارض سكة الحديد sleepers والرصف، وهو يقاوم الحشرات كلها.
fig19
شكل ١٧: الطائر الضاحك ويسمى كوكابورا.

أما شجرة كاري فتصل ٢٧٨ قدمًا، وقطرها متران ونصف، وتمتاز بمتانة الخشب وطول كُتله، ولا يكاد يفرق عن خشب الجارا إلا إذا حرق؛ لأنه يتفحم ويسود، أما الكاري فيخلف رمادًا أبيض، وكلاهما يقاوم الاحتراق طويلًا، أما خشب الكافور فشديد المقاومة خصوصًا للآفات؛ لأن رائحته تطرد كل الآفات، إلا أنه لا يستخدم في الأثاث والأبنية بسبب رائحته.

ظل الشجر سائدًا الطريق زهاء ثلاث ساعات ثم اختفى فجأة، ودخلنا في سهول مموجة لا نهائية يسمونها نالاربور Nallarbor Plains جيرية، وهي التربة يكسوها غشاء رقيق من ثرى أحمر ينمو به عشب قصير قاتم يسمونه bluebush, saltbush، مذاقه مالح منفر، وأعجب ما في ذاك العشب أنه يظل أخضر طوال العام، ويغالب قيظ الصيف وقر الشتاء، وله خاصية عجيبة في تشرب الرطوبة، سواء من المطر أو الندى الكثير هناك.

وتلك السهول تجري ٤٥٠ ميلًا إلى الشرق، ويسير خط سكة الحديد فوقها مستقيمًا، ومنه جزء طوله ٣٠٠ ميل لا ينحني درجة واحدة، والمنطقة موحشة لا يقطنها من الناس أحد، وإلى شمالها كثير من البقاع التي لم تستكشف إلى اليوم، والمنطقة جافة جفافًا مطلقًا، حتى كانت المياه من أكبر الصعاب التي اعترضت مد سكة الحديد، ولقد أعدوا آبارًا تمد الخط على جانبيه من مسافة ٣٠٠ ميل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤