أستراليا

(١) كالجورلي

أخيرًا بعد عشر ساعات دخلنا بلدة كالجورلي التي يطلقون عليها اسم بلدة هانان Hannan، وهو الذي أسسها؛ لذلك كنا نرى اسمه يكتب على شارعها الرئيسي، ويحمله كثير من الأندية بها، ولقد قصُّوا عليَّ بأن الرجل نزل المكان باحثًا عن المعادن، وحدث أن حصانه كان يجري وسط العشب حين ضرب حافره حجرًا تدحرج وبدا براقًا، وإذا به من ذهب خالص، فانتشر نَبَؤُه، وسارع الناس إلى المكان من بقاع الأرض المختلفة رغم جدب المنطقة وجفافها الشديد، ولقد قيل: بأن الماء كان يباع بثمن أغلى من ثمن الخمر هناك.
أزاح القوم الأحراش ونصبوا خيامهم، ثم أخذت البلدة تمتد والمباني تقام حتى بلغت امتدادها الحالي الذي حاكى في نظري بلاد المراكز الصغيرة عندنا، إلا في كثرة مداخنها وأكداس رمالها، وتلال الثرى الذي أزيح ليفسح مجالًا لحفائر المناجم. وتمتد منطقة المناجم ميلًا كاملًا يطلقون عليه اسم الميل الذهبي The Goldin Mile؛ لكثرة ما أغلَّ من ذهب.

ركبت الترام الذي يشق البلدة، ووصلت إلى فتحة منجم عاد القوم إلى استغلاله بعد أن أُوقِف العملُ لمَّا أنْ انخفض ثمن الذهب، ولما انحطت قيمة الجنيه الأسترالي اليوم علت قيمة الذهب، فعاد القوم إلى العمل، ولم تشعرني المنطقة بالغنى المفرط الذي كنت أتخيله؛ إذ قد رسمتْ لي الكتب التي طالعتها عن ذهب الإقليم صورة مكان كادت أن ترصف أرضه بالذهب الخالص، على أني ألفيته متربًا قذرًا لا يبدو على أهله شيء من هذا الغنى الخيالي الذي سمعت عنه.

نزلت إلى سراديب ممدودة في شعاب عدة يجري فيها «الترلي» وقد ملئ رمالًا لسد الحفائر خشية انهيار جوانب المناجم، وأخيرًا وقفنا إلى جوار عمود براق أمسكنا به وزلقنا إلى أسفل المنجم، ورأينا قليلًا من العمال يكسرون حجارة الكورتز، وفيها بعض تبر الذهب. ولقد انحطت قيمة تلك المناجم اليوم عما كانت عليه في بدء كشفها، حتى إنها لا تكاد تسد نفقاتها؛ لذلك لم تبد حركة العمل فيها ناشطة كما خلتها. ولقد فاق مجموع ما استغل من مناجم كالجورلي وحدها عشرين مليون أوقية، قيمتها تزيد على ثمانين مليون جنيه، أما ما أخرجته أستراليا كلها فيزيد على مليار جنيه.

fig20
شكل ١: الإيميو نعام أستراليا.
بت ليلتي وعدت بقطار الصباح إلى پرث، ولم يمكني ضيق الوقت من زيارة منطقة البحيرات الملحة التي تقع إلى شمال منطقة الذهب، والتي يوجد حولها قوم من السكان الأصليين في حالتهم الفطرية. وتحمل بعض تلك البحيرات أسماء بلغتهم لا يكاد الواحد منا يستطيع النطق بها لتنافرها وتعدد حروفها، أذكر من بينها اسم بحيرة «كاديبراويرا كانا» الذي يحتوي على تسعة عشر حرفًا Cadibarrawirracanna. رجعت أستقل الباخرة وقد خاب أملي في الميل الذهبي وثروته الخيالية.
قامت بنا الباخرة تسير جنوبًا ثم تطوف حول الركن الجنوبي الغربي لأستراليا في تقوسه وكثرة جزائره، وقد أخذ القوم جميعًا ينذروننا بالويل الشديد الثلاثة الأيام التالية التي فيها نشق مياه الخليج الأسترالي العظيم The Great Bight؛ فقد عُرف بينهم بشدة الموج، واضطراب الماء في عنف مخيف، فبدأت الباخرة تضطرب، وعلا الموج، ولعب بها ذات اليمين وذات الشمال، ثم جزنا رأس Leeuin — بالبرتغالية أنثى الأسد — وهو أبعد نتوء في هذا الركن من أستراليا.

وبعده اتجهنا شرقًا نوغل في الخليج المرهوب، على أن الله خَيَّبَ فأل أولئك المتشائمين؛ فلم يزد البحر شدة، بل على النقيض من ذلك خَفَّتْ وطأته، وتلطف بنا كثيرًا عن ذي قبل، ولم نلحظ من جديد سوى شدة الرياح الغربية العكسية، وزيادة في البرد، على أنَّا بعدَ أن أمضينا يومًا كاملًا في هذا الهدوء النسبي عاد البحر إلى ما عهده القوم فيه، وغضب غضبة لم تهدأ ثورتها إلا بعد وصولنا أدليد، أي يومين كاملين أو يزيد، حين ألزم المسافرين مضاجعهم، وصرفهم عن الطعام واللهو.

وكانت السفينة على ضخامتها تقفز قفزات مروعة يخيل إليك إذا كنت واقفًا أن الأرض قد هجرت قدميك فصرت معلقًا في الفضاء، وتسمع لتلك الرجات ضجيجًا يصم الآذان، ويوقظك فزعًا مرعوبًا، هذا إلى شدة البرد، وهزيم الريح، ووابل المطر. وللقوم الحق أن شبهوه بخليج بسكاي غرب فرنسا، فهو في ظني يفوق ذاك شدة وعنفًا، وخليق به أن يسمى Great Bite؛ لأن قرصته السيئة لا تُمحى من الذاكرة أبدًا.
ساقني الحديث مع أسترالي كان عائدًا مع زوجته من إنجلترا إلى الموازنة بين الإنجليزي والأسترالي، فقال الرجل: بأنه يعود من إنجلترا بكلمة واحدة هي disappointment، قلت: وكيف؟ قال: إني ألفيت الإنجليز ليسوا رجال العصر الحاضر، بل هم يعيشون على تقاليدهم وماضيهم They live on tradition، وهم طائفتان: قوم يترفعون عن كل شيء، ويضعون أنوفهم في السماء، ويصعرون خدودهم في شيء من الصلف والغطرسة الجوفاء، وفريق وضيع ليس من مرتبتك أن تخالطه. أما الطبقة الوسطى المستنيرة فمعدومة هناك.
fig21
شكل ٢: أحد مروج الماشية في أستراليا.

لقد ذهبت إلى إنجلترا يحدوني أمل كبير أني سألقى خير مرشد ومعلم، وأحسن مثل يحتذى، وإذا بي أراهم في مجموعهم دون المتوسط بكثير، وإني لأترفع من أن أضع نفسي ندًّا لهم لا تلميذًا أتلقى منهم التهذيب. ولقد لمس الأستراليون ذلك منذ الحرب الكبرى، فقد كانوا يخالون إنجلترا كل شيء، وإذا بالجنود الأستراليين يفوقون الجنود الإنجليز كفاءة وخلقًا، فمنذ ذاك الحين عاد الأستراليون يحترمون أنفسهم، ولا يخالون الإنجليز كبراءهم وقادتهم. ونحن نرى في الأمريكان خير قدوة؛ فهم لا يزالون في نخوة الشباب لا يركنون إلى الماضي البائد، ولا يداخلهم الغرور الذي يسود الخلق الإنجليزي؛ لذلك كان المزاج الأسترالي أقرب ما يكون إلى الأمريكي، وأبعد ما يكون من الإنجليزي. والحق أني كدت ألمس ذلك من مقارنة النفر القليل الذي كان معي على الباخرة، فهم قوم مرحون غير مترفعين، يسارعون إلى المعاشرة، ويخالطون الجميع في شيء كبير من التواضع الجميل، والحاشية الرقيقة.

أخيرًا أقبلنا في صبيحة يوم ٣ / ٧ / ١٩٣٦ على جزيرة كبيرة عند مدخل خليج سبنسر يسمونها جزيرة كانجارو، ولبثنا نسير إزاءها ساعات عدة، وفي الرابعة بعد الظهر بدت أرض الشواطئ عند أدليد وطيئة، ولم يدل المكان على شيء من الجمال، فهو مَرسًى حقير على رصيفه أربعة مخازن ليس غير، ومن ورائه أرض عشبية مهملة لا يسكنها أحد. وهذه هي الميناء الخارجية للسفن الكبيرة.

(٢) أدليد

هنا أقلنا قطار مدى ساعة كاملة ميلًا، مررنا خلالها على عدة قرى صغيرة من بينها Port Adelaide، وهي الميناء الداخلية الصغيرة. خرجنا من محطة أدليد الفاخرة وإذا بالمدينة آية في الجمال، قسمت رقعتها على النمط الأمريكي في مربعات وخطوط متعامدة بدون استثناء، والأبنية غاية في الجمال، والشوارع فسيحة جدًّا، ونظافتها تسترعي الأنظار، والمتاجر على أحدث طراز، فهي حقًّا جديرة بلقبها The City Beautiful، ويقوم إلى جوانبها جميعًا مجموعة من متنزهات نسقت أيَّما تنسيق، ومساحة بعضها ألفان من الأفدنة.
ويشرف من ورائها جبل Mount Lofty، وأعلى ذراه ٢٣٣٤ قدم، يبدو من أي مكان نظرت. ومنظر المدينة من مرتفعاته التي نصلها بالسيارات أو بالقطار في أقل من ساعة يسحر اللب، ويزيد المدينة قيمة ورَواء وبهجة، وهي عاصمة أستراليا الجنوبية، وثالثة مدن أستراليا، يقطنها زهاء ثلث المليون من مجموعة سكان المقاطعة، وهم ٦٠٠ ألف؛ أعني نحو نصف مجموع الناس هناك أو يزيد.
حل المساء وكنت مع بعض الرفقاء الإنجليز، وكان الجوع والبرد قد أخذا منا كثيرًا؛ فأوينا إلى مطعم في أحد الشوارع الرئيسية وقلنا له: هات لنا أكلة قومية، فقال: ها هي Three Course Meal، أعني من ثلاثة أصناف؛ الأول: broth شربة ثقيلة كأنها «الكشك» يدخلها دهن ذنب الكانجارو المحبب لديهم، وأعقبها باللحم Mutton مع القنبيط والكرنب المسلوق والبطاطس المشوي بقشره، ثم تلا ذلك بنوع من الحلوى pudding الساخنة من خليط الفاكهة والقرنفل والعجين والكريمة، وبعد ذلك القهوة مع اللبن، وإلى جانب هذا أكداس من الزبد، ثم شرائح الخبز الأسمر والأبيض. كل ذلك الطعام الشهي دفعنا له شلنًا واحدًا أستراليًّا، أعني أربعة قروش مصرية، فأدهشنا ذلك الرخاء والرخص الذي ما كنا نعهده هناك.
fig22
شكل ٣: طريقتهم في جني الكروم في أستراليا الجنوبية.
أما دور السينما فلا حصر لها؛ إذ هي التسلية الرئيسية، وجل الأشرطة أمريكية، والبلدة تتأهب للاحتفال باليوبيل الذهبي Golden Jubilee لمرور مائة عام على تأسيس حكومة ولاية جنوب أستراليا؛ إذ أسست سنة ١٨٣٦، وقد أسرفوا في الإعلان عن Centenary Celebration والإعداد له، ويظهر أنه سيكون بالغ الأبهة؛ لأنه سيبدأ في أول سبتمبر ويظل مستمرًّا إلى آخر العام. وسيشمل المهرجان جانبًا عظيمًا من الألعاب والإذاعات، وتزيين البلدة كلها، وخصوصًا الشوارع الرئيسية، ومن بينها أسبوع الزهور، وفيه يزين كل بيت وحانوت واجهته بالزهور على اختلافها، وللمتفوق جوائز كبيرة، وقد زرعوا من الزهور مساحات كبرى خاصة بذلك، وعند حلول سبتمبر يكون الربيع عندهم، وهو موسم الزهور الجميل، وليس للقوم حديث اليوم إلا هذا الحفل والدعاية له.

(٣) ملبورن

قمنا نسير شرقًا جنوب ملبورن، فظل الشاطئ الجيري مشرفًا من بلاد جنوب أستراليا الجنوبية، فكان البحر مضطربًا، والجو مظلمًا ماطرًا طيلة الليل ونهار اليوم التالي، وفي صباح الاثنين انعرجنا شمالًا لنوغل في جون ملبورن الذي يسمى بورت فيليب، فإذا به بالغ الامتداد، كثير الليات والشعاب، وعند مدخله وقفنا نلتقط الدليل Pilot.
وظلت الباخرة تسير فيه فوق ثلاث ساعات ونصف مدى أربعين ميلًا أو يزيد، وفي نهايته بدت مداخن المدينة ومراسيها ممدودة في ثنيات وشعاب عدة. ولقد استرعى نظري ما زودت به تلك المراسي Piers من أحدث وسائل الشحن والتفريغ، فما أن وقفنا حتى بدأت شباك الحديد تجري هنا وهناك تحمل السقايل التي نسير عليها إلى البلدة، ثم أخذت الروافع Cranes تجري وتدور، ومن تحتها إلى جوار السفينة عربات سكة الحديد.
أخذنا الترام إلى المدينة فبدا لي عجيبًا لم أر مثيله من قبل: القاطرة مكشوفة وبها مقعدان جانبيان للركاب بينهما فجوة يقف فيها السائق وبيده الفرامل يحركها؛ ليسير الترام أو يوقفه، وتلك الفرامل تتصل بسلسلة تحت الأرض تتحرك دائمًا، وتحدث جلبة في الشوارع دائمًا، فإن أراد الرجل تحريك الترام أنزل تروس الفرملة فاتصلت بالسلسلة فجرى الترام، وإن شاء أن يوقفه رفعها فانفصلت عن تلك السلسلة. ويكاد ذلك الترام يعد أثريًّا؛ لأنه أقدم ما أسس هناك، ويسمونه cable car.
اخترقنا من الأبنية ما هو فاخر ضخم شاهق، ونزلنا وسط البلدة فهالنا ما كان لشدة الحركة، ووجاهة الأبنية، وحسن تنسيق العرض في المتاجر، وجمال إضاءتها، وهم يَقْفون أثر نيويورك في نظام الأبنية، فهي في كتل Blocks متعادلة تفصل بينها شوارع متعامدة، وحركة المرور فيها هائلة؛ إذ تكاد العربات تسد الطرق سدًّا، وقد ألفت نظري من بينها عربات النقل الكرو بخيولها الضخمة ذوات الأرجل الهائلة، التي تسمع وقع سنابكها في جلبة صاخبة، وترى شعورها الهادلة التي تكسبها مظهرًا بريًّا، وأنت لن تستطيع اختراق الطرق إلا عند زواياها، ولما أن يسمح البوليس بذلك، عندئذ ترى المارة تتلاصق أكتافهم وهم مسرعون لاجتياز تلك الطرق.
fig23
شكل ٤: مهرجان الزهور في العيد الذهبي لتأسيس أدليد.
وبين فترة وأخرى ترى حنفية أقيمت وسط طبق أبيض يشرب الناس منها، واستغربت تلك الظاهرة البدوية في هذا الوسط المتحضر. أما الناس فغاية في الرقة وحسن الاستعداد للإرشاد، فلا أكاد أسأل أحدهم أمرًا حتى يرغب في أن يدلني إليه بنفسه، وإذا شكرته قال: Welcome. ولقد لاقاني أحدهم ممن تعرفت إليهم في الباخرة أسير في الطريق وهو يركب التاكسي فأصرَّ أن أركب معه، وظل يطوف بي هو وزوجته أطراف المدينة طويلًا، ولما أن فرغنا من الرحلة حاولت عبثًا أن أقوم بنصيبي من الأجر مع أني أعتقد أنه ضاعف الرحلة لأجلي، ودفع للسائق زهاء ستين قرشًا.
وكثير من المباني يفوق الدور العاشر علوًّا، ومنها ناطحات تعلو إلى الدور السادس عشر، علوته فإذا منظر المدينة والمياه المحيطة بها والمتنزهات وأرض السباق التي تحفها آية في الإبداع والجمال، ولو أن رداءة الجو وكثافة سحبه ورذاذ مطره قد أخفى من جماله الكثير، وكان القوم يعتذرون لي عن رداءة هذا الجو؛ لأني جئت في Off Season؛ إذ إن هذا الشهر أردأ أوقات السنة عندهم، على أنهم قالوا: بأني محظوظ؛ فالأسبوع الماضي لم يكن يطاق؛ لأنه كان قارس البرد، ولم تنقطع سيول المطر أبدًا. خرجنا إلى متنزهات المدينة وما أكثرها وأبدع تنسيقها! فهي تزيد على ربع مساحة المدينة كلها، وفي جانب منها Fitzroy Gardens، زرت مأوى الكابتن كوك، وهو بيت ريفي صغير بالآجر الأحمر كان مسكن أبويه في إنجلترا، فنقل بشكله وأقيم حيث حل كوك من بلاد فكتوريا «ملبورن»، وبدوره الأرضي غرفتان صغيرتان إلى جوارهما مجموعة من مداخل، وأثاثه من خشب مصمت، والمدفأة من شباك الحديد الغليظ، ودخان الفحم قد لوث جوانبها، وهناك خريطة الدنيا في دائرتين عليها خط سيره، وبالدور الأعلى غرفة وشرفة، وفي وسطه قطعة حجر كسرت من الصخرة التي رسا عليها أول يوم وصل أستراليا في خليج بوتاني قبيل سدني.
وذاك البيت كعبة الجميع يزورونه اعترافًا بفضل كوك على الأستراليين؛ إذ هو الذي أوجد لهم ذاك النعيم المقيم. ثم طفنا بأرجاء حديقة النبات الهائلة التي نسقت أيما تنسيق، وحوت من مختلف نبات أستراليا ما لا يحصيه إلا أولو العلم والمختصون في ذلك الفرع، وقد أعجبني كثيرًا منظر السرخس Ferns الذي أذكرني بالعصر الفحمي وما كان به من نبات كثيف.
قامت بنا السيارة على طريق سنت كلدا الشهير الذي يحدثك عنه كل ملبورني بشيء من الفخر والزهو، وإذا به حقًّا طريق فاخر أعد وسطه للعربات الثقيلة، ويمينه ويساره للعربات الخفيفة، والإطاران للمارة، والأشجار تحد كل أولئك إلى مد البصر، وعلى جانبيه تقوم أفخر مساكن القوم Residential Quarters، وفي متنزهٍ منه بدا مشرفًا كالطود بناءُ الجندي المجهول، ويسمونه The Shrine Of Remembrance، بنوه لإحياء ذكرى من ماتوا من أبناء فكتوريا في الحرب العظمى، وكلفهم فوق مائتي ألف جنيه.
fig24
شكل ٥: الأسترالي الأصلي يلقي علينا درسًا في قذف البوميرانج.

وهو مدرج هائل يؤدي بدرجة في أربع جهاته إلى بهو من أعمدة داخله قبة مجوفة وسطها المدفن، وحوله الأسماء بالذهب وعليها النياشين والأعلام، وقد شق منور في جانب من سماء القبة ينبثق منه شعاع للشمس يسقط على الضريح الساعة الحادية عشرة من اليوم الحادي عشر من نوفمبر؛ فيثير من الذكريات أجلها.

وفي أثناء الليل تلقى عليه الأضواء الكهربائية من جميع الأركان في قوة يجعله يبدو بهيجًا براقًا بما حوى من زخرف ومرمر ثقيل، ثم واصلنا سيرنا إلى نهاية الطريق، فبدا شط البحر رمليًّا ناعمًا مدرجًا أقيمت عليه الجواسق والحمامات — وتلك أحب الجهات لهم صيفًا — وفي جانب منها مدينة للألعاب، ويسمونها Coney Melbourne تشبيهًا لها بجزيرة كوني عند نيويورك، ثم كانت جولتي في المدينة أثناء الليل، فلم يسترع نظري سوى أضواء الشوارع والمتاجر بألوانها العدة، ولم يكن رواد الطريق ليلًا كثيرين إلا عند دور السينما — وهي أحب ملاهيهم — ولعل للجو العكر الماطر دخلًا في ذلك.
fig25
شكل ٦: ملپورن تُرى من الطيارة بقصورها وناطحاتها.
ويا لهول ما ترى إن وقفت هنيهة عند محطة سكة الحديد هناك! ترى سيولًا من الناس دافقة: ذاك مسافر وهذا آيب صباح مساء، وبناء المحطة فاخر جدًّا، وعلى أبوابها الرئيسية ساعات كثيرة بعدد الأرصفة والخطوط المختلفة، وتبين ساعة قيام كل قطار، ويشق البلدة نهر يارا Yarra الصغير، ويسير وهو يتلوى بينها، وتعبره قناطر فاخرة عدة أجملها Prince’s Bridge إلى جوار المحطة، وقد نسقت جوانب ذاك النهر وصُفَّت عليها اللنشات الأنيقة للنزهة والمسابقة.
أما عن الألعاب Sports، وغرام القوم بها على اختلاف صنوفها، فذاك أمر قد جاوز بالأستراليين الحد المعقول، وأخشى أن يكون قد أضحى ضربًا من الجنون؛ فإذا لم تتكلم عن الرياضة والألعاب، وتكون عليمًا بدقائقها وأسماء أبطالها؛ فأنت رجل متأخر في زعمهم. وكم كانوا يتحدثون معي عن حوادث اللعب المختلفة وهم موقنون بأني بما يقولون فهيم! والحق أني لم أكن أفقه منها شيئًا؛ بل كنت أدعيه خشية أن أُرمَى بالتأخر.

وأينما سرت بدت أمامك أرض السباق ووسائل الرياضة في كثرة عجيبة، ولعل أحبها لديهم سباق الخيل التي لا تفتأ حتى دور الحكومة وسكة الحديد تعلن عنه في إسراف كثير، وكذلك الهوكي والكركت والسباحة وسباق الدراجات. ولقد كان يفد معي على الباخرة شاب لم يجاوز الرابعة عشرة، وهو بطل فرنسا في سباق الدراجات، وقد دُعي إلى أستراليا ودُفعت له تكاليف باهظة لينازل بطلها الشاب الذي لم يجاوز السادسة عشرة، وقد استقبلوه استقبالًا عظيمًا، ونشرت الصحافة صورته وتحدثت عنه طويلًا.

والمباريات الرياضية بين المقاطعات الأسترالية قائمة لا تنقطع أسبوعًا، وتكاد تملأ أخبارها نصف فراغ الجرائد كلها على كبرها. وأعجب الجرائد التي لا تحصى، والتي تظهر في حجم كبير، فمثلًا Time Herald تبدو في أربع وعشرين صفحة يوميًّا، ولها عدة طبعات: الأولى والثانية والثالثة لليوم الواحد، وأنت تقرأ فيها فلا تكاد تجد شيئًا عن العالم الخارجي أبدًا، اللهم إلا ما تعلق باللعب والإعلان.

والمعروف عن الأستراليين أنهم لا يعبئون بأخبار العالم كثيرًا؛ لأنهم في معزل عنه لا تهمهم شئونه، ولكل جريدة عمارة فاخرة قد تزيد على عشرة أدوار، ويكاد يخصص الدور الأسفل كله على كبره لسيارات النقل التي توزع الجريدة بمجرد ظهورها في أنحاء المدينة. وأغلب الناس من قراء الجرائد، وقد رأيت أحدهم ابتاع «الهرالد» ببنس ونصف «خمسة مليم»، ونظر فيها نظرة وهو واقف على ناحية من الطريق، ثم أطبقها ووضعها في سلة المهملات.

fig26
شكل ٧: طريق كلدا الشهير في ملبورن.
وفي المساء كان بعض الفقراء يمرون ليلتقطوا منها ما راقهم، وتلك شبيهة بما رأيته في بلاد أمريكا يوم أن زرتها، ويظهر أنهم يتخذون نيويورك وأهلها مثلًا، وينأون عن لندن وينقدونها دائمًا. والجرائد حرة إلى حد كبير، وقد تنشر أخبارًا فاضحة مبالغة في الصراحة، فمما قرأت مثلًا الخبر الآتي:

قالت المس روز عن نفسها: كنت أخرج لأمرح مع شاب ينفق علي ثلاثين شلنًا في الأسبوع، ولما لم يزد على ذلك هجرته إلى غيره، ولكن سرعان ما هجرني ونأى عني، فهلا عاد إليَّ حبيبي الأول!

والنساء في أستراليا أميل إلى الإباحة والانقياد وراء الحرية المطلقة؛ حتى قيل: إن حرمة المنازل هناك ضعيفة، ولا تحرص الزوجة كثيرًا على حقوق زوجها، حتى قال بعض القضاة في حكمه مرة: «يسود البلاد أزواج منحلون، وزوجات بعيدات عن الوفاء.» وقضايا الطلاق هناك لا تدخل تحت حصر.

آوينا في المساء إلى مقهى لنستريح، فتقدمت منا الآنسة تسألنا: ماذا نشرب؟ فقال صديقي الألماني: بيرة، والفرنسي: شمبانيا، والإنجليزي: براندي، وأنا: قهوة باللبن، فابتسمتْ وقالت: يظهر أنكم لم تمروا بتلك البلاد من قبلُ؛ ألستم تعلمون أن الخمور محظور بيعها بعد الساعة السادسة من كل يوم؟! فدهشنا لذلك، وشرب الكل قهوة معي.

وقد علمنا بعد أن ذاك هو القانون في فكتوريا كلها؛ ولذلك ترى العمال بعد الخروج من العمل الساعة الخامسة تمامًا مسرعين إلى المقاصف؛ ليشربوا ما راقهم من الخمر قبل حلول السادسة، وكذلك احترامهم ليوم الأحد مكفول بالقانون؛ فلا يباح للجرائد أن تصدر يوم الأحد قط، ولا يجري الترام ساعة الصلاة، ولا تفتح صالات اللعب والتنس، على أن سائر بلاد أستراليا تسخر من فكتوريا وملبورن، وترميها بالشعوذة وسلب الناس مسراتهم بلا مبرر، وتسمي عملها هذا kill-joys.

ويظهر أن البوليس هناك شديد جدًّا؛ فمثلًا دخل بنا سائق التاكسي طريقًا لا يباح دخول السيارات فيه، فاستوقفه على الفور وأخذ نمرته ليلزمه الغرامة المفروضة، فقال السائق: ولكن كيف أعرف ذلك ولم تقم إشارة هنا تدل على ذلك؟ فقال: حقًّا ذلك واجب على الدولة، ولكني أقوم أنا بالواجب علي؛ فتلك هي الأوامر، ولك أن تدفع أمام القضاء بذلك كي توضع الإشارة اللازمة.

fig27
شكل ٨: فوق جبل النصر وراء ملبورن.
كذلك فإنك إذا ألقيت بأية ورقة في الطريق، فللبوليس أن يلزمك بما يقرب من العشرين شلنًا غرامة. والحق يقال: إن شوارع البلدة بالغة النظافة، وقد حاولت أن أعثر على بعض الأحياء القديمة القذرة slum فلم أجد قط. والقوم بعيدون عن التدين لا يكادون يؤمون الكنائس، ولا تكاد ترى من الكنائس إلا النادر.
أدهشني ذاك العمران الهائل والرقي العجيب الذي ما كنت إخاله في تلك القارة المنبوذة النائية، والتي لا نكاد نعلم من حقيقتها شيئًا، وحتى الإنجليز أنفسهم يخطئونها ويخاطبون أبناءها قائلين: You colonials أنتم لا تعرفون هذا ولم تتعلموا ذاك. مع أنهم على جانب عظيم من العلم والرقي. حدثني أسترالي عائد هو وزوجته من إنجلترا عن جهل الإنجليز فقال: بأنهم دعوا إلى بيت، وقدم الشاي والسكر المكنة Loaves، فقالت لها ربة البيت: هذا سكر يا سيدتي، أظنك لم تريه في هذا الشكل من قبلُ؟ قالت: وكيف؟ نحن الذين نصنعه ونرسله إليكم! وكانت تسألها: هل عندكم دور للسينما؟ أليست أستراليا موطنًا للسود ومصادًّا للكانجارو والإيميو؟
تلك كل معلومات بعض الإنجليز عن أستراليا؛ ولذلك فهم ينظرون إليهم نظرة السيد للمسود، وقد أحس الأستراليون ذلك، وتبرموا بموقفهم من أولئك السادة. وللناس بعض الحق أن جهلوا الكثير عن تلك القارة، فهي نائية عن العالم كله، وأقرب إلى أمريكا منها إلى أوروبا، وملبورن — في نظري — خير من أغلب مدن أوروبا، وأكاد أفضلها على لندن نفسها، فإنك لا تجد في أحيائها ما يعادل Covent Garden & Liverpool Str قذارة وإهمالًا وإن كانت دونها حجمًا، وهل كان يعتقد John Batman يوم أن وقف وسط رهط من الأبرجينيز على ضفة نهر صغير كانوا يسمونه Yarra Yarra لأول مرة سنة ١٨٣٥ وقال: ذاك مكان صالح لإقامة قرية صغيرة؛ هل كان يخال ذلك الرجل أنها ستصبح بهذه الفخامة في مدى مائة عام؟ فلقد بدأت في تلك السنة بأربع عشرة نفسًا، واليوم فاقت المليون من مجموع سكان فكتوريا.
وهي ثانية بلاد أستراليا بعد سدني، وخير البلاد الصناعية هنالك فيها ما ينوف على خمسة آلاف مصنع رأسمالها فوق خمسين مليون جنيه، وتنتج من السلع ما يقدر بمائة مليون جنيه في كل عام. ولقد بدأت نغمة التفاخر بالسلع الأسترالية Home Made تكثر في المتاجر المختلفة.
fig28
شكل ٩: اشتهرت آنسات فكتوريا بالرشاقة والجمال.

قمنا إلى سدني وبلاد ويلز، وأخذ يسير بنا البيلوت المسافات الممدودة وسط ليات جون پورث فيليب الجميل، ثم تركنا بعد ثلاث ساعات، وأوغلنا في المحيط نسير شرقًا، وكان الشاطئ يبدو إلى يسارنا في رُبًى وطيئة وجزائر عدة، ثم اخترقنا مضيق بأس بين تسمانيا وأستراليا، ودخلنا المحيط الهادي الذي حقق لنا تسميته هذه؛ فلقد ظل ماؤه هادئًا، ونسيمه عليلًا، وسماؤه مشمسة بعد أن سادنا ذاك الجو العكر في نواحي جنوب أستراليا، وظل طيلة يوم الأربعاء في هدوئه فاستبشر الجميع أنهم مقبلون على أيام هي خير مما سلف، وجلهم سيغادر الباخرة في سدني باكورة صباح الخميس ٩ يوليو.

(٤) سدني

بدأت طلائع سدني حوالي الساعة السادسة صباحًا، ووقفت بنا الباخرة تنتظر البيلوت ساعة، ولما أن أقبل أخذت تشق طريقها مقبلة على خليج جاكسون بلياته العدة، التي يوغل بها في البر في غير حصر، وسط رُبًى وطيئة لانهائية تكسوها الخضرة من الأشجار الكثيفة، والدغل الثقيل، في رواء يفوق كل وصف. وقفنا نستجلي من آيات الطبيعة الرائعة ما أذهلنا، وإذا بنا ندخل تحت قنطرة دونها كل ما رأيت في بلاد العالم الأخرى حتى قناطر نيويورك، تصل ما بين طرفي الميناء في امتداد هائل، وضخامة لا تحد، وهي من معجزات فن الهندسة المعمارية؛ فعلى الرغم من ضخامتها تراها معلقة، ويمر بها من فوقها قطار سكة الحديد والترام والعربات والمارة، كل في جانب خاص ذات اليمين وذات الشمال، ومن تحتها تمخر جميع البواخر مهما بلغ حجمها كي تدخل الميناء أو تخرج منها. وهي مفخرة لأهل سدني يباهون بها العالم أجمع، فلا يكاد يكلمك أحدهم عن بلده حتى يقول: هل رأيت Sydney Bridge؟ وقد كلفهم بناؤه فوق عشرة ملايين من الجنيهات.

أخذنا نمر من جون إلى آخر حتى رست بنا الباخرة وحللنا المدينة، وإذا بها تفوق في نظري جميع بلاد أوروبا، بل وأمريكا في كل شيء؛ فأحياؤها التجارية تمتد في شوارع فسيحة متوازية طويلة من الميناء إلى محطة سكة الحديد، ثم تقطعها أخرى عرضية، وجلها يسير به الترام الفاخر والأتوبيس، وأغلبه من طابقين. وتكاد حركة المرور تسد الطرق سدًّا، ويُظلُّ الإطارين غشاءٌ عريض من زجاج أو خزف بديع تحته أبواب المتاجر، وقد مد أمام كل باب منها الاسم في حروف كبيرة من نور يكون أغلبه أحمر أو أزرق يتلألأ صباح مساء.

وعرض السلع في نوافذ الأمكنة يدل على شيء كبير من حسن الذوق وجمال الفن، وذاك الحي الغاص يشبه ملبورن تمامًا إلا في أن شوارعه تعلو وتهبط فوق الربى والوهاد، ومن المباني كثير يفوق الدور الخامس عشر، وحتى الفندق الذي حللته Morris Hotel في شارع Pit به أربعة عشر دورًا. أما ضخامة الأبنية ووجاهتها فحدث عنها، وبخاصة دور البنوك والشركات الكبرى، وهم لا يعرفون تلك الأبنية بنمرها، بل كل عمارة تحمل اسمًا خاصًّا، مثل Sydney House وUnion House.
أودعت حقائبي ذلك النزل الجميل، وأجره ستة شلنات في اليوم، أعني أربعة وعشرين قرشًا، وبعد أن تفقدت خريطة المدينة وتسلمت عددًا لا يحصى من المطبوعات المصورة عن نواحي الجمال فيها، قصدت توًّا إلى: دار السياحة Govern Tourist Bureau، وتلك إدارة حكومية نافعة لها فروعها في جميع بلاد أستراليا، وتؤدي خدمات عظيمة للسائحين من جهة أخرى، فلا يكاد قطار أو سفينة تصل بلدًا من بلادهم حتى ترى مندوبي ذاك المكتب يقدمون لك أكداسًا من المطبوعات والخرائط التي تتجلى بها بدائع بلادهم، ويرشدك الدليل إلى كل شيء طلبت بدون مقابل.

وهم يرتبون سياحات داخلية مختلفة لها أسعارها الثابتة، وفي مواعيد مقررة كل يوم بعضها بالسكة الحديدية والبعض بالبواخر، والغالب بالسيارات الفاخرة البديعة. وجل وسائل النقل هناك ملك للدولة «سكة الحديد والأتوبيس والترام، وقطر تحت الأرض، والسابحات الصغيرة، وحتى جانب كبير من عربات التاكسي.»

fig29
شكل ١٠: بيت الكابتن كوك يتخذ متحفًا لمخلفاته في ملبورن.

والحكومة هناك تنزع إلى الاشتراكية؛ لأنها تكاد تملك كل شيء، وتساهم في أغلب العقار والأراضي والغابات، وجل المنشآت الكبيرة لها، وبخاصة البيوت المالية والتعليم والمواصلات، وكثير من النزل والمطاعم.

ساهمت في كثير من السياحات التي يقومون بها مقابل قيم معقولة، وبدأت بالسياحة في المدينة وما جاورها؛ فطافت بنا السيارات زهاء ثلاث ساعات مقابل خمسة وعشرين قرشًا، والدليل يلفت أنظارنا إلى الجهات الهامة، ويشرح ما خفي عنا من أمرها. وسدني بحكم توغل البحر فيها بزوائده العديدة لم تكن محصورة في رقعة واحدة، بل ترى نواحيها مبعثرة هنا وهناك، وشوارعها تعلو وتهبط وتتلوى كثيرًا، وقد بلغ من انحدار الطرق أن تزيد الزاوية على خمس وأربعين درجة، وذاك في نظري زاد المدينة جمالًا.

أما في ملبورن فالبلدة مسطحة محصورة في حيز محدود، ويقولون بأن ملبورن أكثر وجاهة وتمثيلًا للأرستقراطية من سدني، وكذلك أهلها أكثر تمسكًا بقواعد الإتيكيت واللياقة إلى أقصى حد، فهل تستطيع أن تجتاز الشارع من وسطه، أو تسير في هندام غير منسجم، أو تخلع عنك البقعة وتسير عاري الرأس؟ إن فعلت ذلك تعرضت للنقد الشديد، والبلدان يتنافسان، وتدعي كل منهما حق الأولوية في أن تكون عاصمة أستراليا، وهل تستطيع وأنت في سدني أن تتكلم عن ملبورن أو العكس؟ فهم لا يحبون إلا الإطناب كلٌّ في بلده. وسرعان ما يسألك أحدهم كيف رأيت ملبورن؛ أهي خير من سدني؟ فإن قلت: نعم. آلمته كثيرًا، وتلك المنافسة الحادة بين البلدين هي التي حدت بهم إلى تخير العاصمة في بلد أنشئ بينهما هو كانبيرا، رغم عدم لياقته لذلك مطلقًا.

استرعى نظري روعة الشوارع، وضخامة المباني، والإسراف في تجميلها بالمرمر البراق، والعلو الشامخ في قلب المدينة. أما في أطرافها حيث مساكن القوم، فالبيوت ڤيلات من طابق واحد أو اثنين على الأكثر، ولا تكاد ترى بيتين متشابهين في الهندسة، وحول كل منها متسع للحديقة التي تعوزها المزروعات والزهور والأشجار، فجلهم يتركونها أرضًا يكسوها الكلأ المشذب، ويكاد كل واحد هناك يمتلك بيته، ولا تكاد تجد واحدًا لا يمتلك سيارته؛ لذلك كان تزاحمها في الطرق كثيفًا جدًّا.

طفت بتلك الأحياء التي تقوم بيوتها الأنيقة فوق الربى، وتنحدر إلى البحر، ويحوطها بين هذا وذاك شجر الصمغ «البوكالبتس»، الذي لا يكاد يخلو منه مكان في البلاد كلها من سهل وجبل، وكم راقتني نواحيها الرملية Beaches، خصوصًا Bondi وManly وCoogee، وتقوم عليها حمامات السباحة البديعة.
fig30
شكل ١١: معرض الأبقار في أدليد.

ومن الشواطئ ما هو صخري مشرف في علو شاهق، وتغضن مخيف، تضرب فيه موجات المحيط الهادي في شدةٍ ساعةَ أنْ تقذف بها الرياح الغربية، فيعلو رشاشها إلى عنان السماء، ومن تلك الشواطئ القاسية ما أحاطته الدولة بأسوار عالية؛ لأن كثيرًا منها كان يتخذ مقذفًا لراغبي الانتحار، وهؤلاء في البلاد كثيرون، فلا يكاد يمر يوم لا تسمع فيه بحادثة انتحار، وحتى قنطرة سدني الجديدة بعد أن تم بناؤها أخذ المنتحرون يفضلونها على غيرها، فاضطرت الدولة إلى رفع الجوانب، وتزويدها بالشباك الشائكة.

ونزعة الانتحار هذه يرجع بعضها إلى المرض، والأغلب للفقر؛ فالبلاد مستوى العيش فيها مرتفع، وجل الناس يبدو عليهم الغنى واليسار، وحاجياتهم عدة لا تقف عند حد، وحتى الأجراء يتقاضون رواتب كبيرة، فلا ينقص دخل العامل عن نصف جنيه في اليوم؛ ولذلك عرفت أستراليا بأن الأجور فيها مرهقة تفوق حتى تلك التي في أمريكا؛ لذلك سارع القوم بالانتحار إذا أمضَّتهم طول البطالة.

جلست إلى مائدة الطعام في النزل إلى جوار شاب خفيف الروح أخذ يتحدث إلي، وإذا به سوري حل هو وإخوته منذ خمس سنين، وهو يشتغل بالتجارة، وقد قال لي بأن مجيئه إلى أستراليا كان حظًّا سعيدًا؛ إذ شتان بين دخله هو وعائلته في بلاد الشام وبين ما يكسب هنا، فالمال في أستراليا متوفر جدًّا للرجل المجد النشيط، وهم يعيشون في قرية داخل سدني، وهو يتردد على العاصمة كل أسبوع، وللسوريين والإغريق أندية كثيرة في سدني، دعاني إلى أحدها، وتناولت الطعام الشرقي البديع، وقد لازمني اليومين الأولين واستفدت من خبرته هناك كثيرًا.

وكم كانت دهشتي من جرأته، وبخاصة في أمر مخاطبة النساء ومسامرتهن! ونساء أستراليا أُعطين نصيبًا من الحرية لا يحد، فليس للأبوين على الفتاة سلطان قط، وهن على جانب كبير من الجمال والرشاقة وخفة الروح، يسرعن بالاختلاط والمعاشرة في غير تحرج، إلا أن فيهن شيئًا كثيرًا من الخجل، ولا يبدو عليهن شيء من الفجور الذي تلمسه في نساء أوروبا مثلًا، وأنت لا ترى الكثير منهن تقفن على نواصي الطرق متسكعات في الكثرة المزرية التي كنت أراها في البلاد الأوروبية.

فالمتبذلات هناك قليلات جدًّا، وليس في البلاد دور للفجور، وما الداعي لذلك والبلاد معروفة بمجاوزة الحد في الحرية؛ يأتي الواحد ما يريد في غير رقيب؟! اللهم إلا إذا صحب ذلك اعتداء على كائن من كان. وأول ما يسترعي نظر الزائرين المتسعات الهائلة من الأرض التي يُخصَّص بعضها للمتنزهات، والبعض للملاعب الرياضية. ولعل الأستراليين أكثر أهل الأرض ولوعًا بالرياضة على اختلاف أنواعها؛ فأنديتها لا تكاد تغيب عن العين حتى في الريف، وكل أسترالي عضو في واحد أو اثنين منها على الأقل، والبعض يساهم في الاشتراك في ثمانية نوادٍ معًا.

fig31
شكل ١٢: الأغنام عند حظائر الجز في أستراليا.
وأحب الألعاب لديهم جميعًا الجولف ثم التنس، وإن لعبوا كرة القدم والهوكي كثيرًا، وهل هناك أسترالي واحد لا يلعبها؟ أما المساهمة في سباق الخيل فأمر قد جاوز بهم الحد؛ فهم يقامرون عليها بكل شيء، والأستراليون من أكثر أهل الأرض ميلًا للمغامرة على اختلافها، ومن المتنزهات التي تتوسط المدينة Hyde Park، نسق خير تنسيق؛ فهو يفوق جمالًا هايد بارك لندن، لكنه أصغر وأقل شجرًا، وتقوم وسطه النافورات البديعة والتماثيل، ومن بينها تمثال للكابتن كوك كاشف أستراليا، وفي جانب منه ذكرى الحرب War Memorial في مدرج رباعي عليه شبه قبة مربعة هرمية، تطل من دائرة وسطها على تمثال لجندي قتيل عاري الجسد استلقى على عمود تحته ألسنة لنيران مندلعة، وقد كتب حولهم أسماء البلاد التي ساهموا فيها بأرواحهم.

الجبل الأزرق والمغارات

ساهمت في رحلة المغارات والجبل الأزرق The Blue Montains & Jenolan Caves، وقد استغرقت يومين، وتكلفت زهاء ثلاثة جنيهات، قامت بنا السيارات تشق ضواحي سدني، وكلها نظيف جميل البنيان، ثم أوغلنا في سهل يسمونه Emu Plain لكثرة ما كان يَؤمُّه من نعام أستراليا قديمًا، ويقسم جلها إلى «زرابي» للأغنام أو الماشية، ويسورها أهلها بأسلاك تصلها قوائم خشبية، وحيث تكثر الفيران والأرانب تسد بشباك السلك سدًّا محكمًا — ولا تزال الأرانب تتلف جانبًا كبيرًا من المزارع هناك.
ثم أخذنا نعلو جوانب الجبال الزرقاء، فزادت كثافة الشجر، وكله من أشجار الأوكالبتس المختلفة، وبعضها Wattle وكان كثير منها يغص بحيوان الكانجارو، يقفز هنا وهناك في كثرة هائلة، ومنه أنواع أخرى أضعف ذنبًا، وأقصر قامة، وأغبر لونًا، بعضها يسمى Wallabies، والبعض Wallaries، وفوق الشجر كنا نرى جموع حيوان الدب الأسترالي Native Bear أو Koalas في وجهه العريض، ووبره الناعم، وجسده السمين، يقرض طوال الوقت ورق شجر الكافور في شهية تسترعي الأنظار، وذلك غذاؤه الوحيد، وهو من ذوات الجيب كأغلب حيوانات أستراليا.
ولبثنا نمر في الوهاد بالقرى البديعة تسيل حولها مجاري الماء، ويحفها الشجر الكثيف حتى مررنا بأكبرها Katoomba، وهناك تناولنا الغذاء في مطعم فاخر للسكة الحديدية، ثم واصلنا سيرنا ونحن نعلو تدريجًا في تلك الطرق الملتوية البديعة حتى وصلنا أعلى بقعة ٤٢٠٠ قدم، وأينما نظرت إلى الجبال وجوانبها بدت زرقاء يفوق لونها لون السماء زرقة، وذلك ناشئ من بخار أو شبه دخان خفيف يعم أرجاءها ويكسبها ذاك اللون الذي من أجله سميت Blue Mounts.
أخيرًا، بعد أن قطعنا زهاء ١٣٥ ميلًا، دخلنا مناطق المغارات عند الغروب، هناك آوينا إلى فندق حكومي Chateau وسط الجبال الشاهقة، فأذكرني ببلاد سويسرا في كل شيء، إلا في أن ذرى الجبال هنا لا تكسوها الثلوج، وبعد العشاء دخلنا إحدى المغارات، وتسمى Left Imperial، يتقدمنا دليل سار بنا في سراديب الصخر مسافات طويلة، ثم بدأت المغارة نفسها فلبثنا نسير داخلها زهاء ساعتين، نتنقل من تجويف هائل في الصخر إلى غيره تتدلى من سقوفه زوائد الصخر المتبلور في أشكال مدهشة، وألوان عدة Stalagtites، وكان يزيدها روعة نظام تسليط الضوء الكهربائي عليها من جهات عدة في إسراف كبير.
fig32
شكل ١٣: أغنام المرينو ذات الأصواف الناعمة.
ومن الأرض كانت تقوم الصاعدات Stalagmites العجيبة، ومن تلك الظواهر ما كان يبدو أبرًا مدببة، أو كتلًا مجزعة، أو شرفات لها أهداب كأنها الشيلان يُسمُّونها Shawls في بلورات صافية البياض، أو مزركشة بالحمرة التي أكسبها إياها أكسيد الحديد، والبعض كان يرى كأنه شعاب المرجان، وبين هذا كنا نرى بحيرات يملؤها الماء، وبعضها كان يتصل بنهيرات باطنية كنا نسمع دوي الماء الدافق فيها.
وفي صباح اليوم الثاني، دخلنا مغارة أخرى يسمونها Orient، عدد درجاتها ١٦٠٠ سلمة بعضها يعلو بنا إلى السماء، والبعض يهوي إلى الأعماق. وقد لبثنا داخلها ثلاث ساعات نستجلي بدائعها ومعجزات القدرة الإلهية فيها، وقد حملت هذا الاسم لأن بها ثلاث حجرات Persian, Egyptian, Indian Chambers، ففي الهندية تبدو مجموعة الصاعدات والداليات كأنها باجودا بودا أو معابد الهندوس، وفي الفارسية قبة هائلة حولها بعض المآذن والنقوش التي بدت فارسية، وفي المصرية تبدو الصاعدات كأنها الجثث الفرعونية المحنطة، خصوصًا إذا ما أُطفئت أغلب الأضواء.
وهم يتقاضون أجورًا كبيرة على دخول تلك المغارات، ومتوسط أجر الواحد خمسة شلنات، أعني عشرين قرشًا، وعددها إحدى عشرة مغارة، لكل منها اسم خاص، وتلك المغارات تحمل اسمًا أستراليًّا قديمًا abriginal، معناه مغارات الجبال العالية، وقد كشفها Charles Whalan سنة ١٨٣٨ وهو يتعقب لصوصًا سرقوا بعض الماشية، فوجدهم يأوون إلى تلك المغارات. وكثيرًا ما كان يهاجم أولئك اللصوص قوافل الذهب وقطعان الماشية والأغنام في تلك الجبال وهي سائرة من الشرق إلى الغرب والعكس.
ولقد أوقفت الحكومة خمسة أميال حول تلك المنطقة حرم فيها الصيد أو البناء أو الملك A Reserve؛ لذلك زادت فيها كثافة الغابات، وأوضحت مأوًى آمِنًا لمختلف الحيوان، وكنا نرى طوال الطريق جحور الكانجارو والولابي والولاري والكوالا، وبعض الولابي كان يفد إلينا من جوار المغارات آمنًا وديعًا، ومن الطيور شيء لا يدخل تحت حصر، وأجملها في نظري الببغاء الأسترالي بألوانه البديعة، وكنا نطعمه الخبز والزبد من نوافذ المطعم في النزل.

أخذنا نسير حول المغارات بعد استيعاب اثنتين منها صعودًا فوق الربى كثيفة الشجر، وعرة المسالك، وكان البرد قارسًا حتى إن الصقيع كان يكسو المقاعد، ويعم ورق النبات في أغشية رقيقة بيضاء محببة، وقد راقني من النبات شجر السرخس الكبير بورقه الذي يحكي زغب الريش، وكان معي رهط من النساء والرجال وفدوا من بلاد ملبورن وأدليد وپرث، وكانوا على جانب كبير من كرم الطبع، وحب المعاشرة، والأدب الجم، حتى إني أصبحت واحدًا منهم، وقد أعطوني عناوينهم وأصروا أن أزورهم في بلادهم، وكم راقهم حديثي عن بلاد أستراليا، وما وصلت إليه من رقي وكمال يفوق كثيرًا من بلاد العالم المتمدين!

fig33
شكل ١٤: يجز الصوف بالآلات لكثرته.
عدت إلى المنزل وإذا بإشارة تليفونية تطلبني أتكلم مع المستر Ward وزوجته في بيته، وذلك أحد رفقاء الباخرة كان في رحلة حول العالم وعاد عن طريق قناة السويس، وهو مندوب عن مصنع كبير في سدني اسمه David Jones، وجل مهمته أن يتفقد نظام تفصيل أردية الرجال في جميع البلاد، ولما أن حادثته في التليفون قال بأنه سيجيء بعربته ليطوف بي أرجاء سدني، ثم نتناول العشاء في منزله.

وحاولت أن أعتذر فلم أفلح، ولقد لبث ينتقل بي من ناحية إلى أخرى، ثم قصدنا الدار، وإذا بجمع من أقربائه يرحبون بي، وقد أصروا أن أرافقهم غدًا الأحد في تمضية سحابة النهار خارج المنزل، وقد كنت ضيفهم طوال اليوم، وموضع رعايتهم وكرمهم، ولما ودعتهم قالوا بأنهم سيرونني قبل سفري، وفي مساء الثلاثاء دعوني لتناول العشاء للمرة الثانية، فأدهشني ذاك الكرم والظرف النادر الذي يلاحظه الإنسان ملموسًا في جميع سكان أستراليا، وحب المعاشرة والإفراط في الكرم من ألزم صفاتهم.

ثم كانت زيارتي لحديقة الحيوانات في حي Taronga Park، ركبت لها سابحة مائية Ferry، والسابحات عديدة تصل ما بين أطراف الميناء العديدة في بواخر صغيرة فاخرة تقوم كل نصف ساعة، وبأجر ثلاثة بنسات، أي قرش صاغ، تلقي بالقطعة في الصندوق فيدور بك المدخل إلى السابحة، صعدت تلك الربى ودخلت الحديقة، فراقني حسن تنسيقها من ربوة لأخرى، وهم يلاحظون في حظائر الحيوان أن تكون ملائمة لبيئة الحيوان، وأن يحمل المدخل إليها بعض هندسة البلاد التي تفد منها وهم يكتبون لوحة تفسر كثيرًا من صفات الحيوان وبيئته، ويشفعونها بخريطة يظلل فيها الجزء الذي يقطنه الحيوان.
والحديقة غنية بالطيور وذوات الجيب، ومما راقني بها القرد الأشقر Alibnoe ناصع البياض جيء به من الملايو، والحصان البري قصير القامة، هادل الشعر، كبير الرأس جدًّا، والدب الأسترالي Native Bear أو Koala في جسده السمين، ولونه الأغبر، وجمجمته الكبيرة، يعلق بأطراف الشجر، ويأكل ورق الكافور.

وبيت السباع هناك شبه مغارات عميقة يقوم حولها سور قصير من حديد، وهي ليست مسقوفة، فيخيل إليك بأنها طليقة، ومنظر الميناء بزوائده العدة يبدو رائعًا من أية بقعة في الحديقة نظرت، على أن الحديقة في مجموعها صغيرة فقيرة في طوائف الحيوان، وحديقة القاهرة في نظري تفوقها كثيرًا.

لاپروز

قصدت زيارة خليج بتاني Botany Bay أول مكان رسا به Captain Cook في تلك البلاد، فركبت له الترام أربعين دقيقة، وجزء كبير من الأرض التي قطعناها بري مهمل bush، وأخيرًا وصلنا إلى محطة يسمونها لاپروز Laperouse على اسم الفرنسي الذي احتلها كأول إنسان أبيض عقب كوك مباشرة، وكان يعتزم ضمها لفرنسا.
fig34
شكل ١٥: الخبراء يفرزون صنوف الصوف للتصدير.

ولقد رأينا مقبرة قسيس لاپروز مشرقة على الماء هناك، وهو أول أبيض دُفِنَ في أستراليا كلها، وركبنا سابحة مائية إلى الشاطئ المقابل الذي نزل به الكابتن كوك، وقد أقاموا له هناك نصبًا تذكاريًّا يحج إليه الجميع معترفين بفضله عليهم؛ إذ أمدهم بتلك القارة الفتية الغنية.

ولقد استرعى نظري في تلك الناحية كثير من الوجوه السمراء، والسحن الهمجية الغريبة، وهم بقية من سكان أستراليا الأصليين Aboriginals لا يزال منهم زهاء ستين نفسًا، قد نسوا لغتهم الأصلية، ويتكلمون لهجة إنجليزية رديئة جدًّا، ويشتغل جُلُّهم بصناعة الأسلحة القديمة، وبخاصة البوميرانج boomerang الذي يعرضونه للسائحين، وكم دهشت لما رأيت كل واحد ينتحي جانبًا من الأرض ويلقي بالبوميرانج أمام الناس، وهو قطعة خشب معوجة مسطحة من جانب، مقببة من الآخر.
والعجيب أنه يقذف بها إلى الجو في غير شدة، فتخرج كالسهم النفاذ يدور في السماء دورة أو اثنتين ثم يعود فيسقط عند قدمي الرجل الذي ألقاه. ولقد حاولت أن أتعلم طريقة رميه، ولبث الرجل يرشدني إليها زهاء نصف ساعة، وقد كدت أنجح وشريت منه واحدًا بشلن، وذلك السلاح لصيد الطيور والحيوانات الصغيرة، ومنه نوع كبير للقتل Dead boomerang من خشب ثقيل جدًّا، إذا أصاب قتل، وأعجب ما في البوميرانج أنه إن أصاب لم يرجع إلى صاحبه، وإن خاب عاد تحت قدميه تمامًا، وكان لمنظر أولئك الناس وهم يلقون بأسلحتهم أمامنا لذة كبيرة، وتقدير لكفاية الإنسان حتى في أحط أطوار همجيته.

(٥) السكان الأصليون

ومن السكان الأصليين عدد يقارب ستين ألفًا، يتفرق جلهم في الصحاري الداخلية وغابات الشمال، ولا تزال منهم بقية من أكلة لحوم البشر، ويعيشون إلى اليوم في عصر لا يزيد على سكان العصر الحجري، وكانوا يعيشون بحالتهم هذه منذ مائتي ألف عام، وهم أحط أجناس البشر عقولًا، وسِحَنُهم منفرة، وليسوا على استعداد للتقدم أبدًا؛ فهم يعيشون على صيد الحيوان، وجمع بيض الطيور من أوكارها فوق الشجر، ومن أحب الأطعمة لديهم النمل، ولكي يربوه يقتلون عدوًّا لهم ويدفنونه، فيجتمع النمل حول جثته، وعندئذ يجمعون النمل ليأكلوه.

ويُعِدُّون طعامًا محبوبًا من أعشاش الطير، يكسرونها وينقعونها في الماء بأوساخها ونملها، ثم يُسْحَقُ ذلك في الماء فيكون شرابًا حمضي المذاق لذيذًا عندهم. ويتزوج الرجل منهم من أي عدد شاء من النساء ما دام قادرًا هو وأصدقاؤه على تقديم الهدايا، ولما كان ذلك يستطيعه الطاعنون في السن من الرجال دون الشبان لم يبق من الفتيات من تكفين لزواج الشباب، وذلك قد أضعف النسل وأنقصه، إلى ذلك فإنهم يئدون البنات غالبًا؛ لذلك انحدر جنسهم إلى طريق الفناء رغم محاولة الدولة الإبقاء عليهم وتحسين مستواهم.

والغابات التي يحلونها لا تكاد تُخْتَرَق لما يحفها من أخطار الحيوان، وبخاصة الأفاعي، وحتى الشجر نفسه قاتل مميت، فهناك تسود الشجرة اللاذعة Stinging tree، فمن لمس ورقها العريض تسمم وظل يقاسي آلامًا شديدة، وهناك من الفَرَاش الكهربائي ما إذا لمسته شعرت بهزة عنيفة خطيرة؛ لذلك لا يزال كثير من جهاتها مجهولًا بمن فيه من وحوش وإنسان، وتشكل الدولة لجانًا وبعوثًا تقوم ببحث حال أولئك، وإعداد الوسائل التي بها يبقون على ذلك الجنس الذي ظل منحطًّا بسبب طول عزلته، حتى إن البحث لم يكشف عن أي أثر لمدنية قديمة في أستراليا كلها.
fig35
شكل ١٦: شارع كنج في سدني.

وهو في جمجمته وعظام أطرافه يشبه إنسان أوروبا إبان عصر الجليد، وهم نصف عرايا، شعرهم كث على لِحاهم، كثيف فوق جسومهم، يحبون الوشم، ويعتقدون في السحر، ومحاربوهم ينقشون أجسادهم، ويخرقون آذانهم وأنوفهم بالأسلحة، ويشعلون النار بِحَكِّ قطع الخشب بعضها ببعض، ويجدلون من شعورهم حبالًا لربط سلاحهم من البوميرانج والقسي والحِراب.

وقد يصل طول الواحد منهم ست أقدام، والذين يقطنون منهم بكوينزلند وأستراليا الوسطى بدءوا يتصلون بالجنس الأبيض ويأنسون إليه، وقد حارب منهم كثير إلى جانب الحلفاء في الحرب العظمى في ميادين فرنسا.

وتُعَدُّ أستراليا بسببهم متحف الأجناس القديمة؛ إذ فيهم يجد العلماء مجالًا كبيرًا للبحث عن أصول الآدميين، ومن أشهر قبائلهم: Arunta وWarramunga وBinbinga وKamilioi، ولغتهم تحكي أصوات الحيوان يكررونها مئات المرات بنغمة موحدة مملة. وإذا خالف أحدهم أوامر السحرة؛ كأن يأكل طعامًا شهيًّا حُرِّمَ عليه كشحم الإيميو ولحم الكانجارو وغذاء الزعماء، عُوقِبَ بفقء عيونه، وبعدم إطلاق لحيته — وإطلاق اللحى شعار الاحترام عندهم.

ومن أعجب عاداتهم الحداد والنحيب على المُتَوَفَّى، فتراهم يصيحون صيحات منكرة عالية، وبِيَدِ كلٍّ منهم مضرب أو حربة يضربون بها أجساد بعضهم ضربًا مبرحًا، ولا يتألم لذلك أو يحاول تجنب تلك الصدمات، ثم تُشْعَل نار وهم حولها يهرولون ودماؤهم تسيل من أجسادهم، ثم تُحْمَلُ الجثة فوق شجرة، ويُنْزَع اللحم عنها، ويَكْسِر أخو الفقيد العظام، ثم تُدْفَن في جحر تحت الأرض.

ومن أقسى عاداتهم أن الغلام إذا شب خضع لصنوف من التعذيب أربعة عشر أسبوعًا، وفي نهايتها يُرْمَى فوق نار يُزَاد لهيبها تدريجًا، والغلام يتلوى فوقها بسرعة لكي يتجنب خطرها، فإذا استقر فوقها عشر دقائق عُدَّ رجلًا وزُيِّنَ بأشرطة من جلود الكانجارو. والموت عندهم نتيجة لتأثير سحر صَدَرَ من شخص آخر لا يزالون يبحثون عنه لينتقموا منه.

عُدت إلى قلب المدينة أسير بين جدرانها الفاخرة وحركتها الصاخبة، أدخل ذاك البناء وأصعد غيره، واختلف إلى بعض متاجرها البديعة ومصارفها الغنية، فكان يذهلني ميلهم إلى الوجاهة، وشديد إسرافهم في تموين أبنيتهم بأحدث الوسائل وأجملها، ترى البناء براقًا بُولِغَ في نقشه وتجميله، حتى بدا بناء بنك مصر على وجاهته لا يُذْكَر إلى جانب تلك المباني، فعجبت لمظاهر الغنى واليسار البادية في كل شيء.

fig36
شكل ١٧: في أرض جامعة سدني.
ولقد سألت عن Slum الأحياء الفقيرة فأرشدوني إلى بعضها، وإذا بها بيوت صغيرة نظيفة جدًّا هي أقدم الأحياء ليس غير، ولا توحي بالفقر أو القذارة أبدًا، على أنه رغم ذلك تجد في المدينة زهاء أربعين ألفًا من العاطلين يُمْهَرُون معاشًا هو شلن كل يوم، على أن نقابة العمال تحاول توظيف الجميع كل بدوره ولو إلى حين.
والعمال هناك متمتعون بحقوق كثيرة يندر وجودها في الخارج؛ فلا يجوز لرب المصنع أن يطرد أحدهم إلا بإذن من النقابة، ولا يستطيع توظيف أحد، فهو يطلب النوع الذي يريد، والنقابة ترسله وتفرض له الأجر، والمصنع أو المتجر يمهد للعمال شراء منتوجاته بنفقات الإنتاج ليس غير، ويخولهم متسعًا من الوقت لتناول شاي الصباح العاشرة صباحًا: ربع ساعة، والغداء: ساعة، ولا يصح لعامل أن يشتغل بعد الساعة الخامسة إلا بأجر مضاعف؛ لذلك كان كل الناس متيسرين، وساهم في بنوك التوفير ٤٧٤٨٤٠٠ من مجموع السكان البالغ مليونًا.

وقد دل الإحصاء أن لكل فرد في أستراليا ودائع في البنك تبلغ ٤٤ جنيهًا على الأقل، ولا عجب؛ فالبلاد فتية وغنية الموارد، وأهلها قليلون، والطلب الخارجي على خاماتهم الكثيرة يتزايد كل يوم، على أنها رغم ذلك لم تخل من المتسولين، وجلهم من مدمني الخمر أو العاطلين، وبعضهم يسير في الطرق عازفًا على مزماره أو كمانجته مستجديًا، لكن عدد أولئك قليل جدًّا، وفوارق الطبقات غير موجودة رغم ميل الكثير منهم للوجاهة والظهور؛ فأنت تعامل الخادم أو الخادمة وكأنه من عائلتك، فترى العامل يغني ويلهو أمام سيده، وقد يشاطره السيد ذلك السمر واللهو.

وكم لاحظت من العمال في هندامهم غير النظيف يركب الترام إلى جوار سيدات ممن بدا عليهن اليسار، فيفسحن لهم المكان، ويبتسمن لهم، ويكلمنهم على قدم المساواة، وفي غير تأفف أو اشمئزاز! وسرعان ما يجاذبك الناس أطراف الحديث حيث كنت، ويسألونك: كيف رأيت بلادهم؟ ثم يقولون: هل لاحظت مدى الحرية التي يتمتع بها الناس هنا جميعًا؟ تلك Free Country ليس لأحد قبل الغير سلطان قط، فنحن أحرار نتصرف كيفما شئنا دون أن يتدخل في أمرنا أحد.
ومن المظاهر العجيبة التي استرعت نظري طائفة المبشرين الذين يسيرون بعربات كبيرة زُوِّدَت بمكبرات الصوت، ودينامو الكهرباء والأضواء، ويقفون على نواصي الطرق يبشرون بالمسيح والمسيحية، وكنت أرى الناس وقوفًا حول المبشر بعضهم منصت، والبعض ساخر، والرجل يقول: المسيح الذي ضحى بنفسه من أجلنا كيف لا نؤمن به Lose faith in kim؟ فصاح رجل من المستمعين قائلًا: ولِمَ لم يرفع عنا الخطايا دون أن يلجأ إلى تعذيب نفسه؟ وكيف يموت وهو Supreme being؟ أنا لا أعتقد في وجوده، وآخر قال: هل تعلم ما كان لون آدم وحواء Adam & Eve؟ وثالث قال: قبل أن يولد المسيح هل لم يكن هناك عالم موجود؟ وكيف خلق المسيح هذا الكون ومتى؟ فكان المبشر يتهرب من الأسئلة ويقول: هاكم الإنجيل يقول: لقد خلقت العالم وقلت له: كن فكان! وكان جلهم يبدو متبرمًا غير مصدق.
fig37
شكل ١٨: في قلب الجبال الزرقاء بمقاطعة ويلز الجنوبية الجديدة.
والعجب أنهم لا يتعرضون لبعضهم، فكل منهم يُبْدِي رأيه في حرية دون اعتراض، وقد تناقش عجوزان في الأمر، واحتدم الجدال بينهما، وأخيرًا مد أحدهما يده للآخر قائلًا: Well Shake hands friend، والقوم غير متعصبين ولا يؤمون الكنائس إلا نادرًا، ويُخيل إليَّ أن تلك النزعة التي تباعد بينهم وبين الدين هي التي حدت بالقسس وأرباب الكنائس أن يخشوا على مستقبلهم، فنشطوا بتلك الدعاية، وشجعوا طائفة من الناس اسمهم جيش الخلاص Salvation Army من الشبان والفتيات يلبسون أردية خاصة، ويطوفون بالشوارع.
وقد شاهدت حلقة منهم نصفها من البنات والنصف من الشبان يغنون ويطبلون بالدفوف، ويلعبن ويَدُرْنَ على تلك الأنغام، ثم يقفن ويتقدم واحد، ويقف على كرسي ويُحدث المستمعين حديثًا أساسه الإيمان، ووجوب التمسك به Faith in Jesus.
ومظهر الديمقراطية يبدو في كل شيء حتى في المطاعم، فترى المطعم الرخيص إلى جانب الأرستقراطي كثير النفقات، وإذا دخلت الأول رأيت به العامل بملابسه القذرة إلى جوار المتأنق الوجيه من الناس، وتعجب لرخص الطعام في تلك المطاعم، فبعضها يعطي الوجبة ذات الصنفين Two Course Meal بقرشين، وذات الثلاثة Three Course Meal بسبعة بنسات، أي أربعة وعشرين مليمًا، ويتبع ذلك الخبز والزبد والشاي غالبًا أو القهوة.
كذلك النُّزُل ترى الفندق يعلن عن الغرفة بشلن ونصف، وإلى جواره آخر يعلن عنها بثمانية شلنات أو يزيد، ولا تكاد تعرف الفقير إلا بلهجته الغامضة وهو يستخدم كثيرًا من الكلمات الدارجة Slang، ويُمعن في الحديث عن طريق الأنف، ويزيد الكلمات لفًّا وعوجًا حتى لا يكاد يُفْهم.
ومما استرعى نظري بعض الكلمات العربية، مثل: مافيش وامشي Mafeesh وImshee بمعنى «لا شيء واذهب»، وكثير منها يرجع إلى السكان الأصليين. ولا تزال أسماء البلاد والأنهار وما إليها تشعر بذلك مثل: بلدة Katumba، وناحية Wallamaloo وTarra Murra.

ومن الجهات الجديرة بالزيارة: المتحف الذي زرته — والدخول إليه مباح بغير أجر للجميع — فكانت معروضاته حيوانات محنطة، وهياكل عظيمة لحيوانات العصر الحاضر والبائد، وبخاصة الأسماك، ثم قسم چيولوجي به جُل المعادن والصخور.

fig38
شكل ١٩: الداليات والصاعدات في مغارات جنولان في الجبال الزرقاء.
ويقتصر القسم التاريخي على مجاميع من أسلحة سكان جزائر المحيط الهادي وأدواتهم، وكذلك مخلفات الأستراليين الأقدمين aboriginals. وقد استرعى نظري في هذا القسم شعار الحزن من حزمة من نثير جذع بعض الشجر يلبسه رجل أخرس، ثم يأكل قطعة من الجثة لتهديه إلى تعرف المتسبب في الموت، ويدل هذا الرجل عليه، ثم نعش القتيل، وهو أسطوانة أصلها شجرة منقورة قطرها قدم، تُحْشَر بها عظام الفقيد بعد أن ينزعوا اللحم كله، ويُطْبَخ هذا اللحم ويُقَدَّم للزائرين والمقربين ليأكلوه. أما أقرباؤه فلا يقربونه.

وكان بعض تلك النعوش يُعْرَض بعد كسره وإظهار العظام منه، ثم قسم صغير جدًّا مصري به جثتان ملفوفتان في كفنهما وداخل توابيتهما يرجع زمنهما إلى ما بين ٦٠–٣٠٠ق.م، ثم عدة رءوس محنطة من الأسرة الخامسة، ثم قليل من ألواح بابل الطينيَّة. وفي ناحية مخلفات الكابتن كوك، وبعضها من أجهزته ومتاعه، والبعض مما جمع من مخلفات أهل جزائر المحيط الهادي.

وقد راقني في قسم الحيوان المحنط كانجارو عملاق يفوق الزرافة طولًا، وكان يعيش هناك وانقرض اليوم، ثم أنواع لا حصر لها من ذوات الجيب، وحيوان البلاتبوس «ذو المنقار البطي»، ثم الطائر القيثاري lyre، وهو أسود في حجم الدجاجة الكبيرة، وله ذَنَب ريشه طويل، وله زَغَب خفيف كريش النعام، ومن وراء هذا ريشتان منقوشتان كبيرتان في رسم القيثارة تمامًا.
ثم الطائر القسوري Cassowary، وهو مثل الإيميو إلا أنه أسود الريش كالنعام، وله عرف طويل، والطائر الضاحك الذي يسمونه كوكابورا kookaburra الذي يُرَى في أستراليا، ويعيش على الأفاعي التي ينقضُّ عليها، ثم يرفعها في الجو ويرمي بها إلى الأرض؛ حتى تضعف، ثم يجرحها ويلتهمها، وصياحه ضَحِك مستمر يسترعي النظر، وهو قريب الشبه بالغراب الأسود الكبير، إلا أنه أضخم جسمًا، وأقصر رقبة، وأطول منقارًا، وضحكته هكذا كا كا كا هو ka ka ka hoo، ومن السمك: الراي، يحكي الترس المستدير في لون أغبر، وله ذنب قصير رفيع تخرج من أعلاه شوكة مسننة سامة قتالة، وجلده متين خشن تُتَّخَذ منه بعض المبارد.
وفي ناحية قرب الميناء متحف الفن Art Gallary، وهو صغير، وغالب معروضاته من الصور الأجنبية، أما إنتاج الأستراليين فقليل، وإن كانت بعض صورهم آية في الإبداع، ثم كانت زيارتي لحديقة النبات Botanical Garden، وهم يعنون بهذا النوع من الحدائق في كل بلادهم، فإذا ما تحدثت إلى أحدهم عن أي بلد من بلادهم سارع بسؤالك: هل رأيت حديقة النبات؟
fig39
شكل ٢٠: همج أستراليا أحط الفصائل البشرية عقولًا.
والحديقة بها مجموعة لا بأس بها من النبات خصوصًا الاستوائي Tropical، وأروع ما بها Giant Ferns، وفي جانب من مدخل الحديقة دار الموسيقى Conservatorium of Music، وبه مدرسة هائلة لتخريج الموسيقيين المحترفين، ومتحف صغير لآلات الموسيقى، وغالبها لهمج المحيط الهادي.
ومن الأحياء العامرة ناحية من المدنية تُسَمَّى King’s Cross هي أكثر جهات البلدة حركة وجلبة في المساء، وتُصَفُّ على جوانبها دور الملاهي، خصوصًا السينما والمقاهي بديعة التنسيق، والمطاعم الفاخرة، وتظل أضواؤها ساطعة إلى ساعة متأخرة من الليل، وهي على ربوة تنحدر منها الطرق في صعود وهبوط إلى مد البصر.

ولن أنسى منظر أحياء المدينة وأنا فوق تلك الجهات العالية؛ إذ كانت تنتثر بالثُّريَّات المتلألئة إلى مد البصر، وبعضها يسطع ويخبو في ألوان مختلفة، وأينما نظرت رأيت جانبًا من الميناء وأجوانها النحيلة وقد فُرِشَت منحدراتها بتلك النجوم الساطعة في جمال لا يُحَدُّ.

مر الأسبوع الذي أقمته في سدني وكأنه سويعات قصيرة، رغم أن الجو في الثلاثة أيام الأخيرة كان قاتمًا غائمًا مطيرًا، وهذا الشهر أسوأ وقت لزيارة البلدة، وقمت أودع أستراليا، تلك البلاد التي تُعَدُّ أكبر الجزائر، وأصغر القارات، وأحدث بلاد الدنيا مدنية، وأقدمها من الوجهة الجيولوجية، فلقد طالت عزلتها عن سائر القارات؛ فخمد تطور الإنسان فيها، وظل الأسترالي الأصلي إلى اليوم يعيش في طور البداوة الأولى، ولا يزيد مستواه على مستوى إنسان العصر الحجري. ولقد تأخر كشفها بسبب بُعدها، وامتداد صحاريها، وقسوة جبالها، وقد ساعد هذا على قيام أمة تستند على أصول الحرية والديمقراطية؛ إذ لم تتأثر برجعية القرون الأولى وتقاليدها، حتى إنِّي كلما حدثت نفرًا منهم قالوا: نحن نعيش في بلاد حرة.

ولقد بلغت تلك البلاد من التقدم والثراء حدًّا كبيرًا؛ فمستواهم الثقافي عظيم بفضل جهود الدولة في التعليم الذي تنفق عليه فوق ثمانية ملايين من الجنيهات، هذا خلاف مجهود المدارس الأهلية، وحتى النساء يساهمن في الشهادات العالية، وغالبهن يُؤْثِرن جانب التربية، فَجُلُّ المُدرِّسات في المدارس الابتدائية والصناعية والثانوية منهن، وكثير من المُحاضِرات في الجامعات من النساء، ولهن حق الانتخاب منذ سنة ١٨٩٤، ومنهن كثير من البوليس، وبيدهن سلطة كبيرة.

fig40
شكل ٢١: همج أستراليا كلفون بالقتال بحرابهم الطويلة وتروسهم.

وليس الفقر بحائل دون التعليم، لذلك وجدت كل الكفاءات مجالًا للظهور، وللسينما فضل ثقافي كبير، ودور السينما متعددة في كل مكان حتى في القرى، وقد دل الإحصاء على أن في أستراليا فوق ١٥٠٠ دار للسينما، أي بمعدل دار لكل أربعة آلاف نفس، وتلك النسبة تفوق حتى الولايات المتحدة، ومن تلك الدور تسعون في سدني، وثمانون في ملبورن، ويزيد ما يُعْرَض سنويًّا من الأفلام على ٢٥ مليون قدم، أي نحو ألفي فلم، ونحو ٨٥٪ منها أمريكي؛ لذلك كانت جل الثقافة أمريكية لا أوروبية.

وإذا ذهب الأمريكي إلى أستراليا لم يلحظ فرقًا كبيرًا بينها وبين بلاده؛ ففي الحقول يرى الزراعة بالآلات الحديثة، وفي المدن يرى دور الملاهي الأمريكية، وحتى الجرائد والمجلات تتبع أمريكا في نظامها وضخامتها. والأستراليون رواد مدن، ويندر من يعيش منهم في القرى، وقد دل الإحصاء على أن ٨٥٪ منهم يحلون المدن، ولا يهمهم من أمر العالم الخارجي شيء، فَقَلَّمَا تشير الجرائد إلى البلاد الأخرى.

وتميل الصحافة إلى مداهنة الشعور القومي دائمًا؛ لأن الناس يغضبون لأي نقد يُوَجَّه لهم، وهم يفاخرون بأنهم أكثر الأمم حرية، وهم على جانب كبير من حب المعاشرة والكرم؛ فمهما بلغ بهم الضيق المالي لا يغفلون كرمهم. والأسترالي أكثر اعتمادًا على نفسه حتى من الإنجليزي، يبدأ عمله في الحياة مبكرًا في حداثة سنه، ويجري وراء المادة بجد، فإن خسر في حياته لم يفزعه ذلك، بل تراه يجدد مجهوده بأمل صادق في المستقبل وتفاؤل مبشر، وهو في صبره واحتماله وأريحيته وكرمه قريب شبه بساكن الصحراء، فبمجرد التعارف يكاشفك بكل شيء، ويتخذك صديقًا، ويدعوك إلى منزله، ويصحبك ليطوف بك بالعربة وهو في كل ذلك مرح ضحوك، وليس لفوارق الطبقات وجود لديه؛ فقد يكون الوزير من أبوين وضيعين، وقد يكون حفيد العظيم عاملًا بسيطًا، ولا ضير في ذلك قط، وبقدر كدِّه وراء الرزق تراه مبالغًا في لهوه ولعبه.

ومستوى المعيشة بينهم مرتفع جدًّا؛ فالمنزل الصغير يتطلب خمسة عشر جنيهًا نفقات شهرية على الأقل، وأجر الطباخ الماهر جنيهان في الأسبوع، وأجر الخادمة أربعة جنيهات في الشهر، ويُرْمَى الأستراليون بأنهم يفتقرون إلى الحياة المنزلية، ولعل ذلك راجع إلى جوهم المشمس الصافي الجميل الذي يشجع الحياة خارج المنزل، وإلى أنهم جميعًا موسرون ينفقون كثيرًا من المال في الخارج؛ لذلك كثرت الأندية التي قد يشترك الواحد منهم في عشرة منها في آنٍ واحد، إلى ذلك حياة الخلاء والشواطئ والمراقص التي أُغْرِمَ بها الجميع، فلا تكاد تكلم أحدهم عن بلاده حتى يسألك قائلًا: هل رأيت شواطئنا beaches؟ وإذا دعا أحدهم صديقًا له أضافه في فندق؛ لأن المنازل يعوزها الاستعداد والخدم، ولقد خلف فيهم ذلك حب الديمقراطية والرياضة التي ولعوا بها إلى حد الجنون.
fig41
شكل ٢٢: أُشْرِفُ على ميناء سيدني من حديقة الحيوان.
وهم متفائلون مستبشرون دائمًا؛ فترى الواحد يقول: ذاك الضنك سيزول في غير رجعة، ولم لا؟! أليست بلادنا غنية وفيرة الخيرات والموارد؟ ويُعْزَى ذاك التفاؤل الجميل إلى جوهم المشمس الباسم، إلى ذلك فهم نزاعون إلى التساهل والتسامح وتيسير الأمور، وأنت تسمع على ألسنتهم دائمًا عبارة Give it a go أي «خليها ماشية»، وهم في ذلك يشبهون المصريين، ويعزو البعض تلك البساطة إلى عزلتهم عن العالم، وإلى المساحات الشاسعة التي يقطنها عددهم القليل، ومثل ذلك لا يساعد على إنتاج العقول الراجحة، وبُعْد النظر في تصريف الأمور.

ومظهر الغِنَى واليسار غالب على كل فرد؛ فيكاد كل واحد يمتلك سيارته ومسكنه الذي يتراوح ثمنه بين ٣٠٠–٣٠٠٠ جنيه، وأجور العمال عالية باهظة تكفلها لهم الدولة نفسها، وتدفع لهم المرتبات والمعاشات السخية في حالة البطالة، فالقانون يمنع العامل أن يشتغل بأقل من ٦ بنسات، و٧ شلنات، و٣ جنيهات في الأسبوع، أي نحو خمسين قرشًا في اليوم.

والفقراء تتعهدهم الدولة ولا تتركهم لتبرعات المحسنين كما هي حال أوروبا؛ لأنها تعدُّ ذلك من الواجبات العامة. وتكاد الدولة تشرف على كل شيء، من بينها التعليم والمصارف وطرق المواصلات، وبخاصة سكة الحديد، وأهمها الخط القاري ويسمونه The Trans، ويمر بين العواصم كلها من پرث إلى برسبين، وطوله ٣٤٧٤ ميلًا تقطعه القاطرات في ستة أيام.
fig42
شكل ٢٣: لا يزال الأسترالي الأصلي يعيش في العصر الحجري.
وأهم موارد البلاد المراعي، فأول الصادرات الصوف بنحو ٥٥ مليون جنيه في العام، ثم القمح والدقيق بنحو مليون جنيه، فالجلود ، فالزبد ٧، فاللحم ٦، فالفاكهة ، والصادر من الصوف آخذٌ في الزيادة لجودته، لكن اللحوم آخذةٌ في النقص لأن أغنام المرينو رديئة اللحم، جيدة الصوف.
والصوف هنا ثلاث درجات: المرينو الصافي للنسيج الممتاز، ثم المختلط للنسيج العادي، ثم الخشن لصنع الطنافس والأغطية «البطاطين»، ولقد صَدَّرت أستراليا ربع صوف العالم، ونصف نوع المرينو المطلوب في الأسواق، وبلغ الإنتاج فيها ٩٥٦ مليون رطل، وقد بلغ ثمن الرطل ٢٨ بنسًا، لكنه نزل هذا العام إلى تسعة بنسات؛ لذلك كان الفلاح يشكو الضائقة المالية، ويخشون اليوم مزاحمة الصوف الصناعي، وعدد الأغنام في البلاد مليون؛ فهي أُولَى بلاد صوف المرينو، وقد يبلغ ثمن الخروف الأصيل الواحد ٥٠٠٠ جنيه، أما الماشية فتنتشر في كل مكان، وبخاصة كوينزلند، لكنها تسد الحاجة المحلية فقط.
ويلي ذلك القمح الذي بلغ محصوله ٢٠٠ مليون بوشل، أي نحو ٤٠ مليون أردب يُصَدَّر نحو خُمسها. ومن الإنتاج الهام هناك السكر، لكن زرعه يتكلف كثيرًا بسبب علو أجور العمال، فهي ١٧ شلنًا في اليوم مع أنها في الهند خمسة بنسات، وفي جاوة عشرة؛ لذلك كان ثمنه غاليًا. ومجموع صادرات أستراليا مليون جنيه.

والصناعة آخذة في النشاط؛ إذ يُوَظَّف فيها اليوم ٢٠٠ مليون جنيه، وتُنْتِج المصانع ما قيمته ٤٠٠ مليون جنيه كل عام، خصوصًا في ويلز وفكتوريا، وبسبب علو الأجور زادت في البلاد قوة الشراء، فأضحت أستراليا من أغنى الأسواق، على أن نفقات الإنتاج الصناعي تزيد ٥٠٪ عنها في إنجلترا؛ لذلك كانت السلع غالية، ومستوى المعيشة مرتفعًا، وتحاول الدولة علاج ذلك بالضرائب الجمركية الحامية، لكن حالة أستراليا المالية ستظل في ضيق حتى تُعَالَج المشكلتان: علو الأجور، وعلو الضرائب الحامية.

أما الضرائب العامة فَعَالِيَةٌ جدًّا، وعبؤها ثقيل على الناس؛ إذ تزيد على ٣٠٪ من الدخل، وأكبر سبب لذلك كثرة ديونهم، فالدَّين العام ١٢٠٠ مليون جنيه، منها ٨٠٠ مليون نفقات الحرب العظمى. وكثير من مرافق البلاد مُعَطَّل بسبب قلة السكان وعلو الأجور، لكنهم يخشون إن هم فتحوا باب المهاجرة أن تطغى عليهم الأجناس الدخيلة. ولا تزال البلاد ناشئة وتثق في مستقبلها ثقة كبيرة، وكثيرًا ما كنت أسمع تلك العبارة تجري على ألسنتهم مجرى المثل، وهي: تعيش أوروبا على ماضيها، وأمريكا على حاضرها، أما أستراليا فعلى مستقبلها. ويشبهها البعض بحسناء لَمَّا تستيقظْ من نومها بعدُ فيقولون: She is a sleeping beauty.
fig43
شكل ٢٤: شارع من أوكلند.
كان لا بد لي أن أبرح البلاد الخميس ١٦ يوليو، وإلا اضْطُرِرْتُ لانتظار الباخرة التالية شهرًا كاملًا، ولم يكن لدي من الزمن أقضيه في زيلندة الجديدة سوى أسبوع واحد؛ فآثرت أن أستشير دار السياحة الزيلندية New Zealand Government Tourist Bureau، فقامت بتنظيم رحلة تشغل السبعة أيام، ودفعت لها ٨ بنسات، و١٦ شلنًا، و١٢ جنيهًا أستراليًّا، أعني زهاء عشرة جنيهات مصرية، وقد زُوِّدت بمجاميع من المطبوعات عن زيلندة، بعضها مصوَّر بالألوان البديعة، والبعض وافر الشرح مزود بالخرائط، وكل ذلك يُصْرَف مجانًا لمن أراد، وتلك طريقتهم الناجحة في الدعاية لبلادهم. ولقد ذلل لي ذاك المكتب صعاب الجمارك، وأعفاني من التأمين الذي يدفعه كل من حل زيلندة — وقدره عشرة جنيهات — وتلك المكاتب تجدها في أمهات مدنهم جميعًا، وتسير في دقة وإخلاص عجيب، وكلها حكومية.

قمت أبرح أستراليا تلك البلاد التي لم نكن نعرف عنها إلا ما يتعلق بالذهب وسبكه، والصوف وتصديره، والهمج الأصليين وسلاحهم من البوميرانج، فكان يُخَيَّل إليَّ أني سأرى قومًا من الرعاة يعيشون عيشة بدوية، وإذا بي أرى شعبًا راقيًا فاق سائر الشعوب حضارةً، وحتى رعاتهم في الريف على جانب كبير من التهذيب ونظافة الهندام وجمال المساكن. حقًّا كانت تسترعى نظري أينما سرت حوانيت عرض اللحوم ومنتجاتها، فكنت أقف إلى جوارها طويلًا وأنا مدهوش لرخص المعروضات أولًا، وللتأنق الشديد في عرضها في «فترينات» كبيرة غاية في النظافة والوجاهة.

ولم أعجب لهذا الرخص، فقد بلغ بهم انخفاض الأسعار أنهم كانوا يبيعون الشاة بشلن واحد في السنوات الأخيرة، حتى هجر الكثير منهم مزارعهم وتخلَّص من قطعانه وبحث عن عمل آخر، غير أن الحال قد تحسنت قليلًا الآن بفضل ما تقوم به البنوك من الخدمات للفلاح، وقد كانت تدهشني كثرة المصارف؛ فلا يكاد يخلو منها شارع واحد، وهي متعددة وفي أبنية رائعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤