أمريكا الشمالية
(١) عبر المحيط الهادي إلى أمريكا
وأخيرًا بدأت جوانب الميناء تتضاءل وتتقارب وينحصر جمالها حتى كنا في عرض البحر بعد ساعة من الزمن، ثم ظلت جبال زيلندة وجزائرها الصغيرة تبدو طوال النهار، وكان جل المسافرين من الأمريكان والأستراليين والزيلنديين، وكلهم متقاربون في الخِلْقة والخُلُق، وكان المحيط الهادي رفيقًا بنا وديعًا، فلم يحرك من غضب موجه شيئًا مع أنَّا كنا نقرأ أن زوابعه المجانبة لشواطئ اليابان، وتُسَمَّى تيفون، تجتاح تلك البلاد وتدمر من قراها وتتلف من أرواحها الكثير، وظل على هدوئه هذا ثلاثة أيام إلَّا قليلًا حتى أقبلنا على جزائر فيجي.
جزائر فيجي
رسونا على رصيف الميناء وكان الجو أغبر ماطرًا، لكنه ما لبث ينكشف، وما مضى الظهر حتى بدت الشمس ناصعة بين بقع السحاب المنثور. أخذنا سيارة طافت بنا زهاء ساعتين بين وهاد ونجاد تسدها الخضرة سدًّا، وهنا وهناك تبدو الأكواخ الخشبية في الأحياء الراقية، وأخصاص من الحشائش للأحياء الفقيرة، والناس جلهم من الفيجيين ذوي الوجوه المفلطحة العريضة، والأجسام المفتولة الطويلة، فهم من العمالقة نساء ورجالًا.
 
                     
                     وأعجب ما يسترعي النظر فيهم شعرهم؛ فهم جميعًا يتركونه ينمو رأسيًّا في هالة قد تزيد على الشبر طولًا للنساء والرجال معًا، والشعر أجعد خشن أسود، وقليل منه مصفر، وهم يسيرون حفاة الأقدام عراة الرءوس دائمًا، أما الملابس فتحكي لفائف الهنود أسفل الجسد في ألوان مزركشة، واللون الأحمر غالب عليها، وقد يُتْرَك أعلى الجسد عاريًا، وهم على جانب كبيرة من الرقة والوداعة، ينظرون إليك ويبتسمون، ثم يسارعون بالحديث والتودد إليك، ولا يهمهم من أمر الدنيا شيء، فهم قانعون أبدًا ويشعرون بسعادة الحياة كاملة، أما سحنهم فمنفرة في الغالب، وإن كانت أجسادهم جميلة أميل إلى السمن.
ويختلط بهم الهنود في كثرة عجيبة في المدينة والقرى جميعًا، ويقومون بغالب الأعمال التجارية، وشتان بين أجسادهم الناحلة الضئيلة وجسوم الفيجيين كاملة النمو. زرنا بعض مدارسهم — وللفتيان مدارس معزولة عن مدارس البنات — وكان عدد المدرسة أربعمائة طالب منهم من يفوق العشرين عامًا في السن. وهي مدرسة ابتدائية تديرها جماعة المبشرين، ولا يكادون يتقاضون من المصاريف إلا النادر، ولا تزيد على خمسة شلنات في العام، وهم يضعون في كل حجرة طائفتين من الطلبة: قسم للهنود، وقسم للفيجيين. ويتعلمون الإنجليزية ثم لغتهم الخاصة. ولغة الفيجيين لم تكن تُكْتَب، لكنهم يكتبونها اليوم بحروف إنجليزية.
جزائر عديدة تفوق ٢٥٠ جزيرة، لكن المسكون منها زهاء ٨٠، ويخترقها خط طول ١٨٠°، فبعضها يقع غربه والبعض شرقه، والذي يسير من الغرب — كما نسير نحن في رحلتنا — يربحون يومًا، فلقد كان يومنا أمس الثلاثاء ٢٨ يوليو، فأصبحنا اليوم الثلاثاء الثاني أيضًا ٢٨ يوليو، وكنا نعتقد أنه الأربعاء فَقِيلَ لنا: لا، بل الأربعاء غدًا، أما إذا كنا وافدين من الشرق من أمريكا سائرين إلى الغرب، فإذا كان أمس الثلاثاء فاليوم الخميس إذا اجتزنا الخط ومررنا بالنصف الغربي بالجزائر، وبذلك نخسر يومًا يضيع علينا فلا نذكره، ولقد قابلنا ركاب باخرة أخرى في سوڤا، وكان المسافرون معتقدين أنه يوم الأحد فأصبحوا هنا الثلاثاء، وبذلك «نطوا» الاثنين.
 
                     
                     وأني لأعجب لسرعة تغير الجو، فلقد أصبح الحر لا يُطَاق هنا والشمس مُحْرِقَة، والسير مُجْهِدًا، مع أنه منذ ثلاثة أيام كانت تصطك أسناننا من أثر البرد القارس يوم برحنا زيلندة! وماذا عسى أن يكون الحر في الأيام القليلة الآتية ونحن مقبلون على خط الاستواء — وجزائر فيجي تقع على ١٦° جنوبًا تقريبًا — والشمس عمودية الآن على عروض الشمال ١٢°ش، والفيجيون شعب من الميلانيزيين الذين ينتمون إلى الجنس الزنجي، والجزائر مُستعمَرة بريطانية منذ ١٨٧٤.
سلكنا سبيلنا إلى الباخرة، وهناك في مجاورة رصيف الميناء عرض الفيجيون تجارتهم من الأصداف وشعاب المرجان الملونة بديعة الأشكال إلى عقود المرجان، إلى أسلحة القوم من سهام وقسي ومطارق وزوارق خشبية صغيرة، وأعجبها المزدوج، فترى زورقين بينهما شبكة عريضة من شرائح الخشب المزركش ليُقَامَ عليها مسكن فوق الماء، وأخذ كلٌّ يحاول اجتذاب أنظارنا إلى سلعه في رقة، وفي غير ذاك الإلحاف المقيت الذي نلاحظه في بائعي الهند وبورسعيد مثلًا.
وفي الخامسة مساء آذنت الباخرة بالرحيل وعزفت موسيقاها كما هي العادة كلما أقبلنا على مكان جديد أو انصرفنا عنه، فأخذت جوانب الميناء تتقارب وينحصر جمالها بخضرتها الناصعة وبيوتها الحمراء نثرت على المنحدرات، وجماهير الناس يودعوننا بهز أيديهم ومناديلهم. والفيجيون يشبهون الماوري في رقتهم وأجسامهم وخفة روحهم ومرحهم الدائم، لكن شتان بين جمال الماوري وبين وجوه هؤلاء التي يندر أن ترى بها مسحة من جمال.
جزائر ساموا
 
                     
                     هنا استقبلنا الأهالي بوجوههم السمحة وسحنهم الجميلة نساءً ورجالًا وأطفالًا، ودعونا إلى ساحة الرقص، فدخلناها وجلسنا، وإذا بثلاثة صفوف من فتيات لبسن حول الخصر حزامًا عريضًا له ذؤابات تتدلى إلى القدمين، وتركن النصف الأعلى عاريًا بلونه الأسمر الخمري الجذاب، وأجسادهن الممتلئة صحة ونشاطًا، ووجوههن الجذابة، وأخذ قائدهن ينقر على صفيحة بعصاه نقرات منتظمة وهن يرقصن وقوفًا وقعودًا، ويغنين ثم يختمن الأغنية والرقصة بضربة من الأقدام وصيحة عالية، وكان الرجل يعلن عن اسم كل رقصة، وتطوف علينا الفتيات بجوز الهند الطازج وقد شطفن ناحية لنشرب ماءه اللذيذ. وتلك تحية لقدومنا.
 
                     
                     خرجنا نطوف البلدة، وإذا بها مجموعة أكواخ من قوائم خشبية يغطي ما بينها القش والعشب، وقد يكون البيت مستطيلًا متحدر السقف أو دائريًّا مخروطي الغطاء، وفي وسط البلدة دار فسيحة لعقد الاجتماعات، وللقرية أربعة رؤساء «زعماء»، وهم الذين يتكلمون ويخطبون في المجتمعات مدافعين عن «صوالح» ذويهم، وكنا نرى أطلال بيوت مهشمة قِيلَ لنا: إن إعصار الهركين مرَّ بها فاجتاح منها الكثير.
وقد استرعى نظرنا جمال السِّحَنِ وجاذبية اللون الخمري خفيف السمرة، وهم قريبو شبه بالماوري في زيلندة الجديدة، ولكنهم بعيدون البعد كله عن أهل فيجي الزنوج، وكثير منهم خصوصًا النساء يرسلون شعورهم السوداء البرَّاقة الهادلة التي تزيدهم رونقًا وجمالًا، وليس بالجزيرة عدد كبير، بل هم قليلون، وهم من الجنس البولنيزي، ويبدو لنا من أشكالهم أثر الجنس الصيني واضحًا، وكم كان سرورهم بوفودنا كبيرًا، فهم يشعرون بالأنس الكبير كلما وفدت عليهم باخرة، وكانوا يتطوعون جماعات لإرشادنا ولا يبتغون من وراء ذلك نفعًا، وكثير منهم كان يعرض علينا صداقته وعنوانه لنكاتبه نساءً ورجالًا، وبعضهم كان يقدم عقود المرجان وبعض أشغال الخشب المنقور هديةً لنا، ويرفض أن يتقاضى ثمنها.
 
                     
                     ومن أبدع المناظر عقود الزهور الضخمة الملونة الطويلة يلبسونها جميعًا رجالًا ونساءً، وكلما ذبل واحد أعاضوه بغيره، وهم يَفْتنُّون في تنسيقه فيبدو رائعًا، ولا تكاد ترى واحدًا يمشي بدون ذاك العقد يتدلى على صدره، وقد ألبسونا تلك العقود لمَّا أنْ دخلنا دارهم. ولقد عزفت فرقة الموسيقى وغنى معها جمع من الفتيان على شاطئ البحر تجاه السفينة وداعًا لنا عند قيامنا. وعند الساعة الواحدة بعد الظهر ركبنا الزورق الصغير، فأقلَّنا إلى السفينة التي ترسو على بُعد من الشاطئ، وقامت بنا تتنحى عن ذاك الخليج البديع، ثم لبثنا نمر بمجاميع من جزائر صغيرة يجملها ذاك النبات الكثيف الذي يكسو رباها الشاهقة، ونخيل النرجيل الأنيق الذي يزين شطآنها، حتى اختفت عن الأنظار، وعدنا منعزلين وسط مياه المحيط الهادي الساكن الرهيب، ونحن نتحدث عن جمال تلك الجزائر وجاذبية أهلها.
 
                     
                     وساموا مجموعة من جزائر أهمها ثلاث: الاثنتان الغربيتان تديرهما زيلندة الجديدة مُنْتَدَبَةً عن عصبة الأمم، وقد كانتا لألمانيا قبل الحرب، وأهلها زهاء ٤٥ ألفًا، والثالثة الشرقية لأمريكا، وسكانها ١٢ ألفًا.
هونولولو
 
                     
                     استأجرنا سيارة بخمسة عشر ريالًا — وكنا خمسة أشخاص — لتطوف بنا البلد، وتستوعب الجزيرة كلها، وأخذنا نشق شوارع البلدة وكأننا نسير في إحدى كبريات مدن أمريكا تمامًا؛ فالمباني رشيقة، ومعروضات الحوانيت جذابة، وحركة المرور وبخاصة السيارات تسد الطرق سدًّا، حتى صعب علينا استخدام آلة التصوير فيها، وجماهير المارة في الطرق كثيفة متعددة الأجناس؛ فإلى جانب الوطنيين ذوي الشعر الأسود المرسَل، والسحن المفلطحة، واللون الأسمر، والعيون الكبيرة، والقامات الطويلة، رأينا عددًا غالبًا من اليابانيين في أرديتهم الفضفاضة، ثم البرتغاليين، ثم الصينيين والفلبينيين بسحنهم العجيبة، وقليل من الهنود في جسومهم الناحلة، ثم الكوريين في أكمامهم المنتفخة.
 
                     
                      
                     
                     ومن أجمل ما استهوى أنظارنا مشهد حقول الأناناس تنتشر إلى الأفق فوق أرض مموجة، وفي تخطيط هندسي بديع، والنبات يبدو كالصبار يتوسطه كوز مصفر محبب من الثمر تزين قمته ذؤابة مورقة، وقد تزن الواحدة ١٢ رطلًا. ومن تلك المزارع عشرون ألف فدان في تلك الجزيرة، وهو أجود أنواع العالم حلاوة وطراوة وحجمًا، ويتطلب عناء كبيرًا في زرعه؛ فبعد زرع البذور يُشْتَل ثم يُرَشُّ بالسائل المطهر ثم يُلَفُّ في ورق لحمايته وهو صغير، على أنه لا يتطلب ريًّا، بل ينمو على مياه الأمطار، وأول ثمره يظهر بعد ١٨–٢٤ شهرًا، ثم تُقْطَفُ الثمرة الأولى فتخلفها الثانية بعد ١٢ شهرًا، ثم الثالثة في السنة الرابعة، ثم يُنْزَعُ من جذوره وتُزْرَع الأرض خضرًا، ثم يُعَاد زرعه من جديد، وهو يزكو فوق المرتفعات المموجة، ويُعَدُّ ثاني حاصلات الجزيرة بعد قصب السكر.
وكنت أرى عربات سكة الحديد تجري وسط الحقول لتنقل الثمر إلى المصانع، وقد زرنا أكبر مصانع الدنيا للأناناس، وهو في هونولولو نفسها، فكان الثمر يُقَشَّرُ بآلات ثم يجري على أشرطة ليمر أمام الفتيات اللاتي كن يلتقطن ما تخلف فيه من زوائد القشر، ثم يرتبن القطع حسب النوع والحجم، ثم تُسَاق القطع إلى المخرطة لتقطيعها، ثم تمر على فريق آخر من الفتيات لوضعها في العلب، ثم تُدْفَع العلب إلى معمل العصير والسكر لرشه بالشربات من عصيره مع قليل من السكر، ثم يُعَقَّم وتُقْفَل العلب وتُشْحَن. وهنولولو أكبر جهات العالم تصديرًا له.
ومن أظرف ما استرعى أنظارنا فوق المصنع شكل ثمرة أناناس هائلة تبلغ عشرات الأمتار طولًا في لونها البرتقالي المحبب وذؤابتها الخضراء، وتلك هي مستودع المياه اللازمة للمصنع، أقيمت على علو شاهق لتمده بالماء من جهة، ولتقوم إعلانًا على إنتاج المصنع من جهة أخرى، وهي أعلى شيء يراه المرء إذا حل المدينة. وكانت حقول قصب السكر تملأ المنخفضات إلى الآفاق، وكانت أعواده بالغة الطول، لكن عقده قصيرة.
وهو ينضج هناك في ١٨ شهرًا، ويُحْصَد في كل شهر تقريبًا، فترى القصب الناشئ الصغير في جانب، والناضج الكبير في الآخر، ولا يُجَدَّدُ زرعه إلا كل ٨–١٤ سنة، ومصانعه هائلة، وهناك فرع كيمائي تحليلي خاص به ملحق بالجامعة، والأبحاث تتقدم سراعًا؛ ففي كل عام يصلون إلى تحسين نوع القصب وعصيره واستئصال آفاته بنجاح ليس له نظير في أي جهة من الدنيا. ولقد اقترح أحد أساتذة الجامعة هناك إيفاد بعض الطلبة المصريين إلى هذا الفرع — كما يفعل الأمريكيون — ما دام القصب والسكر يهم مصر اقتصاديًّا. ويغل فدان القصب سبعة أطنان من السكر غير المكرر.
 
                     
                     وتُعَدُّ هواي ثالثة بلاد العالم إنتاجًا للسكر — بعد كوبا التي تمتاز بخصب تربتها، وجاوة برخص الأجور فيها — وقد بلغ إنتاج الجزيرة من السكر والأناناس مائة مليون ريال في العام، والعامل في مزارع القصب يتقاضى ريالًا كل يوم، ويُزَوَّدُ بالمسكن والطعام والأطباء فوق ذلك. ومما عجبت له طريقتهم في إشعال النار مساء في حقول القصب إذا ما نضج، وفي باكورة صباح اليوم التالي ترى الأعواد قائمة وقد احترقت أطرافها وأوراقها، وبذلك يوفرون على أنفسهم عناء تقشيرها.
وفي جهات كثيرة كنا نمر بمزارع هائلة للموز الذين يحصون من أنواعه هناك خمسين، وبعض العراجين يزن خمسين رطلًا، ويحوي ٣٠٠ موزة، وهناك نحو عشرين نوعًا ينمو بريًّا ويفضله الأهالي لأنه لذيذ الطعم، عطر الرائحة، ولا يزيد عمر الشجرة على سنة ونصف، ثم تُقْطَع وتُغْرَس فسائلها من جديد، وقد يصل طول الشجرة اثني عشر مترًا.
أما شجر البوبوز ففي كل مكان يحمل وسقه من أكواز خضراء كالشمام، وهو يثمر طوال العام، ويقدمونه في الإفطار، وهو حلو لذيذ، وله أثر كبير في تنشيط الهضم. لبثنا ننتقل في تلك الجنة الساحرة، ونمرُّ بشواطئ تلك الجزيرة البديعة، وكان القوم يصيدون السمك في كثير من تلك النواحي بحرابهم، فينسل الشاب بين صخور الشاطئ، وما أسرع ما تراه يلقي بحربته الطويلة في الماء ويُخرج وقد علقت بها سمكة كبيرة! وكثير منهم يصيدون السمك ليلًا على المشاعل، فيمسك الواحد منهم بشعلة نار وراء ظهره ويسير وسط الماء، فتجتذب تلك الشعلة السمك، فيقرب منه، وعندئذ يُعْمِل فيه حِرابَه قنصًا وصيدًا.
 
                     
                      
                     
                     ومن معتقداتهم أن الزعماء مبعوثون من عند الله؛ لذلك يجب تقديسهم، فلا يصح لأحد الوقوف إذا مر زعيم أو ذُكِرَ اسمه، بل يجب الركوع، ولا يجوز استخدام المجرى الذي يستقي منه الزعماء، ولا الطعام الذي يأكلونه. والزعماء هم مُلَّاك الأرضِ وصيدِ البحر ومجهودِ الناس وعملِهم، والملك يُوزِّع ذلك على الزعماء، وهؤلاء على أتباعهم في شبه نظام إقطاعي.
 
                     
                     بلاد يشعر المرء فيها بالسعادة الكاملة؛ إذ يستمتع بكل شيء، ويرى القوم فيها هانئين يسيرون مرحين وهم يغنون، ويرقصون، ويزينون أعناقهم بعقود الزهر الجميل وهم حفاة، وإذا جاع أحدهم أو عطش تسلق شجرة النرجيل وألقى بثمرها إلى الأرض، واستمد منه غذاء وشرابًا، والجو حوله ممتع مُوَحَّد طول العام، فَسَنَتُهُم شهر من شهور الربيع مداه ٣٦٥ يومًا، والسماء مشمسة تلطفها الرياح التجارية البليلة، وترسل عليها مطرًا متقطعًا ينزل غالبه ليلًا، والهواء خالٍ من الأتربة والأوساخ؛ فلا تكاد تعرف الجزيرة الأمراض قط، ويزين سماءهم قوس قزح حتى في ضوء القمر.
وليس في لغتهم كلمة تعبر عن معنى الجو، وكثير منهم على جانب عظيم من الثقافة؛ فالتعليم هناك ذو مستوى عالٍ منذ زمن بعيد، فلقد بدأت المدارس هناك عملها قبل أن تبدأ في كلفورنيا نفسها، وكان سراة كلفورنيا يبعثون بأبنائهم لتلقي العلم فيها. وجامعة هونولولو عظيمة راقية، وكثير من طلاب أمريكا يحضرون دروس الصيف فيها؛ ليجمعوا بين العلم والاستمتاع بعطلة الصيف، وقد علمت أن عدد التلاميذ في الجزائر بلغ ٩٢ ألفًا في نحو ٢٥٠ مدرسة، ويقوم بالتدريس لهم ٣٢٠٠ مدرس، وفي الجامعة زهاء ٤٠٠٠ طالب، وهي تسير على نمط جامعات أمريكا.
 
                     
                     وكانت تجارة خشب الصندل أهم الموارد هي وزيت الحوت الذي كان يُصَاد بكثرة حولها، لكن تلك التجارة قد اضمحلت وحلت الزراعة محلها، خصوصًا لمَّا أنْ نشط استخراج الذهب من كلفورنيا، واحتاج نزلاؤها إلى استيراد الغذاء من هواي من غِلال وخضر، ثم شجع الصينيون زراعة قصب السكر والأرز، ثم تشعبت منتجاتها حتى أضحت على ما ترى اليوم.
وخرجنا إلى عرض المحيط ونحن آسفون أن برحنا جنة الباسفيك أو جوهرة المحيط كما يسمونها غالبًا، عندئذ أخذ المسافرون والمسافرات يلقون بعقود الزهر الجميلة إلى المحيط حتى لم يخلفوا معهم منها شيئًا؛ لأن ذلك فأل حسن يؤكد لهم عودتهم لزيارة الجزيرة مرات أخرى، وكنت ألبس من تلك العقود اثنين لم تُسِغ لي نفسي أن ألقي بهما إلى اليم، لكني لم أنجُ من لومهم؛ فكلما مرت بي آنسة قالت: ألا تريد أن تعود إلى زيارة هونولولو ثانية؟ فأقول: بلى، فتلك أمنيتي، فتقول: إذن سارع بإلقاء عقودك إلى البحر، ولما أن غلبتني كثرتهن ألقيت بالعقدين على الرغم مني، ولعل الأمل الكبير في العودة إلى زيارة هونولولو يعوضني عما فقدت من تلك العقود البديعة.
 
                     
                     وبسبب وفرة الزهور كثر النحل جدًّا، حتى إنَّا كنا نسمع طنين النحل في كل مكان، ولقد علمنا أن النحل هناك يغل مليونين من أرطال العسل سنويًّا، وقدروا أن كل عشرين ألف نحلة تحمل رطلًا من الرحيق، وهذا يصبح ربع رطل من العسل، وبذلك يكون مجموع النحل في الجزائر ١٦٠ ألف مليون نحلة، وشهر يونيو هو شهر العسل عندهم، والشمع الذي يُتَّخَذ منه أحسن الأنواع العالمية وأكثرها مقاومة للانصهار.
لوز إنجليز
عدنا إلى المحيط الهادي نشق مياهه الوديعة يومين، ثم أعقبهما آخرينِ بدا خلالهما البحر على غير ما عهدناه؛ إذ ظل مضطربًا حتى أعيى الكثير من المسافرين، وفي يوم السبت ٩ أغسطس دخلنا ميناء سان پيدرو، وهي ثغر لوز إنجليز، وكان شاطئ كلفورنيا الصخري قد بدا إزاءنا منذ المساء.
حللنا البلدة — وهي ضاحية صغيرة، ميناؤها لا يزال تحت التنقيح والإنشاء — وركبنا الترام مسافة أربعين ميلًا إلى لوز إنجليز، ومعناها الملائكة باللغة الإسبانية، فهالنا ما رأينا من أمرها؛ فهي مدينة صاخبة مائجة بالناس والحركة إلى حد كبير، وتكاد تتبع في نظامها نيويورك لأن شوارعها متقاطعة ومتعامدة، غير أنها تعلو وتهبط حسب تموج الأرض حولها، ولقد نمت نموًّا عظيمًا منذ أسسها الإسبان من ١٥٠ سنة، خصوصًا في السنوات الأخيرة، حتى بلغ سكانها مليونًا وربعًا، وأضحت خامسة مدن أمريكا، فهي أكبر من القاهرة.
أما مبانيها فجُلُّها من ناطحات السحاب التي تفوق أدوارها العشرين، ولعل أروع شوارعها برودواي نظير أخيه في نيويورك في وجاهته، والتأنق الفائق في عرض متاجره، والإسراف الكبير في تموين مبانيه بالمرمر الملون الذي يبدو وكأنه الخزف الفاخر تحده أسلاك النحاس الأصفر البديع إلى ذروته مهما علا. أما عن حياة الليل فيه وفيما جاوره من طرق، فذاك أمر يبهر النظر، ويستهوي الحكيم، فالمقاصف والمقاهي تعددت أشكالها وبُولِغ في تنسيقها، ودور الملاهي وبخاصة السينما فاقت كل وصف جمالًا، وحركة المرور في الشوارع تسد الآفاق سدًّا، فَسَيْل السيارات دافق كل آن، هذا إلى الترام متعدد الأنواع، وقُطُر تحت الأرض، وسكة الحديد في كل جانب، وكذلك الأتوبيس، ولا يمكن لأحد أن يعبر مفارق الطرق إلا إذا أُوقِفَت إشارة المرور.
زرت بعض حدائقها ومتنزهاتها الرائعة، ومنها حديقة الحيوان التي تمتاز بإظهار بيئة الحيوان الطبيعية حوله من غابات وجبال، ثم مزرعة السباع وبها زهاء ٢٠٠ أسد يروضونها على اللعب، فيركبها الرجل ويدربها على بعض الألعاب، وبعضها يُرْسَل إلى هوليوود ليشاطر في إخراج الأفلام السينمائية، ثم مزرعة التماسيح لتربية تلك الطائفة من الحيوان، ومنها ما يفوق عمره المائة عام، ثم مررنا على دار الألعاب الأُلُمبية «الاستوديوم» الذي يبلغ ١٧ فدانًا، وبه مقاعد لعدد ١٠٥٠٠٠.
 
                     
                     ثم مرت بنا السيارة خارج البلدة خلال بساتين الفاكهة، وبخاصة البرتقال الذي كانت صفوف أشجاره المنتظمة تمتد إلا الآفاق — وهي جزء من إنتاج كلفورنيا الذي اشْتُهِرَت به حتى قُدِّرَ محصول البرتقال بعشرين مليون جنيه في كل عام — ثم كان ركوبنا الترام إلى هوليوود.
(٢) هوليوود
عاصمة السينما في العالم؛ إذ تُخرِج وحدها زهاء ٨٥٪ من جميع أفلام الدنيا، تلك التي أصبحت مطمح آمال الكثير ممن أَنِسُوا في نفوسهم كفاءة في التمثيل والغناء والموسيقى والجمال، وبعض الألعاب كالمصارعة والرقص والملاكمة وما إليها، حتى إن ثلث ركاب الباخرة كانوا منهم، وكلهم جاءوا يطبون الغِنى والمال في عاصمة الخلاعة والجمال.
دخلنا البلد بعد مسيرة نصف ساعة بالترام، فبدت تقوم في حضن جبل منخفض تتوجه رُبًى تكسوها الخضرة، وقد بدا بناء مرصد «جرفث» مشرفًا بقبابه، وقد زرناه، وبه من المناظير ما يُعَدُّ من بين أكبر مناظير الدنيا بعد منظار جبل ولسون — وهو قريب من ذاك الموضع، لكن لم تُتَح لنا فرصة زيارته لنرى منظاره البالغ قطره ١٠٠ بوصة «وهم اليوم يصبون عدسات منظار آخر قطره ٢٠٠ بوصة» — ثم موضع للفلك «پلانتوريوم» شبيه ذاك الذي زرناه في برلين.
ومن الدور الشهيرة: الملهى المصري، سُمِّيَ كذلك لأنه أقيم في هندسة المعابد المصرية القديمة، وأينما سرت تلاقيك الاستديوهات ذائعة الصيت، تلك التي تُؤْخَذ داخلها أفلام العالم أجمع، ومن بينها استوديو شارلي شابلن الذي قصر تمثيله اليوم على فلم أو اثنين في العام؛ حتى يتشوق الناس إليه ولا يزهدوا في أفلامه إن كثرت عددًا، وكان لي حظ لقائه هناك.
طفقت أسير في جنبات تلك الضاحية السحرية أشاهد سيول المارة تسد الطرق وأرصفتها سدًّا، وبحر السيارات زاخر بحيث تكاد تُفْرَش الطرق بها فرشًا، فلا يكاد يخرج الواحد إلا في سيارته. وكنت أعجب للحياة كيف تسير في تلك الناحية؛ أرى النساء قد ظهرن في أزياء الرجال من سراويل وجاكتات وأربطة رقبة وشعر مقصوص، بحيث يصعب التعرف إليهن بين الذكور، ومن الرجال من دهن وجهه، وحمر شفاهه، وأرخى شعره، ولمَّع أظافره، وسار يتبختر ويتيه عجبًا كأنه الآنسة الحسناء.
أما عن جمال السحن ودلال المشية وفاخر الهندام، فذلك لم أره في مكان قبل هذا، وكثير من أولئك من سراة العالم أجمع، وبعضهم من نجوم السينما الذين طبقت الآفاق سمعتهم، ومنهم من وفد طامعًا في الغِنَى، راغبًا في الوجاهة، ساعيًا بجماله وخفة حركاته، ورشاقة قده، وشجي صوته أن يصبح في عداد تلك النجوم. ولا عجب أن تصبح هوليوود بغية الناس من أقصى الأرض، وهل يُتَاح لهم من المجون ووسائل اللهو والإسراف ما يلقونه هنا؟ وهل في الدنيا سوى هوليوود واحدة؟! وما أبدع ما يُرَى شارع هوليوود بوليفار قلب المدينة النابض، وشارع هوليوود أڤنيو الذي يليه فخارًا ويقطعه متعامدًا عليه! ما أبدعهما ليلًا حين تكاد الأضواء فيها تبهر النظر، وتستهوي الرزين! وقديمًا عُرِفَ الأمريكيون بالإسراف في سبل الإعلان، ومن أخصها الإضاءة الملونة المتحركة ليلًا.
 
                  
                  وعدت في اليوم التالي أزور هوليوود لأني لم أشف من جمالها غلة، وتزودت منه طوال اليوم، وقد لاحظت أن الحياة فيها أغلى منها في سائر البلاد، فلا أكاد أُخرج الريال حتى لا أرى له بقية، وأنت لا تزال تنفق الريال تلو أخيه حتى يصبح وفاضك خلوًا من المال، وعندئذ تفيق لنفسك ولا تندم على ما أنفقت في سبيل الوقوف على حال هوليوود وأهلها. ولقد استوقفني في أحد شوارعها منظر جماعة من العمال ينقلون بيتًا برمته من قطعة أرض إلى أخرى، وقد حفروا حول الأسس، وأوقفوا قاعدة البيت على أعمدة من كتل خشبية تحتها بكر كبير، وسيزمعون جره على تلك البكر إلى بيئته الجديدة.
وقفت مبهوتًا؛ لأني كنت إخال ذلك لمَّا أن سمعته أول مرة منذ عامين ضربًا من الخيال، أو نوعًا من التهكم على مبالغة الأمريكيين و«فشرهم»، لكني ألفيته حقيقة! وقد دهش صديق لي أمريكي لأني لم أعرف أنهم ينقلون البيوت الضخمة مسافات بعيدة منذ زمان بعيد.
 
                  
                  وقد زرت جامعة هوليوود، وعلمت أن بها طالبًا مصريًّا اسمه غنيم، حاولت مقابلته لكني لم أُوَفَّق، وهي غنية بأقسام الفنون والتمثيل والموسيقى والغناء. سار الترام وسط ضواحي هوليوود في طرق تحدها أنواع من النخيل مختلف الشكل، ثم عرج بنا على لوز إنجليز، وقد تزودنا من جمالها وروعة شوارعها، ثم قرب ميعاد العشاء فآثرنا أن نتناوله في مطعم قبل العودة إلى الباخرة، فدخلنا أحد المطاعم الفاخرة وقد كُتِبَ عليه: الوجبة ثمنها ٣٥ سنتيمًا، أي ٧ قروش.
ولما أن وصلنا المقاعد جلسنا ننتظر الخادم طويلًا فلم يحضر، والناس من حولنا يأكلون، فصفقنا فاسترعى ذلك نظر الجميع، وجاءتنا آنسة تقول: ماذا جرى؟ قلنا: نريد عشاءنا، قالت: قوموا تناولوه بأنفسكم. فبدأنا نمرُّ صفوفًا على عدة فتيات: الأولى ناولتنا صينية وفوطة وسكينًا وملعقة وشوكة، فحملناها إلى قسم الشُّربة، فملأت الأخرى لنا سلطنية وضعتها على الصينية، ثم زحفنا بمتاعنا إلى قسم اللحوم والسمك ننتقي ما نحب، ثم إلى قسم الخضر، ثم إلى قسم السلطات، ثم قسم الحلوى، وأخيرًا قسم المشروبات.
عندئذ ألفيت صينيتي قد مُلِئَت وثقل علي حملها، وشعرت بغضاضة في نفسي أن أعمل عمل الخدم، لكن لم أر بُدًّا من ذلك والناس هناك كلهم سواء، وحملتها في جهد إلى المناضد المجانبة، ثم أخذنا نتناول طعامنا بشهية كبيرة، وأخيرًا تناولنا ورقة بالثمن «٣٥ سنتيمًا» ثم دفعناه عند الخروج. وذاك النوع من المطاعم هو الشائع في كل بلادهم، ويرى فيه القوم أداة سهلة لك أن تختار ما يروقك من الطعام المرصوص أمام عينيك، إلى ذلك فإن تلك المطاعم رخيصة جدًّا، حتى إنك تستطيع أن تتغدى بثلاثة قروش.
ومن المطاعم ما تدخلها وتقف إلى جوار البنك وتطلب ما تريد وتأكله واقفًا، وهو أكثرها انتشارًا؛ إذ ترى منها عشرات في كل شارع. وقد شجع على كثرتها تزاحم الناس عليها؛ لأن جل حياتهم خارج المنازل، فلا يكادون يعدون من الطعام في المنازل شيئًا، بل تخرج العائلة كلها عند كل وجبة ويأكلون ما يرغبون.
 
                  
                  قامت بنا الباخرة تبرح لوز إنجليز وضواحيها بعد أن أقمنا فيها يومين كاملين، ولم يبق في السفينة من الستمائة مسافر سوى مائة، والباقون أسرعوا إلى المقام في هوليوود، ولقد أقفرت الباخرة من أُنْسهم وخفة روحهم؛ فجلُّهم ممن ألفوا حياة المجون واللهو في غير قيد لدرجة كانت تهولني؛ فالآنسات يختلفن إلى الفتيان، ويغازلون بعضهم البعض جهارًا، ثم يكون التقبيل والزغزغة والاحتضان وما فوق ذلك مما كنت أستنكره كثيرًا.
والعجب أن ذلك لم يكن يسترعي من أنظار الآخرين أو يثير سخطهم، بل على النقيض من ذلك كانوا يساهمون فيه، وحتى الأمهات أو الآباء كانوا يساعدون بناتهم على ذاك اللهو، وكثير من الفتيات كن يسرن عرايا في غير حياء، وكانوا يسخرون مني إذا ما غضضت الطرف عنهن وعمَّا يأتين، ولم أشهد من الإباحة في أسفاري السالفة ما شهدته هذه المرة، ولا عجب؛ فَجُلُّ القوم من الأمريكيين الهوليووديين والنيوزيلنديين والأستراليين، وكلهم سواسية في الأخذ بأكبر نصيب من الإباحة في كل شيء.
أوى جُلُّ المسافرين هذه الليلة إلى مقارهم على خلاف العادة ليعدوا نفوسهم، ويحزموا متاعهم؛ لأنها آخر أيامنا على ظهر الباخرة التي ستصل فرسكو ظهر الغد، وكان الكل يأسفون على مبارحة السفينة، والحرمان من متاع الحياة فيها. والحياة على ظهر الباخرة مترفة نشيطة، ففي باكورة الصباح يمرُّ الغلام بجرس يعطي أنغامًا كالبيانو ليوقظ القوم عند السادسة، ثم يطوف آخَر بالجريدة اليومية الصغيرة من ست عشرة صفحة على ورق صقيل جميل، كنا نقرأ فيها أخبار الباخرة واللاسلكي الخارجي، ثم مقالات قيمة عن البلدان التي ستقف عليها الباخرة مزودة بالصور البديعة.
 
                  
                  ولا تلبث بالونات الجلد الرقيق الملون ترفرف على الرءوس وتطير، ثم يضربها الخادم بدبوس فتنفجر في صوت كصوت المدافع، بعد ذلك نحضر حفلة السينما. وفي منتصف العاشرة يبدأ الرقص والشرب إلى ساعات متأخرة من الليل، وهنا يطوف الغلام علينا بصواني الساندوتش المنوع، وقد تُعْقَد ألعاب للمقامرة وسط كل أولئك.
ذلك مثل من سحابة اليوم الذي نمضيه على ظهر الباخرة، ولا عجب أن بدأ الجميع يشعر بالأسف لمغادرة البحر رغم ما قد يصادفنا فيه من منغصات موجه ومرضه. وفي الحق أن حياة البحر لتعشق إن أخلاها المرء من المغالاة في المجون واللهو، ولعل أجمل ما فيها جميعًا الإخوان الذين نصطحب بهم مهما كثر عدد المسافرين، تراهم يختلطون ويتجاذبون أطراف الحديث ويصيرون أصدقاء، فحياة البحر خير عون على تربية النفس على حب المعاشرة والتهذيب والدعة.
ولقد صرفت نصف يوم الاثنين كله في عبارات الوداع، وتبادل بطاقات الأسماء والعناوين، وكلنا آسف جد الأسف على فراق حبيبه الذي لم يزد عهد صداقته على أسبوعين. دق جرس الطبيب ظهرًا وقد وفد مع رجال المهاجرة، فتقدمنا وكان قلبي يرتجف خشية أن يكون الكشف الطبي قاسيًا، لكني مررت عليه وتسلمت أوراق نزولي إلى أرض الولايات المتحدة دون قيد، فاغتبطت بذلك الغبطة كلها، ويظهر أنهم قد تغاضوا اليوم عن التراكوما رغبةً منهم في الانتفاع بأموال السائحين.
 
                  
                  (٣) سان فرنسسكو
 
                  
                  وفي تلك الأحياء الفاخرة كثير من ناطحات السحاب التي تبلغ أدوارها بين الخمسة عشر والخمسة والعشرين، وقد صعدنا أعلاها؛ وهي ناطحة شركة التليفون، إلى سطح الدور الثلاثين، فكان مشهد المدينة منه جميلًا ساحرًا، ويشتغل بها في ساعات العمل من الموظفين ١٦٠٠ موظف.
وقد عجبت كيف تجد تلك الفنادق والمطاعم من الزائرين ما يكفيها، لكني علمت أن نحو ٥٥٪ من سكان المدينة من رواد تلك النُّزُل والمطاعم، مما أَفْقَد البيوت رونقها، وكاد يقضي على نظام العائلة البديع؛ فلا يكاد أحدهم يأكل في بيته قط، وكثير منهم ينام في الفنادق، وإذا أضافك أحدهم على طعام أو شراب، دعاك إلى أحد تلك المطاعم. أما البيت وما له من حرمة مقدسة، وجميل أثر في تربية النشء، فذاك ما لا تراه هناك قط، وكثير من تلك الأماكن باهظة التكاليف؛ إذ أجر المبيت فيها يفوق ستة ريالات في الليلة الواحدة، على أنك تجد الكثير بين نصف الريال والريال.
ثم دخلنا متحف التاريخ الطبيعي، ولا بأس بمحتوياته خصوصًا المعدنية، ثم وقفنا بشواطئ الاستحمام الرملية المديدة، وقد أُقِيمَت حولها الملاهي ودور السينما واللونابارك والمطاعم، وفي ناحية منها جزء صخري من الشاطئ به بعض الجزيرات التي تغص مياهها بسباع البحر، تنفر في الماء، وتلعب مرحة آمنة. وقد اخترقنا أكبر متنزهات البلدة، ويُسَمَّى متنزه القرن الذهبي، ومساحته ١٠١٣ فدان، وتكثر المتنزهات خارج البلدة، لكنها تندر جدًّا في وسطها، ثم اعتلينا بعض التلال المحيطة بها، فكان منظر المدينة وبحارها وقناطرها، وبخاصة القرن الذهبي، رائعًا.
 
                  
                  أخذنا نسير وسط تلك الشوارع فأذكرتني برحلتي في الصين نفسها؛ فالمباني أُقِيمَت على النمط الصيني ذي السقوف الخشبية المقوسة الأطراف، والمصابيح من حديد أو ورق ملون، وعنوانات المتاجر في شرائح طولية تزينها بقع الخط الصيني الجذاب، والحركة هناك ناشطة مائجة بالمارة من الصينيين بعيونهم المائلة المنتفخة، وقاماتهم القصيرة، وأرديتهم العجيبة. وجل ما يُعْرَض في متاجرهم من الأنسجة واللعب الصينية، ولهم هناك مطاعمهم ومكاتبهم وجرائدهم التي تُطْبَع بلغتهم.
وقد تناولت العشاء في إحدى تلك المطاعم، وراقني منها الأرز ومزيج من نثير اللحم والسمك والسردين وصنوف أخرى لم أعرفها، واستمتعت بالشاي الصيني الأخضر الذكي، ثم دخلت دار التمثيل الصيني، فمثلوا أمامنا رواية بالملابس الصينية، على أني ألفيت التمثيل جامدًا تعوزه الحركات الخفيفة، فلا تكاد الممثلة تتحرك قط، وصوتهم في الحديث والغناء منفر جدًّا، والنساء يتكلفن القول في تماوت سقيم، وأدهى ما في الأمر موسيقاهم، وهي عبارة عن طبول كأنها الرعد، أو صوت مجموعة من صفائح تُقْرَع عاليًا، ويصيح معها مزمار مُملٌّ النغمات، ويبلغ من علو تلك الجلبة أنا لم نكد نسمع من قولهم في التمثيل شيئًا، وقد تصدعت رءوسنا على أن الصينيين كانوا منصتين مأخوذين، وهم معروفون بتقديرهم للبلاغة في القول، والتعمق في الفلسفة، ثم كان التمثيل المتثاقل، وأمثال تلك الدور كثير في تلك البلدة.
ثم عدت مخترقًا بعض ضواحي السكنى، وجل بيوتها من دورين أو ثلاثة، وغالبها بالخشب الذي يُطْلَى فيُرَى وكأنه البناء الأصم، وذلك خشية آثار الزلازل كثيرة الحدوث في تلك الجهات. ولقد أعدت تجوالي ليلتي الأخيرة أستمتع بأنوار المدينة الخاطفة، وحركتها المستمرة، ومتاجرها المعروضة، وحتى بعض البنوك، وبخاصة بنك أمريكا، كانت الأضواء تشرق في بنائه الفاخر، وكانت الحركة المالية فيه مستمرة، وقد كُتِبَ عليه: البنك مفتوح آناء الليل وأثناء النهار.
 
                  
                  على أني لاحظت رغم كثرة الأموال عددًا كبيرًا من العاطلين، ومنهم من كان يعترضني ويطلب عونًا ماليًّا ويقول بأنه معوز لا يجد عملًا، وقِيلَ لي: إن عددهم يناهز عشرة ملايين في البلاد كلها، ومنهم من تدفع له الدولة إعانة مالية حتى يجد مرتزقًا. وكنت أحس بالألم المفجع لأمثال هؤلاء؛ إذ يبصرون بعيونهم مبلغ المتاع الذي ينغمس فيه أقرانهم، والريالات التي تبدر بسخاء هنا وهناك، وهو صِفر اليدين لا يستطيع سد حاجة مما اعتاد من صنوف المترفات ومطالب الحياة الأمريكية التي لا تُحَد. وكان كثير من أبناء السبيل حفاة وفي ثياب مرقعة، لكنهم رغم ذلك المظهر البائس يسيرون مرحين، فإذا سألك أحدهم عونًا ولم تجبه إلى سُؤله لم يُلحف في الطلب، بل ابتسم وسار إلى سبيله.
ركبت السابحة إلى أوكلند حيث محطة سكة الحديد، وأقلني القطار سائرًا صوب الشمال إلى بلاد كندا مخترقًا جبال الركي الشامخة، وكان الجو خلال إقامتي في فرسكو جميلًا أقرب إلى شتاء مصر منه إلى صيفها، بعكس ما قاسيته في هوليوود ولوز إنجليز من الهجير اللافح الذي يفوق في نظري صيف مصر، وذلك كان من ضمن العوائق التي صرفتني عن زيارة «خانق كلرادو» بعد أن كنت قد اعتزمت زيارته. دخل بنا القطار في سهول مبسوطة قد اصْفَرَّ أديمها ببقايا الغلال المحصودة، ومنها متسعات هائلة زُرِعَت بأشجار الفاكهة، وبخاصة البرتقال، ثم أخذت الخضرة الطبيعية تزداد بعد أن سرنا زهاء ثماني ساعات، وكثر الشجر البري.
 
                  
                  وفي مجاورة المجاري المائية كنا نرى كثيرًا من مناشر الخشب، وهو من أكبر صادرات تلك الجهات، وفي بعض تلك المجاري كانت كتل الخشب الغفل تُوصَل بعضها بعوارض خشبية فتكون عوامة سابحة هائلة، ومقدمها يُرَصُّ في شكل مقدم السفينة في مثلث كي يسهل عليه شق الماء. ومن الشجر الذي كان يقطعه القوم ما بلغ ضخامة هائلة، بحيث كنا نرى جزءًا صغيرًا من شجرة واحدة يملأ فراغ عربة نقل كبيرة.
 
                  
                  (٤) سياتل
(٥) فكتوريا
وفكتوريا عاصمة مقاطعة كلمبيا البريطانية مع أنها أصغر من ڤنكوڤر؛ فسكانها ٦١ ألفًا، ولقد أسستها شركة خليج هدسن التجارية منذ أن أقامت قلعتها سنة ١٨٤٣.
 
                  
                  وما كان أجمل دار الحكومة وقد أُضِيءَ صدرها كله بالثريات ليلًا، وكانت تواجهها في البحر سفينة صُنِعَت في شكل مسرح هائل زُوِّدَ بالنقوش والأضواء القوية، وأُقِيمَ مدرج كبير أمامه على الشاطئ جلس فيه الجماهير يستمعون لفرقة الموسيقى الكبيرة، ولغناء بعض المتطوعين من النساء والرجال. أما أضواء الشوارع وملاهيها فقليلة بالنسبة لما تراه في المدن الأمريكية. والبلد يبدو عليه الطابع السكسوني الإنجليزي في بروده وجمود حركته، على أنه خفيف الروح في جملته.
ولا يبدو على الناس هنا مظهر الغِنى وتبديد المال كما كنا نشاهد في البلاد الأمريكية، وكثير من الناس فقراء ويستجدون غيرهم، ويبدو على هندام بعضهم العوز الشديد، وحتى أطفالهم قد اعتاد الكثير منهم ذاك التسول.
قمنا الساعة الثانية مساء نستقل السابحة إلى مدينة ڤنكوڤر.
(٦) ڤنكوڤر
وكان التزاحم فوق الباخرة كبيرًا حتى كانت أكتافنا تتساند، ولم يكن في الباخرة مكان للحركة؛ ذلك لأن هذا الميعاد صادف اليوبيل الذهبي للمدينة؛ ولذلك أقاموا فيها عدة مهرجانات وزينوها، وخفضوا أجور النقل شهرين كاملين، هذا إلى أن القوم يحبون الانتقال، فكلما سنحت لهم فرصة سافروا في نزهة بحرية، وهل أجمل من السير بين أجوان جزيرة ڤنكوڤر ومناظرها الساحرة.
 
                  
                   
                  
                  أما البلدة نفسها فليست في روعة البلاد الأمريكية، ويبدو على مبانيها القدم، فهي تظهر قاتمة غبراء، وأهلها أبعد عن وجاهة الأمريكيين في هندامهم ومرحهم، وكثير منهم رقيق الحال معوز محتاج.
(٧) جبال الركي وجاسپر
فسرنا في متسعات من السهول تغص بالغلال والفاكهة، ثم بدأنا نتسلق جبالًا وطيئة نصف مجدبة، وما فتئت الأشجار تتزايد والجبال تعلو والقطار يَجِدُّ صاعدًا في جهد كبير، وقاطرته تُعَدُّ من أضخم قاطرات العالم وأحدثها. وفي شفق الصباح بدأنا نوغل في تيه من الربى والغابات تطوقها مسايل المياه تنقبض تارة وتنبسط أخرى، ودوي المياه فيها كأنه الرعد.
 
                  
                  وعجيب أنهم بعيدون عن أي استعداد للتقدم، فمستواهم العقلي منحط، بطيئو الفهم، رغم محاولة الدولتين الأمريكية والكندية تحسين حالهم. وهم لا شك آخذون في الانقراض، وشتان بين عقليتهم الراكدة وسحنتهم المنفرة، وبين الماوري مثلًا بذكائهم المفرط وجمالهم الجذاب. والهنود الحمر قريبو شبه بالصينيين؛ لذلك رُجِّحَ أنهم وفدوا من الصين عن طريق سيبيريا وألاسكا وانتشروا في الأمريكتين، ولا يزيد عددهم في كندا على مائة ألف.
 
                  
                  وفي البلدة مدرسة جميلة تحوي السنوات الابتدائية والثانوية معًا، وبعض فصولها يزيد عدده على الأربعين. طفقت يومين أجوب نواحيها وأرتقي جبالها وأغالب غاباتها، والهدوء من حولي شامل أشعرني بشيء من الوحشة والحنين إلى ضوضاء المدن التي ألفتها في رحلتي هذا العام؛ إذ جُلُّها كان في البلاد العامرة الصاخبة.
وجاسپر خير مكان لطلاب الراحة والسكون، ولطائفة الكتاب والشعراء والفلاسفة. أما الجو في تلك الأنحاء فبارد منشط تنتثر سماؤه بالغيوم التي تَسِحُّ جفونها أحيانًا، ثم تتكشف عن أضواء جذابة من وراء حجب الجبال والغابات القاتمة، والنهار هناك طويل جدًّا؛ إذ كنت أقرأ الجرائد أمام النُّزل الساعة التاسعة مساء على ضوء الشفق؛ ذلك لأن المكان على خط عرض مرتفع جدًّا هو ٥٤° شمالًا، ولما أن وصلنا جاسپر كانت ساعتنا الواحدة والنصف، لكنَّا ألفيناها هناك الثانية والنصف، فقدمنا ساعاتنا واحدة.
وبلاد كندا عريضة جدًّا بها أربع مناطق زمنية، فكلما سرنا إلى الشرق خمس عشرة درجة دفعنا بعقارب ساعاتنا خطوة إلى الأمام. أما حياة الليل هناك فموحشة مظلمة عديمة الحركة، ووسائل التسلية نادرة، فليس ثمت إلا سينما واحدة صغيرة ومقصفًا أو اثنين، وأذكر أنني كنت أتناول الشاي في أحدها وإذا برجل متقدم السن دخل في زمرة من الأطفال، يفوقون العشرة عدًّا، وهم مرحون، وقد هجموا على البائع يطلب كلٌّ ما يرغب من شراب أو مرطب، ودفع عنهم الرجل جميعًا، ولما أن سألته: أهؤلاء بنوك؟ قال: كلا، بل إني أحب أن أجمع الأطفال الفقراء وأُزوِّدهم بشيء مما نستمتع به آنًا بعد آنٍ. فأكبرت فيه هذا الشعور الجميل، وعلمت أن الكثير من هؤلاء الناس خيرون، طيبو القلب، شفيقون بالغير. والمدهش أن الرجل لم يترفع عن الجلوس معهم ومسامرتهم رغم هندامهم الرث، وحالتهم المزرية.
 
                  
                  هنا لُمْتُ نفسي وشعرت بشيء كبير من الخجل والخزي؛ لأني لم أفعل ذلك مرة واحدة مع شريدي الشوارع في مصر، وهم لا يُحْصَوْنَ عَدًّا، وآليت على نفسي أن أشرك بعض هؤلاء معي فيما مَنَّ الله به عليَّ من نعيم ومتاع.
(٨) ونيپج والپريري
 
                  
                  والمَزارع ميل مربع في المتوسط — زهاء ٦٠٠ فدان — وأصغرها ربع ذلك، والحكومة تساعد القوم بإعطاء من أراد ١٦٠ فدانًا يخدمها ثلاث سنين، فإن أفلح تُرِكَت له بقيم زهيدة تتراوح بين ٤–٦ جنيهات للفدان. والغلال تُزْرَع على المطر ليس غير، فيُبْذَر القمح في مايو ويُحْصَد في أغسطس، والمطر يسقط في تلك المدة عادة، وإذا ما فرغ الفلاح من الحصاد وتخزين قمحه حرث أرضه من جديد وتركها للعام المقبل، وينزل عليها الثلج شتاء إلى علو ياردة تقريبًا، وإذا ما ذاب في الربيع روى الأرض، وبذر الفلاح قمحه الجديد، ولا يتطلب المحصول خدمة، بل ينمو بعد ذلك وحده حتى ينضج.
لبثنا اليوم كله نشق تلك الپريري المبسوطة المملة، وكان ترابها يخترق كل شيء مما أذكرني بتراب صعيد مصر، وقد اشتد الحر وسط النهار جدًّا، ونزل في الليل إلى ما يقرب من برد شتاء مصر. وقد كان الحر منذ شهر بالغ الشدة هنا حتى مات بسببه الكثير؛ إذ زادت الحرارة في الظل على ١١٠°ف. والعجيب أن الشتاء الماضي كان قاسيًا أيضًا؛ إذ نزلت الحرارة ٥٠° تحت الصفر، وكلما قاربنا ونيپج زاد انبساط الأرض، واسودَّ أديمها، وجاد نوعها، فهي خير أراضي الپريري خصبًا، وتمتد شمالًا زهاء ٣٠٠ ميل، وجنوبًا إلى مساحات بعيدة في الولايات المتحدة.
وكان يُخَيَّلُ إليَّ أن المزارع خالية من السكان تمامًا؛ إذ قلما كنا نبصر بالناس فيها، ذلك لأنها لا تتطلب عملًا كثيرًا، على أن العمال قد يُوَظَّفُون هناك في مواسم الحصاد، وأجرهم نصف جنيه في اليوم، ويُزَوَّدُون بالمسكن مجانًا، ومع ذلك فهم غير قانعين ويرغبون في المزيد. والقوم هنا ظرفاء، ويميلون إلى العشرة وإكرام الغريب جدًّا، وفيهم شيء كبير من صفات البدو والرعاة.
ومما كان يدهشني جدًّا مستوى أطفالهم من الذكاء والرجولة، يتحدث إليَّ الطفل وهو عليم بكل ما أحاط به من ظروف الأرض والجو والإنتاج، اعتاد السفر بعيدًا عن بلده، واعتمد على نفسه في كثير من الأمر ولمَّا تبلُغ سنه العاشرة، فكنت أغبط القوم على تلك التربية الاستقلالية، وآسف لنصيب أبنائنا منها. والمدارس هنا تبدأ بالروضة، ثم بالفرق الاثنتي عشرة، وبعدها يدخل الطالب الجامعة، ولا يتعلم لغة أجنبية إلا في الفرقة الثامنة فقط، وهي هنا إما الفرنسية أو الألمانية أو اللاتينية.
 
                  
                  (٩) ميناپلس وسنت وبول
قمت التاسعة صباحًا صوب الجنوب إلى ميناپلس مسافة ٥٠٠ ميل قطعناها في ١٤ ساعة، فأخذنا نشق السهول ذات التربة السوداء، والسطح المنبسط، والخصب الظاهر في كثرة العشب في كل مكان. والحق أن أرض الپريري لا يعوزها إلا الماء والأيدي العاملة الرخيصة القانعة حتى تغل من الإنتاج النباتي أضعاف ما هي عليه اليوم؛ إذ إنها لا تستطيع إلا زرع الغلال والعشب شهورًا قليلة، وتُتْرَك بورًا باقي العام.
ولقد كان هجير الحر شديدًا لافحًا طيلة اليوم، مما فاق أردأ أيام الصيف في مصر شدة، وذلك رغم المراوح التي زُوِّدَ بها القطار، وصنابير الماء المثلوج في طرفي كل عربة نحتسيه في أكواب من ورق صُنِعَت في أسطوانات فوق الصنبور. والمقاعد في هذا القطار استرعت نظري بوثير فرشها من القطيفة الثقيلة، والمقاعد فردية كبيرة «فوتيل» تدور على محور، فيحركها الجالس في أي اتجاه شاء، ومنها صف في كل جانب من العربة، أما وسطها فتُرِكَ فسيحًا وقد زُوِّدَ بالبُسط الثمينة ومطافئ السجائر الأنيقة، بحيث تشعر وكأنك تجلس في صالون أو مقهى فاخر، وعربة الطعام والمرطبات متصلة بالقطار نشتري منها ما نريد.
رغم كل ذلك نغَّص الحَرُّ علينا عيشنا، فكاد القوم يخلعون كل ثيابهم ويبدون عرايا، وقد ابتلت ملابسي كلها عرقًا. وأظرف شيء في قطارات الولايات المتحدة وكندا أنها كلها ذات درجة واحدة، لا فرق فيها بين غني وفقير، تنتقي من المقاعد ما راقك، على أني لاحظت في المسافرين من طبقة الفقراء حسن الذوق، فإذا كان من العمال من يرتدي ملابس العمل الرثة لا يتقدم وسط الجلوس، بل ينتحي جانبًا من العربة هو وإخوانه، على أنك قلما ترى أحدهم في قذارة تنفر منها.
 
                  
                  في الطرف الشمالي تقع ميناپلس على جانبي النهر، وفي الطرف الجنوبي تقع سانت پول، والمسافة بينهما تفوق عشرة أميال؛ فهما ليستا متقابلتين. وعند منتصف هذا الالتواء قنطرتان يخترقهما الترامُ فيَصِلُ ما بين البلدين، ولكل منهما عدة قناطر تصل بين نواحيهما المختلفة؛ ففي ميناپلس وحدها عشرون قنطرة.
 
                  
                  أما مجموعة المتنزهات التي حول البلدة فذاك ما لم أره في بلد آخر، وقد تُرِكَ غالبها في حالته الطبيعية من غابات وجداول وأحراش يأوي إليها المتريضون، ويقيمون فيها خيامهم، ويستمتعون بمناظر طبيعية جذابة. ولقد قُرِّرَ لكل مائة نفس هناك فدان من المتنزهات، وتلك لا شك نسبة لا نراها في بلد آخر. وتدهش إذ تعلم أن غالب تلك المتنزهات هبات من بعض الخيرين هناك.
وعلى جوانب كثيرة من تلك المتنزهات والبحيرات تقوم مساكن الأثرياء في ڤيلات خشبية بديعة تُطْلَى بالجص الملون في أشكال الرخام والآجر والحجارة، ولا تكاد تجد اثنتين متشابهتين في الهندسة؛ لذلك لم أعجب لما علمت أن ميناپلس تُسَمَّى: مدينة البحيرات والمتنزهات والبيوت الفاخرة. وجل المسافة بين البلدين متنزهات على هذا النمط، وبعضها يحمل أسماء هندية مثل بحيرة كتشي كومو، وعلى جوانبها رأينا مجموعة من أكوام مخروطية من الثرى منثورة إلى مسافات بعيدة، وفيها كان يدفن الهنود موتاهم، ويقيمون نصبًا صغيرًا على ذروة كل منها، والبيض لم يحلوا تلك الجهة إلا منذ ٦٥ عامًا، وهو عمر تلك المدينة الحقيقي.
ثم زرنا أحد مصانع فورد التي تُخرج ٥٢٥ سيارة في اليوم، وقد أُقِيمَ على جانب المسسبي، وهنا حُبِسَ كل مائه في خزان يُسْتَمد من دفعه قوة الكهرباء اللازمة للمصنع. ووقفنا بأكبر مطحن للغلال في العالم يشرف على النهر بمداخنه الهائلة، ويُخْرِج كل يوم ٩٠ ألف برميل من الدقيق.
 
                  
                  وكثير من الناس هنا يبدو عليهم مظهر الغِنَى، وحتى العامل في ثيابه المغبرة يضع يده في جيبه ويخرجها قابضة على مجموعة من أوراق الريالات يدفع منها ثمن ما اشترى في غير اكتراث، ونحو ٥٦٪ من السكان يملكون البيوت التي يقطنون فيها، وجلهم يحرزون سيارات هي مطيتهم في الانتقال. ولقد أدهشني حشد السيارات خارج مصنع فورد، وهي كلها ملك للعمال الذين يشتغلون داخل المصنع، فإذا ما فرغوا من العمل استقل كُلٌّ منهم مطيته، إلا أني إلى جانب أولئك كنت أرى من الفقراء والمتسولين الكثير، وبخاصة في سانت پول. والحي الفقير هناك قذر، وأهله يبدو عليهم البؤس مجسمًا، وأمريكا بلد المتناقضات ترى الغني المفرط إلى جوار البائس المسكين.
 
                  
                  أما ماء الشرب فمثلوج نحتسيه في أكواب من ورق، فدهشت وقلت إلى أي حد سيبلغ الترف بهؤلاء القوم المُنَعَّمِين الذين لا يدخرون وسعًا في توفير وسائل النعيم والراحة للجمهور كله! أما الطريق فقد بدأ سهولًا كثيرة المناقع والمسايل المائية. ولقد لبثنا زهاء ثلاث ساعات بجانب نهر المسسبي، وقد ظهر هنا باتساع عظيم، ضفافه برية مهملة كثيفة الشجر والعشب، أما اختناقه عند سانت پول فذاك لأنه يدخل في خانق حجري يبدأ من شلال سنت أنثوني المجاور لميناپلس؛ ولذلك لا يصلح للملاحة شمال ذاك الشلال.
ثم أخذت منابت الذرة تبدو في متسعات إلى الأفق، وكانت أكداس الأسمدة البيضاء منثورة في الحقول، وإلى جوار ذلك بعض المراعي من البقر والخنازير، وقليل من الغنم في مزارع مسورة، ثم بدت التلال الجيرية المتعددة، مما أكسب الأرض مظهرًا غير مظهر الپريري؛ إذ كثر شجرها وتُرِكَ مهملًا في مساحات كبيرة، وزاد تموج الأرض بحيث لا يصح تسميتها سهولًا، وكانت مضخات الهواء تظهر عالية في الحقول، مما أذكرني بسهول بامباس أمريكا الجنوبية، إلا أن الأرض هنا كثيرة الشجر غير مملة المنظر كما هي حال البامباس، والبيوت مبعثرة وسط الحقول، وجلها من الخشب الكثير هناك.
(١٠) شيكاغو
ولما أن قاربنا شيكاغو كثرت القرى المكتظة، وزادت مداخن المصانع في كل مكان.
أما عن قضبان سكة الحديد، فذاك أمر هالني إلى أقصى حد؛ فلقد كانت تفرش الأرض إلى الأفق، وتقوم المصانع وسطها، والقضبان تجري عليها بعضها فوق بعض، وقد نرى ثلاثة قطارات الواحد تحت أخيه، ولما لم يبقَ على المدينة سوى ستة أميال أغْبَر الجو، وساده الدخان الذي كسا المباني لونًا قاتمًا منفرًا رغم ضخامتها، وأخيرًا ظهرت وسط ذاك الظلام الصناعي ناطحات السحاب في كثرة هائلة، حتى خُيِّل إليَّ أنها فاقت تلك التي في نيويورك، ثم أوغل القطار في سلسلة من قناطر ملتوية حتى دخل سراديب لا حصر لها جُلُّها تحت الأرض، وهي محطة شيكاغو الهائلة. ومن تلك الناطحات ما أعدَّ في كل دور جراجات للسيارات، فإذا أردت الصعود إلى بيتك رُفِعْتَ بسيارتك مهما علا الدور الذي أنت فيه.
أنظر إلى البناء فأجده يعلو باسقًا إلى السماء في مرمر براق، وقد زُوِّدَ بالأبواب النحاسية الثقيلة الرائعة، وثمن باب واحد في ظني يقيم بيتًا من بيوتنا. والعجيب أنهم ينيرون تلك النواطح بإسراف شديد، ثم يسلطون عليها أشعة بيضاء تجعل منظرها للوافدين رائعًا، وترى الطابق الأسفل لها عبارة عن شوارع نُسِّقَت بها المتاجر ومعروضاتها أيما تنسيق، وفي أركانها الروافع نُمِّرَت، وبعضها بلغ الأربعين.
والحق أن ذاك المشهد الهائل لَأَوَّل ما يأخذ على الوافد لُبَّه، ويكاد يُذهله فلا ينسى ما خلفه ذاك في مخيلته من عظمة وفخامة لا يدانيها أي بلد في العالم سوى نيويورك.
 
                  
                  وأروع ما ترى تلك الناطحات في مشجان أفنيو؛ حيث تبدو في صف مستقيم تمتد إلى الأفق، وتناطح ذراها السحاب، وتشرف كلها على البحيرة. والشارع قد زُوِّدَ بالمتنزهات البديعة، والأرض رُصِفَت بالمسلح، ورُسِمَت الخطوط التي تحدد للسيارات سيرها، ونظام السير يكفل أربع سيارات تسير متجاورة إلى اليمين وأخرى مثلها إلى اليسار، وإذا أُعْطِيَت إشارة المرور تحركت سيارات جانب واحد فقط، ثم يُوقَف هذا ويتحرك الآخر، وذلك ليُمَكن المارة من اختراق الشارع على دفعتين، ولولا ذلك لاستحال على الناس المرور لكثرة السيارات التي تسد الطريق سدًّا في كل دقيقة.
وعلى جانب من تلك المتنزهات تطل بيوت السكنى، وجُلُّها فاخر لا يجاوز أربعة أدوار، وبخاصة في القسم من شاطئ البحيرة المُسَمَّى جولد كوست، وسُمِّيَ كذلك لأنه مأوى الأثرياء «المليونيرز»، وهناك ناطحة يسمونها بيت المليونيرز بها ١٤ دورًا، وفي كل دور منها مسكن لمليونير.
 
                  
                  أما البحيرة نفسها فهائلة كأنها البحر الزاخر مرتفع الموج كثير التعرجات، وقد أُقِيمَت عليها حواجز الأمواج والمرافئ، ونُسِّقَت الطرق والحدائق، ولا عجب فهي رابعة بحيرات العالم العذبة، ولا يزالون يزيدون مساحة الأرض على حسابها، ويمدون الطرق إلى جوارها حتى بلغت ٢٦ ميلًا، وكنا نرى وسط الماء بعيدًا منا أربع محطات لرفع الماء وسقي المدينة. وكثير من الشواطئ مدرجة رملية تقوم عليها المسابح التي يؤمها خلق كثير.
وذاك القطار من الأعاجيب؛ فهو يسير إزاء الدور الثاني أو الثالث من البيوت، ويشق أمهات الطرق وهو مرفوع على شباك ثقيلة من الحديد نمر نحن والسيارات وترام الأرض من تحتها، وليس له نظير في العالم إلا في نيويورك. إلى ذلك فقد زُوِّدَت البلدة بمجموعة من خطوط حديدية تحت الأرض، وكم كنت أقف مبهوتًا عند مفارق بعض الطرق حينما كنت أرى ثلاثة مجاميع من قطارات يسير الواحد فوق الآخر، والسيارات تسد الطريق سدًّا، ولا ينقطع سيلها ثانية واحدة، والمارة على الأرصفة العريضة جماهير متلاصقة الأكتاف! وليس ذلك بعجيب إذا علمت أن سكان شيكاغو قاربوا الأربعة الملايين.
 
                  
                  ولا أدري من أين لهم تلك الأموال البالغة التي ينفقها الواحد منهم حتى العمال والأجيرات؛ إذ ينفقون الريالات المتتابعة، على أني لما مررت بأحيائهم الفقيرة تألمت جدًّا لأن جل قاطنيها من الحفاة والمتسولين يأوون إلى بيوت قذرة مهملة متهدمة، وقلما يرى الغريب تلك الأحياء، بل تأخذه عظمة القسم المستحدث الرائع من المدينة، فيُشْغَل به عن غيره، والمدينة تفاخر بأنها أجمل المدن وأكثرها تقدمًا.
أما مستوى الثقافة فهو مرتفع جدًّا، ويُخَيَّل إليَّ أن الفضل فيه راجع إلى الصحافة أولًا، وإلى دور السينما ثانيًا، فالأولى تزود كل الطبقات ببدائع المصورات والمقالات والمعلومات التي تناسب عقليتهم، والثانية تجتذبهم من سائر الطبقات وتنبئهم عن العالم الخارجي؛ فتوسع بذلك مداركهم. ولا تكاد ترى طفلًا أو رجلًا أو امرأة يسير بدون مجموعة من المجلات والجرائد، فالكل قراء لها بشكل يستلفت النظر.
وإليها تفد ألف سيارة كبيرة من أنحاء الولايات المتحدة كلها محملة بالحيوان الذي يُعْرَض هناك، فيفد تجار الجملة مع الخبراء، ويشترون ما قيمته مليونان من الريالات، أي أربعمائة ألف جنيه في كل يوم، وفي وسط المنطقة تنتشر مصانع اللحوم الهائلة، وأكبرها «سوفت وشركاه، وآرمر وشركاه»، وهما يبيحان للناس زيارة المصنع تحت إشراف دليل خبير يقودهم شارحًا كل شيء.
مجازر شيكاغو
على أني وصلت هناك بعد الميعاد؛ إذ توقف الزيارة بعد الثالثة مساء، فاضطررت أن أرجئ سفري يومًا، وعدت في الصباح ودخلت مصنع سوفت الهائل الذي يقع في «الميل المربع» المعروف بأنه أكثر بقاع العالم حركة تجارية، ومساحة المصنع وحده ٥٨ فدانًا، ويبتاع في كل يوم من الحيوان بمليون وربع ريال. استقبلنا الدليل وأقعدنا في غرفة الانتظار، وقدم لكل منا كتيبًا مصورًا عن المصنع، وعرض علينا مجموعة من كرتات مصورة عن المصنع أُعِدَّت لكتابة البريد على المكاتب المرصوصة هناك.
 
                     
                     تصور مئات من العجلات والصفوف والقصَّابين يقتلون جماهير الحيوان في ذاك المشهد البشع، ووسط صياح وعويل من الخنازير يصم الآذان ويلقي الرعب في القلوب، وإخالك تدهش دهشتي إذا علمت أن عدد ما يُقْتَل من الحلاليف في الساعة الواحدة ٧٥٠، فإذا كانت ساعات الأسبوع ٤٢–٤٥، فتصور العدد الهائل الذي يُقْتَل في العام في أحد مصانع شيكاغو «فوق مليون وستمائة ألف».
ولما أن صُفِّيَ دم الحيوان جرته السلسلة إلى المحارق، فيمر على لهيب يأكل الشعر، وما تخلف ينظفه العمال، وهو يمر تباعًا الواحد بعد الآخر. وهنا يمر كل حيوان على مفتش الصحة الذي يختبر غدد الحلق والرأس والكبد والطحال، وإذا بدا فيها عيب أتلف لحم الحيوان على الفور، ثم تمر الجثث على رجال يرشونها بالماء، فآخرون يسوقونها إلى المخرطة مثل الجيلوتين تمامًا، فتُقَطَّع الجثة أنصافًا أو أرباعًا، وقسم منها يمر على فتيات يحزمن القطع دون أن يمسسن اللحم بأيديهن، ثم تُتْرَك هذه في الغرف المثلجة، ويخرجن زهاء مائتي حزمة في الدقيقة.
وبعضها يُوضَع في الغرفة المثلجة ما بين ٢٤–٤٨ ساعة، وبعض القطع تمر على رجال بأيديهم مشارط ومفارم يشذبون بها زوائد اللحم، ويستبعدون الشحم الذي كانت شظاياه تتطاير أمامنا هنا وهناك، ثم تمر القطع بين أسطوانات فتصبح رقائق مسطحة، ثم تُسَاق القطع إلى أفران التبخير والتدخين، وهنا تبقى بين ٢٤–٣٦ ساعة فوق نار من خشب شديد الصلابة، ثم تسير إلى قسم الصناديق والشحن، وهناك زهاء ٦٠٠٠ عربة من عربات سكة الحديد ذات المثالج يُشْحَن فيها اللحم؛ لأنها لا بد أن تبقى في درجة التجميد دائمًا.
 
                     
                     وبعد مشاهدة العملية يُخْتَم اللحم، وإلا امتنع اليهود عن شرائه، ثم تمر على الغسيل ثم شق الصدر وإخراج الأحشاء العليا، ثم شق البطن لإخراج الأحشاء السفلى، وفي ٢٥ دقيقة يُعَدُّ الحيوان للتصدير. وعدد ما يُذْبَح من البقر ١٨٠ في الساعة، أي نحو ٤٠٠ ألف في العام، وصالة التثليج التي تبقى درجتها ٣٤°ف دائمًا تسع ٣٠٠٠ نصف من البقر المشقوق بطوله، ولقد شعرنا برعدة البرد وقسوة التجمد ونحن نمشي داخل تلك الغرفة.
قمت أودع شيكاغو — ومعناها بالهندية الرائحة القوية؛ لأنها كانت تختص في زراعة البصل قديمًا، واليوم تشع لحمًا وشحمًا — ولبثت سائرًا صوب نياجرا مسافة عشر ساعات بالقطار، وكان أولها سهولًا مبسوطة كثيرة المرعى والذرة، منثورة بالشجر، وكنا نجانب حافة بحيرة متشجن، وعندما بلغنا حدود كندا طاف بنا رجال الجمارك والمهاجرة، ثم أوغلنا في أرض كندا دون أن نلاحظ تغيرًا في المناظر، وعندما تقدمنا بعيدًا في شبه جزيرة البحيرات تموج سطح الأرض، وكثرت غاباته ومسايل مائه البديعة، وزاد حيوان المرعى، وبخاصة البقر في الحقول.
ثم فُوجِئْنَا عند بلدة هملتون بمزارع هائلة من الكروم والفاكهة، وبخاصة التفاح، وكانت تسد الأرض كلها إلى الأفق، وكانت المحاط الصغيرة هناك تشحن صناديق لا عَدَّ لها من التفاح، والصبية يسيرون وبأيديهم تلك الفاكهة يسرفون في أكلها واللعب بها، ولقد غَيَّرْتُ القطار إلى نياجرا التي وصلتها عصرًا.
(١١) نياجرا
 
                  
                  أعياني السير وسط ذاك الجو المنفر، فأويت إلى النُّزل أتناول طعام العشاء، ثم عدت إلى الشلال وكان رذاذ المطر قد خف أو كاد ينقطع. هنا أذهلني جمال ما رأيت، أُطْلِقَت الأضواء القوية الملونة من مصابيح لا حصر لها، فوقعت أشعتها على مياه الشلال وحافته في ألوان مختلفة كانت تتغير بين دقيقة وأخرى فتُكْسِب الشلال روعة سحرية لن يستطيع القلم تصويرها، فليس إلا القلب وكامن الإحساس بمُدركٍ مبلغَ أثرها في النفس، وقد مُدَّت الطرق المرصوفة تتلوى على طول الخانق في مواجهة الشلال، وبين فترة وأخرى تخرج شرفة ناتئة فوق الماء زُوِّدَت بالمناظير التي تقرب الشلال وتزيد منظره روعة.
أخذت أجوب تلك المناظر الساحرة، ومما زاد المنظر روعة وسحرًا بصيص القمر من بين أكداس السحب وقد أحاطت به هالة بيضاء بديعة، ثم جلس على ناصية من هاتيك متسول ضرير يعزف على قيثارته الأندلسية بيديه، وفي فمه موسيقى الفم الصغيرة تتبع القيثارة في أنغام جذابة.
 
                  
                  وبلدة نياجرا فولز صغيرة قامت على شئون السائحين فأسرفت في الفنادق الفاخرة والمطاعم الكبيرة، ونسقت من المتنزهات في كل ناحية، ولا يكاد ينقطع عنها سيل السائحين ليلًا ولا نهارًا، وهي لا شك خير مستراض للنفس التي أرهقها كد العمل، أو أضناها مضض الوجد والهوى، فهي أكبر عون للنفس أن تستعيد نشاطها الكامل في أيام قليلة، إلى ذلك فهي ملتقى المحبين، حتى آثرها كل حديثي عهد بالزواج، أو كل أليفين على أهبة الاقتران؛ لذلك أطلقوا عليها أرض شهر العسل.
(١٢) تورنتو
أما في اليوم الثاني، وهو الأحد، فقد خُيِّلَ إليَّ أن ليس بالمدينة أحد؛ لأني كنت أسير في الطرق وحدي. وهم شديدو التعصب لذاك اليوم فلا يبيحون العمل فيه مطلقًا، ويجب أن تُغْلَق جميع المتاجر سوى الصيدليات والمطاعم، دهشت لما أن سرت ليلًا أتفقد دور الملاهي، فإذا بها مغلقة؛ ذلك لأنه يوم الأحد، ولا يُبَاح فتحها إلا بعد منتصف الليل، وعندئذ تموج بالناس، وجلهم من المتذمرين الناقمين على تلك الشعوذة وذاك التعصب.
وقد راقني ليلًا موقف الكثير من المبشرين على رءوس الطرق يصيحون ويخطبون الناس حاثين على التمسك بالدين وعدم الانهماك وراء الماديات هكذا، وقد ضحكت لما أن كان أحدهم يقول بأن المال ليس كل شيء، فلا فائدة منه إذا لم يصحبه الإيمان في …
 
                  
                  والبلدية هناك مصلحة إلى درجة عظيمة ترعى مصلحة الناس، وتكاد تدير كل شيء؛ ففي المتنزهات تقيم لهم المقاعد والمناضد، وتبيح لمن شاء أن يعسكر ليلة الأحد وفي الأعياد، وقد قسمت المتنزهات إلى قطع منمرة يتسلم كل فريق ترخيصًا بمعسكره في نمرة معينة؛ لكيلا يتشاحن القوم فيما بينهم، ووسائل النقل تديرها هي وتربطها بعضها ببعض الترام والأتوبيس، ولك أن تركب من أول البلد إلى آخره بتذكرة واحدة وتُغَيِّر ما شئت من خطوط.
كذلك الإضاءة الكهربائية، فالطرق تُضَاء بإسراف شديد، وفي الشوارع الرئيسية ترى المصابيح متقاربة، وفوق كل عمود ستة مصابيح في دائرة جميلة، وتكاليف الإضاءة في المنازل لا تجاوز ريالًا في الشهر، وكل تلك القوى مستمدة من شلال نياجرا.
 
                  
                  ومما يسترعي النظر هناك كثرة الفروع التي للمصارف في كل شارع، على أن عدد المصارف الرئيسية قليل محدود، وكلها تحت إشراف الدولة؛ لذلك أَمِنَ الناس شر إفلاس بعضها كما هي الحال في أمريكا التي تتعدد مصارفها إلى حد خطير. وقد صادفت زيارتي لتورنتو ميعاد انعقاد المعرض العام، وهو يُعْقَد مرة في كل سنة من ٢٨ أغسطس إلى ٢٠ سبتمبر، ويقوم على مساحة ٣٥٠ فدان، ولقد صرفت فيه شطرًا من مساء السبت، وكانت معروضاته عظيمة ومتعددة، وبخاصة قسم المسليات والملاهي، على أنه في جملته لا يفوق معرضنا السابق كثيرًا، وإن قالوا عنه بأنه أكبر معارض الدنيا، وجزء منه يطل على بحيرة أنتاريو ذات المياه الهادئة والشواطئ التي تكاد تكسوها الغابات، وعليها تقوم ميناء تورنتو، وهم جادون في توسيعها، وعندئذ تصبح أكبر الثغور التي تبعد مسافة عن المحيط — أما اليوم فمنتريال هي التي تحقق ذلك — ولقد قدَّر الهنود الحمر قيمة مياه البحيرة منذ زمان بعيد؛ لذلك أسموها «أنتاريو» أي المياه البديعة. ولقد ختمت زيارتي بالمتحف عظيم البناء كثير المعروضات، وبخاصة المخلفات الهندية الأمريكية، ثم حديقة الحيوان التي حوت مجموعة لا بأس بها من حيوان أمريكا وأستراليا.
(١٣) أتاوة
قمنا صباح الاثنين صوب أتاوة العاصمة السياسية لكندا، وكان القطار يجانب بحيرة أنتاريو بمياهها الملساء، وشواطئها التي تكسوها الغابات الجميلة، وكانت الأراضي سهولًا للفاكهة والغلال التي كانوا يحصدونها عند ذاك بآلات تجرها الخيول، وكنا كلما اقتربنا من أتاوة زادت كثافة الغابات، وبخاصة شجر البتولا والصنوبر، وقد عرَّى القوم مساحات أطلقوا فيها مراعيهم من البقر والخيول والأغنام ودجاجهم، وكانت القرى صغيرة، بيوتها أكواخ من خشب تقوم وسط الغابات، ولا تكاد تستبين خلال الأشجار إلا كلما بدا شارع مرصوف شُقَّ وسط الغابات.
 
                  
                  والمنظر من تلك الربوة ساحر، خصوصًا ناحية منبع النهر حين بدا شلال شوديير الصغير الذي حُبِسَت مياهه واسْتُغِلَّت في توليد الكهرباء. وتزين تلك المتنزهات دار البرلمان التي أُقِيمَت على نمط قوطي رائع لا إخالني رأيت دارًا أفخر منها، وهي من داخلها مجموعة آيات فنية من النحت والتصوير وخرط الخشب، وبخاصة في المكتبة التي حوت نصف مليون مجلد، وقُسِّمَت بحسب المديريات المختلفة، وبها غرفة تُعَدُّ هيكلًا مقدسًا نُقِشَ على جدرانه بالذهب أسماء أبناء كندا الذين فقدوا حياتهم في الحرب الكبرى.
 
                  
                  وليست مباني البلدة شاهقة كسائر البلاد الأمريكية، فقلما تزيد على الدور الثالث، وكثير من المتاجر يُكْتَب اسمه بالفرنسية، وهنا لأول مرة كنت أسمع بعض القوم يتحدثون بها في الشوارع، وبخاصة في بلدة «هل»، وحتى في الإذاعة يتكلم المذيع بالفرنسية والإنجليزية، وقد بدا على سِحَن بعض الناس التغير، وقَلَّت نسبة الجمال هنا جدًّا عما كانت عليه في البلاد الأخرى، ثم طفت بالكثير من المتنزهات الفاخرة، وبالمزرعة التجريبية التي تبلغ ٩٠٠ فدان أُعِدَّت لخدمة الفلاح وتوزيع الزراعة في البلاد.
ولقد كان الجو باردًا كأنه شتاء مصر تمامًا، والسحاب لم ينقطع من السماء، وفي الشتاء يقسو البرد جدًّا وتجمد مياه نهر أتاوة إلى عمق ياردة، ويكثر الانزلاق عليه، وقد شاهدنا بعض المزالق تعلو في الجو ١٥٠ قدمًا.
(١٤) منتريال
قمت إلى منتريال التي وصلتها في ثلاث ساعات، وكانت أجلى ظاهرة حولي كثرة من يتكلمون بالفرنسية في القطار وفي شوارع المدينة، وجُلُّ العنوانات وأسماء الشوارع كُتِبَت بالفرنسية أولًا وتحتها بالإنجليزية، وكذلك خدام الفنادق يبدءون الحديث بالفرنسية؛ ذلك لأن المدينة تُعَدُّ ثالثة المدن الفرنسية في العالم كبرًا بعد باريس ومرسيليا؛ فسكانها ١٢٠٠٠٠٠، أي فوق مجموع سكان القاهرة، وثلاثة أرباعهم ٧٦٪ فرنسيون لا يزالون يحتفظون بتقاليدهم وعصبيتهم ومذهبهم الكاثوليكي؛ لذلك كان حتمًا على كل فرد أن يتعلم اللغتين الفرنسية والإنجليزية.
والمكان على ربوة علوها ٧٦٩ قدمًا، ولم يُمَدَّ أول شارع وتُقَمْ أول مَحِلَّة للنزلاء إلا سنة ١٦٧٢ بعد كفاح عنيف بين البيض والهنود الحمر، وقد وزع الملك الأرض على الفرنسيين على نظام الإقطاع، ولكي يشجعهم على استغلالها والبقاء فيها بعث بالسفن الملأى بالفتيات الجميلة من آنسات فرنسا ليكن قرينات للنزلاء، حتى أُطْلِق عليها سفن العرائس، لكن النظام الإقطاعي فشل؛ لأن الناس فضلوا صيد حيوان الفراء من الغابات والاتجار فيها وفي الأخشاب. وظلت البلاد تحت لواء فرنسا حتى كانت معاهدة باريس التي أنهت حروب السنين السبع سنة ١٧٦٣ حين حل العلم البريطاني محل الفرنسي.
 
                  
                  ولقد خال كارتيي يوم سار في النهر أنه وجد الطريق إلى الصين، ومن ثم أطلق الاسم على شلالات لاشين القريبة من المدينة، وأقام على ذروة جبل رويال صليبًا من خشب استُبْدِلَ اليوم بصليب هائل من الحديد تراه على بعد أميال من البلدة، خصوصًا أثناء الليل حين يُوقَد بالكهرباء فتتلألأ ثرياته مشرقة رائعة.
مدينة هائلة تبدو من العواصم الكبرى، وقسمها الحديث وجلُّه إنجليزي يحكي مدن أمريكا الكبرى في حركته وأضوائه ومعروضات متاجره، وبخاصة في شارع سنت كاتارين، والقسم القديم فرنسي بحت ضيق الطرق، واطئ المباني إلا حول كنيسة نوتردام أكبر كنائس البلدة، حيث تقوم البيوت المالية والحركة التجارية، وهناك شارع نوتردام أطول شوارع المدينة يمتد ٣٧ ميلًا، والمساكن هناك قديمة قاتمة.
وأغرب شيء فيها أن السلم يُقَام خارجها في الطريق، ولكل دور سلم قد يلتوي فيصبح حلزونيًّا، لذلك ترى واجهة المنازل على طول الشارع مجموعة من سلالم معوجة في شكل مضحك؛ وذلك ليوفروا مكان السلم ويقيموا غرفة؛ لأن غالب البيوت مكتظة، والعائلات الفرنسية هناك وفيرة العدد كثير النسل جدًّا — على عكس فرنسا نفسها — وفي بعض الأحياء الفقيرة ينام الأطفال بالدور على فراش واحد، وكلما أمضى فريق في الفراش ساعات نومه انصرف وحلَّ محله الفريق الثاني، وكل بيتين متلاصقان كأنهما بيت واحد؛ وذلك لسهولة التدفئة شتاء.
وبرد الشتاء هناك قارس جدًا؛ فالمتوسط ١٨°ف، وقد تنزل الحرارة إلى ٦٤° تحت الصفر فتجمد المياه، وتُتَّخَذ الأنهار والبرك مزالق لألعاب الجليد. وكنا نشاهد الأبراج تعلو علوًّا مخيفًا؛ لينزلق القوم عليها في لعبهم شتاء، وقد يتكاثف الثلج فيسد الطرق، وعندئذ تمر كانسات الجليد فتزيحه على الجوانب، ثم تحمله بعيدًا لتسهل للناس المرور؛ لذلك أُغْلِقَت ميناء منتريال من أكتوبر إلى فبراير، وتحولت التجارة إلى هلفاكس.
 
                  
                  أما عن كثرة الكنائس التي تلقاها أينما سرت وعظمة بنيانها والإسراف في نقشها وزخرفها، فذاك ما كاد يفوق روما نفسها، وفي بعض الشوارع ترى الكنائس متلاصقة، ولا يخلو الطريق من القسس أو صِبْيَتِهم الذين يلبسون معطفًا أسود وحزامًا أخضر تتدلى له ذؤابتان طويلتان في شكل يسترعي النظر. ونفوذهم في تصريف الأمور عظيم جدًّا حتى كادت أن تصبح حكومة مديرية كوبك من رجال الدين، وغالبهم من الكاثوليك؛ ولذلك أُطْلِقَ على البلدة «مدينة الكنائس»، ففيها ٢٥٠ كنيسة أكثر من نصفها كاثوليكية.
ولا يزال القس أندريه يتعهد الهيكل ويدرس في مدرسة أسفله مع أنه بلغ سن ٩١ سنة، ويصله من الخطابات زهاء ٢٠٠ ألف سنويًّا، ينتظرون الرد منه والتبريك حتى تتم سعادتهم، ومن استطاع الحضور بنفسه حج إلى المكان من أقصى الأرض. وليس بالمدينة كثير من ناطحات السحاب، فأعلى الأبنية ٢٥ دورًا، ولقد حرم القانون اليوم العلو أكثر من الدور الرابع، ولقد مررنا بإحدى تلك الناطحات المتواضعة بالنسبة لأخواتها في شيكاغو ونيويورك، لكني دهشتُ لما علمت أن بها ستة أدوار تحت الأرض لإيواء سيارات الساكنين في ذاك البناء، وعدد سياراتهم ٦٥٠.
 
                  
                  ومن أعجب ما زرت مستودع الدواء فاخر البنيان عظيم الزخرف، حتى إن سقفه من الفضة الصب في وزن أطنان كثيرة تُرَى في كل ناحية منه، ومن أدواره العدة التليفون ومكبرات الصوت تلبي نداء أي إنسان في أقصى المدينة وتسعفه بالعلاج، والرجال والسيدات الوقوف به من خبراء الأطباء، وهو يعمل صباح مساء، ولا تُقْفَل أبوابه ساعة، ويتولى العمال رقابتهم على ثلاث دفعات في اليوم لكلٍّ ثماني ساعات، وأظرف ما به أنه يفتح أبوابه للزائرين جميعًا ويمدهم بالكرتات المصورة، ويبيح لكل إنسان أن يكتب رسالة يرسلها المحل إلى أقصى الأرض على حسابه.
وقد كتبت أنا بطاقتين وسجَّلت اسمي بين كشوف الزائرين، ولن أنسى بهاء المنظر وأنا أقف على شرفة جبل منتريال أُطلُّ على النهر الفسيح الهائل وجزائره المنثورة، وقد نُثِرَت بعض المدافع التي غنموها في حروبهم القديمة. ومن أبدعها جزيرة سان هيلين التي سُمِّيَت على اسم زوجة شامبلين، وهي في مجموعها متنزه واحد كبير، ويصلها هي والجزائر الأخرى بالمدينة مجموعة من قناطر أنيقة. قُمتُ إلى كوبك.
(١٥) كوبك
في سيارة الأمنبوس — ٧ ريال ذهاب وإياب — الفاخرة التي تقل ثلاثين راكبًا، وقد بلغت من الوجاهة حدًّا فاق سكة الحديد؛ فالمقاعد بالقطيفة الوثيرة والشماعات البراقة من حولنا، وعلى رءوسنا رفوف من الجلد البراق الثمين، والمراوح تدور صيفًا والمدافئ شتاء، وتلك تشق أرجاء أمريكا كلها بمواعيد ثابتة، وأجرها أرخص من سكة الحديد بكثير؛ فالسفر من سان فرنسسكو إلى نيويورك، أو من شواطئ المحيط الهادي إلى الأطلنطي دون عشرة جنيهات، وذلك أقل من نصف الأجر في سكة الحديد، وفوق ذلك فإنها تسلك طرقًا أجمل بكثير، ولا تحجب المناظرَ كثرةُ الأسلاك والمحطات وعربات الشحن التي تُنغِّص علينا سفرنا في سكة الحديد.
قمت صباحًا فوصلتها عصرًا في سبع ساعات، وكان جل سيرنا إزاء مجرى سنت لورنس الذي كان اتساعه هائلًا، وماؤه هادئًا براقًا رائقًا، وبين آن وآخر كان يلاقيه فرع أو اثنان ثم تكثر الجزائر التي تتشعب المياه حولها، وكانت تقوم المصانع الكبيرة طوال الطريق، وبخاصة الأخشاب والورق، ثم مطاحن الغلال ومخازنها وروافعها.
والطريق كله مدن وقرى بديعة أُقِيمَت أبنيتها من الخشب في تنسيق ونظافة تامة، والإقليم عامر بالسكان، وكلهم فرنسيون لا يكادون يتكلمون الإنجليزية إلا إذا اضْطُرُّوا إليها، وعندئذ تكون لغتهم ركيكة ضعيفة. وأكبر ما كان يلفت نظرنا كثرة الكنائس والقسس والصلبان التي كنا نراها قائمة حتى في وسط الحقول؛ فأينما نظرت ألفيت قسيسًا أو صليبًا، والكنائس كبيرة وفاخرة إلى حد كبير حتى في القرى الصغيرة، مما دل على شديد عصبية القوم الدينية، وكلهم من الكاثوليك المتمسكين بالدين تمسكًا شديدًا.
 
                  
                  وقطع الخشب عمل رئيسي يدر على مديرية كوبك وحدها فوق أربعين مليون ريال كل عام، ويجتذب آلافًا من الناس كل عام يهيمون في المجاهل، ويتوزعون في معسكرات يضم الواحد خمسين رجلًا يقطعون الخشب ثم يسوقونه إلى المجاري المتجمدة، وإذا ما ذاب جليدها عُوِّمَت الكتل بطريقة مدهشة: إذ يقف الواحد على كتلة سابحة وفي قدميه حذاء ذو نعل بارز المسامير، ثم يُحَرِّك الكتلة برجليه فتدور وهو فوقها، ثم تسبح في سرعة خيالية.
 
                  
                   
                  
                  وهي في ظني من أجمل بلاد العالم، لا يتمالك الزائر لها أن يعشقها لجمال موقعها. وهل أروع من منظر النهر وجزائره، وبخاصة جزيرة لورنس، عندما رأيته من أعلى الربوة؟! أو أجمل من منظر صخرة كوبك نفسها حين رأيتها من الزورق إزاء شاطئ الجزيرة؟ إلى ذلك فإن احتفاظها بأبنية القرون الوسطى وأزقتها المختلفة المتلوية زادها في نظري جمالًا، هذا إلى الذكريات التاريخية التي تحوط كل ركن من أركانها.
ومما يلفت النظر في المدينة كثرة ميادينها الضيقة التي تتوسطها تماثيل عظماء الرجال، ومن أخصهم لاڤال أول قسيس حلها وبدأ نواة جامعة لاڤال أكبر معاهد العلم في كندا، وكذلك تمثال شامبلين، ويجاور شاتو فرنتناك مشرفًا على النهر.
(١٦) إلى نيويورك
قمت أودع ذاك البلد الذي خُيِّلَ إليَّ وأنا أجوب نواحيه أني في قطعة من بلاد فرنسا المحتفظة بالقديم، وعدت إلى منتريال التي غادرتها إلى نيويورك صباح الجمعة ٤ سبتمبر. وقد اخترق بنا القطار النهر العظيم الذي بدا كالبحر لا تكاد تُرَى شواطئه، وكان عبورنا إياه على قناطر تربطها عدة جزائر، ولم تمض نصف ساعة حتى مر بنا رجال المهاجرة والجمارك، وفحصوا أوراقنا ومتاعنا في رفق وبشاشة، ثم بدأنا نسير إزاء نهر ريشليو، ثم أقبلنا على بحيرة شامبلين التي ما كنت إخالها تمتد هذا القدر الهائل، ولبثنا نخترق مجموعة هائلة من جزائرها بقناطر لا حصر لها، وكانت المزارع تغص بالخُضر وبعض الغلال.
وجل البلاد تحمل أسماء فرنسية، والقوم فرنسيون، ولما أن فرغنا من البحيرة وشعابها ظهر إلى يميننا نهر هدسن في اتساع يفوق نيلنا، ثم أخذت الأرض تتغضن وتعقدت رباها، وكانت المزارع خليطًا من الغابات وأرض الكلأ، وكثيرًا ما كان الصخر الجرانيتي القاسي يظهر عاريًا، ولقد أضحت المناظر من حولنا ساحرة بديعة.
 
                  
                  جزيرة كوني
بعد ساعة كاملة اخترقنا مجموعة من قناطر أدت بنا إلى الجزيرة، فألفيتها بلدًا عامرًا مُدَّت الحمامات الفاخرة على شواطئه الرملية، وأُقِيمَت في وسطه مجموعة من دور الملاهي والمعارض والمقاصف والمطاعم بشكل ليس له نظير في أية جهة من الدنيا، وفي كثرة استغرقت من وقتي ثماني ساعات كاملات حتى مررت بها مرورًا سريعًا؛ فلقد حوت كل ما يخطر بالبال من صنوف الألعاب: البهلوانية والسحرية والميسر والأراجيح، وعَرْض خوارق الطبيعة من حيوانات وإنسان؛ فهناك مجموعة هائلة من أنصاف الآدميين، والذين وُلِدُوا على نقص في تكوينهم.
ومن أعجب ما رأيت جسم فتاة لها رأسان، وجسم إنسان أطرافه كعجل البحر، وآخر كجلد التمساح، ومجموعة من الأقزام الذين لا يزيد طولهم على نصف متر، وثلاث من النساء جمعن بين صفات الذكر والأنثى؛ فنصف الجسد الأيمن خشن قوي العضلات وفير الشعر، والأيسر أملس رقيق ناعم، وجمعن بين عضوي التذكير والتأنيث معًا، وسيدة بلغ بها السمن حدًّا مخيفًا؛ فمحيط بطنها متران ونصف، ووزنها ٧١٥ رطل، وطولها متر.
 
                     
                     وكثير من تلك المعروضات تُشْرَح شرحًا علميًّا يرمي إلى فائدة الجمهور رغم مظهره الهزلي، فلقد دخلت معرضًا منها يعلن عن بعض أنواع التعذيب التي كانت متبعة قديمًا في وصفها الحقيقي بتماثيل تُظْهِر الحقيقة جلية، أذكر من بينها: التعذيب في بلاد الصين؛ يُوضَع الرجل في قفص ينكمش شيئًا فشيئًا ويضغط على المسكين وهو يتألم، ثم تُطْلَق عليه مجموعة من فيران جائعة كبيرة تنهش لحمه حتى يموت.
وفي المجر سنة ١٥١٨ عذبوا المجرم بربطه نائمًا، ثم يأتي الجلاد بكتلة من حديد سُخِّنَ إلى درجة الاحمرار، وكوى قدميه كيًّا بطيئًا، ثم الدفن حيًّا أواسط أفريقيا عدا الرأس، ثم يُلَطَّخُ الجسد بالعسل فينجذب النحل الكبير وينهش الجثة حتى يموت الرجل، أو يُوضَع الرجل في برميل وتبقى رأسه ظاهرة تعرض للشمس المحرقة حتى يموت.
وأخيرًا عُرِضَت المقصلة وهي تهوي على رأس ماري أنتوان في مخرطة ثقيلة حادة، ونحن خلال ذلك نسمع أنينًا واستغاثة وبكاء مؤلمًا مؤثرًا لم أدر مصدره، ثم معرض آخر لعادات بعض الهنود الحمر وزنوج أفريقية من رقص وأزياء. وهنا يبدو جمع من الزنوج الحقيقيين يعرضون علينا برنامجهم، ونحن خلال ذلك نرى أمام كل معرض رجلًا أمسك بيده مكبر الصوت وأخذ يحاضر الناس ويغريهم على الدخول بعبارات شائقة جذابة تستهوي كل إنسان. وما أقبل المساء حتى انتشرت ثريات الكهرباء في إسراف شديد من عقود متشابكة لا أول لها ولا آخر، مكان يسحر القلوب، ويستهوي النفوس، وزحام الناس عليه كثيف.
 
                     
                     وقفت وسط القنطرة وأنا دهش مذهول، وكان منظر القناطر الأخرى، وبخاصة بروكلن والماء من تحتها وواجهة جزيرة بروكلن بناطحاتها الساحقة، رائعًا بديعًا. هنا عَنَّ لي سؤال فاجأت به شابًّا كان يقف إلى جواري على القنطرة، فنظر إليَّ وابتسم وقال: أنت ابن عرب؟ قلت: نعم، مصري، قال: وأنا إسكندراني جئت هنا منذ ست سنوات، ولا تزال عائلتي في الإسكندرية، على أن الكساد الحالي في أمريكا قد أخلاه عن العمل هو وزهاء ستة من المصريين، قلت: ولكن أتظلون عاطلين الوقت كله؟ قال: كلا، فإن الرئيس روزفلت — الذي يحبه العمال حبًّا جمًّا — قد ابتكر نظامًا يوظف به العاطلين ثلاثة أيام كل أسبوع حتى يجدوا عملًا ثابتًا.
 
                     
                     هنا بهرتني أضواء تلك المنطقة وإعلاناتها المدهشة التي تسد الجدران سدًّا، ولقد راقني من بين تلك الإعلانات التي لا حصر لها بحر مائج يغص بالسمك مختلف النوع في ألوان بديعة متحركة، وآخَر من رجل يصب شرابًا أحمر من زجاجة في كأس، وثالث فنجال من القهوة يصعد منه بخار كثيف، وسيجارة تحترق ويصعد دخانها، كل ذلك بالنور المتوهج المتحرك. ومن صنوف الإعلان عن بعض المراقص إقامة تماثيل للراقصين والراقصات تتحرك وترقص في الشكل الطبيعي والأضواء تنعكس عليهم.
أما سيل الناس وبخاصة مساء الأحد، فذاك أمره عجيب، الأكتاف تتلاصق في غير مبالغة، وأينما كنت أسير كان يقودني تيار الناس ودفعهم لي، والسيارات الفاخرة تسد الطرق، وكنا نسمع أصوات الراديو منبعثة من كل سيارة في جلبة كبيرة، وظل جميع الناس إلى بعد الثانية صباحًا وبينهم الأطفال الصغار، ولهم العذر إذ المكان يبهر العقول ويستهوي من الناس الحكيم الرزين، فما بالك بالأطفال ضعاف الأحلام. وكنت كلما هممت بالعودة إلى الفندق لأنام ووجهت خطاي إليه أجدها تساير التيار وتأبى إلا التجول في تلك المنطقة الساحرة.
أما خروج الغانيات والشبان عن الحد المألوف في تبخترهم وعناقهم وتقبيلهم على قارعة الطريق، فذاك ما كان يروعني كثيرًا، فكأن الإباحة قد بلغت هناك غايتها، وامتنع الحياء بتاتًا، والمدهش أن ذلك لم يكن يسترعي من المارة لفتة استنكار أو امتعاض، فالكل راضون بذلك، وهل الحياة في نظر رُوَّاد برودواي إلا هذا المتاع والإسراف في المجون؟!
 
                     
                     وقمة الشعلة تعلو عن مستوى البحر ٣٠٦ قدم، أي زهاء مائة متر، ورأس السيدة تبعث أشعة الحرية كأنها الشمس في لونها الذهبي، وفي الليل تُوقَد تلك الشعلة بالمصابيح الكهربائية، وتلقي أشعة النور من الأركان على جسم التمثال كله فيلتهب وضوحًا وبريقًا، وقد أُقِيمَ على قاعدة من الجرانيت زُوِّدَت بالروافع والدرج التي توصلنا إلى أقدام التمثال، وحول تلك القاعدة نُسِّقَت المتنزهات وزُوِّدَت بالمقاعد.
 
                     
                      
                     
                     ولهم الحق أن يفاخروا بأن مواصلات نيويورك أرخص وأسرع وأرقى منها في أية مدينة أخرى في العالم، ولقد ساعدها على رواجها هذا وفرة الركاب الذين تغص بهم العربات صباح مساء، فلا تتجاوز المدةُ بين القطار والذي يليه دقيقتين. وقد عددت عربات قطار تحت الأرض فألفيتها عشرًا في كل قطار، كل ذلك ولا تكاد تجد مكانًا خاليًا، وكثيرًا ما تظل واقفًا.
وأذكر من ذلك أنهم وضعوا نماذج كبيرة للبناء إلى جوار برج إيفل ومسلة وشنطن والهرم الأكبر وبرج پيزا المائل، ورُوعِيَت فيها نسب الارتفاع، فكان هو أعلاها، ثم تدرجت الأخرى نقصًا في العلو على الترتيب المذكور، وفي نافذة أخرى أعلنوا عن عدد الزائرين لقِمَّة البناء، فكانوا في الأسبوع الأخير من أغسطس: ١٢٦٤٤، وفاق مجموع من زاره إلى آخر أغسطس ٢ مليون ونصف، دفع كل منهم ريالًا أجرًا للصعود، أعني أنهم ربحوا من وراء ذلك نصف مليون جنيه، ثم ذكروا الدول المختلفة التي ينتمي إليها أولئك الزائرون، ومن بينها مصر، ثم نشروا جميع أعلام تلك الدول — وكان علمنا الأخضر الجميل ظاهرًا بينها — كل ذلك ليستميلوا الناس إلى الصعود فيربحوا من وراء ذلك مالًا وصِيتًا.
 
                     
                     ولم يكن يروقني سماعها منهم، فقد أكسبوها اعوجاجًا وإضعافًا أفقدها موسيقى النطق الذي نسمعه من الإنجليز، وبخاصة السيدات، وذلك طبيعي بين أمة قد تألفت من عناصر متباينة وجنسيات عدة توطنوا في البلاد، ولم تتأصل في ألسنتهم اللغة الإنجليزية، أما عن اللحن والتكسير في قواعد اللغة فذاك لا يكاد يخلو منه أحد هناك.
طفقت أتجول هناك وأنا مبتهج بما أرى من أنوار وأزياء، طروب لما أسمع من ضوضاء حركة المرور الصاخبة التي كانت تنغصني بادئ الأمر، ثم ألفتها فأحببت سماعها: من صياح الناس يعلنون عن ملاهيهم، إلى صوت العجلات، إلى غناء الراديو المنبعث من كل سيارة، إلى جلبة «الإلفتير» فوق الرءوس، و«السبوي» تحت الأرض. وكان صوته ينبعث من النوافذ التي تشغل كثيرًا من أرض الطرق في شباك حديدية لا يفتأ بين آن وآخر يتفجر منها دخان وبخار ساخن هو الهواء الفاسد الذي تطرده مضخات التهوية، وتعيضه بغيره من الهواء البارد المنعش.
ومن تلك القطارات ما يسير فوق بعضه، فهناك ثلاثة أدوار «للسبوي» الواحد تحت الآخر، وفوق أولئك ترام الأرض العادي، وفوق ذلك «الإلفتير»، وقد يكون من دورين؛ قطار يجري فوق الآخر، أعني أن وسائل النقل قد تشغل ستة أدوار بعضها فوق بعض. كل ذلك يُحْدِث جلبة تقلق راحة من يحل البلد لأول وهلة، لكنه لا يفتأ يعتادها فينفر من السكون، ويعده ضربًا من الوحشة المقلقة، وذلك ما كنت أحسه أنا آخر الأمر. وعند منتصف الليل رجعت إلى الفندق، وكان جو اليوم حارًّا بعد أن كان أميل إلى البرودة في الأيام السالفة.
والجو في نيويورك سريع التقلب، فبينا تجد الشمس صاحية وَضَّاءة والهواء عليلًا، إذ به ينقلب في ساعة واحدة فيحجب السحاب الشمس، وقد يمطر وابلًا أو يعم الجو شبه دخان يخفي الكثير من جمال مناظر البلدة وما أحاطها من بحار وجزر وناطحات، وذلك هو السائد في جو نيويورك إذ قلما يصفو الجو يومًا بأكمله.
 
                     
                     أخذت الباخرة تتنحى عن أرصفة نيويورك ومينائها الصاخب العظيم، فتجلت ناطحات السحاب في روعتها الكاملة، وأخذت هذه تنضمر وتتوحد كلما بعدنا حتى أضحت شبحًا فاترًا، ثم غابت عن الأنظار. وكانت وجهتنا بسطن.
(١٧) بسطن
لبثت الباخرة واقفة تعلن عن مكانها بالأجراس والأبواق لتنبه البواخر الأخرى اليوم كله إلى الساعة السادسة بعد الظهر حين انجلى ذاك الضباب، وكنا نخاله سيخف حوالي العاشرة صباحًا عندما تعلو الشمس وتبخره، لكنه أدهشنا بركوده طوال اليوم، وقد حل ذلك بالكثير من السفن الماخرة في تلك المياه، ولقد أعلنت الجرائد عن هذا الضباب الذي عاق سير الكثير من السفن وقالت بأنه أسوأ ما وقع في فصل الضباب كله هذا العام.
 
                  
                  والمدينة أقدم بلاد أمريكا، والذكريات التاريخية تحوطها من كل جانب، فهي مهد الثورة الأمريكية، وفيها بدأت أول شعلة لحرب استقلال أمريكا، وكانت مقرًّا لزعماء تلك الثورة.
ولقد كان يسود جو المدينة شيئان: المظهر الصناعي الذي كان يبدو في كثرة المداخن وسواد الأبنية، ورث الثياب التي كان يرتديها غالب المارة وهم طبقة العمال، والشيء الآخر رائحة السمك التي كانت تنبعث من كل الأرجاء، وبحار بسطن تُعَدُّ من أكبر مصائد الأسماك في الدنيا؛ بفضل قربها من مياه شط نيوفوندلند نهاية دفء تيار الخليج، وكثرة الضباب الذي يجد السمك تحته غطاءً ومخبأً، وتُعَدُّ ضاحيتها التي تُسَمَّى جلوستر من أغنى بلاد الدنيا؛ لأنها أغنى المناطق هناك بصيد السمك وإعداده.
 
                  
                  وعجيب أمر هذا الضباب؛ فما كدنا ندخل الميناء ونقف بها بضع ساعات حتى عاد فخيم علينا من كل ناحية، ثم انجلى ساعة واحدة سلكنا سبيلنا فيها إلى عرض المحيط، وها نحن اليوم الخميس نشق طريقنا خلاله في بطء شديد، ولا نكاد نبصر بشيء قط، ولا تفتأ الباخرة تعلن عن مقرها بالأبواق والأجراس، ولبثنا هكذا يوم الجمعة كله حتى أخذ ينجلي تدريجًا. أما الجو فكان باردًا منعشًا، والبحر هادئًا وديعًا. واليوم السبت فقط سطعت الشمس وصفا الجو؛ لأنَّا بعدنا عن أطراف هذين التيارين.
ولقد أذكرني ذاك الضباب بفاجعة الباخرة تيتانيك التي كانت تعبر المحيط لأول مرة بعد بنائها سنة ١٩١٢، وكانت تفاخر بأنها أحدث البواخر التي شقت المياه وأكبرها، وكان آلاف الركاب آمنين على أرواحهم واثقين برسوخ قدم مطيتهم على سطح الماء، وما أن أوغلت في ذاك الضباب إلى الشمال من منطقتنا هذه حتى باغتها جمد من الجليد لم تَنمَّ عنه حُجبُ الضباب الكثيفة، فحطم جانبها وغرقت. وقد أودت بحياة الألوف من المسافرين؛ لذلك لا يغامر قواد السفن اليوم في تلك المنطقة إذا أحاطهم ضبابها، ويجب أن تظل الباخرة واقفة حتى تخف وطأة تلك الظلمات.
نزل الباخرة من بسطن جمع كبير من المسافرين، وجلهم من الطليان والإغريق الذين توطنوا أمريكا، وقد حنوا إلى أوطانهم فعادوا يزورون أهلهم هناك، وبعضهم يعتزم العودة والكثير يؤثر أن يقيم في بلاده الأولى بعد أن حمل معه ما جمع من ثروة ومال، خصوصًا وأن المقام في أمريكا اليوم لا يعود عليهم بكبير فائدة؛ لأن الضائقة المالية لا تزال آخذة بمخنق الكثير في تلك الديار.
 
                  
                  وممن ركب الباخرة زهاء مائة طالب من مختلف بلاد إيطاليا استقلوا الباخرة، وقد مروا على الكثير من ثغور البحر الأبيض والبرتغال وأزورا وبسطن ونيويورك، ثم أقاموا في باخرتهم وهي ترسو هناك خمسة أيام تفقدوا فيها أنحاء المدينة تحت إشراف أستاذ إيطالي. وقد علمت لما أن حادثتهم في هذا الشأن: أن موسوليني فرض على كل باخرة أيًّا كانت وجهتها أن تعد مكانًا في أية درجة فيها لمائة طالب يسافرون معها في رحلتها ذهابًا ورجعة، مقابل نصف أجر الدرجة الثالثة تدفعه الدولة، وذلك لأنه يؤمن بفائدة الرحلات وأثرها في تربية النشء على الاستقلال، وقوة الملاحظة، والرجولة، والاعتماد على النفس.
وقد كان سلوكهم أينما ظهروا مشرفًا؛ فلم نرهم إلا في كامل حللهم يلزمون الهدوء، ويبتعدون عن المجون، ولم نلمح أستاذهم بينهم إلا نادرًا، وحتى في حفلات الرقص آخر الليل كانوا يحضرون ويشاهدون ما يقع فيها دون أن يحركوا ساكنًا. أكبرت تلك النزعة المصلحة في زعيمهم موسوليني الذي لا يدخر وسعًا في تكوين الرجال الذين ستعتمد عليهم إيطاليا في مستقبلها، وكنت أشعر بالحزن الشديد لنصيب أبنائنا من تلك التربية، وإلى متى تظل حكومتنا غافلة عن أبنائها؟ وهل يكلف وزارة المعارف مثل ذاك الأمر إلا القليل من المال؟ به يرى المصريون العالم الخارجي فتتسع مداركهم، ويرون بعيونهم كيف يغامر أبناء الأمم الأخرى طلبًا للرزق الوفير في أقصى الأرض، غير قانعين براتب ضئيل تمن عليهم به حكومتهم في وظيفة لا تلبث أن تقتل فيهم روح العمل وحب البحث، أليس ذلك أجدى على الطلبة مما يدرسون في مدارسنا، وما يحرزون من «شهادات»؟ إني لأرجو أن يلمس رؤساؤنا ما لذلك من أثر جليل في التربية، ويعدوا العدة لإنفاذه، وها نحن على أبواب عصر جديد، وقد زالت عقبة السياسة التي كانت تقف في سبيل كل تقدم، وتعترض كل محاولة للإصلاح.