العودة إلى مصر

أزورا

خرجنا إلى عرض البحر وخلفنا وراءنا منطقة الضباب الكثيف، فصفا الجو وهدأ البحر، وكانت تتعلق بمائه قطع من طفيليات الماء وأعشابه في عناقيد مشتبكة حبها صغير، وهو عشب سرجاس الذي يكثر في وسط البحر بين دورة التيارين: تيار الخليج إلى جانب أمريكا، وتيار كناريا إلى جانب أوروبا وأفريقية. وذاك البحر الأوسط الذي حمل اسم ذاك النبات «بحر سرجاس» قلما يغضب ماؤه أو يعلو موجه؛ لذلك لبثنا خمس ليالٍ وأربعة أيام كاملة نشق طرفه الشمالي في هدوء حتى وصلنا جزائر أزورا ظهر الاثنين ١٤ سبتمبر، فظهرت مجاميع الجزائر منثورة في امتداد كبير.

ثم دخلنا خليجًا كملته الأرصفة والحواجز الصناعية في ثغر سان ميشيل في جانب من الجزيرة الرئيسية، وكانت الأرض جبلية تعلو رباها في مخاريط متعددة لبراكين خامدة كست الخضرة القصيرة منحدراتها، وفي سفوحها السفلى أُقِيمَت المدينة بمتنزهاتها الجميلة وبيوتها الوطيئة، وكان يشرف على الميناء دير «سان ميشيل» الكبير. ولم نقف بها سوى ساعتين ونصف، وأقلنا زورق صغير إلى الشاطئ بعد أن دفعنا ريالًا ضريبة النزول إلى البر. وطافت بنا سيارة في أهم أنحاء البلدة وبعض ما أحاطها من مزارع الفاكهة والأناناس، وقد بدا على كثير من أهلها العوز؛ فكم رأينا من حفاة خَلِقي الثياب ومتسولين بائسين! على أنهم مرحون بسطاء في جملتهم، وهم من البرتغاليين؛ إذ الجزائر مستعمرة برتغالية.

لشبونة

اضطرب البحر وعلا موجه وترنحت السفينة قبل دخولنا لشبونة بيوم واحد، حتى ألزم كثيرًا من المسافرين مضاجعهم وهجروا المطعم في العشاء، ولم يشاطر منهم في رقص المساء إلا القليل. وفي باكورة الصباح أشرفنا على عاصمة بلاد البرتغال؛ دخلنا خليجًا مستطيلًا يصب في نهايته نهر التاجه، وإلى يمينه قامت لشبونة ببيوتها الوطيئة وسقوفها الحمراء تتدرج على المنحدرات، والمباني مكتظة متقاربة إلى ورائها ظهرت الربا نصف مجدبة، وقد احمرَّ أديمها من شدة الجفاف ولفح الشمس إلا في بعض نواح زرعها القوم خضرًا.

fig131
شكل ١: منظر عام لمنتريال في كندا.

نزلنا نجوب نواحيها، وظلت السيارة ثلاث ساعات وهي تشق طريقها وسط أزقة مختنقة كثرت لياتها، وصعب منحدرها، ورُصِفَت أرضها بقطع البازلت البركاني في غير نظام. والبيوت تلاصقت فيما بين ثلاثة أدوار وخمسة دون أن نرى بها فجوة أو شرفة أو فراندة، وإذا بدت بلكونة كانت عبارة عن نافذة شباك خرجت منها شبكة من درابزين متقاربة صغيرة. على أن جل واجهات البيوت كُسِيَت بالقيشاني الملون البديع، وذاك لا شك مقتبس من الأندلس وما فيها من أثر عربي. وكان الترام يجري وسط تلك الطرق الوعرة، وكلما قارب التواء وقف عامل بالإشارة ليدل الناس على اقتراب الترام لينتظروا حتى يمر.

والمتاجر جلها صغير ومبعثر أسفل البيوت في غير نظام، على أن بالمدينة عددًا من الميادين لا بأس باتساعها، تقوم وسطها تماثيل العظماء من ملوك وكاشفين، ومن أظهرهم تمثال فاسكو دجاما يشير بيده إلى البحر، وإلى ورائه كنيسة كبيرة زرنا فيها مدفنه إلى جوار بعض العظماء والأمراء. وهناك عدد كبير من الكنائس الهائلة، وقد راقني منها بناء الكتدرائية «سان جيروم» في هندستها القوطية، وأعمدة الداخل شاهقة العلو، وتحكي مآذن المساجد تمامًا، ثم كنيسة سانت أنطونيو أُقِيمَت حول المكان الذي ولد فيه، وإن كان مثواه اليوم روما، والناس يقدسونه إلى درجة العبادة، فالمقام غاصٌّ بالرُّكَّع السُّجود، تنهال الهبات من كل جانب، وتبدو الشعوذة داخله بشكل فاق ما نراه في أضرحة البلاد الشرقية.

وكان يروقنا طوال الطريق نداء المتجولين والمتجولات من بائعي السمك والخضر والفاكهة يحملون السلال على رءوسهم ويصيحون ترويجًا لسلعهم، وقد بدا على هندامهم العوز الشديد. أما المتسولون وشريدو الشوارع من الأطفال ففي كثرة هائلة، وجلهم حفاة قذرو الثياب، ولا تلبث تسمعهم يطلبون إليك سنتيمًا one cent وأيديهم ممدودة في تواضع شديد إذا قُورِنُوا بمتسولي أمريكا الذين يطلبون a quarter، أي خمسة وعشرين مليمًا؛ خمسة قروش، ولا يقنعون بدونها. وكان قد تخلف معي من النقود الأمريكية زهاء عشرين سنتيمًا بدرتها عليهم، فكادوا يطيرون فرحًا مع أن السنتيم بمليمين.

ثم علت بنا السيارة تدريجيًّا حتى أشرفنا على منظر البلدة كلها وهي تتدرج ببيوتها المتلاصقة إلى البحر في مشهد بديع، وهناك زرنا حديقة للنباتات كُسِيَت سقوفها بشرائح الغاب تتخلله بعض أشعة الشمس، وبه مجموعة من النبات قيمة جدًّا.

fig132
شكل ٢: كنيسة نوتردام في منتريال.

ولقد دخلنا متحف للعربات القديمة حوى مجموعة من عربات الخيل لبعض الملوك والبابوات، أذكر من بينهم البابا كلمنت الحادي عشر، وفيليب الثاني ملك إسبانيا الذي مَلَك البرتغال يومًا. والعربات مقعرة مستطيلة بُولِغ في تذهيبها وفرشها بالقطيفة والحرائر، وتزيينها بالقصب البديع، وإلى جوارها بعض السروج الذهبية والفضية وكثير من الأسلحة.

وفي ناحية هناك دخلنا مدفن الملوك في شكل «بانتيون» باريس، لكنه في حجم أصغر ومظهر أقل فخامة. وتقع دور الوزارات حول ميدان فسيح جدًّا عُنِيَ برصفه، على أن المباني نفسها قديمة وليست جذابة، والبوليس منتشر في جميع الطرق على مسافات متقاربة حتى خُيِّلَ إليَّ أنهم يخشون صدى ثورة جارتهم إسبانيا.

والبوليس هناك دقيق قاسٍ حتى إن سائقنا التفت يساره وخالف إشارته له مخالفةً بسيطة غير متعمدة، فأوقفه وسحب منه الرُّخصة وسلَّمه قسيمة المخالفة، وحاول الرجل استعطافه فأبى وقال: أتريد أن تُرِيَ السائحين الأجانب أننا لا نحترم القانون؟

fig133
شكل ٣: الشعوذة الدينية منتشرة في كندا الفرنسية.

وقد راقني من بعض الطرق المتسعة على قلتها رصف الإطارين بالوَدع المُلوَّن في هندسة شرقية عربية. ومظهر البلد بدا قديمًا شبه أثري أذكرني بأزقة روما، والناس بدوا في بساطة الهندام، وشتان بينهم وبين وجاهة الأمريكيين، وحتى المعروضات في المتاجر كانت من المواد الرخيصة، والأقمشة كلها من الشيت الملون والباتستة وما إلى ذلك مما قل ثمنه، وكثير من النساء يحملن شيلانًا ثقيلة على أكتافهن رغم الجو الحار. وقد كانت الشمس شديدة الحرارة من أثر المنحدرات المجدبة التي تحيط بالمدينة، وما كدنا نخرج إلى البحر حتى رق النسيم وهبطت الحرارة هبوطًا عظيمًا مفاجئًا أيد في جلاءٍ ما للبحر من أثر في مناخ الإقليم.

أما سحن الناس فقد اسمرَّت جميعًا وكثرت العيون السوداء، على أن نسبة الجمال أقل منها في أمريكا وفي الأندلس، فقلما كنت أبصر بوجه جميل يسترعي النظر، وبدا النساء في شيء كبير من الحشمة والوقار في السلوك والهندام والحديث، على عكس فتيات الدنيا الجديدة اللاتي قد انتقصن من جمالهن كثيرًا بما يبدين من إباحة وطيش.

fig134
شكل ٤: مباني كوبك تذكرنا بالعصور الوسطى.

وهم يحاولون استغلال الغريب ما استطاعوا، فمثلًا استبدلت ريالين من النقود الأمريكية فسلمني الصراف ٤٢ اسكودو، ولما رجعت لم تكن بي حاجة إليها، فعدت أردها إليه ليعيد إليَّ النقود الأمريكية، فسلمني ريالًا و٧٠ سنتيمًا، أي أني خسرت ستة قروش في تلك الصفقة، وذلك طبيعي في بلد فقير يحاول أهله أن يحصلوا على المال من أي طريق. والاسكودو يعادل قرشًا صاغًا تقريبًا، وهو أساس النقد البرتغالي، وينقسم إلى مائة سنتافو، أي أن السنتافو عُشر المليم.

جبل طارق

قمنا مبكرين في السادسة من صباح الخميس ١٧ سبتمبر لنشهد سير السفينة بين شواطئ القارتين؛ أوروبا إلى يسارنا وأفريقية إلى يميننا، ونحن نجتاز جبل طارق، وقد ظهرت الربى الجيرية الشاهقة على كلا الجانبين يغشاهما شبه دخان قاتم من السحاب، وبخاصة صخرة جبل طارق التي ظهرت كالأسد الرابض يمتد ذراعاه في انحدار متدرج، ويلتوي الطرف كأنه المخلب العظيم، وكان جانبه الأيمن المواجه للمحيط مدرج الانحدار، وعليه قامت أبنية المدينة بعضها فوق بعض. أما جانبه الأيسر المواجه للبحر الأبيض فظهر زلقًا وعر المنحدر عري صخره عن كل شيء.

أقلنا زورق صغير إلى البر، فسرنا على أرصفة الميناء بالغة الطول، ثم دخلنا بوابات الأسوار والطوابي التي تحيط بالبلدة إلى الشارع الرئيسي مكتظ المباني قليل الاتساع، ومنه تتشعب الأزقة التي لا تكاد تتسع لشخصين متجاورين تعلو بنا درجات إلى ذرى الصخرة، حيث تُقَام الحصون العاتية والمدافع بعيدة المرمى. هنا أشرفنا على البوغاز كله تتدرج المباني الصغيرة على جانبيه وتنتثر أحواض الميناء بالبواخر الحربية.

أما الناس هناك فخليط عجيب من سحن متباينة، وأزياء مختلفة، ولغات عدة، على أن الإسبانية هي الغالبة، وقد ظهر عليهم الضنك ورقة الحال، فجلهم في أسمال خَلِقة، وأجسام هازلة، ووجوه مصفرة، ولا يكادون يرتزقون إلا من وراء ما ينفقه السائحون وهم قليلون، وفي أحد الميادين رأينا عددًا كبيرًا من الإسبان اللاجئين إلى هذا البلد فرارًا من الثورة في إسبانيا، وكانوا في حال يُرْثَى لها، ولقد ركب السفينة عدد كبير من الراهبات الهاربات من إسبانيا، والحكومة الحاضرة تضطهد رجال الدين وتطاردهم.

fig135
شكل ٥: ميدان أبراهام الذي هزم فيه الإنجليز فرنسا في كوبك.
ولقد أمر موسوليني أن تنقلهم السفن الإيطالية مجانًا إلى إيطاليا. والثائرون من الاشتراكيين الفاشستيين لم يطيقوا حكم الشيوعيين وسوء معاملتهم لرجال الدين، وكنا نتوقع سماع بعض طلقات المدافع الإسبانية لأن القوم هناك يسمعونها كل يوم. وكثير من نساء جبل طارق يلبسن فوق الرأس طرحة سوداء تكاد تشبه الحجاب الشرقي، ولقد دخلت إحدى كنائسهم فكانت حاشدة بهن رُكَّعًا يقرأن أدعيتهن. ويظهر أن القوم متدينون إلى حد كبير، ولا يزال للعهد العربي الإسلامي هناك بقية في قلعة عالية فوق مباني المدينة، وقد تهدمت أركانها وتصدعت جوانبها، ويسمونها Moorish Castle. طفنا بالبلدة ساعتين ثم عدنا في عربة يجرها حصان هزيل، وتلك العربات هي المطية الرئيسية هناك، وقامت بنا الباخرة توغل في البحر الأبيض، وقد ودَّعت جبل طارق للمرة الثانية وفي القلب حسرة وفي النفس أسًى لانصرام العهد العربي في تلك البلاد.

كانت حفلة هذا المساء حاشدة على ظهر الباخرة، فلقد أُجْرِيَ عقب العشاء مباشرة سباق الخيل — وهو ضرب من المقامرة كلف به القوم جميعًا — ثم أعقبه شريط سينمائي بديع، ثم تقدمت فرقة من هواة المتطوعات عازفات على القيثار والبانجو والمزمار وهن يغنين أدوارًا لم تَرُقني كثيرًا؛ إذ لم تطابق أصواتهن أوتار تلك الآلات، ثم أعقب ذلك الرقص إلى ساعة متأخرة من الليل. وعجيب أمر أولئك المتطوعات، فهن يسافرن إلى البلاد الشرقية، ومصر من بينها؛ ليقفوا عند مفارق الطرق يعزفن ويغنين، ومتى التف حولهم جمع من الناس بدأن التبشير الديني مُحاولاتٍ ردَّ الناس عن دينهم إلى الدين المسيحي.

والمدهش أنهن مخلصات لمهمتهن هذه، وكُنَّ يُكلمننا وكلهن يقين بنجاحهن في ذاك العمل حتى خُيِّلَ إليَّ وهن يتكلمن في حماسة نادرة أنهن سيحولنَّ البلاد جميعًا إلى دينهن! غير أني رجعت فرثيت لحالهن ولسذاجة عقولهن، وإلى متى يظل العالم أسير تلك الشعوذة الباطلة؟ وهَلَّا وَجَّه أولئك مجهودهن إلى عمل إنتاجي نحن إليه أحوج، وبه أجدر؟!

مدينة الجزائر

كنا على أبواب مدينة الجزائر صباح يوم الجمعة فظهرت مدرجة فوق الربى ممتدة في طول هائل، ولقد حللتُها للمرة الثانية، وطافت بنا سيارةٌ أرجاء المدينة فأخذنا نصعد تدريجًا حتى بلغنا الذرى وأشرفنا على منظر ساحر للمدينة. وبيوتها البيضاء مدرجة إلى البحر، وأرصفة الميناء ضمت مختلف السفن، وأمَّنتها حواجز الأمواج التي أقامتها يد الإنسان ولا تزال توسع نطاقها كي تصبح الميناء ذات شأن تجاري كبير بموقعها المتوسط في البحر الأبيض. هنا أبصرنا بالوطنيين من المسلمين يمتزجون مع الفرنسيين في ائتلاف عجيب لا فرق بين غني وفقير، وكثير من الوطنيين يلبسون الطرابيش السميكة الوطنية.

ولما أن دخلنا إلى الحي الوطني الصرف حول القصبة القديمة كانت الشوارع أزقة مختنقة لا تتسع لأكثر من شخصين، وتكاد شرفات البيوت العتيقة تتساند على بعضها، ولا يكاد يدرك أرضها شعاع من الشمس؛ لذلك كانت رائحتها تشع وخمًا حتى لم نطق صبرًا على البقاء فيها طويلًا، وهي أحياء قذرة جدًّا. والعجيب أن بعض الفرنسيين يقطنون تلك الأزقة مع الوطنيين ويشاطرونهم معيشتهم البائسة الفقيرة. وقلما كنا نسمع العربية، وإن نطق بها أحدهم كانت شوهاء محرفة منفرة، ويستسيغون الفرنسية عنها.

وقد مررنا بعدد لا يُحْصَى من المقاهي البلدي يجلس عليها الجماهير في كسل كأنهم الذباب في شكلهم القذر وملابسهم المنتنة، وكثير منهم شوهته الأمراض، ولقد هال ذاك رفقائي من الأمريكيين الذين وفدوا إلى الشرق لأول مرة وقد ألفوا الحياة الأمريكية وعناية الدولة هناك بأحياء الفقراء، فقال أحدهم: أليس من العار على فرنسا أن تترك تلك الأحياء هكذا؟! وكيف تسمح بعرض المأكولات تعبث بها الأيدي ويعف عليها الذباب إلى هذا الحد المنفر؟! وهَلَّا ساقوا هؤلاء المرضى إلى المستشفيات رأفة بحالهم وحفظًا للناس من وبائهم؟ وفي الحق أني كنت أشعر بشيء كبير من الخجل لأني شرقي تربطني بتلك البلاد صلة الجوار والدين، ولقد سألني أحدهم قائلًا: لا إخالني سأرى شيئًا من هذا في مصر عند زيارتي لها في مارس المقبل؟ فسكتُّ عن الجواب، وقلت في نفسي: عسى أن تكون حكومتنا الجديدة قد عُنِيتْ بأحياء الفقراء، وبرقابة المطاعم، والضرب على أيدي المرتزقة من المتسولين والمشعوذين، وما ذلك عليها بعسير.

fig136
شكل ٦: تمثال الحرية في مدخل نيويورك.
ولقد طغى ذاك الحي الوطني بقذارته فخلف أسوأ الذكرى في أذهان جل ركاب السفينة، حتى إني كلما سألت أحدهم: كيف رأيت مدينة الجزائر كان الجواب: Terrible & awful لم أر أشنع منها، فكنت أقول: ولكنكم نسيتم جمال الأحياء الأخرى وهي تفوق ثلثي المدينة، فكانوا ينكرون علي ذلك ويقولون بأنهم لم يلمسوا بها جمالًا. وذلك يُظهِر لنا مبلغ أثر تلك الهنات في نظر الأجنبي، ولذلك فهو إذا تحدث عن الإقليم لم يجد غير الاستنكار شيئًا.

بالرمو

أبحرت بنا السفينة والجو حار والبخار كثيف، وفي الرابعة بعد ظهر السبت بدت جبال جزيرة صقلية الشمالية شاهقة غير مجدبة، وفي أسفلها مجموعة من قرى صغيرة، ثم التوت بنا في خليج فسيح تقوم عليه مدينة بالرمو عاصمة الجزيرة. ولقد مُدَّت حواجز الأمواج الصناعية وأمَّنت مكانًا متسعًا من غوائل البحر جعل المرفأ عظيمًا، ولا يزال الإنشاء فيه قائمًا على ساق وقدم، شأن موسوليني الذي يريد أن يُنْشِئَ بلاده من جديد. نزلنا البر فالتف بنا جمع لا يُحْصَى من الباعة والحوذية والمتسولين يلحفون جميعًا، هذا يحاول إكراهنا على ركوب عربته أو سيارته، وذاك يضع بضاعته في جيوبنا لندفع له ثمنها، والثالث يطلب عونًا وصدقة.

fig137
شكل ٧: القطار المعلق في نيويورك.

وكانت الطرق المجانبة للميناء قذرة جدًّا، وأهلها حفاة قذرون، والمأكولات تُعْرَض في شكل منفر تعبث بها الأيدي والأعين، ولما أن أوغلنا في قلب المدينة ظهرت قيمتها التاريخية في أبنيتها الفاخرة الضخمة، أذكر من بينها الكتدرائية وقصر الملك والأوبرا وكثير غيرها في هندسة القرون الوسطى يزينها بعض الشيء الأثر العربي الأندلسي، ولقد كانت مقر ملك صقلية من بين الدويلات الصليبية، وبها مجموعة فاخرة من كنائس لا حصر لها. ولا تكاد تمر بميدان أو منعطف إلا وتجد صليبًا أُقِيمَت أمامه الشِّبَاك وعُلِّقَت المصابيح، ويركع المارة أمامه ويقبلون الأعتاب.

fig138
شكل ٨: في ناحية من نيويورك.

ومن الأزقة ما يشع وخمًا وعفونة لم نكد نطيقها، وهي مكتظة بالأهلين لدرجة أن البيت كان غرفة واحدة كأنها الحانوت يكدس الساكنون فيه كل متاعهم، وفي الوسط سرير النوم، وقد يكون صاحبه تاجر بعض الشراب أو الطعام يعرض على منضدة أمامه، وقد يكون صانع أحذية كنا نراه جالسًا والحذاء على فخذيه يعمل فيه بمخرازه وخيطه في كد ونصب. وبالمدينة عدد كبير من الميادين الفسيحة تتوسطها النافورات والتماثيل على نمط ما رأيناه في روما، إلى ذلك متنزهات متفرقة، لكنها صغيرة المساحة وتفتقر إلى التنسيق والتشذيب، ومظهر الفقر والحاجة هو السائد على البلدة وأهلها، ولقد سألني صبي عونًا فقدمت إليه عشرين سنتيمًا، أي ٣ مليم، فكاد يطير فرحًا، وأخذ يرفع يديه إلى رأسه يحييني حتى غاب عن نظري، على أنهم على جانب كبير من الظُّرف وحب المعاشرة، وهم أميل إلى الشرقيين والمصريين في الشكل، وفي كثير من العادات وعدم التكلف.

fig139
شكل ٩: أكبر ناطحات السحاب في العالم.

نابُلي

قمنا في المساء إلى نابلي التي بدت طلائعها قبيل شروق الشمس وقد تجلى فيزوف مشرفًا عليها ينشر حجره في انحدار مدرج إلى البحر، وتقوم عليه أبنية المدينة، ولقد هالنا ما حل بالميناء من التجديد والتغيير، فلقد أقامها موسوليني من جديد في مظهر رائع جميل. ولما أن جُبت بعض أرجاء البلدة بدا كثير من أحيائها وشوارعها غير ما كان يوم أن زرتها في رحلاتي السابقة. وفي الحق أن الجهود التي يبذلها زعيم إيطاليا اليوم في رفع شأنها لتُكْسِبُهُ فخارًا وإجلالًا في نظر العالم أجمع، رغم ما نعلمه من موارد البلاد المحدودة التي لا تحتمل ذاك الإنفاق على شئون العمران والتوسع الاقتصادي والحربي، لكن صدق الوطنية والعمل الخالص لصالح البلد وأهله هو الذي يأتي بالمعجزات.

طفقت أبحث عن بواخرنا المصرية عسى أن أجد لي بها مكانًا، وقد آثرت وأنا في نيويورك ألا أبتاع تذكرتي إلى الإسكندرية من شركة أجنبية، لكنني أسفت لما علمت أن بواخرنا لا ترسو على نابلي، عندئذ قصدت إلى الشركة الإيطالية فلم أجِدْ بالباخرة فكتوريا ولا التي تليها بعد أسبوع متسعًا في أية درجة من درجاتها، وبعد الجهد الشديد قبلوا أن أدفع ثمن تذكرة الدرجة الثانية وأسافر بشرط ألا أطالبهم بفراش أنام فيه، وطفقت ثلاث ليالٍ كاملة أقضي ليلي على مقاعد الصالون، حتى تجلت أرض الوطن العزيز في باكورة الصباح فقرت بها عيني بعد أن غابت عني مائة يوم وعشرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤