في قصر مالطة

كان رامز قد وصل إلى الأستانة في ذلك الصباح بعد أن حُمِل إليها مع أوراقه من سلانيك، فساروا به إلى دائرة الباشكاتب، فأرسل هذا أوراقه إلى عبد الحميد واستبقاه عنده في حجرة خاصة ليس فيها أحد. فجلس رامز على مقعد هناك، ولم يهمه ما يهدد حياته من الخطر بقدر اهتمامه بشيرين وتفكيره في حالها بعده، ولا سيما لعلمه بأن أباها لا شفقة في قلبه عليها وأن صائبًا ربما طمع في زواجها فوافقه على ذلك.

وبعد قليل جاءه الباشكاتب بنفسه فحياه وتلطف في خطابه، وسأله عن سبب القبض عليه سؤال من لا يهمه الأمر وإنما يسأل على سبيل حب الاطِّلاع، فقال رامز: «لا أعلم السبب.»

قال: «لعلك متهم باشتراكك في إحدى الجمعيات السرية؟»

قال: «نعم، ولكن هذا ليس ذنبًا.»

فقال الباشكاتب وهو يظهر الاستغراب: «إذا كنت تعترف باشتراكك في تلك الجمعية فإنك تعرض نفسك لخطر شديد، لأن جلالة السلطان يشدد في منع تلك الاجتماعات الضارة، وما كان أغناك عن الاعتراف بذلك. أقول هذا شفقة عليك إذ يظهر لي أنك من أبناء النعم وأهل الذكاء، ولكنك قليل الخبرة فربما أغراك بعض المتهوسين الذين يسمون أنفسهم الأتراك الأحرار فأدخلك في الجمعية التي سموها جمعية الاتحاد والترقي. وأظنك لو عرفت تاريخ هذه الجمعية لعدلت عنها، إن بعض المحرومين من الوظائف اتخذوها وسيلة للارتزاق بالتهديد، وكان أمير المؤمنين يقطع ألسنة الصائحين أحيانًا بالوظائف، وأكثرهم كانوا يبيعون أصواتهم بدريهمات قليلة، فتكاثر أدعياء الحرية. وما أظنك من هؤلاء الأدعياء فالظاهر أنك حر الضمير تقول ما تعتقد، ولكنهم خدعوك حتى أوقعوك في الخطر، ولو أن أحدهم وقع فيه ورأى خلاصه في أن يوقعك مكانه ما تأخر عن ذلك، وقد فعلوا ذلك مرارًا. وعلى كل حال ما لنا ولهؤلاء؟ أظنك لم تتناول الفطور بعد؟» ومد يده إلى جيبه فأخرج علبة سجائره ودفع إليه سيكارة، وخرج تاركًا إياه يفكر فيما سمعه لعله يبوح بسر الجمعية ليتخلص من الخطر.

وبعد قليل جاءه بعض الحجاب يدعوه إلى الطعام، فنهض وتناول قليلًا منه وهو مستغرق في هواجسه، ولم تبرح شيرين فكره. ثم أتوه بالجرائد للمطالعة فأخذ يقرأ وهو لا يفهم ما يقرؤه، حتى إذا آن الغداء تناوله وقد ملَّ الانتظار وأصبح شديد الرغبة في معرفة ما يكون من أمره في ذلك القصر، الذي لا يدخله غريب إلَّا تهيَّب من كثرة من فيه من رجال العسكرية وكلهم من أهل الرتب العالية ولا سيما الياوران، ولهم دائرة خاصة يقال لها دائرة الياوران، وفيهم فحول القواد وقروم الأبطال، وهم ثلاث طبقات: ياور، وياور أكرم، وياور فخرى، والياور الأكرم فوق سائر المراتب قدرًا. وكانوا يمرون به وعليهم أمارات الشرف والأبهة رءوسهم تكاد تناطح السحاب.

أما دائرة الباشكاتب نفسها فكانت تحتوي عداه على عشرين كاتبًا من ذوي الرتب الرفيعة، وهم من الشبان الناشئين على الأخلاق الجديدة، وكلهم عيون على الباشكاتب كما أنه عين عليهم، وقد باعد الشقاق بينهم فتراهم جميعًا وقلوبهم شتى. والباشكاتب هو الواسطة بين السلطان والحكومة، أي يبلغ إرادته وأوامره إلى الصدر الأعظم أو شيخ الإسلام.

وعلى الباشكاتب ترد الأوراق الرسمية من الباب العالي ومن شيخ الإسلام والنظارات والولايات، كما تصدر عنه إلى الباب العالي وجميع الجهات. وهو يبعث بملخصاتها لتوضع على المكتبة السلطانية، فيتلقى عنها الإرادات بتبليغ الأمناء أوامر يأمرهم السلطان بالتبليغ من موظفي الحضرة الشاهانية. والباشكاتب يبعث بالإرادات السنية بإمضائه في أوراق صغيرة إلى الصدر الأعظم أو إلى من تخصهم من الوكلاء والوزراء.

وحين يتسلم الصدر الأعظم أو غيره تلك الإرادات يكتب على كل منها تاريخ تسلمها باليوم والساعة والدقيقة. ولدى الباشكاتب دفتر يكتب فيه صورة ما يبلِّغ من الإرادات وتاريخها ويوقع عليها، وهذه عادة جديدة دعا إليها ما تبين من تبليغ إرادات لا أصل لها.

وكان الباشكاتب يُعَد ركنًا عظيمًا من أركان الجواسيس في السراي، وهو يعرض فوق وظيفته الرسمية العليا أوراق الجواسيس التي ترد عليه منهم، ويوليها النصيب الأوفر من عنايته واهتمامه، فلا تلبث في يده إلا ريثما يتناولها فيبعث بها إلى الحضرة الشاهانية فتذهب أسرع من منحدر السيل، فيتلقى عنها الإرادة في الحال سواء أكانت للاستجواب أو الاستيضاح أو الالتفات والإحسان. وهذا عدا الأوراق الرسمية أو أوراق ذوي الحاجات، فإن لها طريقًا في العرض لا يتغير، وربما تأخرت شهورًا وربما ضاعت ولا ينفع البحث عنها.

على أن السلطان كثيرًا ما كان يدعو رئيس الجواسيس إليه رأسًا متى شاء للنظر في شأن يهمه، كما فعل في مسألة رامز. وقد يأتيه الصدر الأعظم رأسًا لأمر مهم خوفًا من اشتغال الباشكاتب عن مطالبه المهمة بتلبية مطالب الجواسيس.

•••

ظل رامز في الحجرة التي أُفرِد فيها إلى المساء، ثم جاءه الباشكاتب وسأله أهو في حاجة إلى شيء، وقال له: «إنما أتيتك بنفسي لكي تستأنس بي لأني أشفقت عليك، فهل رأيت أن تسمع نصيحتي قبل أن أسلمك إلى المحققين؟»

فقال رامز وهو رابط الجأش: «لم أفهم مرادك يا سيدي.»

فقال: «نصحت لك أن ترجع إلى رشدك وتعدل عن الغرور وأنا أضمن لك السعادة. المطلوب أن تخبرنا عن أسماء الأشخاص الذين أغروك بالدخول في تلك الجمعية، إن الاطلاع على خبرهم لا بد منه لأن الذين سيأتون إلينا منهم كثيرون، ولكنني أحببت أن يكون ذلك على يدك لتنال الجزاء الحسن.»

فهز رامز رأسه هزة الإنكار وقال: «إن مثلي لا يخاطَب بمثل ذلك يا حضرة الباشكاتب!» وسكت.

فأظهر الباشكاتب الامتعاض من جفاء عبارته، وتحول عنه وهو يقول: «لقد أخطأ ظني فيك.»

وبعد قليل دخل على رامز ضابط أومأ إليه أن يتبعه، فنهض وخرج معه فوجد بضعة رجال من الجند ببنادقهم ينتظرونه خارجًا، فأشار إليه الضابط أن يتبعه فمشى في أثره في طريق واسع يؤدي إلى حديقة يلدز الخارجية، ولم يكن قد دخل يلدز من قبل. فرأى السور الضخم الفاصل بين الحديقتين كأنه سور مدينة حصينة، وسار به الجند بجانب ذلك السور حتى عرجوا في بعض الطرق بين الأشجار الغضة إلى قصر على بابه الحراس بأسلحتهم، فأشار الضابط إليه أن يدخل فدخل. ودخل أحد الحراس معه في دهليز القصر، ثم أصعده في سلم مغطًّى بالسجاد إلى الطبقة العليا، ومشى أمامه حتى أوصله إلى غرفة وقال له: «تفضل يا سيدي امكث هنا.»

فقال رامز: «ما هذا المكان؟ أين أنا؟»

قال: «لا تخف، إنك ضيفنا، وهذا القصر قصر مالطة.»

فلما سمع رامز الاسم أجفل وتهيب، إذ تذكر أن مدحت باشا أبا الأحرار حُبِس فيه حينًا في أثناء محاكمته التي حُكِم عليه بعدها بالنفي إلى الطائف حيث وافته منيته، فجمد في مكانه حينًا لشدة التأثر ثم انتبه لنفسه فتجلد. وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب وأقبلت طلائع الظلام فأسرع بعض الفراشين لإنارة غرف القصر وفي مقدمتها تلك الغرفة، وهي مفروشة بالبسط الثمينة وفيها مقاعد وكراسي ومنضدة. وآنس رامز في الخادم لطفًا فقال له: «أليس في هذا القصر أحد سواي؟»

فابتسم الحارس وأجاب: «لا أعلم يا سيدي.»

فاقشعر بدنه من ذلك الجواب، لأنه توقع أن تكون وراءه أسرار رهيبة إذ طالما سمع بيلدز وفظائعها، لكنه تجلد وقال: «أيُطلَب مني أن أبقى في هذه الغرفة؟»

فأشار إليه أن يتبعه حتى دخل من باب فيها إلى غرفة أخرى فيها سرير مفروش، وقال: «هذا هو الفراش الذي ستنام عليه دولتكم.» وقد خاطبه بهذا اللقب لأن هذا القصر لا يُسجَن فيه إلا كبار رجال الدولة.

جلس رامز على المقعد وقد اسودَّت الدنيا في عينيه واستغرق في مخاوفه، وأخذ يردد في ذهنه ما مر به في ذينك اليومين من الأهوال وتحقق أنه مقتول، فجاشت في صدره عاطفة الإشفاق على شيرين وما يكون من أمرها إذا بلغها قتله. وتذكر محاسنة الباشكاتب له وما وعده به من الحسنى إذا باح بخبر الجمعية، وتذكر أناسًا فعلوا ذلك ونالوا المكافأة بالأموال والرتب، فحدثته نفسه لحظة أن يستبقي حياته إكرامًا لشيرين، ثم غلبت عليه الأنفة وعزة النفس فصمم على الثبات.

وبعد هنيهة سمع وقع أقدام وإذا بالخادم يدعوه إلى العشاء، ولم تكن نفسه تشتهي الطعام لكنه لم يشأ أن يظهر الضعف، فمشى إلى مائدة كبيرة جلس إليها وحده لتناول الطعام وهو يفكر في حاله. ثم نهض إلى نافذة تؤدي إلى شرفة تطل على حدائق يلدز وقد خيم عليها الظلام، ولكنه رأى بعض الأنوار عن بعد في بعض قصور يلدز وما بعدها، وجلس على كرسي وقد أحس بالوحدة وغلبت عليه الوحشة وهو لا يعلم مصيره، وهل يُقتَل في تلك الليلة أم يُسأَل عن أسرار الجمعية قبل ذلك.

ثم شعر ببرد خفيف فدخل إلى غرفة الجلوس، وما استقر به المقام حتى سمع حركة ووقع أقدام فأصغى، وما عتم أن رأى رجلًا دخل عليه وقد التف ببرنس يغطي أثوابه وتلثَّم حتى لا يبدو من وجهه شيء غير عينيه، فأقبل عليه وتناول كرسيًّا وجلس أمامه، فاقشعر بدن رامز وصبر ليرى ما يبدو منه.

فبادره الملثَّم بالسلام وسماه باسمه فأجفل ولكنه رد التحية، فقال الرجل: «قد أتيتك بنصيحة أرجو أن تقبلها.»

فهز رامز رأسه هزة الاستفهام كأنه يسأله «ما هي؟»

قال: «أنت شاب في مقتبل العمر فلا تلقِ بنفسك إلى التهلكة.»

فاستغرب هذه النصيحة من رجل لم يسمع صوته من قبل، فقال: «وأي تهلكة تعني؟»

قال: «أنا أعرفك وأعرف أحوالك، فإذا لم تشفق على نفسك فأشفق على شيرين.»

فلما سمع اسم خطيبته ارتعدت فرائصه وتولته الدهشة، وجعل يتفرس في عينَي الرجل وفي قيافته فلم يذكر شيئًا عنه وأُرتِج عليه، فقال الرجل: «لا تستغرب اطلاعي على حقيقة حالك، ليس في هذه القصور أحد يعرف ذلك سواي، وقد علمت ما كان من عنادك اليوم عند الباشكاتب، وعلمت أن ذلك يذهب بحياتك وحياة خطيبتك، فلا تستسلم للجهل واعلم ألا سبيل للنجاة من القتل سوى الإقرار، وإنما يُطلَب منك أن تذكر أسماء الشبان الذين أغروك بالدخول في تلك الجمعية، فتنال العفو مع المكافأة وتكسب حياتك وحياة شيرين!»

قال: «وما دخل تلك الفتاة في هذا الأمر؟!»

قال: «إنها شريكتك في الجريمة، وهي التي كانت تشجعك على كتابة تلك المقالات ضد الذات الشاهانية.»

فتجلد رامز وأظهر الاستخفاف وقال: «لا دخل لها في شيء من ذلك. من أنت؟»

قال: «لا يهمك من أنا، ولكن صدق ما أقوله يدلك على إخلاصي في نصحك. وإذا كنت لا تصدق فإني أطلعك على ما كتبته بيدها تشاركك في النقمة على جلالة السلطان.»

وكان رامز يعلم أن بين أوراقه كثيرًا من خطابات شيرين ولكنها لم تكن تذكر اسمها صريحًا، فاستغرب اطلاع ذلك الرجل على اسمها وعلى أنها خطيبته، فرأى الإنكار أولى فقال: «لا شريك لي في هذه التهمة. دع الكلام عن النساء، أما أنا فمتى سُئِلت عن الجمعية فسأجيب بما أراه.»

قال: «لا فائدة من الإنكار، وأنا لا أطلب الجواب منك الآن، ولكني نصحت لك حتى إذا سُئِلتَ لا يأخذك الغرور وتقتل نفسك وأعز الناس عندك، هذه نصيحتي لك وإن غدًا لناظره قريب.» قال ذلك ووقف ثم غادر الغرفة وترك رامزًا يتقلب على الجمر من الدهشة والاستغراب. وبقي رامز وحده وقد أحاطت به الهواجس والمخاوف وتصور أنه في حلم، وراح يسأل نفسه: من يكون ذلك الطارق؟! وكيف عرف شيرين؟! وما الذي حمله على إسداء تلك النصيحة؟! ثم غلب عليه التعب لفرط ما قاساه من القلق والاضطراب، فنهض وأوى إلى فراشه يطلب الرقاد.

وقضى اليوم التالي وحده وهو في كل ساعة ينتظر أن يأتيه من يستجوبه ويستطلع خبر الجمعية منه، ويهيئ الأجوبة ويستعد للثبات على رأيه والمحافظة على العهود التي أقسم على صيانتها. على أن سياسة القصر اقتضت التظاهر بعدم الاكتراث، ولكنهم وسوسوا له على يد الباشكاتب وذلك المتستر ما يبعثه على الخوف ويحمله على الإقرار. ولعل القارئ أدرك أن ذلك الملثم إنما هو رئيس الجواسيس نفسه، وقد اطلع على علاقة رامز بشيرين من رسالة خاصة جاءته من صائب بك، وعلم أنه إذا استطاع كشف سر الجمعية نال جزاءً عظيمًا.

•••

كان السلطان يسأل باهتمام عمَّا تم في أمر رامز، فلما علم بأنه مصرٌّ على التكتم رأى أن يحتال لحمله على الاعتراف على يد عزت باشا، وكان هذا بالغ الذكاء والدهاء مما حمل السلطان على الاعتماد عليه في أهم شئون السياسة وجعله مشيره الأول، وهو الذي أنقذه من عواقب مذبحة الأرمن، وكان ذلك من أكبر أسباب تقريبه والوثوق به. فرأى عبد الحميد أن يكلفه استجواب رامز وإن كان ذلك خارجًا عن دائرة عمله، ولم يشأ أن يطلب ذلك منه رأسًا بل تطرق إليه في أثناء حديثه معه بشأن اجتماع روال فبعث إليه، فلما جاءه قال له: «أنت معتمدي في المهمات السياسية، وقد جاءني الصدر بخبر اجتماع روال فهل علمت بذلك؟»

فقال عزت: «لا أكذب جلالة مولاي البادشاه أن هذا الخبر من الأهمية بمكان عظيم، لكنني لا أتوقع تنفيذه لاختلاف الدول في المقاصد والأغراض، وإن كان ذلك لا يمنع سعينا في سبيل إفساده.»

قال: «هل دبرت لذلك شيئًا؟ إني شديد الثقة بك.»

قال: «إن هذه الثقة التي لا أستحقها تجعلني عبدًا رقًّا أبذل حياتي في مصلحة جلالة السلطان، وأنا مفكر في أمر سأعرضه بعد قليل.»

وكان السلطان جالسًا على كرسيه في قاعة الاستقبال والمحفظة لا تزال أمامه، فلما سمع قول عزت تشاغل بإزاحة المحفظة إلى ما بين يديه وقال: «أنت تعلم يا عزت أنك موضع ثقتي بل أنت صديقي الوحيد، ولا أنسى الخدمات الجزيلة التي قمت بها دون سواك من رجالي وقليل فيهم الصادق المخلص، ومع كثرة الحائمين حولي قل من أعول عليه، بل أنا لا أعول على سواك. أتعلم ماذا أطلب إليك؟»

قال: «إني عبد مولاي وطوع إرادته وأفديه بروحي.»

قال: «بارك الله فيك! أنت تعلم ما نقاسيه من أولئك الغلمان الذين يسمون أنفسهم الأحرار، وكثيرًا ما أنبأتني بضعفهم وعجزهم عن غير الصياح، وقد كفاني منير باشا سفيرنا في باريس مئونة كثيرين منهم حتى اضمحل شأنهم وانحلت جمعيتهم. لكنني علمت بالأمس أنهم استأنفوا أعمالهم من سبيل آخر، فألفوا جمعية في سلانيك دخل فيها كثيرون من الضباط، ولم يعرف الجواسيس أحدًا من هؤلاء لأنهم شديدو التكتم. غير أن ناظم بك قومندان مركز سلانيك تمكن بواسطة أحد أعوانه من القبض على واحد منهم وحمله إلينا مع أوراقه وهي هنا في هذه المحفظة، وقد قرأتها وفهمت منها أن أولئك الملاعين يعملون بدهاء وحذر، ويهمني الآن معرفة الأعضاء العاملين في هذه الجمعية. وهذا لا يمكن الاطلاع عليه إلا من زميلهم هذا، وهو مسجون في قصر مالطة للآن، لكنه صعب المراس فلم أرد أن يستجوبه أحد سواك وإن لم أكلفك مثل هذا الأمر من قبل، وهذا يدلك على مبلغ ثقتي بك.»

وكان عزت يصغي لكلام السلطان متحفزًا للرد، والذكاء ينبعث من عينيه ويخترق أقصى ضمير السلطان. فلما فرغ هذا من كلامه أجابه قائلًا: «لم يكن أمر هذه الجمعية غريبًا عن عبدكم، ولا أنا ساكت عنها، وإن كنت لم أذكر شيئًا من أمرها لمولاي البادشاه تجافيًا عن التنويه بسهري على الدولة ومقاومة المارقين الأغرار. إن هذه النهضة لم يكن منشؤها في سلانيك فقط، لكنها ظهرت في الشام وكادت تشتعل نارها لو لم أبادر بقطع دابرها من هناك.»

فنظر عبد الحميد إلى عزت نظر الرضا والارتياح، وابتسم وعيناه تتلألآن ببريق الارتياح والإعجاب، حتى ليتوهم من يراه أنه مثال الإخلاص والطيبة، وكثيرًا ما خدع هذا المنظر جلساءه، بل إن عزت رغم طول اختباره وفرط دهائه كثيرًا ما كانت هذه النظرات تؤثر فيه. وهمَّ بأن يُتِمَّ حديثه فقطع عليه عبد الحميد كلامه قائلًا: «بورك فيك من صديق مخلص! قد علمت ذلك من السر خفية، وهذا عهدي بإخلاصك. فالآن أرجو أن تكشف لنا أمر جمعية سلانيك من هذا السجين.»

فأشار عزت مطيعًا وقال: «سيكون ذلك بفضل الله وتوفيق الحضرة الشاهانية المقدسة التي أفديها بنفسي وأهلي.»

فنهض السلطان وهو يقول: «إن صدري ينشرح كلما رأيتك، وأشعر إذا كلفتك بأمر أنه مقضيٌّ.»

فنهض عزت واستأذن في الانصراف ومضى إلى قصره وخاطره مشتغل بأمر رامز وكيف يحمله على الإقرار، وراح يُعمِل فكره في هذا وهو شديد الرغبة في إنقاذ السلطان من تلك الجمعية الجديدة لينقذ نفسه أيضًا، لأن ما يصيب السلطان من شرها يلحقه أيضًا. كما أنه كان مقتنعًا بأنه يخدم الدولة أيضًا بهذا المسعى، لأن خشيته على حياته من نجاح الأحرار كانت تريه كل أعمالهم من قبيل الأخطاء والأخطار.

وقضى ليلته يفكر ويدبر، ثم بَكَّر في الصباح فبعث في طلب رامز، وأوصى بأن يُحمَل إليه في مركبته، وكان قصر عزت في الطرف الآخر من يلدز.

•••

وكان رامز قد ملَّ الانتظار، ويئس من الوقوف على مصيره. فلما أصبح في ذلك اليوم لبس ثيابه وجلس يتناول الفطور غارقًا في هواجسه، ثم سمع وقع حوافر الخيل قرب القصر فأجفل ونهض إلى شرفة تطل على الطريق فرأى مركبة يجرها جوادان، ثم سمع وقع خطوات في الدهليز، وما لبث أن دخل عليه الخادم مسرعًا وقال له وهو يبتسم: «أفندم، تفضل إلى المركبة.»

فقال: «إلى أين؟»

قال: «إن مولانا عزت باشا يدعوك إليه في قصره، وهذه مركبته بالباب.»

فاستغرب تلك الدعوة ولكنه تجلد ونزل إلى الباب، فرأى جاويشًا واقفًا بانتظاره وأومأ إليه أن يركب فركب، وركب الجاويش بجانب السائق. وسارت المركبة إلى قصر عزت.

وبعد بضع دقائق رأى نفسه بباب ذلك القصر، فاستقبله أحد الحجاب بالإكرام ودعاه إلى حجرة الاستقبال، فدخل وهو يفتكر فيما عساه أن يترتب على تلك الدعوة، فدعاه الحاجب إلى الجلوس. وبعد هنيهة أقبل عزت باشا يمشي الهوينا وبيده جريدة يطالع فيها بدون اكتراث، فوقف له رامز ولم يكن يعرفه من قبل، فرآه كهلًا ليس بالطويل ولا القصير، يلوح الذكاء والدهاء في ملامح وجهه.

ودخل عزت باشا عليه دون أن يرفع بصره عن الجريدة كأنه مستغرق في المطالعة، ثم رفع رأسه بغتة وحيا رامزًا وأشار إليه أن يجلس، وجلس أمامه وبينهما منضدة، وقال: «أنت ضيفنا رامز أفندي؟»

قال: «نعم يا سيدي، ولي الشرف بذلك.»

فمد يده إلى جيبه وأخرج سيكارة من علبة مرصعة وقدمها له وهو يقول: «ربما تستغرب مجيئك عندي بعد أن كنت تتوقع أن تُؤخَذ إلى السر خفية أو غيره من الجواسيس، ألا تعد ذلك إكرامًا خاصًّا؟»

فقال: «أجل يا سيدي، وشكرًا لكم.»

قال: «لا ينبغي لي أن أكتمك السبب الذي حملني على دعوتك إلى هنا، اعلم أني قد استأذنت جلالة البادشاه في مخاطبتك شخصيًّا لما بلغني من الخطر الذي يهددك، وقد علمت أنهم لم يحسنوا التفاهم معك في الأمر المطلوب منك. فأحببت أن آخذ هذا الأمر على عاتقي، وتعهدت بأن أمحضك النصيحة، فهل أنت عارف قدر ذلك؟»

قال: «نعم أفندم».

فقال عزت وهو يعتدل في مجلسه: «أنا أحب أن أباحثك وأبين لك وجه الصواب، وأنت تختار الطريق الأصلح. لا أهددك بالقتل، ولا حاجة بي إلى أن أبين لك الخطر المحدق بك فأنت أعقل من ذلك. إنما أسألك عن السبب الذي حملك على الدخول في تلك الجمعية، ألم تكن تعلم أنها من الجمعيات الضارة؟»

قال: «عفوا يا سيدي، هل لي أن أفهم الضرر الذي تعنونه؟»

قال: «أحسنت الاستفهام، إن الضرر الذي أعنيه أن وجود هذه الجمعيات مضرٌّ بصالح الدولة.»

قال: «كيف يكون ذلك وغرضها الأول إنقاذ الدولة من الأضرار؟ هل تأذن لي في أن أخاطبك بحرية؟»

قال: «بكل سرور، تفضل قل كل ما تريده ولا تخشَ شيئًا، إنك تخاطب رجلًا عركه الدهر ولم يمر بذهنك أو أذهان أقرانك خاطر لم يخطر له. وقد تبصرت في هذا الأمر مليًّا، ولو وجدت فيه نفعًا لم أرجع عنه.»

فاستبشر رامز بهذا التصريح وقال: «هل سبق لسيدي الباشا أن فكر في الخلل المتمكن من جسم الدولة؟»

فأشار برأسه وعينيه أن نعم.

فقال: «إذن، قد علم سيدي أن هذا الخلل سببه سوء الإدارة؟»

قال: «لا أنكر ذلك، إن الحكومة تحتاج إلى إصلاح، لا شك في ذلك.»

قال: «هذا هو الأمر الذي نحن ساعون فيه.»

فابتسم عزت وقال: «هذا هو وجه الخطأ، نحن متفقون في تشخيص الداء ولكنَّا مختلفون في وصف الدواء.»

قال: «أشكرك يا سيدي لإطلاق حرية الكلام لي. إني أستغرب أن يكون هناك وجه للاختلاف في العلاج، فما دامت أحوال الدولة مختلة بسبب سوء إدارة الحكومة الحاضرة فإبدالها هو الدواء الوحيد.»

قال: «أظنك تعني أن تقلب الحكومة من نظام الاستبداد إلى الدستور؟»

فقال: «نعم، وهل ثمة طريق آخر؟»

قال: «هذا كلام جميل ولكنه أشبه بالخيال الشعري منه بالرأي السياسي، هل تظن الأمة العثمانية مستعدة للدستور؟» قال: «نعم.»

فسعل عزت باشا وأخذ يمسح فمه بمنديله، ثم قال: «لو كانت مستعدة له ما ضيعته بعد أن نالته. أؤكد لك أن الذات الشاهانية منحت رعاياها الدستور وهي تود من صميم القلب أن يكونوا على استعداد له، ولكن ظهر بعدئذٍ أنه كان السبب في الخراب. ولولا حكمة مولانا السلطان لما أُنقِذت الدولة من الاعوجاج الذي ظهر من النواب والانقسامات التي آلت إلى زيادة طمع الدول فينا. إن الشعوب الشرقية على العموم والشعب العثماني على الخصوص لا يصلح للحكم الدستوري.»

فاستأنس رامز بذلك الكلام وقال: «لا أنكر يا سيدي أن الحكم الاستبدادي إذا تولاه رجل عاقل عادل كان أسرع نتيجة في الإصلاح ولكن …» وسكت مكتفيًا بفطنة السامع.

فبادره عزت قائلًا: «اسمح لي أن أقول بحرية تامة إن السلطان عبد الحميد مظلوم، إنه أشد غيرة على سلامة الدولة من أي واحد منا، لأن في سلامتها سلامته وتأييد سيادته. وهو لم يعدل عن الحكم الدستوري إلا غيرة على الدولة وصيانة لها من مطامع الدول التي أحدقت بها من كل ناحية، وقد استطاع بدهائه وذكائه وسهره أن يحافظ عليها، ولو لم يتدارك الأمر بنفسه لانحلَّت وتقاسمتها الدول. أنا أعلم الناس بالحقيقة صدقني.»

فأطرق رامز عند سماع ذلك، وكاد يقتنع بأنه مخطئ لو لم يستدرك الأمر فقال: «يا للعجَب! كيف تقول هذا وليس في الدنيا رجل واحد يوافقك عليه؟! لقد أجمع الناس قاطبة من عثمانيين وغيرهم على أن الخلل المستحوذ على الدولة سببه سوء الإدارة الحاضرة، ولا سيما لأنها في قبضة القصر وأهله. سامحني على هذا التصريح.»

فضحك عزت ملء فيه وقال: «هذا هو موضع الخلاف ومنشأ المتاعب، إن سبب ذلك في الواقع هو أننا نسيء الظن بسلطاننا، بينما الأجانب يسعون في توسيع الخرق وتفريق قلوبنا … هذه هي الحقيقة يا بني، فسبب الاختلال ليس رجال القصر، بل الشبان الخوارج الذين يسمون أنفسهم الأحرار، إنهم يطنطنون ويصيحون رجاء أن يعمد جلالة السلطان إلى إسكاتهم بالمناصب أو المال. ولا أنكر أن بينهم أناسًا يعملون بإخلاص، ولعلك واحد من أولئك المخلصين، ولكن الباعث الأول لحركتهم هو ما ذكرته لك، وقد مضى عليهم ثلاثون سنة ظهروا في أثنائها بمظاهر مختلفة انتهت دائمًا بما يثبت قولي. يظهر أنك حديث العهد في هذا الأمر، وقد اندفعت في تيار الأفكار الإفرنجية التي يبثها الأعداء في رعايا الدولة باسم الدستور أو الحرية، إن لكل أمة حالًا غير حال الأمم الأخرى. ولو أنهم تركونا وشأننا لكنَّا في خير، إنهم ليسوا أكثر غيرة على دولتنا من جلالة البادشاه، فهو ما فتئ منذ أخذ على عاتقه إصلاح الدولة ينشئ المدارس العالية لتخريج الشبان الجديرين بتولي مناصب الحكومة. ولكن المتخرجين أصبحوا أكثر من المناصب الموجودة، وهؤلاء الغاضبون الطاعنون في الحكومة هم الذين فاتتهم المناصب، وقد اتخذوا ذلك سبيلًا إلى المال، لأن جلالة السلطان كان يقبل النادمين منهم ويحسن معاملتهم. ومن هنا تكاثر الشاكون وتفننوا في الأسباب والذرائع، وقلدوا الإفرنج في جمعياتهم السرية، فالجمعية التي أُلِّفت أخيرًا في سلانيك ليست الأولى من نوعها. وأؤكد لك أنه لا تمضي برهة وجيزة حتى يأتينا العقلاء من أعضائها مستغفرين طالبين رضى الذات الشاهانية، فأرى أن تكون أنت أعقلهم وأنا أضمن لك حياتك وكل ما تريده، وغاية ما يُطلَب منك أن تدلي إلى جلالة السلطان بأسماء القائمين بهذا العمل.»

وكان رامز يسمع هذا الكلام وهو مطرق يفكر، فظنه عزت باشا قد اقتنع ولا يلبث أن يوافقه فقال له: «من هم أولئك المؤسسون للجمعية؟ أظنهم بعض المتفرنجين الذين كانوا في باريس أو جنيف؟»

فانتبه رامز لنفسه وقال: «ليس في هذه الجمعية فرق بين مؤسس وغير مؤسس، وأؤكد لك أن الخيانات التي بدت من بعض الأحرار في الماضي لن تتكرر، لأن الأمة تعلمت كيف تطلب حقوقها. فإذا كنت من محبي الإصلاح حقيقة فهذا وقت العمل.»

فهز عزت رأسه استخفافًا وقال وهو يضحك: «يظهر أن الغرور متمكن من نفسك، وقد استهواك ما يطنطنون به من الألفاظ الضخمة كالحرية والدستور ونحوهما. وأتأسف لأن نصيحتي ذهبت عبثًا، فاختر لنفسك ما يحلو، وقد فعلت ما عليَّ. وسوف تعترف بالواقع مكرهًا عندما تذوق العذاب.» قال ذلك وتحرك من مجلسه وهو يخرج علبة السجائر، ثم وقف وهو يظهر العتب أو الغضب.

أما رامز فظل جالسًا مطرقًا وعينه على غطاء المنضدة التي أمامه وقد استغرق في أفكاره، فتوسم عزت باشا قرب انصياعه، وتشاغل بإشعال السيكارة، ثم رأى الخادم داخلًا بالقهوة فقعد وأشار إلى رامز أن يتناول الفنجان ففعل، ثم تناول عزت فنجانه وهو يراقب حركات رامز فرأى الارتباك ظاهرًا في محياه، فاستأنف الكلام قائلًا: «قد أغضيت عما سمعته من حديثك لأني أحسبك قلته قبل إعمال الفكر، وأنصح لك يا بني بأن تفكر قبل الجواب ثانية. تأمل فيما يهددك من الخطر على حياتك إذا أصررت على التكتم.» وسكت وهو يلاحظ حركات رامز، فرأى حيرته ظاهرة في حركة يده وهو يدني الفنجان من فيه وينظر إلى ما بين يديه نظر المفكر.

فقدم له سيكارة وقال: «لا ألومك على ما بدا من سوء ظنك بجلالة السلطان وأهل القصر، لأنك لا تسمع أخبارهم إلا من أعدائهم، ولو مكثت هنا حينًا وتعرفت إليهم لتحققت أنكم مخطئون، ولعلك تعود إلى رشدك وتصدق الخدمة وترى صدق قولي.»

وكان رامز قد فرغ من شرب القهوة، فوضع الفنجان على المنضدة ونظر إلى عزت باشا وعيناه تبرقان وقال: «إذا لم يكن بدٌّ من أن أقول شيئًا آخر فإني لا أقوله إلا للسلطان نفسه.»

فبش له وقال: «أنت مخير في ذلك، وأنا أقدمك لجلالته وأوصيه بك.» قال ذلك وقد سُرَّ لنجاح مهمته.

ثم وقف رامز واستأذن في الانصراف فأذن له، وأشار إلى الحراس أن يوصلوه إلى قصر مالطة، وودعه وهو يبش له.

فمشى رامز بقدم ثابتة وقد زال ارتباكه شأن من يتردد في أمر ثم يستقر على رأي. وفيما هو مارٌّ بباب يلدز الخارجي وقع بصره على مركبة مغلقة داخلة منه، ولمح فيها امرأة تشبه شيرين، فاقشعر بدنه وخفق قلبه بشدة، وبقي بصره عالقًا بالمركبة حتى غابت عنه، فوقف ذاهلًا وظل كذلك حتى نبهه أحد الحراس بطرف البندقية فانتبه ومشى معللًا نفسه بأنه واهم فيما رآه، وأن قلقه على شيرين أراه طيفها فهاجت أشجانه، وما دخل قصر مالطة حتى عاد إلى هواجسه.

•••

قضى رامز بقية ذلك اليوم وهو يفكر فيما يقوله للسلطان، وطال انتظاره وهو لا يعلم الوقت الذي سيحدده السلطان موعدًا لمقابلته، وتهيب من تلك المقابلة لكنه تجلد وتشجع، وما زال يجول في ذلك القصر منفردًا لا يرى أحدًا وصورة شيرين لا تبرح ذهنه. ولما انقضى النهار ومالت الشمس إلى المغيب تكاثفت هواجسه وتراكمت، فقعد في الشرفة المطلة على البوسفور واستغرق في أفكاره، وتصور شيرين بين يديه تعاتبه أو تشكو إليه، فتذكر ما شاهده في ذلك الصباح وقال في نفسه: «هل يمكن أن تكون شيرين هنا؟ لكن ما الذي جاء بها؟! لا … لا! إنما رأيت خيالها.»

وفيما هو غارق في هذه التأملات جاء الخادم لإنارة المصابيح كالعادة فلم يلتفت إليه، ثم رآه آتيًا نحوه إلى الشرفة فاستغرب قدومه وتجاهل، فإذا هو يخاطبه قائلًا: «تفضل أفندم إذا شئت إلى حجرة الاستقبال.»

فأجفل ووقف وسار نحو القاعة، وقبل وصوله إليها سمع سعالًا اضطربت له جوارحه وكاد الدم يجمد في عروقه لأنه يشبه سعال طهماز، واستبعد أن يكون هناك، لكنه تمنى أن يكون هو نفسه لعله يستطلع منه خبر شيرين. ولما وصل إلى الحجرة رأى طهماز يتمشى بقرب بابها وعليه ثوب مزركش بالقصب يلبسه أصحاب الرتبة الثانية، وقد تقاعس وتطاول وأصلح من شأنه وفتل شاربيه حتى كاد رامز لا يعرفه، لكنه ما لبث أن استأنس برؤيته على رغم ثقل روحه عليه فتقدم نحوه وحياه، فرد طهماز التحية وهو يبتسم ابتسام الإعجاب، ومشى معه إلى صدر القاعة ودعاه إلى الجلوس، وجلس وهو يقول: «أهكذا تصنع بنفسك يا رامز؟ ألم يكن الأولى بك أن تسمع نصيحتي؟»

figure
وقال الخادم لرامز: تفضل أفندم إذا شئت إلى حجرة الاستقبال.

فاستثقل رامز ذلك العتاب وإن لم يستغربه من طهماز فقال: «ما لنا ولما مضى يا عماه؟ أين هي شيرين الآن؟»

فقال: «شيرين؟ شيرين المجنونة؟ من يعلم أين هي!»

فقال: «كيف لا تعرفون أين هي؟!»

قال: «الذي نعرفه أنها فرت من سلانيك مع الخادم خوفًا من الوقوع فيما وقعت فيه أنت، فذهبت إلى مناستير أو إلى رسنة لأن لها هناك بعض الرفاق من أمثالها وأمثالك أهل الطيش الذين يقلدون النصارى في أفكارهم، وسوف ينالهم ما نالك.» قال ذلك وهو يفتل شاربيه وأخذ في إصلاح القصب على كمه وطوقه كأنه يلفت نظر رامز إلى الرتبة التي نالها.

فأعمل رامز فكره فيما سمعه وأغضى عما تخلل الحديث من سوء التعبير وفساد الذوق، لأن الأمر المهم عنده أن يعرف أين هي شيرين، فغلب على ذهنه صحة ذلك القول لعلمه بالصداقة المتمكنة بينها وبين صديقة لها في مناستير، وهي خطيبة صديقه نيازي بك، لكنه لم يفهم ذلك السبب الذي أوجب فرارها فتجلد وأعاد السؤال على طهماز قائلًا: «لا تغضب يا عماه إذا سألتك سؤالًا ثانيًا، ما سبب فرار شيرين؟»

فضحك طهماز وقال: «سبب فرارها أنت! ألا تعلم أنك أوقعتنا جميعًا تحت غضب الذات الشاهانية؟ ولولا صديقنا صائب بك لكنَّا تحت طائلة القصاص مثلك، ولكنه بلَّغ صدق عبوديتنا إلى مولانا السلطان فكافأنا بالإنعامات والرتب. وأما تلك الجاهلة الحمقاء فأبت إلا العناد، وقد وقفوا على أوراق لها بين أوراقك تشترك فيها معك ومع أصحابك في المفاسد، وقد علمت هي بذلك لكنها بدلًا من الاعتذار أصرت على عنادها وخافت القبض عليها ففرت.»

فقال: «وأين أمها؟»

قال: «ذهبت إلى مناستير لتفقُّدها هناك، وهي لا تقل طيشًا عنها، مع أني كثيرًا ما أنذرتها بهذه العاقبة منذ رأيت خروجك على جلالة الخليفة أمير المؤمنين. ولولا علاقتي السابقة بالمرحوم أبيك لم ألتفت إليك ولكن قلبي طيب. وقد وصلت إلى يلدز في هذا الصباح، ولقيت كل إكرام واحتفاء من سعادة الباشكاتب والسر خفية وسائر الباشوات والياوران، وأُنعِم عليَّ بالرتبة، وعلمت منهم أنك في هذا القصر فاستأذنت في مقابلتك لعلي أستطيع إقناعك لترجع عن عنادك. وقد أكد لي صائب بك أنك إذا بُحت بأسماء مؤسسي هذه الجمعية يُعفَى عنك وتنال الجوائز والهدايا، كما يُعفَى أيضًا عن شيرين. وقد نصحت لك مرارًا فلم تنتصح حتى وقعت في شر أعمالك، وأرجو أن تكون قد عدت إلى رشدك، واقتنعت باتباع النصيحة.»

وكان لكلام طهماز تأثير شديد في قلب رامز لأسباب كثيرة، أهمها أنه ذكر أباه ملقبًا إياه بالمرحوم، وكان لا يعرف أحي هو أم ميت، كما أنه زاد في أسباب قلقه بما رواه له عن شيرين. وقد أغضى مرغمًا عما تخلل ذلك من الكلام البارد والدعوى الفارغة. ورأى أنه لم يعد يتوقع فائدة من حديث طهماز، فأحب التخلص منه وقال: «سأتبع نصيحتك هذه المرة، ولذلك اعتزمت أن أقول الحقيقة، لكنني اشترطت ألا أقولها إلا للسلطان نفسه، وأنا في انتظار الموعد للمثول بين يديه.»

فضحك طهماز وهز رأسه وهو يقول: «أحسنت يا رامز، أحسنت. وستقابل جلالة السلطان فلا تخفِ عليه شيئًا، وأرجو أن تذكرني بين يديه وتبين لجلالته أني كثيرًا ما كنت أنصح لك. لا شك أنك ستنال العفو، هكذا أكد لي صائب بك، وستنال الرتب والأموال.» قال ذلك ووقف فودعه وخرج يتهادى في مشيته، ورامز ينظر إليه ويعجب من كبر جثته وصغر نفسه وقلة عقله.

•••

عاد السلطان عبد الحميد بعد خروج عزت من عنده إلى التفكير فيما يحدق به من الأخطار، ولم يكن لديه شك في نجاح عزت في المهمة التي عهد إليه فيها، فقضى بقية اليوم في مطالعة التقارير. وبعد العشاء جلس يطالع في كتاب لمكيافلِّي كعادته، وإذا بالحاجب يدخل مستأذنًا للباشكاتب، فعلم أن مجيئه في تلك الساعة لأمر مهم وأذن له، فدخل وقدم له ظرفًا علم من هيئته أنه تلغراف، ففضه وقرأه فإذا هو من الأستانة وليس فيه إلا كلمات قلائل هي «إلي جلالة البادشاه: عندي أمور تهم الذات الشاهانية، أطلب الإذن في المثول لعرضها. شيرين.»

فأعاد عبد الحميد قراءة التلغراف مرارًا، ثم نظر إلى الباشكاتب قائلًا: «من شيرين هذه؟ أتعرفها؟»

قال: «لا أعرفها يا مولاي.»

فقال: «إليَّ بالسر خفية، وامضِ أنت وأجب عن هذا التلغراف بأن تأتي صاحبته حالًا.»

فأشار مطيعًا وخرج، وبعد قليل أتى السر خفية فدفع السلطان التلغراف إليه، فحالما قرأه ابتسم وقال: «إن مجيء هذه الفتاة فوز عظيم يا مولاي.»

قال: «ومن هي؟»

قال: «هي خطيبة الشاب رامز الذي قُبِض عليه في سلانيك، وهو يتفانى في مرضاتها.»

فانبسطت أسرة عبد الحميد وهز رأسه ولسان حاله يقول: «قد ظفرنا بالمطلوب، ولعل الفتاة خافت على خطيبها إذا ظل على عناده فأتتنا لتبوح بالسر وتنجيه.» ونظر إلى السر خفية وقد استخفه الظفر وقال: «ماذا ترى؟»

قال: «الرأي لمولاي، وأظنها ستطلعنا على ما ينكره رامز طمعًا في نجاته، وإذا لم تفعل فإن أباها عندنا، وهو من أصدق عبيد جلالة السلطان، وقد نال المكافأة بالرتبة أمس على يد عبدكم صائب.»

قال: «أهي بنت طهماز بك؟» قال: «نعم يا مولاي.»

فحدق السلطان فيما بين يديه من الأوراق وقال: «ينبغي كتمان أمر هذه الفتاة عن كل إنسان حتى عن خطيبها وأبيها.» ثم طلب الباشكاتب بالتليفون وقال له: «ينبغي أن يكون مجيء هذه الفتاة سرًا، أدخلها القصر وسلمها إلى نادر أغا وأوصه بكتمان أمرها عن كل أحد، فهمت؟»

فأجاب: «نعم أفندم»، ثم انصرف.

وبات السلطان تلك الليلة وأفكاره تتقاذفه، والأمل ملء صدره في أن يفوز عزت بكشف أمر الجمعية.

وجاءه الباشكاتب في الصباح وأنبأه بأن شيرين أتت وسلمها إلى نادر أغا، فبعث إلى نادر أغا وأوصاه بكتمان أمرها. ثم جاء عزت باشا وأخبره بما ذكره رامز من أنه لا يبوح بسره إلا لجلالة السلطان، فازداد السلطان اقتناعًا بالفوز وقال: «ليأتني في صباح الغد.»

وكان رامز قد بات ليلته يفكر في شيرين، وأكبر ظنه أنها فرت إلى مناستير. وفي الصباح جاءه ضابط ألباني يدعوه إلى القصر الصغير لمقابلة السلطان فتهيب الأمر لأول وهلة، ولكنه تجلد ومشى بين يدي الحرس حتى أتى باب القصر، فاستقبله أحد الياوران ودخل به إلى غرفة حيث فتش أثوابه للتحقق من خلوها من الأسلحة، ثم استأذن له فدخل رأسًا بدون واسطة صاحب التشريفات كما أمر السلطان. ومشى متأدبًا حتى وقف بباب القاعة التي يقرأ السلطان بها التقارير، وألقى التحية ووقف، فأشار إليه السلطان أن يتقدم، وأومأ إلى كرسي وأمره بالقعود فقعد، وهو لم يتعود الآداب المتبعة في مثل تلك المقابلات، ولم يهتم السلطان بذلك لانصراف فكره إلى استطلاع سر الجمعية، فصبر هنيهة ثم قال: «أنبأنا كاتبنا عزت باشا أنك أُلهِمت الصواب ورجعت إلى الطاعة والولاء، وقد سرنا ذلك، ولم نرَ بأسًا من مثولك بين يدينا فإننا ينشرح صدرنا بمشاهدة خدَمة الدولة الصادقين، وسنتحقق ذلك متى برهنت على إخلاصك لعرشنا.»

فأشار رامز بالتمني ولم يجب، ولكنه غلب عليه التأثر. ولو كنت إلى جانبه لسمعت دقات قلبه لفرط ما خاطره من التهيب لإقدامه على أمر لم يقدم عليه سواه، ولكنه تجلد وتماسك وبلع ريقه استعدادًا للجواب، فبادره عبد الحميد قائلًا: «تكلم يا بني. أخبرنا عن أولئك المفسدين الذين أغروك بالدخول في تلك الجمعية، يظهرون أنهم يريدون الإصلاح وهم إنما يسعون في الخراب ويقفون عثرة في طريق العمل، ويغررون بالشبان العقلاء فيصرفونهم عن خدمة الدولة إلى أعمال صبيانية. قل من هم؟»

فتجلد رامز وهو يخاف أن يخونه لسانه وشجع نفسه بتصور شيرين واقفة تسمعه، فأحس برباطة جأش لم يعهدها في نفسه من قبل فقال: «هل أقول وأنا آمن؟» قال: «قل ولا تخف.»

قال: «ربما قلت أمورًا لا يتوقعها جلالة السلطان من مثلي، وأنا أعلم أني أعرض حياتي للخطر، وإنما يحملني على التصريح بها غيرتي على هذه الدولة.»

فابتدره قائلًا: «قل ما تريده ولا تخف.»

قال: «أنا لا أسمي أعضاء تلك الجمعية مفسدين، ولا أعتقد أنهم يسعون في خراب هذه الدولة، بل أنا أعتقد أن المفسدين هم الذين ينقلون الأخبار إلى جلالة السلطان، أعنى طائفة الجواسيس الذين يرتزقون بالدسائس والوشايات، هؤلاء يا سيدي هم المفسدون.»

فبُغِت السلطان لسماعه هذا التصريح الذي لم يسمع مثله من أحد، لكنه تجلد كعادته وأظهر الاستحسان وقال: «يعجبني أصحاب الأفكار الحرة، لو كان رعاياي كلهم على مثل هذه الحال لنجت الدولة من المشاكل. قل ما تراه.»

فلما آنس رامز هذا التلطف من السلطان ذهب تهيبه واعتقد أنه فائز بما يريد، فأبرقت أساريره وخطر بباله أن الأحرار يظلمون عبد الحميد بما يشيعون عنه من حب الأثرة والظلم، في حين أنه لين الجانب قريب الانصياع إلى الحق، فقال: «أخشى يا مولاي أني أكون قد تجاوزت حدود الواجب بالجرأة في حضرة جلالة البادشاه، ولكنني أقول ما يوحيه ضميري. ويلوح لي يا مولاي أن الخلاف بين جلالتكم ورعاياكم إنما هو نتيجة لما يدسه المفسدون الطامعون، ولو علم الشبان الأحرار ما عليه سلطانهم من لين الجانب والرغبة في الحقيقة لما جعلوا بينهم وبينه واسطة فيحسن التفاهم ويذهب ما في النفوس، وهم عند ذلك عبيد طائعون لأن غرضهم خدمة الدولة و…»

فقطع السلطان كلامه وهو يظهر الاهتمام بما يسمعه وقال: «وأنا طبعًا لا غرض لي غير مصلحة رعاياي ورفاهيتهم. ولكني عاتب على الذين يسيئون الظن بي منهم وينحازون إلى الأجانب، وإذا كانت لأحدهم شكاية فلماذا لا يرفعها إليَّ؟ إني لا أعد نفسي سلطانًا عليهم، بل أعدهم جميعًا أبنائي!»

فدُهِش رامز لهذا التلطف وظن نفسه في حلم، وخطر بباله سوء الظن بما يقصد السلطان، لأنه كان يسمع عن مكره ودهائه، ويعلم أن الأحرار لم يقصروا في رفع تظلماتهم إليه بالتقارير ونحوها. لكن تلطف السلطان أثر في نفسه فاعتقد خطأ ذلك الظن، وأن التقارير التي كان الأحرار يرفعونها إلى السلطان لم تصل إليه. وبهذا ومثله كان عبد الحميد يؤثر في جميع مخاطبيه، فكان أشدهم حنقًا عليه وسوء ظن به لا يلبث إذا جالسه وخاطبه أن يخرج من عنده مقتنعًا راضيًا، وقد شهد كبار الساسة الأجانب له بهذه المزية في مناسبات عدة.

ولم يكن رامز من أهل الدهاء والحنكة، وإنما يغلب في طباعه حرية الضمير واستقلال الفكر، ولا يعرف الكذب والرياء والنفاق إلا بالسماع، فهو لذلك سريع التصديق لما يسمعه ويأخذ الأمور بظواهرها. فلما سمع كلام السلطان لم يشك في صدقه، وحمد الله على وقوعه في تلك الورطة ليكون واسطة لحسن التفاهم بين السلطان والأحرار، فقال: «إني أعد نفسي سعيدًا لمثولي بين يدَي جلالة السلطان، وأرجو أن أكون واسطة لحسن التفاهم. وقد انتقد جلالته تقاعد رعاياه الأحرار عن رفع شكواهم إليه رأسًا، ولكنني على ثقة أنهم فعلوا ذلك مرارًا فرفعوا تقارير عدة مطولة عما تحتاج إليه المملكة العثمانية من الإصلاح، وما لجأ بعضهم إلى الأجانب إلا يأسًا من وصول أصواتهم إلى مولاهم!»

فهز عبد الحميد رأسه هزَّ الإنكار وأظهر الاستغراب، ثم قال: «أين هذه التقارير؟ إلى من رفعوها؟»

قال: «رفعوها إلى القصر يا سيدي.»

فأظهر الغضب وهو يقول: «إني محاط بلصوص منافقين يهمهم توسيع الخرق ليستفيدوا من النزاع. قد فهمت الآن.» ثم نهض ونظر إلى رامز نظر الاستئناس، وقال له بصوت منخفض: «اكتم ما دار بيننا، وسأعيدك إلى سجنك حتى حين موصيًا الحراس بأن يحتفظوا بك فلا تهتم لذلك.»

فنهض رامز وأكب على يد السلطان يقبلها من الفرح والإعجاب. فأمر السلطان الحاجب أن ينقله إلى سجنه، فخرج رامز ومشى بين الحراس حتى أُعِيد إلى قصر مالطة، وقلبه يطفح سرورًا وصدره قد امتلأ أملًا.

•••

توجه السلطان عبد الحميد إلى غرفة نومه بعد أن خلا إلى نفسه، وحينما وقع نظره على الصورة التي مثلوا له بها مدحت ورجاله وقف عندها وهو يحدق فيها بعين الغدر، كأنه يرى مدحت بين يديه ويهم بأن يصفعه، ثم صر بأسنانه وزمجر كالأسد الجريح وهز رأسه وهو يتحول عن الصورة وقال: «ويلٌ لكم من أشرار أغرار! تصدقون أن عبد الحميد يصبر على وقاحتكم باسم الحرية؟! أبمثل هذه الجسارة يخاطَب عبد الحميد سلطان البرَّين وخاقان البحرَين؟! حتى هؤلاء الغلمان يزعمون أنهم ينصحون لي؟! إن رجلًا يخاطبني بهذه الوقاحة لا ينبغي أن يبقى حيًّا.» قال ذلك ومشى إلى علبة السيكار فأشعل سيكارًا ونفخ دخانه نفخة ملأت الغرفة، وتنهد وهو يقعد على كرسي طويل هناك، ثم استلقى عليه وهو يقول: «ولكن ما الحيلة في كشف سر هذه الجمعية ومعرفة أعضائها العاملين؟ إني إذا ظفرت بهم ذهب خوفي. إن أولئك الأغرار يطلبون الدستور، قد طلبه قبلكم رجال ذوو لحى وحنكة ودهاء وذهبوا قتلًا ونفيًا وإغراقًا … وسأفعل بكم كذلك، لا بد أن أطلع على أسراركم إن لم يكن بالحيلة فبالسيف أو بالمال أو بأية وسيلة. لا ينبغي أن أعول في ذلك على أولئك الأعوان الملاعين، سأبحث عنه بنفسي. إن هذا الشاب عنده سر الجمعية فكيف أستخلصه منه؟»

ونهض عن الكرسي وهو يحك عثنونه ليستحث ذاكرته وينبه قريحته، ثم وقف بغتةً وأشرق وجهه كأنه هبط عليه الإلهام بالصواب فقال: «شيرين! هذه الفتاة التي حملها حبها رامزًا على القدوم إلينا، لا بد أنها فعلت ذلك وفي خاطرها أن تفتدي حبيبها، ومن أهون الأمور عليها أن تشتريه بكشف سر الجمعية، وهي بلا شك عالمة بأعضائها.» ولما خطر له ذلك صفق فأتاه الحاجب فطلب إليه أن يستقدم نادر أغا، وما عتم أن كان ذلك الخصي بين يديه وقد وقف منتصبًا وهو يتحفز للعمل بأمر مولاه، فقال عبد الحميد: «أين ضيفتك الجديدة؟ إليَّ بها.»

فمضى نادر أغا ودخل عبد الحميد الغرفة المؤدية إلى دار الحريم وأخذ في إصلاح شأنه أمام المرآة. وكان شديد الرغبة في المحافظة على نضارة الشباب حتى إنه كثيرًا ما كان يختضب ويتبرج لهذه الغاية، ثم جعل يخطر في الغرفة مطرقًا مفكرًا حتى أتى نادر أغا ينبئه بقدوم الفتاة فأمر بإدخالها، فدخلت وقد زادها التهيب رونقًا، وأخذت ركبتاها تصطكان من الخوف، لأنها بعثت ذلك التلغراف ودخلت القصر وهي لا تقدر عواقب جرأتها. وإنما فعلت ذلك مدفوعة بالخوف على رامز، ورأت صائب بك يهددها بالوشاية بها فسبقته إلى القدوم وفي نفسها مثل ما في نفس حبيبها من جهة السلطان وأعوانه، إذ لم يكن يدور في خلدها أن من يقبض على أنفس العباد ويتولى الخلافة يرتكب ذلك الشطط في سياسته إلَّا وهو يجهل حقيقة حال مملكته، وأنه لو عرف الحقيقة لرجع إلى الصواب، على أنها كانت تتصور ذلك الأمر أهون مما هو. ولم تكد تدخل يلدز وترى قصورها وحدائقها وميادينها وما انبث في أطرافها من الحراس والأعوان حتى تهيبت وأدركت خطأها. وكانت تتوقع أن تستطلع حال رامز ساعة وصولها، فإذا هي لا تكلم إلا صمًّا بكمًا ولا يجيبها أحد عن سؤال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤