الحرب المقدسة

كان مذهب عبد الرحمن الناصر في نظام الحكم أن يحتفظ لنفسه بالسلطة كاملة، وأن يختار لتصريف أمور الدولة رجالًا من صنائعه، الذين رفعهم بعد ضعة، وأعزهم بعد مهانة،١ وحَرَصَ قبل كل شيء على أن يجرد زعماء العرب الذين لعبوا بالأمراء قبله من كل قوة، فكان رؤساء دولته من المحدثين في النعمة الذين لم يرفعهم نسب ولم تنهض بهم في المجد سابقة، فتوثقت عراهم بسيدهم كما يتشبث الضعيف بالقوي؛ إذ لولاه لداستهم الأسر العربية بالأقدام، ثم إنه حاط ملكه بجيش عظيم جرار، انتقى قواده من خيار رجال حرسه من الصقالبة، وأضاف إليهم رجالًا من الفرنجة، وغاليسية، ولومبارديا، وغير هؤلاء من أجناس شتى، وكان تجار الإغريق والبندقية يجلبون هؤلاء الأرقاء ويبيعونهم صغارًا للخليفة ليهذبهم وينشِّئهم في الإسلام، وكثير منهم من أصبح كامل الثقافة شديد الإخلاص لمولاه، وهم يشبهون من نواحٍ كثيرة مماليك خلفاء صلاح الدين بمصر، الذين اختاروهم لحراستهم، والذين بلغوا في النهاية ذِروة المجد، فكانوا سلاطين لمصر والشام، نعم يشبهونهم فيما كان لهم من عبيد ينصرونهم، وفي أن الخليفة أقطعهم ضياعًا يقوم على زراعتها الخَوَل والعبيد، وفي أنهم كانوا دائمًا يستجيبون لدعوة سيدهم إذا دعاهم للحرب، فيقبلون مسرعين على رأس أتباعهم وعبيدهم، ثم يشبهونهم في أنهم وصلوا بعد حين من الدهر إلى قمة السيطرة والنفوذ، فاغتنموا فرصة ذبول الدولة وتدهورها بعد موت عبد الرحمن الناصر وخليفته، وأسسوا لأنفسهم دولة، فكان لهم بذلك سهم بين السهام، ويد بين الأيدي التي قضت على حكم الإسلام بالأندلس.

استطاع الأمير مستعينًا بالصقالبة أن يطهر البلاد من عصابات السوء، وأن يسل منها روح التمرد، ثم أن يشعل حربًا ضروسًا على نصارى الشمال ويعود مظفرًا منصورًا؛ فقد كانت مملكة الإسلام في أيامه مهددة بخطر أشد من خطر الفوضى والثورات؛ ذلك أنها كانت محصورة بين مملكتين متحديتين شديدتي المراس، تتطلب كلتاهما شدة اليقظة والحذر، ففي الجنوب ربضت مملكة الفاطميين في شمال إفريقية متنمرة متوثبة، وكان من الطبيعي أن يذكر حكام الساحل البربري أن العرب قبلهم جعلوا من إفريقية معبرًا إلى إسبانيا، كما أن السياسة المتوارثة بين حكام البربر كانت توسوس إليهم دائمًا أن يضموا — إذا استطاعوا — ولايات إسبانيا المشرقة إلى إفريقية.

ورأى الخليفة أنه لا يستطيع التخلص من الفاطميين أو تجنب شرورهم إلا ببث الفتن وإشعال نار الخلاف بين قبائل البربر، فنجح في ذلك أيما نجاح، وأخضع بدهائه قسمًا كبيرًا من ساحل البربر، وتملك قلعة سبتة الحصينة، ثم إنه خصص مقدارًا كبيرًا من دخل الدولة ببناء أسطول عظيم، نازع به الفاطميين سلطتهم في بحر الروم.

أما في الناحية المقابلة نحو الشمال، فكان على المسلمين أن يقابلوا عدوًّا هو أشد من الفاطميين كيدًا، وأبعد خطرًا؛ فقد نبتت نصارى أستورياس وتأثلت من حَفْنَةٍ من الرجال زاد عددهم في هذه الأيام واشتد ساعدهم، فاعتزوا بالكثرة والقوة، ونما في نفوسهم حافز قوي إلى استرجاع وطنهم المسلوب.

وقصة ذلك: أنهم حينما اصطدموا بالمسلمين عند الفتح، فقدوا صوابهم، وطارت نفوسهم شَعاعًا، وتمزقوا شَذَرَ مَذَرَ مذعورين من هؤلاء الشياطين، فالتجئوا إلى جبال أستورياس وأقاموا بها، فكان لهم من قلة عددهم ووعورة الجبال التي نزلوها شفيع ذاد المسلمين عنهم، ولم يجتمع حول زعيمهم «بلاي» في كهف «دونجا» إلا ثلاثون رجلًا وعشر نساء، فلم ير العرب أن مثل هذه الطُّغْمَة القليلة من الفارين تستحق المطاردة والاقتناص، فتركوهم وشأنهم يقيمون في مغاور هذا الكهف الذي لا ينال إلا من شِعب ضيق لا يُرْقى إليه إلا بسبعين درجة، ودارت الأيام وتعاقبت الأعوام، وهم يتكاثرون ويتناسلون، حتى استطاعوا بعد حين أن يؤلفوا في معقلهم الحصين جيشًا تامًّا.

ووصف ابن حيان المؤرخ نشأة هذه الدولة المسيحية في حزن وأسى فقال:
وفي ولاية عنبسة بن سُحَيم الكلبي،٢ قام بجِلِّيقِيَّة عِلج خبيث يُدعى (بلاي) فعاب على العلوج طول الفرار، وأذكى قرائحهم حتى سما بهم إلى طلب الثأر، ودافع عن أرضه، ومن وقته أخذ نصارى الأندلس في مدافعة المسلمين عما بقي من أرضهم، والحماية عن حريمهم، وكانوا لا يطعمون في ذلك، وقيل إنه لم يبقَ بأرض جليقية قرية لم تفتح إلا الصخرة التي لاذ بها هذا العلج، ومات أصحابه جوعًا إلى أن بقي في مقدار ثلاثين رجلًا ونحو عشر نسوة، وما لهم عيش إلا من عسل النحل في جباح (خلايا) معهم في خروق الصخرة، وما زالوا ممتنعين إلى أن أعيا المسلمين أمرهم، واحتقروهم، وقالوا: ثلاثون علجًا ما عسى أن يجيء منهم؟! فبلغ أمرهم بعد ذلك في القوة والكثرة والاستيلاء ما لا خفاء به.

ويقول مؤرخ آخر: «كم تمنينا على الله لو أن المسلمين أطفَئُوا — دفعة واحدة — شرارة هذه الجذوة التي قُدِّر لها أن تلتهم دولة الإسلام بالأندلس!»

تقَوَّتْ هذه العصابة الفارة شيئًا فشيئًا، وزاد في بأسها وفود النصارى إليها من أقطار الشمال، وحينما شعرت بالقوة، واطمأنت إلى الثقة بنفسها، خرج رجالها من معقلهم وأخذوا يناوشون البربر النازلين بحدود الأندلس، حتى اضطُر العرب في النهاية إلى أن يزحفوا على كهف هؤلاء المغيرين البسلاء ليستأصلوهم، ولكنهم لم يظفروا بطائل؛ فقد هزمهم المسيحيون في هذه المحاولة وغنموا منهم مغانم كثيرة، وفي سنة ٧٥١م/١٣٤ﻫ تزوج ألفونسو (الأذفونش) صاحب كانتابريه (التي لم ينفذ إليها العرب) بابنة بلاي، فوحَّد هذا الزواج كلمة المسيحية، وهب ألفونسو فأثار الولايات الشمالية على العرب، وشن بجنود من أهل غاليسية على المسلمين حروبًا متعاقبة دفعتهم إلى التقهقر نحو الجنوب، واسترد من أيديهم مدن براجا، وبورتو (مدينة البرتقال)، واستروجة، وليون، وطلمنكة، وزمَّورة، وليدسمة، وسلادانة، وشَقوبِية، وآبلة، وأوسما، وميراندة، وامتد الحد المسيحي إلى الجبال الكبرى وأصبحت حصون الحد الإسلامي مدن: قُلُمْرية، وقُورِيَة، وتالاڨيرة، وطليطلة، ووادي الحجارة، وتُدِلَّة (تيوديلة)، وبنبلونة.

والحقيقة أن ألفونسو استرد ولايات قشتالة، وليون، وأستورياس، وغاليسية، غير أن هذه العصابة بعد أن ملكت ما ملكت، خلت إلى أنفسها فرأت أيديها صِفرًا من المال، ورأت أنه لم يكن لها من العبيد والخول من يقومون ببناء القلاع واستنبات الأرض في تلك البقاع الواسعة التي استرجعتها، فخطر لها أن تتركها للعرب على أن تكون حدودًا بينهما غير ثابتة، وارتدت إلى المقاطعات حول خليج غسقونية حتى يحين الوقت الذي تسوِّغ لها فيه كثرة العدد والمال احتلال بقاع أوسع.

وجاء القرن التاسع وأحسَّ المسيحيون بما يحفزهم إلى استعادة البقاع التي تغلبوا عليها من قبل، فانتشروا بمقاطعة ليون وابتنوا لصد أعدائهم قلاع زمَّورة، وسان استيبان، وأوسما، وسيمنقاس، ثم تقدموا فضيقوا فسحة الحدود بينهم وبين العرب حتى لقد كانت تتلاصق جيوش الفريقين في بعض المواطن، وحاول العرب في بداءة القرن العاشر أشد محاولة أن يستردوا أراضيهم بما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل، ولكن المسيحيين هزموهم شر هزيمة، وتواثبوا على حدودهم بعد أن استعانوا برجال من طليطلة، وبعد أن شد أزرهم سانشو (شانجة) ملك نافار (بنارة) الذي أصبح موئل المسيحية في الشمال.

وكانت حروب المسيحيين نقمة وسوط عذاب على أعدائهم؛ فقد كانوا جفاة أمِّيين، وكانت أخلاقهم على اتساق مع أميَّتهم، وما كان يُتوقع من هؤلاء الجفاة المتوحشين إلا التعصب والقسوة، فإنهم لم يؤمِّنوا مستجيرًا، ولم يتركوا فارًّا، ولم يُبقوا على جريح، وهذا يذكرنا — والحزن ملء صدورنا — بما كان للعرب من بطولة ورفق وسماحة خلق، فكثيرًا ما عفوا عن أعدائهم نبلاء متكرمين، بينما نرى اليوم رجال ليون وقشتالة العتاة يذبحون جميع رجال الحاميات، ويستأصلون مدنًا مليئة بالقطَّان، حتى إذا نجا أحد من سيفهم لم ينجُ من استعبادهم.

لم تمر سنتان من حكم عبد الرحمن الناصر حتى زحف أردون الثالث صاحب ليون بجيوشه على العرب، وأثار حربًا شعواء بلغ بها أسوار ماردة، واشتد هلع أهل بَطْلَيَوْس لمقدَمه، فأسرعوا إلى مصالحته بالمال لاتقاء شره، واشتد الخطر على المسلمين لقرب هاتين المدينتين من قرطبة، ولم يكن يحول بين جيوش أردون وبينها إلا شارات مورينا الشاهقة، فكان الموقف شديد الحرج على المسلمين، ولو أن الأمير كان جبانًا لتلمس لنفسه الأعذار في نكوصه عن القتال؛ لأن ماردة لم تكن تعترف بعد بسلطانه، فأي شأن له إذا وثب النصارى على ولايات خارجة عليه؟! ولكن شيئًا من هذا لم يكن من نَحيزة عبد الرحمن ولا من خلقه، فوثب في الحال وجمع جموعه وأرسل بعثًا إلى الشمال فشن غارات قاسية على مملكة المسيحيين، وأرسل في السنة التالية سنة ٩١٧م/٣٠٥ﻫ حملة أخرى لم يكن لها من التوفيق ما كان للأولى، فهزمها أردون أمام أسوار سان استيبان، واستخلص من المسلمين كثيرًا من الغنائم.

وحينما رأى القائد العربي المغوار٣ طلائع الهزيمة قذف بنفسه بين الأعداء ومات وسيفه في يده، وكان من جبن ملك ليون ووحشيته أن أمر بحزِّ رأس هذا الجندي الشجاع وتسميره بباب القلعة إلى جانب رأس خنزير، ثم أطغى الانتصار جيوش ليون ونافار، فعاثوا في السنة التالية فيما حول طليطلة، وتغلب عليهم جنود قرطبة في أثناء ذلك في موقعتين، وفي هذا الحين عزم عبد الرحمن على أن يستكمل عدته؛ لأنه رأى أن التغلب على المسيحيين يتطلب جهدًا أعظم وأمضى، فقاد في سنة ٩٢٠م/٣٠٨ﻫ الجيوش بنفسه، ومضى مسرعًا متسلحًا بمهارته وحسن رأيه، فدهم أوسما وسوَّى قلعتها بالأرض، ودمر سان استيبان بعد أن فرت حاميتها، ثم اتجه إلى نافار ونازل سانشو (شانجة) ففر أمامه من الميدان مرتين، ثم جاءت النجدة من ليون إلى جيوش نافار، وكان المسيحيون في موقع طبيعي يمكنهم من العرب، ولكن الأمير نازلهم في وادي القصب واستأصل جموعهم، وأثارت منعةُ حدود المسيحيين غضبَ المسلمين فوضعوا السيف والنار في حامية ميوز.

ومن الحق أن نقرر آسفين أن العرب في بعض هذه الوقائع حاكوا أعداءهم في أعمال القسوة والعنف، وبخاصة حينما كانت تضم جيوشهم عددًا من الإفريقيين الذين اشتهروا بالوحشية والشراسة، ولكن عود المسيحيين كان صلبًا لا يلين، فلم تستطع الهزائم أن تفلَّ من عزمهم أو تكسر من شوكتهم، ولن يفوق شيءٌ عزمَ المسيحيين المغلوبين؛ فقد كانوا على توحشهم يمتازون بشجاعة الرجال، فكم حُطِّمت جيوشهم مرة بعد مرة وهم ينهضون في إثر كل هزيمة بقلب ثابت جديد؛ لذلك لم يمضِ على كارثتهم في موقعة وادي القصب إلا سنة واحدة حتى وثب أردون الذي كان يمثل روح المقاومة المسيحية، وشن بجيوشه حربًا ضروسًا على الحدود.

وفي سنة ٩٢٣م/٣١١ﻫ زحف سانشو ملك نافار واستحوذ على بعض القلاع القوية، فأثار ذلك همة الأمير، فقاد جيوشه مرة أخرى نحو الشمال وقد تملكه في هذه المرة عزم عابس، وأدركه غضب الأسود ديس عرينها، فانتهب وأحرق كل ما مر به من المدن والقرى، وملأ الرعب منه النفوس فأخذ الناس يجلون عن المدن كلما شعروا باقترابه، وفتحت له قصبة بنبلونة أبوابها بعد أن فر أهلها، ومزق جيش سانشو فتراجع منهزمًا مدحورًا، وقام المسلمون إلى كنيسة القصبة فهدموها ودمروا كثيرًا من دورها، وأصبحت نافار بمن فيها وما فيها تحت قدمي الأمير.

وفي هذا الوقت مات أردون ملك ليون، وثارت الفتنة بين أبنائه واشتعلت بينهم حرب أهلية أعطت الأمير متنفسًا وفسحة للنظر في شئون أخرى.

ولما عاد عبد الرحمن الناصر من هذه النصرة اتخذ لنفسه لقبًا جديدًا فقد كان حكام الأندلس قبله يُلقَّبون بالأمراء، ولم يدَّعِ أحد من حكام بني أمية حقًّا في الخلافة — على الرغم من إنكارهم خلافة العباسيين الذين ثلوا عرشهم بالمشرق — لأنهم رأوا أن لقب الخليفة لا يستحقه إلا من يحكم الحرمين، فقنعوا على كره منهم بأن يتركوا للعباسيين لقبهم غير منازَعين فيه، غير أنه حينما شاع في الأندلس أن الخلفاء العباسيين أصبحوا وليس لهم شيء من النفوذ في خارج حدود بغداد، وأنهم يعيشون بها عيشة السجناء لتشتت أجزاء المملكة، ونشوء الأوطان المستقلة٤ أسرع عبد الرحمن فدعا بنفسه خليفة على المسلمين وسمى نفسه الناصر لدين الله.٥

انتحل الخليفة هذا اللقب قبل موته بثلاثين سنة مُلئت بالحكمة والعدالة والحزم، وصخِبت بحروب مستمرة كانت تشن كل عام على المسيحيين، فرفعت من قدره وجعلته جديرًا بلقبه الناصر لدين الله.

ولكن الحروب الأهلية التي حدَّت زمنًا من قوة أهل ليون انطفأت الآن وسكن غبارها، وظهر من خلالها ملك مسيحي عَسِيٌّ بالمنصب، جدير بأن يكون خليفة لأردون العظيم؛ فقد ولي المُلكَ راميرو الثاني (ردمير) في سنة ٩٣١م/٣١٩ﻫ وبرزت فيه صفات الفروسية بعزمه الصارم على مقاومة جيوش الخليفة، وبعد قليل عقدت في الشمال بين المسيحيين وأمير سرقسطة٦ معاهدة شديدة الخطر سيئة المغبة، فأسرع عبد الرحمن إلى تمزيق هذه المعاهدة وإخضاع سرقطسة في سنة ٩٣٧م/٣٢٧ﻫ ثم زحف على نافار، ونشر الرعب والفزع أينما سار، حتى إن الملكة الوصية (طوطة) أسرعت إليه لتقدم خضوع المحكوم للحاكم، ولكن راميرو لم يشترك في شيء من هذا الاستسلام، فلَمَّ شتات جيشه وتغلب على المسلمين وقهرهم في موقعة الخندق، وكانت كارثة على المسلمين، فسقط منهم خمسون ألفًا في الميدان، ونجا الخليفة بنفسه وما كاد ينجو، وفر بأقل من خمسين فارسًا، وبقيت هذه السنة المشئومة عهدًا طويلًا بالأندلس تسمى بسنة الخندق.٧
ولو أن المسيحيين سايروا تغلبهم وجارَوْا تقدمهم، لجاز أن يُكْتَبَ اليوم لإسبانيا تاريخ آخر، ولكنهم كشأنهم شغلتهم العداوة والبغضاء، ووقع النزاع بين أمرائهم، فحمى ذلك الخليفةَ من شرهم، واقتنص فرصة تدابرهم للانتعاش من كارثته ولم شعت ما تفرق من جيشه، وأخذ الأهبة لهجوم جديد؛ فقد كانت الفتنة متأججة في قشتالة لمقاومة سيطرة أهل ليون، وكان حاكم قشتالة في هذا الحين فرناندو غونزاليز المشهور٨ الذي غنَّى بمدحه كثير من الشعراء، فإنه كان بطلًا من أبطال إسبانيا، تزوج ببطلة خلَّصته مرتين من السجن بعد أن ألقاه فيه بعض الحسدة من جيرانه أصحاب نافار وليون، وكانت حيلتها في خلاصه في المرة الثانية أن ارتدت ثياب زوجها وعرَّضت نفسها للوقوع في أيدي السجانين، أما خلاصه في المرة الأولى فكان قبل زواجها به حينما كان في طريقه ليخطبها من أبيها غرسية ملك نافار الذي قبض عليه أول ما رآه وألقاه في السجن.

وتقص علينا أنشودة إسبانية خبر خلاصه من محبسه فتقول:

لقد حملوا بعيدًا كونت قشتالة العظيم إلى نافار، ثم قيدوا رجليه إلى يديه قيدًا مؤلمًا، وطار بهم الفرح، وأولموا الولائم لاقتناصه
حقًّا إن سجن الملك غرسية يضم أشجع بطل بإسبانيا

ثم يستمر الشاعر فيقص علينا أن فارسًا نورمانديًّا كان مارًّا بنافار:

ثم جاء وهو يرجو أن يقارع العرب بسيفه في سبيل نصرة المسيح

ثم يقول الشاعر إن هذا الفارس أخبر بنت غرسية بأسر غونزاليز وعدَّد لها ما في أسره من الضرر الذي يلحق بالمسيحيين بإسبانيا:

إن أسره بهجة ومسرة لقلوب العرب، ولكنه لنا حزن أليم …
لقد فقدت فيه إسبانيا حارسًا، كما فقدت فيه قشتالة زعيمًا
إن جيوش العرب تتدفق تدفق السيول في النهر
لعنة الله على الأغلال المسيحية التي تغل يدي غونزاليز

ثم أخذ الفارس النورماندي يرجو الأميرة في تخليص السجين:

لم تجب السيدة إلا قليلًا غير أنها في حنادس الليل
وقد نام كل الخدم نهضت وانسابت من القصر
ثم أغرت حارس السجن بحليها وذهبها
فباع لها ذلك الحارس الفَسْل سجينه

وهكذا أخرجت الأميرة الكونت من سجنه وفرَّا معًا إلى قشتالة.

وتعد هذه القصة في هذا الوقت الذي نؤرخ حوادثه قديمة؛ لأن غونزاليز كان قد تزوج بها منذ سنين، وصمم على أن تكون قشتالة مستقلة لا سيطرة عليها لليون.

وفي هذا الحين قبض عليه راميرو ولم ينجُ من سجنه إلا بعد أن تبين لراميرو أن القشتاليين لا يقبلون سواه حاكمًا، وأنهم يؤثرون الخضوع لتمثال زعيمهم على أن يدينوا بالطاعة إلى ملك ليون؛ لذلك أطلقه بعد أن أخذ عليه المواثيق أن يبقى خاضعًا لمملكة ليون، وأن يزوج ابنته من أردون أحد أبناء راميرو، وقد فترت همة فرناندو بعد هذا الإذلال عن أن يقابل العرب في صفوف ليون، وعزم على أن يترك الليونيين لينالوا نصيبهم من الإذلال والمهانة، غير أن ذلك لم يكن في عهد راميرو الذي فاز بانتصار على العرب في سنة ٩٥٠م/٣٣٩ﻫ بالقرب من طَلَبيرة، ومات في السنة التي تليها شامخ العز وافر المجد.

وبعد موته اتخذ غونزاليز لنفسه صناعة «عمل الملوك» فأخذ على عاتقه حماية سانشو (شانجة)٩ من أخيه أردون الثالث، وحينما خلف سانشو أخاه في سنة ٩٥٧م/٣٤٦ﻫ انقلب عليه غونزاليز وطرده من ليون، ووضع على العرش مكانه أردون الرابع، وكان كسيحًا ينبزه الناس بالأثيم، فالتجأ سانشو إلى جدته «طوطة» ملكة نافار، ولم يلبثا إلا قليلًا حتى استنجدا بخليفة قرطبة ليأخذ بناصرهما في هذه الشدة١٠ وكان سانشو عظيم الضخامة والسِّمنة، لا يكاد يستطيع المشي خطوات إلا مستندًا إلى شخصين، فعزم على أن يستشير الأطباء البارزين بقرطبة الذين طارت شهرتهم في جميع الأقطار، وبعثت الملكة «طوطة» برسل إلى عبد الرحمن في هذا الشأن، فعزم على أن يرسل إليه بحَسَدَاي وهو طبيب يهودي بارع،١١ ولكنه اشترط لذلك شروطًا، منها: تسليم عدد من القلاع، وحضور سانشو والملكة طوطة إلى قرطبة.

وقد صعب على الملكة أول الأمر أن تسافر إلى حاضرة المسلمين؛ لأن وجودها سيكون مظهرًا من مظاهر قوة الخليفة وعظم سلطانه، ولكنها بعد كل هذا سافرت مع ابنها ملك نافار وحفيدها المنفي ملك ليون، فاستقبلهم عبد الرحمن باحتفال عظيم لِما طُبع عليه من الكرم والأدب الجم، ولم يتخلص سانشو سريعًا من سمنه فحسب، بل عاد إلى الشمال مؤيدًا بجيوش من الخليفة استرد بها في النهاية عرش ليون سنة ٩٤٠م/٣٤٩ﻫ.

وفي السنة التالية مات الخليفة العظيم عن سبعين عامًا بعد أن حكم نحو خمسين سنة أتم بها من وجوه الإصلاح وجلائل الأعمال في الدولة ما يعجز الخيال عن تصوره، فإنه حين تولى الملك شابًّا في الحادية والعشرين كانت المملكة فريسة لزعماء العصابات والمفسدين في الأرض، فاستقلت الولايات واختارت حكامها، وتحدت الأحزاب سلطة الأمراء وفرقت الدولة فرقًا، وعاثت الفوضى وعم النهب البلاد.

ففي الجنوب كانت الدولة الفاطمية بإفريقية تهدد بابتلاع إسبانيا وضمها إلى ملكها، وفي الشمال أخذ أمراء النصارى أهبتهم للزحف على مملكة أجدادهم وطرد العرب من البلاد، فبين هذه الفوضى الجائحة ومظاهر هذا الدمار الشامل، ظهر عبد الرحمن فبدَّل بكل هذا الضعف قوة، وبكل هذا الفساد نظامًا وفوزًا مبينًا، وقبل أن يمر النصف الأول من سني حكمه أعاد السلم إلى نصابه، وثبَّت دعائم حكومة عادلة في طول المملكة الإسلامية وعرضها، وقضى على سلطة الأحزاب، ونشر نفوذه مهيبًا مستبدًّا بين جميع طبقات رعيته.

وفي النصف الثاني من حكمه حاط مملكته بالقوة والمهابة، فأرهب أعداءه في الخارج وأزاح الإفريقيين العتاة عنه بعيدًا، وأنشأ حامية بسبتة تقف في وجوههم، وقاسمهم السيطرة على البحر مقاسمة النظير للنظير، وفي الشمال عصف بالقوة النامية لنصارى ليون وقشتالة ونافار، وكانت له اليد العليا عليهم، حتى إنهم كثيرًا ما قدموا عليه لحل مشكلاتهم واسترداد حقوقهم.١٢

نعم، إن عبد الرحمن أنقذ الأندلس من نفسها ومن أعدائها، ولم يكتفِ بإنقاذها من الدمار، بل خلق منها دولة عزيزة الجانب، ولم تكن قرطبة في عهد من عهودها أغنى ولا أكثر ازدهارًا مما كانت عليه في عهد الناصر، ولم تكن الأندلس قبل أيامه في تلك الحال من الخصب والإمراع والإنتاج وتوالي الخيرات التي نمَّاها ووصل بها إلى الكمال كد أهلها ومهارتهم في الصناعة، ولم يكن الحكم الأندلسي في يوم من أيامه أبهر انتصارًا على الفوضى، ولم تكن قوة القانون أكثر نفوذًا إلى القلوب وأعظم هيبة مثلما كانت في أيام عبد الرحمن، فقد تسابق إلى أبوابه الرسل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا ليقدموا إليه تحية الإجلال والتمجيد.

وكانت قوته وحكمته وثروة مملكته مضرب المثل في أوربا وإفريقية، وبلغت شهرته أقصى حدود المملكة الإسلامية بآسيا، وكان مصدر كل هذا الانقلاب العجيب رجلًا واحدًا عانده كل شيء فقهره، ووقف في طريقه كل شيء فحطمه، بعث الأندلس من حضيض البؤس إلى قمة القوة والازدهار، ولم تصل البلاد إلى كل هذا إلا بذكاء الخليفة عبد الرحمن الناصر وصدق عزيمته.

ويلوِّن مؤرخو العرب صورة هذا الرجل الهمام بألوان لا تكاد تتفق مع ما كان له من سياسة عنيفة مسيطرة، على أنهم كانوا أمناء في وصفه «بأنه كان أرحم من حكم مملكة في الأرض، وأكثر الملوك علمًا، وبأن أحاديث حلمه وكرمه وعدله سارت في الناس مثلًا شرودًا، وبأنه لم يَفُقْهُ أحد ممن سبقوه في الشجاعة والغيرة على الدين، وبأنه كان محبًّا للعلم مكرمًا لأهله معاشرًا لهم».

ويتناقل الناس قصصًا كثيرة في صرامته في الحق وبُعدِه عن المجاملة فيه، ويحدثنا ابن خلدون عن هذا الخليفة العظيم فيقول: «وُجد بخط الناصر رحمه الله أن أيام السرور التي صفت له دون تكدير كانت يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا، ويوم كذا من شهر كذا من سنة كذا، وعدت تلك الأيام فكانت أربعة عشر يومًا، فاعجب أيها العاقل لهذه الدنيا وعدم صفائها، وبخلها بكمال الأحوال لأوليائها، هذا الخليفة الناصر حِلْف السعود، المضروب به المثل في الارتقاء في الدنيا والصعود، ملكها خمسين سنة وستة أو سبعة أشهر وثلاثة أيام، ولم تصفُ له إلا أربعة عشر يومًا! فسبحان ذي العزة القائمة، والمملكة الدائمة، لا إله إلا هو.»

هوامش

(١) يقول صاحب أخبار مجموعة: وأغاظ الأحرار بإقامة الأنذال كنجدة الحيرى وأصحابه الأوغاد فقلده عسكره وفوض إليه جليل أموره، وألجأ أكابر الأجناد ووجوه القواد والوزراء من العرب وغيرهم إلى الخضوع له والوقوف عند أمره ونهيه.
(٢) ولي الأندلس في صفر سنة ١٠٣ﻫ/٧٢١م واستشهد في شعبان سنة ١٠٧ﻫ/٧٢٥م.
(٣) هو ابن أبي عبدة.
(٤) يضاف إلى ذلك ما كان من قتل المظفر لمولاه المقتدر سنة ٣١٧ﻫ/٩٣٩م.
(٥) وأرسل منشورًا بالخلافة إلى الولاة، فيه: وقد رأينا أن تكون الدعوة لنا بأمير المؤمنين وخروج الكتب عنا وورودها علينا بذلك، إذ كل مدعو بهذا الاسم منتحل له ودخيل فيه ومتسم بما لا يستحقه، وعلمنا أن التمادي على ترك الواجب لنا من ذلك حق أضعناه واسم ثابت أسقطناه.
(٦) هو محمد بن هاشم التجيبي، خلع الطاعة سنة ٩٣٤م/٣٢٣ﻫ وانضم إلى راميرو وإلى ملك نافار وأثار جميع أهل الثغر على الخليفة، فزحف الخليفة عليه وأخذ قلعة أيوب وحاصر سرقسطة إلى أن لاذ محمد بن هاشم بطلب العفو فعفا عنه.
(٧) قال المسعودي: كان عبد الرحمن في أكثر من مائة ألف من الجند. ويعلل صاحب أخبار مجموعة هذه الهزيمة بأن وجوه رجال الجيش تواطئوا على الانهزام كراهة في قائدهم غير العربي نجدة الصقلبي، وقال إن عبد الرحمن لم يحضر موقعة بعد هذه.
(٨) يسميه صاحب نفح الطيب: فردلند قومس قشتيلة.
(٩) يسميه صاحب نفح الطيب «غرسية بن شانجة»، وهو حفيد طوطة، أما ابنها فاسمه سانشو.
(١٠) في نفح الطيب: وكان غرسية بن شانجة استولى على جليقية بعد أبيه شانجة فرويله ثم انتفض عليه أهل جليقية وتولى كبرهم قومس قشتيلة فردلند ومال إلى أردون ابن ردمير، وكان غرسية بن شانجة حافدًا لطوطة ملكة البشكنس فامتعضت لحافدها غرسية، ووفدت على الناصر ملقية بنفسها في عقد السلم لها ولولدها شانجة وإعادة حافدها غرسية على ملكه ونصره من عدوه، وجاء الملكان معها فاحتفل الناصر لقدومهم.
(١١) هو ابن إسحاق، من أحبار اليهود متقدم في علم شريعتهم متمكن في صناعة الطب، اتصل بالحكم بن عبد الرحمن ونال عنده الحظوة فساعده على جلب ما شاء من تآليف اليهود بالشرق.
(١٢) يقول ابن حيان: إن ملك الناصر كان في غاية الضخامة ورفعة الشأن، وهادته الملوك وازدلفت إليه تطلب مهادنته ومتاحفته بعظيم الذخائر، ولم تبقَ أمة سمعت به من ملوك الروم والإفرنجة والمجوس وسائر الأمم إلا وفدت عليه خاضعة راغبة، وانصرفت عنه راضية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤