الخاتمة

لئن كانت المرأة ضعيفة الحَوْل، قاصرة العقل، ضئيلة الأخلاق والصفات، فليس معنى ذلك أنها لن تصلح لشيء من الأشياء، أو أن العالم في غِنًى عنها اليوم، أو سيكون غنيًّا عنها في يوم من الأيام. بل معناه أنها إذا خرجت عَمَّا يناسب طَوْرَها هذا إلى الطور الذي نراها فيه الآن، كان ذلك خروجًا منها عن حَدِّها، وكانت قد حلَّت في غير الموضع الذي ينبغي لها.

ولقد عَنَيْتُ بكل ما تقدم أن أبيِّن أن هذه المكانة التي أحرزتْها المرأة بيننا مكانة مفتعلة. وأن هذا الاحترام الذي تلقاه من الحضارة الحديثة — إن صَحَّ أن يُدعى احترامًا — إنما هو احترام باطل. لا تُبصر له أثرًا إلا في غرف الأندية وقاعات الرقص وحفلات السباق، فإذا فتشت عنه في المجتمع لم تَجِدْ إلا قسوة على المرأة واستهانة بها. ورأيت كيف تهلك هذه المعبودة غرثى، أو تعيش بثمن حيائها وهنائها باكية وَلْهَى.

وليس الغرض أن لا نحترم المرأة فنهينها أو نرى أن ضَعْفَهَا يستوجب قهرها والحَجْرَ عليها. بل نحن لا ننسى أنها في كل حالاتها إما أُمٌّ لنا أو أخت أو بنت أو زوج أو ذات قربى. فالمروءة بل الضرورة تقضي علينا أن نرأف بها كما نرأف برفيق لا غنى لنا عنه. وإذا كان لا يحق لها أن تكون «سيدة» كما هي اليوم، فليس ذلك بمُرجِعِها أَمَةً كما كانت أمس، ولا شيء فيه من العدوان على حريتها أو اهتضام حقوقها.

تنمو البنت إلى سنِّ البلوغ ثم يقف نُمُوُّهَا بعده بزمن يسير. أما الولد فيكاد يبدأ كماله بعد تلك السن. وتلك حجة من الطبيعة على أنها لا تهيئ المرأة لأكثر من التناسل، وأن للرجل عملًا غير التناسل لا بد له من نمو خاص في بنيته.

للمرأة واجب ندبتها له الطبيعة. إذا هي قامت به فليس بضائرها بعد ذلك بُعدها عن مقارفات الأرزاق ومشاغل الأسواق.

فهذا المجتمع معركة ضَرْوسٌ. والنساء فيه آسيات جروحِه وضامدات كلومه وجابرات كسوره، فكيف به وقد طرح آسياتُه المراهم واللفائف، وتبدلن منها الخناجر والقذائف. ثم برزن للنضال بين المتناضلين! أعوذ بالله! إن المجتمع ليكوننَّ ساعتئذٍ كأنه قطيع من الذئاب قد أضراه الجوع والسُّعار، فانبعث عاديًا عاويًا يتخطف كل من مسَّه الكلال فوقع من بينه مُعَيًّى في بعض الطريق.

قال بيرون: «من صدر المرأة تستروِح أول نسمات حياتك. ومن بين شفتيها تلتقط أحدث ما تُتَمْتِمُ به من حروف كلماتك. وإنها لتمسح أول ما تندى به عينك من العَبَرات. ثم إنها لتتلقَّف آخر ما يُصعده الإنسان من الزفرات. يوم يزهد فيه الرجل ويعرض عنه العُوَّادُ ساعة الأجل.»

ولكن المرأة لا تود اليوم أن تكون أُمًّا أو زوجًا، ولا يحلو لها أن تخفف لوعة الحزانى وتُرَفِّهَ عن المتعَبين، لأنها ألِفته عملًا لا يَحْسُنُ إلا بالجواري والإماء.

ولقد تابعتْها بعض الحكومات في هذه البغية، وطاوعتها في الطموح إلى ما تدعوه بالحرية؛ فأباحت لها من المناصب والأعمال ما كانت لا تبيحه من قبلُ لغير الرجال. وكلها تجارب وأطوار سوف تُفضي يومًا من الأيام إلى الجادة المُثلى والغاية الحسنى. وتنتهي لا محالة إلى لمِّ شمل العائلة وحفظ كيانها سواء على الوضع المألوف أو على وضع آخر مستحدث.

هذا إذا لم يكُن في نية الزمن أن يأتينا غدًا بجيل لا عائلة فيه. ولعلَّه آخر ما يشهد الإنسان من عجائب الأزمان.

جاء في مقال شوبنهور:

شرح أرسطو في سياسته ما حاق بأهل اسبرطة من جراء تساهُلهم مع نساء عشيرتهم وتخويلهن حق الوراثة والبائنة ومنحهن قسطًا كبيرًا من الحرية. وبيَّن كيف أن هذا التساهُل كان سببًا من أسباب سقوط اسبرطة واضمحلالها. وما لنا لا نقول نحن إن نفوذ النساء الذي أخذ يمتد ويشتد في فرنسا منذ أيام لويس التاسع عشر كان سر ذلك الخلل الذي أَلَمَّ بالبلاط والحكومة تدريجًا وما زال بهما حتى أفضى إلى الثورة الأولى وما جرَّت إليه من القلاقل والأهوال.

ولقد أراد النساء اليوم أن يمثلن هذا الدور أو ما يشبهه، ولكن على ملعب أوسع جدًّا من ذينك الملعبين، أي على ملعب العالم بأسره.

أردنه لا لأنهن شعرن بالحاجة الماسَّة إلى الخلاص من أسرٍ أو استرقاقٍ، بل لأنهن اضْطُرِرْنَ إلى العمل فأخذن يطالبن بحقوقه كما حملن أنفسهن أعباءه.

وقد وصف شوبنهور وصفته الشرقية لهذا الداء المستعصي، فلم تُعجبني لأني لا أحسبها تنجح في استئصاله. وقد لا تنجح حتى في تلطيف نوبته أو تخفيف وطأته.

أنا لا أنكر أن تعدُّد الزوجات قد يكون أحيانًا ضرورة شخصية، ولكنه لا يكون أبدًا ضرورة اجتماعية. فليس النساء سربًا يتقاسمه الرجال لإطعامه، كُلٌّ على قدر طاقته، وإنما هو جنس خُلِقَ ليكون كل فرد منه مقابلًا لفرد من جنس الرجال. وثمرة اختلاف التركيب بين الجنسين تنتج باجتماع فردين منهما. فلا حاجة إلى الإخلال بهذه الموازنة الطبيعية.

ولقد علِمنا أن العلة نشأت من جرثومتين:

أولاهما: فساد النظام الاقتصادي قضى بأن طعام الرجل كلُّ حظه من عمله. كأنه آلة نصيبها من دورانها الزيت الذي تستعين به على مواصلة الدوران.

وثانيهما: فقدان الثقة بين الجنسين.

فنجم عن ذلك أن أحجم الرجال عن الحياة العائلية، وكثُر العانسات والعزب من النساء، وهذه هي العلة التي نسميها مسألة المرأة.

فعجيب أن يأتي شوبنهور، بعد ذلك، إلى رجل ضاق ذرعًا بامرأة واحدة، فيعلق إلى عنقه أربعًا أو خمسًا، كي لا يبقى في الأمة امرأة بلا زوج!

على أن الرضا بهذه الحالة، وترتيب النتائج عليها، مجاراةٌ للداء، وانصراف عن الدواء النافع وأصوب في غير بيتها فنزيله ونغنيها عن غير ما خُلِقَتْ له.

ولو أن المرأة شعرت بعلة الشر، لما ثنتها هذه الصغائر عن الدُّءوب على إزالتها. ولكانت أشد من الرجل من تسيء سمعة بنات جنسها. ولنزعت بيدها تلك المرغبات المعكوسة التي تزيد في نفقة الزواج ونفرة الرجل منه. ولرأيناها تضع يدها في يد المظلومين مثلها، لتقلِّم مخالب عدو الرجل وعدوها بل آفة الإنسان والعمران: صاحب رأس المال.

ومتى نال العامل جزاء عمله، وأوتي كل ذي حق حقه، لا تبقى العائلة كلًّا ثقيلًا على عاتق الرجل، وأصبحنا في بحبوحة لا نرى رجلًا يُتلف حياته يومًا بعد يوم ليسكت ضغاء معدته، أو امرأة تبيع نفسها لتمسك جسدها. ورأينا في كل بيت أبًا وأمًّا وصغارًا هم قرة أعينهما، وأملهما في الخلود بعد انطواء ذكرهما، وصلتهما بما يلي من الأجيال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤