الفصل الثالث عشر

كانت كلمات ستيلا لا تزال ترنُّ في أذنَي بينما أوقف السيارة بجوار سيارات الشرطة الأخرى التي تحدِّد مكان مسرح الجريمة. ولكن في غضون دقائق، شعرت بأنها غير ذات أهمية على الإطلاق.

فقد أحاطت أشرطة الشرطة بمنطقة مجاوِرة لأحد الأعمدة العملاقة التي تحمل الجزء المرفوع من الطريق الغربية. كانت تبدو كصحراء تقليدية وسط المدينة. كانت شحيحة العشب، وتتناثر فيها القمامة في كل مكان، وعبق الهواء برائحة عوادم السيارات والعفن. أخرجت ستيلا حقيبة أدواتها من صندوق السيارة، وسارت نحو مجموعة من الأشخاص الذين يرتدون بذلًا بيضاء.

كنا على بُعد بضع ياردات من المجموعة عندما انسلخ رجل من المجموعة واعترض طريقنا. حضرتني ذكرى مشوَّشة عن لقائي به سابقًا في إحدى الدورات التدريبية، ولكنني لم أتذكر اسمه أو رتبته. لحسن الحظ، لم أكن في حاجة إلى ذلك. قال الرجل بصوتٍ عالٍ لنتمكَّن من سماعه رغم ضوضاء الطريق: «رئيس مكتب التحقيقات مارتن.» ومدَّ يده ليصافحني. ولكني جفلت للحظة. لم يعتد رجال الشرطة المصافحات. بينما كنَّا نتصافح، واصل حديثه. وقال: «اسمي جون برتون، المحقِّق برتون. وأعتذر عن استدعائي لك بهذه الطريقة.»

هززت كتفَي. وقلت: «يتم استدعائي طوال الوقت. تتعلق تلك الاستدعاءات بعملي في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى لا تكون كذلك. لا حاجة بك إلى الاعتذار.»

بدت الحيرة على وجه برتون. وقال: «ألم يخبرك أحد بما حدث؟»

قلت: «كل ما تلقيته هو استدعاء للحضور إلى هنا. لماذا؟ هل ثمة ما هو أكثر من ذلك؟»

جال برتون ببصره في أنحاء المكان. ولم يتمكَّن من تثبيت عينيه عليَّ أو على ستيلا أو على أي شيء آخر. وقال بصوتٍ خافت: «اللعنة.» ثم أمسك بذراعي محاولًا توجيهي لكي يحادثني على انفراد.

فحرَّرت ذراعي من يده. وقلت: «يمكنك أن تقول ما تريد أمام الطبيبة مارينو. إذا كانت هذه جثة تخص عملي، فسوف تتولى تشريحها.»

لعق برتون شفتيه. وقال مجددًا: «أنا آسف للغاية.»

قالت ستيلا: «هلا ندخل في صلب الموضوع؟ لقد قطعت للتوِّ المسافة من أمريكا إلى هنا، وأريد أن أفحص الجثة قبل أن أموت بسبب قلة النوم.»

أومأ برتون برأسه وتنحنح. وقال محاولًا تجنَّب التقاء عينينا: «إننا نعرف هوية الضحية.»

لم أشعر بوجود كارثة وشيكة. على الإطلاق. ويرجع الفضل في ذلك إلى حدْس رجل الشرطة. قلت: «نعم؟» وبدأت أنزعج بسبب الفترة الطويلة التي قضيتها منتظرًا.

أخذ برتون نفسًا عميقًا. وقال: «إنه مساعدك. الرقيب ويلسون.»

شعرت كأني تلقيتُ لكمة في حلقي. لم أتمكَّن من التنفس، ولم تحملني ساقاي كأني عدوت نصف مسافة سباق الماراثون. شعرت بيد ستيلا توضع على ذراعي. كان هذا ما جعلني أحافظ على اتزاني. قلت محاولًا إنكار ما قيل: «بن؟»

«بلا أدنى شك. بطاقة هويته معه، كما أن أحد رجالي كان قد تدرَّب معه.»

شعرت بإعياءٍ شديد، وأردت أن أنهار على الأرض، وألفُّ ذراعَي حول ركبتَي. ولكن كان يجب أن أُرجئ مشاعري إلى وقت لاحق. كنت مَدينًا لبِن بمعرفةِ ما حدث في هذا المكان الكريه. قلت وأنا أمُرُّ متخطيًا برتون: «أريد أن أراه.»

فقال: «لا أعتقد أنها فكرة جيدة.» فقلت محتدًّا: «هذا مساعدي، وتلك قضيتي. أصبح يخصني الآن.» سرت نحو المكان الذي كنت أعلم أن الجثة موجودة فيه، وسط الرجال الذين يرتدون البذل البيضاء. كنت أشعر بستيلا تسير خلفي.

عندما رأيت ما تبقَّى من بن، أدركت لمَ كان برتون يحاول إبعادي. حتى إن ستيلا شهقت بسبب المنظر، رغم اعتيادها رؤيةَ أبشع الأمور التي يمكن للبشر أن يفعلها بعضهم في بعض.

كان في وضع الجلوس مسنودًا إلى أحد الأعمدة. كانت ساقاه متباعدتَين لمنعه من الانقلاب على وجهه. كان رأسه مائلًا إلى أحد الجانبين، وبدا طبيعيًّا فيما عدا أنه كان بلا وجه. كان وجهه مسلوخًا، مثل سلخ فروة الرأس ولكن بالعكس. كان الشعر سليمًا، ولكن اختفى الوجه. كان جذعه عاريًا ومشقوقًا بدايةً من حلقه حتى سرَّته. ومن الجلي أنه كان حيًّا عندما حدث ذلك. كانت يداه تمسكان أعضاءه الداخلية، كما لو كان يحاول أن يدفعها إلى الداخل مجددًا.

لم أبكِ في مسرح جريمة من قبلُ رغم أني رأيت الكثير من الأهوال. ولكني بكيت بن، وانسكبت دموعي على وجنتَي ثخينة وساخنة. لم أكلِّف نفسي حتى عناء مسحها. ولم أشعر بأي خجل من التعبير عما أشعر به.

أشحت بوجهي بعيدًا في نهاية المطاف. كانت ستيلا تقف بجواري، وقد تجمَّدت ملامحها كأنها ترتدي قناعًا. قلت: «ابدئي العمل. اعثري على شيء يوصلني إلى الوغد الذي فعل هذا.»

قالت: «إذا كان موجودًا، فسأعثر عليه.»

كان برتون يقف بجوارها مباشرة. قال: «كيف تريد أن يسير التحقيق؟»

قلت: «يجب أن يمرَّ كل شيء على مكتبي. دع رئيسك يتحدث مع رئيسي. علينا أن نكون على إطلاع بكلِّ ما يحدث فيما يتعلق بهذه القضية. لدينا معلومات لا تعرفونها، ولكننا سنشارك معكم المعلومات التي ستحتاجون إليها. خلاصة الأمر، يجب أن نمسك بالحيوان الذي فعل ذلك. ولا يهمني ماذا سنبذل في سبيل تحقيق هذه الغاية. ولتذهب القواعد إلى الجحيم في هذه القضية.»

أومأ برتون برأسه. وقال: «لا يمكنني أن أعارضك في ذلك. سأتأكد من إطلاعك على كلِّ ما نعرف على الفور.»

سرتُ بضع خطوات في اتجاه سيارتي، ثم توقَّفت. وسألت: «مَن عثر عليه؟»

«رجال الإطفاء.»

«رجال الإطفاء؟ ولمَ جاءوا هنا؟» كنت متحيرًا.

أشار برتون إلى منطقةٍ محروقة العشب تبعُد نحو عشرين قدمًا عن جثة بن. لم ألحظ وجودها من قبل. كان هذا يدل على أني كنت بعيدًا كل البعد عن كوني شرطيًّا حينئذٍ. قال: «أشعل أحدهم النار. لتكون بمنزلة منارة أو شيئًا من هذا القبيل. رأى النار عامل نظافة في أحد القطارات، كان ذاهبًا إلى منزله في بادينجتون وأبلغ عنها. وعندما وصل رجال الإطفاء هنا، عثروا على جثة الرقيب ويلسون.» أشاح برتون بوجهه بعيدًا. وقال: «إنهم يرجِّحون أنه لم يكن قد مات منذ مدة طويلة.»

حاولت ألا أفكر في الأمر. قدت السيارة عائدًا إلى مكتبي ومسألة النار تدور في ذهني. ما الهدف من التأكد من العثور على جثة بن سريعًا؟ لماذا أرادوا كشف جريمة القتل سريعًا؟ في الغالب، يحاول القتَلة أن تظل الجثث مختفية حتى يتوفَّر لهم المزيد من الوقت لإخفاء آثارهم.

أيًّا كان مَن قتل بن، فقد أراد أن نعرف. كان يبعث لنا برسالة، وكان يريد منا أن نتسلَّمها. وبسرعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤