الفصل الثاني

عثمان بين أمسه وغده

كان عثمان قد ناهز السبعين حين بويع. وكان رجلًا ليس بالطويل ولا بالقصير حسن الوجه، رقيق البشرة، أسمر اللون، به شيء من أثر الجدري، كبير اللحية عظيمها، عظيم الكراديس، عظيم ما بين المنكبين، أصابه الصلع بعد أن كان كثير شعر الرأس. وكان يشد أسنانه بالذهب، ويتختم في يده اليسرى، ويرتدي اللباس الحسن والثوب الثمين؛ ذلك أنه كان واسع الثروة يعيش في خفض ولين.

وكان شديد الحياء. روي عن رسول الله أنه قال: «أصدق أمتي حياءً عثمان.» وكان حياؤه يزيد في تلفته. وكان لإحدى نسائه جارية تدعى بنانة، فكان إذا اغتسل جاءته بثيابه فيقول لها: «لا تنظري إلي فإنه لا يحل لك.» ثم كان حياؤه يدعو إلى الحياء منه. روي عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله كان جالسًا كاشفًا فخذه فاستأذن عليه أبو بكر فأذن له وهو على حاله، واستأذن عليه عمر فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عثمان فأرخى عليه ثيابه. فلما قاموا قالت عائشة: «يا رسول الله، استأذن أبو بكر وعمر فأذنت لهما وأنت على حالك، فلما استأذن عثمان أرخيت عليك ثيابك.» قال رسول الله: «يا عائشة، ألا نستحي من رجل والله إن الملائكة لتستحي منه.» أو قال: «ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة.» وفي رواية أن عائشة قالت: «يا رسول الله ما لي لا أراك فزعت لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان.» فكان جوابه: «إن عثمان رجل حييٌّ، فإني خشيت إن أذنت له على تلك الحالة ألا يبلِّغ إليَّ حاجته.»

وكان عثمان لحيائه يهاب الحديث. روى ابن سعد في الطبقات قول أحدهم: ما رأيت أحدًا من أصحاب رسول الله كان أتم حديثًا ولا أحسن من عثمان، إلا أنه كان يهاب الحديث، وكان لهيبته الحديث يعاف الحوار وطول الجدل، فإذا التزم أمرًا أصر عليه فتعذر صرفه عنه، وكان يزيد في إصراره على رأيه ما أفاء الله عليه من بسطة في الرزق، وأنه من بني أمية أكثر قريش عددًا وأقواها يدًا. على أن ما جلبه عليه حياؤه من هيبة الحديث جعله لين الجانب، كما جعله ثراؤه وعلو حسبه كريمًا محسنًا. وحببه كرمه وحببته رقته إلى الناس. ثم كان لاعتداده لعشيرته واعتزازه برأيه محترمًا فيهم مرموقًا منهم بعين التقدير والإكبار.

وكان تاجر بزٍّ في جاهليته وإسلامه. وكانت أمانته وما قدمنا من صفاته سببًا في رواج تجارته وكثرة ربحه، ثم كانت وكان حياؤه مانعين له في صباه وشبابه من الانزلاق مع نزوات الشباب. فلم يؤثر عنه أنه كان صاحب فخر أو صحاب نساء. وإن دلت الروايات مجتمعة على أنه كان رقيق القلب حلو المعشر، للعاطفة على نفسه سلطان أي سلطان. وكانت رقته وحلاوة معشره تدعوانه لتجنب الأذى والقسوة ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.

ولد عثمان في السنة السادسة لعام الفيل، فكان يصغر النبي بست سنوات. ولقد عاش في صباه وفي شبابه عيش أمثاله الموسرين من قريش عامة ومن بني أمية خاصة. فلما بعث رسول الله كان في السابقين الأولين إلى الإسلام. وقد ذكر المؤرخون في سبب إسلامه روايات نثبت بعضها هنا.

قال ابن هشام في السيرة: «إن أبا بكر بعد إسلامه جعل يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه؛ فأسلم بدعائه عثمان بن عفان وسبعة آخرون سبقنا إلى ذكرهم. فجاء بهم أبو بكر إلى رسول الله حين استجابوا لدعائه فأسلموا وصلوا.» وقال ابن سعد في الطبقات: خرج عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله على أثر الزبير بن العوام، فدخلا على رسول الله فعرض عليهما الإسلام، وقرأ عليهما القرآن وأنبأهما بحقوق الإسلام ووعدهما الكرامة من الله، فآمنا وصدقا، فقال عثمان: «يا رسول الله، قدمت حديثًا من الشام، فلما كنا بين مُعان والزرقاء فنحن كالنيام إذا مناد ينادينا: أيها النيام هبوا، فإن أحمد قد خرج بمكة، فقدمنا فسمعنا به. وكان إسلام عثمان قديمًا قبل دخول رسول الله دار الأرقم.» وقال ابن كثير في البداية والنهاية: «أسلم عثمان — رضي الله عنه — قديمًا على يدي أبي بكر الصديق»، وكان إسلامه عجيبًا فيما ذكر الحافظ بن عساكر. وملخص ذلك أنه لما بلغه أن رسول الله زوج ابنته رقية، وكانت ذات جمال، من ابن عمه عتبة بن أبي لهب، تأسف إذ لم يكن هو تزوجها، فدخل على أهله مهمومًا، فوجد عندهم خالته سعدية بنت كريز، وكانت كاهنة، فبشرته بزواجه من رقية. قال عثمان: «فعجبت من أمرها حيث تبشرني بالمرأة وقد تزوجت بغيري. فقلت: أيا خالة ما تقولين؟!» قالت: «عثمان لك الجاه، ولك الشأن، هذا النبي معه البرهان، أرسله بحقه الديان، وجاءه التنزيل والفرقان، فتابعه لا تغتالك الأوثان.» قال: «قلت: إنك لتذكرين أمرًا ما وقع ببلدنا.» فقالت: «محمد بن عبد الله رسول من عند الله، بتنزيل الله، يدعو به إلى الله»، ثم قالت: «مصباحه مصباح، ودينه فلاح، وأمره نجاح، وقرنه نطاح، ذلت له البطاح، ما ينفع الصياح، لو وقع الذباح، وسلت الصفاح، ومدت الرماح.» قال عثمان: «فانطلقت مفكرًا فلقيني أبو بكر فأخبرته»، فقال: «ويحك يا عثمان، إنك لرجل حازم، ما يخفى عليك الحق من الباطل، ما هذه الأصنام التي يعبدها قومك، أليست من حجارة صم لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع.» قلت: «بلى، والله إنها لكذلك.» فقال: «والله لقد صدقتك خالتك، هذا رسول الله محمد بن عبد الله، قد بعثه الله إلى خلقه برسالته، هل لك أن تأتيه؟» فاجتمعنا برسول الله. فقال: «يا عثمان، أجب الله إلى حقه، فإني رسول الله إليك وإلى خلقه»، قال: فوالله ما تمالكت نفسي منذ سمعت رسول الله أن أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم لم ألبث أن تزوجت رقية ابنة رسول الله ، فكان يقال:

أحسن زوج رآه إنسان
رقية وزوجها عثمان

هذه روايات قيلت في إسلام عثمان، لك أن تأخذ منها ما تشاء وأن تدع ما تشاء. ولك أن تقول إن رواية ابن كثير موضوع أكثرها، فلم يكن أمر محمد قد فشا إلى يومئذ في قريش، وكانت دعوته لا يزال الناس يتحدثون عنها على استحياء. ولست أدري أكان لتعلق عثمان برقية أثر في إسلامه. فلم تكن هي قد بلغت العشرين، حتى ولو أنها كانت كبرى ما أعقب رسول الله، وكان عثمان يومئذ يقارب الأربعين. وكان قد تزوج غيرها في جاهليته فكان يكنى أبا عمر، فلما ولد له من رقية غلام سماه عبد الله واكتنى به، وبقيت له هذه الكنية رغم أن الغلام مات طفلًا في السادسة من عمره. ولعل ابن كثير ساق هذه الرواية عن الحافظ ابن عساكر عمن أخذها الحافظ عنهم؛ لأنها تتفق وما عرف من رقة عثمان وتملك العاطفة قلبه. وهذا المعنى هو ما دعانا إلى إثباتها هنا، وإن كُنا في ريب منها حتى لنرجح أنها وضعت من بعد لسبب من الأسباب.

أسلم عثمان وتزوج رقية بنت رسول الله وأقام معها بمكة يزاول تجارته، ويشارك إخوانه السابقين إلى الإسلام في الأخذ بما ينزل الوحي به وما يلقي محمد عليهم من تعاليمه. وبدأ الإسلام ينتشر فبدأت قريش تناوئ المسلمين وتصيبهم بالأذى. وظلوا كذلك سنوات حسومًا. فلما ضاقوا به ذرعًا أمرهم رسول الله أن يتفرقوا في الأرض فرارًا إلى الله بدينهم، ونصح إليهم أن يذهبوا إلى أرض الحبشة. وكان أول الذين ذهبوا إليها أحد عشر مسلمًا رجالًا ونساء، وكان عثمان وزوجته رقية أسبق هؤلاء إلى الهجرة.

ما هو السبب في إسراع عثمان إلى الهجرة وفي أخذه زوجه معه؟ وما باله لم يبق بمكة كما بقي بها من السابقين إلى الإسلام من آثروا المقام إلى جانب رسول الله يمنعونه، ولا يضيقون صدرًا بالأذى في سبيل الله؟ أفكان ذلك طلبًا منه للسلامة وإيثارًا للعافية؟ أم أنه، وكان يمقت القسوة، لم يطق أن يرى غيره من المسلمين يقاسي العذاب ألوانًا؟ أو ترى بني أمية كانوا أشد بالذين أسلموا من بني قومهم بطشًا، فكان عثمان الأموي وصهر رسول الله أشد تعرضًا للمكروه؟ قد يكون بعض هذه الأسباب أو كلها مما أسرع به إلى الهجرة. ولعله أسرع إلى الهجرة مخافة أن تصاب زوجه رقية بسوء ولا يستطيع منعها من قومه فيكون ذلك له عار الأبد. وهذا الدافع الأخير كان قوي الأثر في نفس عثمان. روي أن امرأة مسلمة قدمت من أرض الحبشة فسألها رسول الله عن رقية وعلى أي حال رأتها، فكان جوابها: «رأيتها وقد حملها على حمار من هذه الدواب وقد رأيته يسوقها.» فتأثر رسول الله لما سمع فقال: «صحبها الله إن كان عثمان لأول من هاجر إلى الله بعد الوحي.»

أيًّا ما يكون دافع عثمان للإسراع إلى الهجرة، فقد ذهب مع ابنة رسول الله إلى الحبشة وبقي بها الهجرتين جميعًا، ثم هاجر بعد ذلك من مكة إلى المدينة. فلما خط رسول الله دور المهاجرين من قريش إلى يثرب كانت دار عثمان في مواجهة دار الرسول، وكان باب عثمان في مواجهة بابه.

أقام عثمان بالمدينة ينعم بعطف النبي وبما ييسره له ثراؤه من خفض العيش ولينه. واتخذه رسول الله أمين سره فكان يكتب الوحي أحيانًا. على أن رسول الله لم يشركه في غزوة من الغزوات التي سبقت بدرًا. فلما خرج رسول الله على رأس المسلمين يلقى قريشًا ببدر كانت رقية ابنته مريضة اشتد بها المرض، فأذن لعثمان في التخلف لتمريضها. ولم يغن عنها التمريض فماتت ودفنت يوم جاء البشير بانتصار المسلمين. وقسم رسول الله فيء بدر فجعل لعثمان سهمًا فيه كسهم من شهدها؛ ولذلك اعتبر عثمان من البدريين.

حزن عثمان لموت رقية أشد الحزن. وعرف له رسول الله حسن عشرته أهله، فزوجه من أختها أم كلثوم. وماتت أم كلثوم في حياة أبيها فحزن عثمان لموتها فكان مما واساه بها رسول الله قوله: «لو أن لنا ثالثة لزوجناك.» وزواج عثمان من رقية وأم كلثوم هو الذي جعل المسلمين يلقبونه من بعد «ذا النورين».

أفكان لعثمان زوجات شاركن رقية ثم شاركن أم كلثوم فراشه؟ أم أنه لم يشرك مع أيهن زوجًا غيرها؟ يتعذر القطع في هذا الأمر أو إثباته، وإن أمكن القول: بأنه تزوج امرأة أو أكثر قبل رقية، ثم تزوج غير واحدة بعد أم كلثوم. وقد تزوج في جاهليته وإسلامه غير رقية وأم كلثوم من فاخته ابنة غزوان بن جابر، وأم عمرو بنت جندب بن عمرو من الأزد، وفاطمة ابنة الوليد بن عبد شمس بن المغيرة، وأم البنين بنت عيينة بن حصن الفزاري، ورملة ابنة شيبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، ونائلة بنة الفرافصة بن الأحوص وهي التي حضرت مقتله. وقد أعقب من هاتيك النسوة جميعًا بنين وبنات يزيدون على الخمسة عشر.

تخلف عثمان عن غزوة بدر يُمرض رقية. فلما استدار العام وكانت غزوة أحد شهدها مع سائر المسلمين. ثم كان موقفه وموقف أمثاله بها مما عفى الله عنه بعد أخذهم به. ذلك أن المسلمين انتصروا صبح ذلك اليوم، ثم دارت الدائرة عليهم فأذاعت قريش أن محمدًا قتل. وفتَّ هذا النبأ في أعضاد المسلمين ففر منهم من فر؛ وكان عثمان في هؤلاء. وعرف المسلمون بعد قليل أن النبي حي، فعاد أكثرهم إليه ودافعوا المشركين عنه. ولم يكن عثمان في هؤلاء وعير بعضهم عثمان بذلك في خلافته فكان جوابه: كيف يعيرني بذلك وقد عفى الله عني فقال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ.١

وبعد أحد شهد عثمان الخندق وخيبر وفتح مكة وغزوات حنين والطائف وتبوك فكان شأنه فيها جميعًا شأن رجل من المسلمين ليس في مقدمتهم ولا في مؤخرتهم. ذلك بأنه لم يكن من أبطال الحرب أمثال حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد ابن أبي وقاص وخالد بن الوليد ممن تثير حمية القتال نفوسهم وتدفعهم بين الصفوف في الوطيس يواجهون الموت ولا يهابونه، بل كان رجلًا ساكن النفس يسير حين الحرب في صفوف الجماعة لا يتقدمها ولا يستأخر عنها.

وتستطيع أن تقول إن عثمان كان يحب المسالمة ما وجد إليها الوسيلة. وإنما كان إيمانه هو الذي يدعوه للخروج مع رسول الله في غزواته. يشهد بذلك موقفه من قريش أيام الحديبية. فقد سار رسول الله على رأس ثلاثمائة من المسلمين في السنة السادسة من الهجرة يريدون العمرة بمكة آمنين غير مقاتلين. وعلمت قريش بمسيرهم فأقسمت ألا يدخل محمد وأصحابه عليهم مكة عنوة. ورأى محمد فرسان مكة تبدو بظاهرها، فنزل بأصحابه الحديبية يريد السلم ويريد حج البيت وإعظام حرمته. وأراد رسول الله أن يبعث إلى قريش سفيرًا عمر بن الخطاب، فاعتذر عمر بما تعرفه قريش من عداوته لها وغلظته عليها وأنه يخشاها على نفسه، واقترح أن يذهب عثمان بن عفان في هذه السفارة فهو أعز بمكة منه. وذهب عثمان فأجاره عثمان بن سعيد ثم حاول أن يقنع قريشًا لتخلي بين محمد والبيت الحرام، فلم ترض قريش أن يدخل المسلمون مكة هذا العام عنوة. وطال احتيال عثمان بمكة يحاول أن يجد الوسيلة لبقاء السلم بين قريش والمسلمين. وظن المسلمون أن قريشًا قتلت سفيرهم غدرًا في الشهر الحرام فتولاهم القلق. وتولى رسول الله على عثمان من القلق أكثر مما تولى أصحابه فقال: «لا نبرح حتى نناجز القوم»، ودعا أصحابه إليه فبايعوه بيعة الرضوان أن يقاتلوا قريشًا وألا يفروا حتى الموت. فلما تمت بيعتهم ضرب رسول الله بإحدى يديه على الأخرى بيعة لعثمان كأنه حاضر معهم. وإن القوم ليأخذون الأهبة للقتال إذ عرفوا أن عثمان لم يقتل، وإذ أقبل عليهم عثمان يبلغ رسول الله ما دار بينه وبين قريش. وتبين رسول الله أن قريشًا اقتنعت بأنه. جاء معتمرًا وأنها لا تريد القتال ولكنها تخشى على هيبتها بين العرب أن تضيع إذا دخل المسلمون مكة هذا العام عنوة، فاتخذ — عليه السلام — محادثات عثمان أساسًا لمفاوضات مع رسل قريش انتهت إلى عهد الحديبية، وبه رضي الفريقان أن يرجع محمد وأصحابه عن مكة عامهم هذا، وأن يعودوا إليها في العام الذي يليه فيقيمون بها ثلاثة أيام يحجون البيت ويعظمون حرمته.

وكان عثمان إلى حبه المسالمة سخيًّا بماله فيما يصلح المسلمين. لما أزمع رسول الله الخروج لغزو الروم بتبوك وجهز جيش العسرة شارك عثمان في هذا الجهاز بثلاثمائة بعير كاملة العدة، وبألف دينار وضعها في حجر رسول الله يعين بها على تجهيز الغزاة. ورأى رسول الله ما صنع عثمان، فقال: «ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم»، وكررها مرتين. وكان ليهودي بالمدينة بئر يبيع المسلمين ماءها بما يبهظهم، فقال رسول الله يومًا لأصحابه: «من يشتري بئر رومة فيجعلها للمسلمين يضرب بدلوه في دلائهم وله بها شرب في الجنة.» فأتى عثمان اليهودي فساومه فيها فأبى أن يبيعها كلها فاشترى منه نصفها باثني عشر ألف درهم، واتفق مع اليهودي على أن يكون له يوم ولعثمان يوم. وجعل المسلمون يسقون في يوم عثمان ليومين. وذهب اليهودي إلى عثمان فقال له: «أفسدت على بئري فاشتر النصف الآخر.» فاشتراه للمسلمين بثمانية آلاف درهم، وجعل رشاءه فيها كرشاء رجل من المسلمين.

وكان عثمان شديد العطف على ذوي قرباه. وقد بالغ في هذا العطف مبالغة كان لها من بعد في حياته وفي حياة الدولة أبعد الأثر. ولم يكن هذا العطف من ضعف الشيخوخة بعد ولايته إمارة المؤمنين كما ظن بعضهم، بل كان بعض خلقه. لما فتح رسول الله مكة عفا عن قريش كافة إلا جماعة عينهم بأسمائهم ارتكبوا جرائم عظمى، فلم يكن لهم في العفو العام متسع. وهؤلاء أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة. وكان من هؤلاء عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخو عثمان للرضاعة. فقد كان أسلم وكان يكتب الوحي لرسول الله ثم ارتد مشركًا إلى قريش وزعم أنه كان يزيف ما يكتب من الوحي. وعرف ابن أبي سرح أمر رسول الله بقتله، ففر إلى عثمان فغيبه حتى اطمأن الناس بمكة ثم ذهب به إلى رسول الله فاستأمن له. يقول ابن هشام في السيرة: فزعموا أن رسول الله صمت طويلًا ثم قال: نعم. فلما انصرف عنه عثمان قال لمن حوله من أصحابه: لقد صمتُّ ليتقدم إليه بعضكم فيضرب عنقه. فقال رجل من الأنصار: هلا أومأت إليَّ يا رسول الله؟ قال: «إن النبي لا يقتل بالإشارة.» وقد كان هذا العطف من عثمان بعض ما أوخذ به من بعد.

تشهد شفاعة عثمان للعفو عن عبد الله بن سعد بشدة عطفه على ذوي قرابته، وهي تشهد كذلك بما كان لعثمان عند رسول الله من مكانة جعلته، وهو يود لو يقوم من أصحابه من يقتل ابن سعد، ينتهي مع ذلك إلى العفو عند إرضاءً لعثمان؛ ولعله فعل لأنه رأى، وهو يعرف من حياء عثمان ما يعرف، أن ابن عفان ما كان ليتغلب على حيائه، ولم يبلغ من حرصه على الإبقاء على ابن سعد أن يتحدث في ذلك إلى رسول الله بمحضر من هؤلاء الذين كانوا بمجلسه؛ لذلك أشفق إن هو رفض رجاء عثمان فيوجع قلبه، أو أن يجعل لبني أمية ما يعيرونه به.

وهذه المكانة هي التي جعلت رسول الله يستخلف عثمان على المدينة في غزوته إلى ذات الرقاع، ثم يستخلفه عليها في غزوته إلى غطفان.

على أن ما كان لعثمان من هذه المكانة في قلب رسول الله لم يجعل له من الرأي في سياسة النظام الناشيء ما كان لأبي بكر وعمر. فأبو بكر وعمر كانا وزيري رسول الله وصاحبي مشورته، فكانا إذا اتفقا في أمر لم يخالفهما فيه أبدًا. ولم يكن لعثمان من الرأي في الحرب ما كان لسعد بن أبي وقاص أو الزبير بن العوام. وإنما كان عثمان رجلًا ورعًا شديد الإيمان، منصرفًا إلى العبادة وتلاوة القرآن، وكان كريمًا سخي اليد، فكان له بذلك كله عند رسول الله منزلة زاد فيها إحسانه معاشرة زوجتيه رقية وأم كلثوم.

وكان شأن عثمان في عهد أبي بكر كشأنه مع رسول الله. كان منصرفًا إلى تجارته، وكان يدع لخليفة رسول الله من حرية التصرف في شئون الدولة ما توجبه التبعة الملقاة على عاتقه أمام الله وأمام المسلمين. لما عزم الصديق غزو الشام بعد غزو العراق دعا إليه جلة المهاجرين والأنصار يشيرون عليه. أما عمر فشجعه على المضي فيما يريد وكان مما قاله: سرِّب إليهم الخيل في إثر الخيل وبعث الرجال والجنود تتبعها الجنود. وأما عبد الرحمن بن عوف فدعا إلى الحيطة والحذر، وكان مما قاله: «والله ما أرى أن تقحم الخيل عليهم إقحامًا، ولكن تبعث الخيل فتغير في أداني أرضهم، ثم تبعثها تغير فترجع إليك، ثم تبعثها فتغير ثم ترجع إليك. فإذا قبلوا ذلك مرارًا اضرب بعددهم حتى تبلغ من أداني أرضهم قعودًا فتقوى بذلك على قتالهم.» وسكت الناس بعد الذي سمعوا من ابن عوف فسألهم أبو بكر: ماذا ترون وحكم الله؟ وبعد هنيهة قال عثمان: «أرى أنك ناصر لأهل هذا الدين شفيق عليهم، فإن رأيت رأيًا لهم فيه رشد وصلاح وخير فاعزم على إمضائه، فإنك غير ضنين، ولا متَّهم عليهم.» وسارع الحاضرون حين سمعوا قول عثمان فأقروا رأيه، وألقوا التبعة كلها على الخليفة.

وكان عثمان ممن أحسنوا الشهادة في عمر حين أراد أبو بكر أن يستخلفه، وأن يجمع كلمة المسلمين عليه. فقد كان كثيرون ممن استشارهم الصديق مشفقين من غلظة عمر وشدته. أما عثمان فأجاب الصديق حين سأله عن عمر: «اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأن ليس فينا مثله.» فلما بويع عمر أقام عثمان بالمدينة يباشر تجارته ويشير على أمير المؤمنين مع المشيرين عليه. ولكنه خالف عمر غير مرة. لما طلب أهالي بيت المقدس الصلح على أن يحضر عمر بنفسه إلى مدينتهم كان رأي عثمان ألا يفعل. قال مخاطبًا أمير المؤمنين: «فأنت إن أقمت ولم تسر إليهم رأوا أنك بأمرهم مستخف، ولقتالهم مستعد، فلم يلبثوا إلى السير حتى ينزلوا على الصغار ويعطوا الجزية.» وخالفه علي بن أبي طالب، وأشار على عمر بالسير إلى بيت المقدس، فقد أصاب المسلمين جهد عظيم من استمرار الحرب والقتال وطول المقام. وآثر عمر رأي علي وأخذ به واستخلفه على المدينة وسار والناس معه فعقد صلح بيت المقدس.

وكان عثمان على رأس المعارضين في فتح مصر والذين يخالفون ابن العاص عن رأيه في ذلك ويعترضونه. وبلغ من شدة ابن عفان في هذه المعارضة أن قال لعمر: يا أمير المؤمنين إن عمرًا لمجرأ وإن فيه حبًّا للإمارة، فأخشى أن يخرج من غير نفر ولا جماعة فيعرض المسلمين للهلك رجاء فرصة لا يدري تكون أم لا! وقد حشد عثمان لمعارضة ابن العاص في فتح مصر قوة من الرأي العام بالمدينة حسب عمر حسابها رغم اقتناعه برأي ابن العاص ومشاركته إياه فيه؛ لذلك لم يواجه عثمان والذين عارضوا معه، بل تحايل على معارضتهم بأن ترك لعمرو فرصة الدخول إلى مصر وقتال الروم فيها، واستنقاذها من أيديهم خالصة للمسلمين. هاتان مسألتان من كبريات المسائل التي وجهت تاريخ الإسلام، والتي خالف فيها رأي عثمان.

على أن عمر وعثمان كانا أقرب إلى الاتفاق في أكثر الأمور، كما أن عثمان لم يكن أكثر من غيره من كبار الصحابة مخالفة لرأي عمر أو اتفاقًا معه. وقد رأيت كثيرين عارضوا فتح مصر كما عارضه عثمان. والذين أيدوا عثمان في هذه المعارضة خالفوه في مواقف أخرى؛ ذلك بأن هؤلاء الذين صحبوا رسول الله كانوا جميعًا يبتغون بالرأي مصلحة الإسلام والمسلمين. مخلصين يريدون وجه الله، يرجون رضاه ويخشون غضبه.

وكانوا يؤمنون بأن التمسك بالحق ما اقتنع المرء به أول واجب على من حسن إسلامه، وأن الرجوع إلى الحق متى بدا وجهه لا يصح أن يصد عنه تعصب أو غرور. فإذا أصر المرء على باطل بعد اقتناعه ببطلانه أتى منكرًا يلعن الله صاحبه وينزل به غضبه. وكيف لمؤمن بالحق أن يحيد عن الحق أو أن يكتمه، فمن كتم الحق أو سكت عنه فهو شيطان أخرس.

كان عثمان عزيزًا على عمر حبيبًا له طول خلافته. فما طعن عمر عين الشورى ثم بايع الناس عثمان. قيل إنه لما تمت بيعته صعد المنبر يخطب الناس فأرتج عليه، فقال: «أيها الناس. إن أول مركب صعب، وإن بعد اليوم أيامًا، فإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها. وما كنا خطباء وسيعلمنا الله.» وقيل: بل خطب عثمان الناس حين تمت بيعته، فقال: «أيها الناس إنكم في دار قلقة وفي بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه. فلقد أتيتم، صبحتم أو مسيتم، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور فلا يغرنكم بالله الغرور. اعتبروا بمن مضى، ثم جدوا ولا تغفلوا. أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين أثاروها وعمروها وتمتعوا بها طويلًا. ألم تلفظهم؟ أرموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة فإن الله قد ضرب لها مثلًا بالذي هو خير، فقال — عز وجل: وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا٢

يثبت ابن كثير هذه الخطبة ويفند قول الذين قالوا: إن عثمان أرتج عليه، ويرى أن ما ذكروه لا سند له. وابن كثير مبالغ في هذا القول. فقد أثبت ابن سعد في الطبقات مقال عثمان حين أرتج عليه وذكر سنده. وأنا أشد ميلًا لترجيح رواية ابن سعد وللشك في هذه الخطبة المنبرية التي أثبتها ابن كثير والطبري وغيرهما. فطبيعي أن يشغل عثمان بما كان أيام الشورى عن تهيئة خطاب يلقيه على الناس إثر بيعته. وطبيعي أن يقول لهم: إن بعد اليوم أيامًا، وإن الخطبة ستأتيهم من بعد على وجهها. وقد أثبت الطبري وابن كثير أن أول تصرف كان لعثمان بعد بيعته أنه زاد في عطاء الناس على ما كان عليه أيام عمر. فكيف تتفق زيادة العطاء وخطبته كلها تزهيد في الدنيا وترغيب عن المتاع بها!

أيًّا ما يكون الأمر فالخطبتان لا تصف أيهما ما كان يدور بخاطر عثمان من سياسة الغد. وأكبر الظن أنه لم يكن بعد قد رسم سياسة واضحة الحدود كما فعل أبو بكر حين عزم قتال أهل الردة، وكما فعل عمر حين أمر برد السبي من العرب إلى عشائرهم، وحين أمر بإجلاء نصارى نجران عن ديارهم، وحين انتدب الناس للذهاب إلى العراق مددًا للمثنى. ولعل ما كان بين عمر وعثمان من اختلاف في المزاج بين الشدة واللين هو الذي استأنى عثمان فلم يرسم هذه السياسة.

على أن أمرًا واجهه أول ما بويع لم يكن له بد من الفصل فيه. وذلك أمر عبيد الله بن عمر بن الخطاب. فقد اقتنع عبيد الله بأن مقتل أبيه لم يكن جريمة فردية ارتكبها أبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بن شعبة من تلقاء نفسه، بل كان نتيجة لمؤامرة اشترك فيها الهرمزان الفارسي وجفينة أحد نصارى الحيرة. وكان اقتناعه بذلك عن بينة. فقد شهد عبد الرحمن بن عوف أنه رأى السكين التي طعن بها عمر مع الهرمزان وجفينة عشية الحادث الذي روع المسلمين، وشهد عبد الرحمن بن أبي بكر، قال: «قد مررت على أبي لؤلؤة قاتل عمر ومعه الهرمزان وجفينة وهم نجيٌّ فلما بغتهم ثاروا، فسقط من بينهم خنجر له رأسان ونصاب في وسطه، فانظروا ما الخنجر الذي قتل به عمر.» ونظر الناس فوجوده الخنجر الذي وصف عبد الرحمن بن أبي بكر. عند ذلك ثار ثائر عبيد الله فتقلد سيفه، ثم بدأ بالهرمزان وجفينة فقتلهما، وانطلق إلى دار فيروز فقتل ابنة له صغيرة تدَّعي الإسلام.

حدث هذا قبل أن يبايع عثمان وثار له الناس، وتوعدوا عبيد الله وحبسوه. فلما بويع عثمان لم يكن له من القضاء في أمر عبيد الله بد. يذكر الطبري رواية عن شعيب عن سيف عن أبي منصور أنه قال: «سمعت القماذيان يحدث عن قتل أبيه — الهرمزان — قال: كانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض، فمر فيروز بأبي ومعه خنجر له رأسان فتناوله منه، وقال: ما تصنع بهذا في هذه البلاد؟ فقال: أبس به، فرآه رجل؛ فلما أصيب عمر قال: رأيت هذا الخنجر مع الهرمزان دفعه إلى فيروز، فأقبل عبيد الله فقتله؛ فلما ولى عثمان دعاني فأمكنني منه — أي: من عبيد الله بن عمر — ثم قال: يا بني هذا قاتل أبيك وأنت أولى به منا فاذهب فاقتله؛ فخرجت به وما في الأرض أحد إلا معي إلا أنهم يطلبون إلي فيه. فقلت لهم: ألي قتله؟ قالوا: نعم. وسبوا عبيد الله. فقلت: أفلكم أن تمنعوه؟ قالوا: لا، وسبوه. فتركته لله ولهم، فاحتملوني، فوالله ما بلغت المنزل إلا على رءوس الرجال وأكفهم.»

هذه رواية الطبري. وهي تجعل العفو عن عبيد الله من عمل القماذيان بن الهرمزان. وهذا قول يخالف المشهور، فأكثر الرواة يذكرون أن عثمان جلس بعد بيعته إلى جانب المسجد، فجيء بعبيد الله بن عمر من محبسه ليحاكمه، فلما مثل بين يديه قال عثمان للحاضرين: «أشيروا علي في هذا الذي قتل في الإسلام ما قتل.» وأجابه علي بن أبي طالب: «ما من العدل تركه، وأرى أن تقتله.»

فاعترض أحد حضور المجلس رأي علي بقوله: «قتل عمر أمس ويقتل ابنه اليوم؟!» ووجم الحاضرون حين سمعوا هذا الاعتراض، وأمسك علي عن القول. ولعله أمسك مخافة أن يتهم بأنه يريد أن يثير على عثمان يوم بيعته. وأجال عثمان بصره فيمن حوله يلتمس عندهم الرأي، ويود لو وجد أحدهم من قتل عبيد الله مخرجًا. قال عمرو بن العاص: «إن الله قد أعفاك من هذا الحدث، وقد كان وليس لك على المسلمين سلطان. تلك قضية لم تكن في أيامك، فدعها عنك.» ولم يقنع هذا الرأي عثمان فقال: «أنا وليهم — يريد ولي الذين قتلوا — وقد جعلتها دية واحتملتها في مالي.»

كان هذا الرأي من عثمان عين الحكمة. فهو لم يعف عبيد من جريرة جريمته. وهو لم يأمر بتحقيق؛ لأنه إذا أثبت مؤامرة الهرمزان وجفينة وفيروز أثار ثائرة الفرس والنصارى، ثم لم يبرئ عبيد الله من قتل ابنة أبي لؤلؤة عمدًا في غير إثم وبغير حق. وقد استراح الناس جميعًا لصنيع عثمان إلا جماعة دفعتهم الحمية للتعريض به ونقده. من هؤلاء زياد بن عبيد البياض الذي انطلق يقول الشعر يسيء به إلى عبيد الله وينقد به حكم عثمان. وقد جاء به عثمان وأمره أن يكف عن هذا التعريض فكف. بذلك نامت فتنة لم يكن من الخير أن تستيقظ، وانصرف المسلمون في أرجاء الإمبراطورية إلى مألوف حياتهم قبل مقتل عمر.

فرغ عثمان من أمر عبيد الله بن عمر ثم جعل يفكر في السياسة التي يسير عليها. إنه يعلم أن بني هاشم لم يستريحوا لبيعته، وأن جمهور الناس يرجون خطة غير ما أخذهم به عمر من بطش وشدة، ويطمعون في حياة أكثر لينًا مما ألفوا إلى يومئذ. وهو يعلم أن الجند هم عماد النظام وحماة الإسلام والمدافعون عن الإمبراطورية. فإذا استطاع أن يتألف الجمهور والجند جميعًا استبشروا الناس بعهده واطمأنوا له، هذا على أن يستقر في نفوسهم أنه ليس أقل من عمر حرصًا على الدفاع عن الدولة وما فتحت، وعلى إقامة العدل بين الناس عدلًا يزيدهم أمنًا على أنفسهم وأموالهم، وطمأنينة إلى غدهم. وهو يعلم أن الولاة في البلاد المفتوحة هم أعوانه الأولون، فإذا أنسوا إليه حفظوا النظام وبثوا السكينة في قلوب الناس في أقطار الأرض. فكيف يبلغ هذا كله في رفق ولين يتفقان مع طبعه، ثم لا يشوبهما ضعف يشوه جمالهما، أو يدعو الذين لم يستريحوا إلى بيعته إلى تمرد أو خروج.

تتفق الروايات على أن أول ما صنع عثمان أن زاد في عطاء الناس عما كان في عهد عمر. زاد في عطاء كل واحد من جند المسلمين مائة درهم على ما فرضه عمر لهم، وكان عمر قد جعل لكل مسلم في كل ليلة من رمضان درهمًا من بيت المال يفطر عليه، ولأمهات المؤمنين درهمين، فأقر عثمان ذلك وزاده، ثم إنه اتخذ في المسجد سماطًا للمتعبدين والمعتكفين وأبناء السبيل والفقراء والمساكين. بذلك استبشر الجند واسبتشر الناس ورأوا فيه فألًا حسنًا بمستقبل يكونون فيه أطيب حياة وألين عيشًا، وليس لأحد أن يؤاخذ به عثمان والأموال تتدفق على المدينة من أرجاء الإمبراطورية، فلا تضيق بما وسع أمير المؤمنين على المسلمين.

وليطمئن الناس إلى أن ما ألفوا من عدل في عهد عمر لن يعبث به عابث كتب عثمان إلى عماله: «أما بعد فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جباة. وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة ولم يخلقوا جباة. وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة. فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء. ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين وفيما عليهم فتعطوهم ما لهم وتأخذوهم بما عليهم، ثم تثنُّوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم وتأخذوهم بالذي عليهم، ثم العدو الذي تنتابون فاستفتحوا عليهم بالوفاء.»

هذا كتاب صور به عثمان سياسته في الرعية وما يجب على عماله أن يأخذوها به. وهي سياسة كلها السداد والحكمة. فهو يأمر هؤلاء العمال أن يرعوا الناس بالرفق وألا يرهقوهم جباية واستغلالًا، وأن يأخذوا من المسلم ومن الذمي ما عليه، وأن يعطوا المسلم والذمي ماله عدلًا بغير بغي، وأن يفوا بما يقطعونه للعدو من عهد حتى تذهب حميته فلا يثير الناس بالمسلمين. تلك أعدل السير في نظر عثمان. إليها يطمئن الجميع فيسود الأمن ويستتب النظام، وتستقر الأمور في نصاب، لا يدع لشاكٍ أن يشكو ظلمًا أو هضمًا.

كان لعمال الخراج من الاستقلال عن الولاة ما خشي عثمان معه أن يظلموا الناس فيبهظوهم بما لا يجب عليهم أداؤه، أو أن يستغلوا مناصبهم لفائدتهم وفائدة ذويهم فيثيروا النفوس ويسيئوا إلى نزاهة الحكم؛ لذلك كتب إلى عمال الخراج يقول: «أما بعد فإن الله خلق الخلق بالحق فلا يقبل إلا الحق. خذوا الحق وأعطوا الحق به. والأمانة الأمانة، قوموا عليها ولا تكونوا أول من يسلبها فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم، والوفاء الوفاء لا تظلموا اليتيم ولا المعاهد، فإن الله خصم لمن ظلمهم.»

لم يرد عثمان أن يفهم الناس من كتبه إلا الولاة وإلى عمال الخراج أنه أعفى العامة من الواجبات الملقاة عليهم، أو أنه حين زاد في عطائهم يدعوهم إلى التمرغ في متاع الدنيا ورفه العيش؛ لذلك أذاع فيهم كتابًا، قال فيه: «أما بعد، فإنكم إنما بلغتم ما بلغتم بالاقتداء والاتباع؛ فلا تلفتنكم الدنيا عن أمركم، فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم: تكامل النعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن. وقد قال رسول الله: الكفر في العجمة، فإذا استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا.»

وهذه الكتب الثلاثة إلى الولاة وإلى عمال الخراج وإلى العامة تصف مجملًا من سياسة عثمان في إدارة الشئون الداخلية لبلاد الدولة كلها. ولكن عثمان لم يكن ليغيب عنه أن الإمبراطورية الناشئة لما تستقر إلى حال من الطمأنينة يستريح الخليفة إليه، وأن الفرس والروم لن تهدأ نفوسهم بعد الذي أصابهم في عهد عمر، وأنهم لا بد ينتهزون أول فرصة للثورة بالمسلمين حيثما وجدوا في الحكم العربي ضعفًا عن مقاومتهم. ولم يكن هذا الأمر ليغيب على من كان أقل من عثمان بصرًا بالأمور، واحتياطًا لما قد يحدث. كتب عثمان إلى أمراء الأجناد في مختلف بلاد الدولة من غرب مصر إلى شرق فارس يقول: «أما بعد، فإنكم حماة المسلمين وذادتهم، ولقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا، بل كان عن ملأ منا، ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغير الله ما بكم ويستبدل بكم غيركم، فانظروا كيف تكونون، فإني أنظر فيما ألزمني الله النظر فيه والقيام عليه.»

هذه هي السياسة التي رسمها عثمان وأذاعها في الأمصار أول ما بويع، وتستطيع أن تضيف إليها أنه أقر الولاة في ولاياتهم، لم يعزل أحدًا منهم، ولم ينقل أحدًا إلى غير ولايته التي كان فيها حين استشهد عمر. أقر نافع بن عبد الحارث الخزاعي على مكة، وسفيان بن عبد الله الثقفي على الطائف، ويعلى بن منية على صنعاء، وعثمان بن أبي العاص الثقفي على البحرين وما والاها، والمغيرة بن شعبة على الكوفة، وأبا موسى الأشعري على البصرة، ومعاوية بن أبي سفيان على دمشق، وعمير بن سعد على حمص، وعمرو بن العاص على مصر، كما أقر عبد الله بن أبي ربيعة على الجند.٣

وليس في هذه السياسة؛ كما ترى، جديد يقف النظر أو يدعو إلى إعمال الرأي كما كان في سياسة عمر حين رفع الحظر عن أهل الردة، وحين أمر برد السبي من العرب إلى عشائرهم، وبإخراج نصارى نجران من ديارهم. ولعل حجة عثمان في نهج هذه السياسة كانت أنه عاهد عبد الرحمن بن عوف قبيل توليته على أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من قبله، وأنه لم يقل ما قاله علي بن أبي طالب أنه يعمل بمبلغ حكمته وطاقته؛ لذلك لم يفكر في جديد يضيفه إلى سياسة الخليفتين أبي بكر وعمر، مخافة أن يتهم بأنه ابتدع من عند نفسه وعمل بعلمه مخالفًا بذلك عهدًا قطعه وبايعه الناس عليه. أم أن عثمان كان لشدة حيائه كثير العطاء تألفًا للناس، ثم لم يتعرض في كتبه الأولى لرسم سياسة جديدة قد يضطر للرجوع عنها، فيكون رجوعه حجة يؤاخذه بها خصومه ويتخذونها عمادًا لدعاية ما أغناه عنها.

أيًّا ما يكنه الأمر لقد كان متعذرًا على عثمان وعلى غير عثمان في الموقف الذي بلغته الأمور حين مقتل عمر أن يتخذ خطة غير خطة الانتظار ومراقبة الأحوال، وما يمكن أن تتحول إليه. فقد كانت منازعات العرب الذين استوطنوا البصرة والكوفة متصلة، وكانت كل واحدة من المدينتين تسرع إلى مناوأة عامل الخليفة عليها، حتى اضطر عمر غير مرة إلى أن يولي عماله وأن يقول: «هات أمرًا أصلح به قومًا أن أبدلهم أميرًا مكان أمير.» وكان يزدجرد كسرى الفرس لا يزال مقيمًا في فرغانة عاصمة الترك بسمرقند ينتظر الفرصة للعود إلى بلاده ومناجزة المسلمين. وكان الروم قد اطمأنت أمورهم بعض الشيء بعاصمة قسطنطين، وكانوا يتهيئون للأخذ بالثأر وشن الغارة من جديد على الشام وعلى مصر. وكان العرب في شبه الجزيرة وخارج شبه الجزيرة قد أنسوا إلى ألوان من المتاع وافتنوا فيه، فلم يكن عجبًا أن يغريهم ذلك بطلب المزيد منه والتذمر إذا لم ينالوا ما يطلبون. لم يكن بد لمن ولي أمر دولة تلك حالها أن يطيل التفكير قبل أن يرسم خطة لسياستها. فإذا كان ولي الأمر في مثل حياء عثمان ولينه كان أشد حاجة للأناة وطول التفكير. وكان الأمر كذلك بخاصة؛ لأن عمر قتل والناس مطمئنون إلى أنه لا يزال له في العمر فسحة، لا يفكر أحد بذلك منهم في سياسة تخالف سياسته.

ولا يغيب عن الذاكرة مع هذا كله أن جند المسلمين في أرجاء مختلفة من أرض فارس وبرقة وجنوب مصر كانوا دائمي الأهبة لقتال العدو في قتال نظامي حينًا، وفيما يشبه حرب العصابات أحيانًا، فلم يكن لعثمان أن يغفل هذا الأمر، ولم يكن له بد من أن يعيره أعظم جانب من التفاته. ذلك أن الحوادث لم تطاوع عمر أن يقف بالفتح الإسلامي في حدود يعقد الصلح مع خصومه الفرس والروم على احترامها، فاضطر لمتابعة الفتح حتى قتل ولا يزال جنده متحصنًا بأطراف فارس وأطراف مصر. وما كان لخليفة أن يقيض عن ذلك أو تتعرض الإمبراطورية كلها للانتقاض من أطرافها. والاحتياط لهذا الأمر هو عبء جسيم واجهه الخليفة الثالث لأول ما بويع.

وكان الفرس والروم يعرفون من شئون العرب ما يجعلهم يزيدون في هذا العبء فداحة. فقد فكروا في الانتقاض لأول ما جاءتهم الأنباء بمقتل عمر وبيعة عثمان. فتمردت ولايات كانت أذعنت لسلطان العرب وصالحتهم، فنقضت صلحها ومنعت الجزية التي صالحت عليها، لم يكن للخليفة بد من رد هذه الولايات إلى حمى الطاعة، وأن يفرض عليها جزاء أقله ما صالحت عليه في عهد عمر مخافة أن تنقض غيرها من الولايات صلحها، وتعلن الثورة والعصيان. فإذا وقع ذلك تفاقمت الأمور وتعذرت ملافاتها.

•••

حدث أول انتقاض من هذا النوع في أذربيجان وأرمينية، ثم هاجم الروم الشام، ثم نقضت الإسكندرية عهدها واستعانت بالروم فأعانوها. أما وقد تتابعت هذه الأحداث وأمثالها فلا بد من قمعها والقضاء عليها في مهدها. وقد فعل عثمان، فأدى ما فعل إلى امتداد الفتح، وإلى اتخاذ المسلمين قواعد حربية لحماية الإمبراطورية، وإلى إنشائهم قوة بحرية إلى جانب قواتهم البرية. وسنوجز في الفصول التالية ما تم من ذلك كله، وما ترتب عليه في سياسة الدولة الخارجية؛ لنعود بعد ذلك إلى تفصيل سياسة الحكم الداخلي في عهد عثمان، وإلى ما انتهت إليه هذه السياسة من ثورة بالخليفة، ثم بالخلافة ليصبح الأمر بعد علي ملكًا عضودًا في بني أمية.

١  سورة آل عمران آية ١٥٥.
٢  سورة الكهف آية ٤٥.
٣  في رواية أن عثمان عزل المغيرة بن شعبة أول ما بويع، وأنه أقام سعد بن أبي وقاص مقامه. والرواية الأخرى أن عمر بن الخطاب أوصى الخليفة من بعده أن يقر عماله سنة، فأقر عثمان المغيرة سنة عزله بعدها وولى سعد بن أبي وقاص مكانه. وهذه الرواية أدنى من الأولى إلى الدقة، فإنها أكثر اتفاقًا مع خلق عثمان وسياسته أول عهده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤