الفصل الثالث

الفتح في عهد عثمان

امتدت الإمبراطورية الإسلامية في عهد عمر من أقصى فارس شرقًا إلى حدود برقة وطرابلس غربًا. ومن بحر قزوين في الشمال إلى بلاد النوبة في الجنوب. وقد آمن ما فتحه المسلمون من بلاد هذه الإمبراطورية بأن غزاتهم لا غالب لهم. مع ذلك كانت أسباب الانتقاض لا تفتأ الحين بعد الحين تحرك نفوس الناس من أهل هذه الأقاليم إلى الثورة بالمسلمين ونكث ما عاهدوهم عليه. ولم يكن ذلك عجبًا، والفاتحون يخالفونهم في الجنس واللغة والعقيدة، ثم لم يكن عجبًا وقد كان عرب الحيرة والغساسنة إلى سنوات معدودة قبل الفتح يخضعون لسلطان الفرس ونفوذ الروم.

ولم يكن عجبًا كذلك أن تحرك عوامل الفتنة نفوس الناس في البلاد المفتوحة، وذلك بحكم موقفهم من المسلمين وموقف المسلمين منهم. فلم تكن للمسلمين قوات مرابطة في هذه البلاد، بل كانوا يصالحون كل إقليم يفتحونه على جزية معينة يدفعها أهله لهم، ثم يتركون حكم الإقليم لأبنائه، وتنسحب قواتهم بعد ذلك عنه إلى المعسكرات العربية. وكانت أعظم هذه المعسكرات مركزة بالشام، في دمشق وفي حمص، كما كانت مركزة بالعراق في البصرة وفي الكوفة. أما في مصر فلم يكن للعرب مسلحة قوية إلا في حصن بابليون حيث تقع مصر القديمة اليوم؛ لهذا حدث غير مرة في عهد عمر نفسه أن انتقضت ولايات بعد إذعانها فمنعت الجزية وامتنعت من العرب بحصونها، فبعث إليها عمر من ردها إلى الطاعة وأعادها إلى الإذعان. لكنه لم يكن يترك من جنده بينها من يحفظ نظامها ويلزمها احترام عهدها؛ لأن انفساح الإمبراطورية السريع جعله في حاجة إلى تنقل هذه القوات من ميدان إلى ميدان. ثم إنه يخشى إن هو ترك قوات صغيرة في الأقاليم المفتوحة أن يثور الناس بها، وأن يتغلبوا عليها فيكون لذلك من سيئ الأثر في النفوس ما لا يحب. وهو إلى هذا قد كان قادرًا دائمًا أن يرد العصاة عن عصيانهم، وأن يُنزل بهم من العقاب ما يكون عبرة لغيرهم.

كانت ولاية أذربيجان وما والاها من ناحية الغرب آخر ما أخضعه المسلمون من ولايات فارس في عهد عمر. وتقع أذربيجان إلى الجنوب الغربي من بحر قزوين، وهي بلاد جبلية ترتفع أرضها فوق سطح البحر نحو خمسمائة متر وألف متر، وبها قمم يبلغ ارتفاعها أربعة آلاف من الأمتار. وكان بها معابد كثيرة للنار حين غزاها المسلمون. وقد أخضعها عتبة بن فرقد وصالح أهلها بإذن حذيفة بن اليمان، وأعطاهم كتابًا بالأمان على سهلهم وجبلهم وشعائرهم وأهل ملتهم، وعلى أنفسهم وأموالهم وعقائدهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم.

وامتد الفتح من أذربيجان إلى الباب وإلى موقان. فلما أخضعهما المسلمون تحول عبد الرحمن بن ربيعة عنهما يريد غزو الترك المجاورين لها فاعتصموا منه بالجبال. وإنه ليعد للسير إليهم حيث اعتصموا إذ جاءته الأنباء بمقتل عمر فترك الترك لم يتعقبهم، وأقام حيث كان ينتظر أوامر عثمان.

أفأصدر عثمان إليه أمرًا بمتابعة الغزو؟ لا تسعفنا روايات المؤرخين بما تطمئن له النفس. فقد اختلفوا في هذا الأمر كما اختلفوا في تاريخ الغزوات من بعد رسول الله. وأنت ترى في الكتاب الواحد من اختلاف الروايات ما تقف أمامه حائرًا؛ أي رواية تأخذ وأي رواية تدع. فقد قيل: إن أذربيجان منعت في عهد عثمان ما كانت صالحت عليه حذيفة من جزية قدرها ثمانمائة ألف درهم، وإن الوليد بن عقبة سار إليها فردَّها إلى الطاعة وفرض عليها جزية حذيفة. وذهاب الوليد بن عقبة يكاد يتفق عليه جميع المؤرخين. لكنهم يختلفون؛ أذهب إلى أذربيجان سنة أربع وعشرين للهجرة، أي: بعد بيعة عثمان بأشهر، أم ذهب إليها سنة خمس وعشرين، أم سنة ست وعشرين. ويرجع اختلاف الرواة إلى قولهم: إن الوليد إنما غزا أذربيجان بعد أن ولاه عثمان الكوفة، وهو قد تولاها بعد سعد بن أبي وقاص. والرواة يختلفون: أتولى سعد الكوفة توًّا بعد مقتل عمر، أم أقر عثمان المغيرة بن شعبة عليها سنة ثم ولاها سعدًا سنةً وأشهرًا، ثم تولاها الوليد بن عقبة من بعده. فإذا كان الوليد لم يذهب إلى أذربيجان إلا بعد ولايته الكوفة، فهو قد ذهب إليها سنة خمس وعشرين إن كان المغيرة بن شعبة قد عزل عن الكوفة إثر مقتل عمر، وسنة ست وعشرين إن كان سعد لم يتولها إلا بعد أن أقام المغيرة بن شعبة سنة على ولايتها.

على أن الطبري وابن الأثير، ومن جروا مجراهما يذكرون أن الوليد بن عقبة ذهب إلى أذربيجان سنة أربع وعشرين، أي: قبل ولايته الكوفة. وهذا ممكن، وأراني أميل إليه وإن كنت لا أقطع به. ويدعوني إلى هذا الميل أن أهل أذربيجان كانوا أقرب أهل فارس عهدًا بغزو المسلمين، وأنهم رأوهم رجعوا عن الغزو حين جاءهم النبأ بمقتل عمر، فأدخل ذلك في روعهم أن سياسة الخليفة الجديد تخالف سياسة سلفه. ولما لم يكونوا قد تعودوا من أداء الجزية ما تعوده الذين أدوها سنوات عدة في عهد عمر، فقد منعوا ما صالحوا عليه حذيفة بن اليمان. ولم يتردد عثمان حين عرف أمرهم أن بعث الوليد بن عقبة لغزوهم فغزاهم وردهم إلى الطاعة، وإلى أداء الجزية. ثم إن الوليد بعث عبد الله بن شبيل بن عوف الأحمسي إلى موقان، والبير، والطيلسان، وكلها تجاوز أذربيجان، فغزاها وسبى وغنم من أهلها، ورد إلى قلوبهم الإيمان ببأس المسلمين وعظيم سلطانهم.

تجاور أرمينية هذه البلاد التي تغلب عليها الوليد بن عقبة ومن سار تحت لوائه من الأمراء والجنود. وكانت أرمينية قبل خلافة عمر مستقلة في بعض العهود، مقسمة بين الفرس والروم في عهود أخرى. وكانت أفسح رقعة من أرمينية التي نعرفها اليوم. روى البلاذري أنها كانت مقسمة إلى أرمينية الأولى، وأرمينية الثانية، وأرمينية الثالثة، وأرمينية الرابعة. وذكر أسماء البلاد التي كانت واقعة في كل منها، وأنها كانت تمتد من شمشاط غربًا إلى تغلب، وإلى بلاد بحر الخزر شرقًا. فلما كانت خلافة عمر، وأجلى المسلمون هرقل عن الشام، واستولوا على أنطاكية وحمص وشمال الشام كله سار خالد بن الوليد في بلاد أرمينية، فغزا مرعش وشمشاط وما والاها من البلاد التي كانت في حكم الروم، وعاد منها إلى الشام بالغنائم والأسلاب من غير أن يصالح أهلها على أمان أو جزية. وعلى أثر عودته ولاه عمر إمارة قنسرين. فلما بعث الروم بعد ذلك بالجنود على السفن إلى أنطاكية فانتقضت، وانتقضت حمص وحلب وبلاد الشمال من أرض الشام، أجلب المسلمون بخيلهم ورجلهم على هذه البلاد، وحصروها وطردوا الروم منها، ثم تجاوزها عياض بن غنم، وخالد بن الوليد إلى أرمينية فساروا فيها حتى بلغ خالد آمد والرهاء. وكان خالد في مسيرته يفتح البلاد ويستفيء الغنائم ويلقي في القلوب الرعب. واجتمع له من الفيء شيء عظيم عاد به إلى قنسرين من غير أن يعقد هو أو يعقد عياض بن غنم صلحًا مع أهل أرمينية على أمان أو جزية. وكذلك ظلت أرمينية وليس للمسلمين فيها سلطان، وإن كانت قد ذاقت من بأسهم ما جعلها تتربص بهم الدوائر.

تُرى أوجد أهل أرمينية في ثورة أذربيجان، بعد قليل من بيعة عثمان، فرصة الثأر لأنفسهم من المسلمين فانضموا إلى ما جاورهم من أرض فارس وشجعوهم على الانتفاض، فقاتلهم المسلمون وأخضعوهم؟ أم ترى المسلمين حين أخضعوا أذربيجان وما والاها، فلم يقف في سبيلهم أحد اندفعوا في أرض أرمينية كذلك فأخضعوها لسلطانهم؟ أم تحرك الروم في أرمينية وأرادوا السير منها لغزو الشام فلم يكن بد من أن يواجههم المسلمون؟ الاتفاق بين المؤرخين قائم على أن المسلمين غزوا أرمينية وأخضعوها. على أن الروايات تختلف في المقدمات ثم تتفق في النتيجة. يقول الطبري ومن أخذ عنه: إن الوليد بن عقبة حين فرغ من إخضاع أذربيجان وموقان والطيلسان بعث سلمان بن ربيعة الباهلي، فسار في أرض أرمينية، فقتل وسبى وغنم وانصرف وقد ملأ يده حتى أتى الوليد، فانصرف الوليد ودخل الموصل فنزل الحُديثة. ويقول البلاذري:١ إن عثمان لما استخلف كتب إلى معاوية بن أبي سفيان يأمره أن يوجه حبيب بن مسلم الفهري إلى أرمينية، أو إن عثمان كتب إلى حبيب نفسه يأمره بغزو أرمينية، وإن حبيبًا نهض إليها في ستة آلاف، فقاتل أهل (قاليقلا) فطلبوا الأمان على الجلاء والجزية، وجلا كثير منهم فلحقوا ببلاد الروم. وبلغ حبيبًا بعد أشهر أن أهل أرمينية استعانوا بالروم، وجمعوا للمسلمين جمعًا عظيمًا فاستمد حبيب عثمان، فكتب عثمان إلى معاوية، فأمده بألفي رجل أسكنهم (قاليقلا)، وأقطعهم القطائع وجعلهم مرابطة بها.

هاتان روايتان مختلفتان في ظاهرهما، لكنك تستطيع التوفيق بينهما، فأرمينية كما ذكرنا كانت ممتدة في أرض فارس وفي أرض الروم، فلا عجب أن يكون سلمان بن ربيعة الباهلي قد سار بأمر الوليد بن عقبة في جانبها الفارسي، وأن يكون حبيب بن مسلم الفهري قد سار في جانبها الرومي، بأمر عثمان أو أمر معاوية. وهذا ما نرجحه. وهو لا يخالف سياق الوقائع من بعد وإن اختلف الرواة في تفصيل هذه الوقائع.

فقد ذكر الطبري أن الوليد بن عقبة حين دخل الموصل أتاه كتاب من عثمان يقول فيه: «أما بعد فإن معاوية بن أبي سفيان كتب إليَّ يخبرني أن الروم قد أجلبت على المسلمين بجموع عظيمة. وقد رأيت أن يمدهم إخوانهم من أهل الكوفة. فإذا أتاك كتابي هذا فابعث رجلًا ممن ترضى نجدته وبأسه وشجاعته وإسلامه في ثمانية آلاف أو تسعة آلاف أو عشرة آلاف من المكان الذي يأتيك فيه رسولي والسلام.» فقام الوليد في الناس، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: «أما بعد فإن الله قد أبلى المسلمين في هذا الوجه بلاءً حسنًا، ورد عليهم بلادهم التي كفرت، وفتح بلادًا لم تكن افتتحت، وردهم سالمين غانمين مأجورين، فالحمد لله رب العالمين. وقد كتب إليَّ أمير المؤمنين يأمرني أن أندب منكم ما بين العشرة آلاف إلى الثمانية آلاف تمدون إخوانكم من أهل الشام، فإنهم قد جاشت عليهم الروم، وفي ذلك الأجر العظيم والفضل المبين. فانتدبوا رحمكم الله مع سلمان بن ربيعة الباهلي.» ولم تمض ثلاثة أيام حتى خرج ثمانية آلاف رجل من أهل الكوفة بإمرة سلمان بن ربيعة، فدخلوا مع أهل الشام إلى أرض الروم، وعلى جند أهل الشام حبيب بن مسلمة بن خالد الفهري، فشنوا الغارات معًا على أرض الروم، فأصابوا ما شاءوا من السبي وملئوا أيديهم من الغنم وافتتحوا حصونًا كثيرة.

هذه رواية الطبري. أما البلاذري فيذكر أن عثمان لم يكتف بالكتابة إلى معاوية حين استمده حبيب بن مسلمة الفهري، بل كتب كذلك إلى سعيد بن العاص الأموي فأمده بجيش من الكوفة عليه سلمان بن ربيعة الباهلي، وأن سلمان سار في ستة آلاف رجل مددًا للحبيب. لكن حبيبًا قاتل الروم قبل أن يبلغه سلمان وظفر بهم ظفرًا دل على حيلته وشجاعته. قالت له امرأته حين فكر في مهاجمتهم: «أين موعدك؟» قال: «سرادق الطاغية أو الجنَّة.» فلما انتهى إلى السرادق وجدها عنده. فلما بلغه سلمان وقد فرغ من عدوه أراد أهل الكوفة أن يكون لهم نصيب في الغنيمة، فأبى عليهم أهل الشام ما أرادوا، وتوعد بعضهم سلمان بالقتال فقال جندي من أهل الكوفة:

فإن تقتلوا سلمان نقتل حبيبكم
وإن ترحلوا نحو ابن عفان نرحل

وهذه الرواية التي يذكرها البلاذري ويؤيدها يرويها الطبري وينسبها للواقدي للتوهين منها؛ لأن فتوح الشام المنسوب للواقدي مملوء بالخرافات وموضع شبهة من المؤرخين. كذلك يذكر البلاذري رواية الطبري التي أثبتنا من قبلُ ثم يقول: إن الخبر الذي رواه هو أثبت، ويذكر أسانيده.

ومهما يكن من أمر هذا الاختلاف في التفاصيل، فالروايات كلها تنتهي إلى أن أذربيجان ثارت وأن أرمينية أرادت معاضدتها فأخضع المسلمون أذربيجان وما والاها وساروا في أرمينية من جانب فارس ومن جانب الروم فاستولوا عليها، وإلى أن الروم خُيل إليهم حين جاءتهم الأنباء بثورة أذربيجان وقيام أهل أرمينية أنهم قادرون على استرداد ما ضاع من هيبتهم ومن سلطانهم، فدحرهم المسلمون وردوهم على أعقابهم، وفتحوا من بلادهم ما لم يكونوا قد فتحوا من قبل. وقد حدث هذا كله في أول خلافة عثمان، فكان بالغ الأثر في رد السكينة إلى ربوع الشام وأقاليم فارس، وفي إعادة اليقين إلى أهل الأقاليم المفتوحة بأن مقتل عمر واستخلاف عثمان لم يوهن من بأس المسلمين ولم يضعف من شوكتهم.

يجب مع ذلك أن نقف وقفة قصيرة نذكر أثناءها ما حدث من خلاف على اقتسام الغنائم بين أهل الكوفة وأهل الشام، وما أدى إليه هذا الخلاف من تهديد هؤلاء وأولئك بعضهم لبعض. لقد حدث مثل هذا الخلاف في عهد عمر. لكنه لم يؤدِّ إلى أي تهديد. أفكانت هذه ظاهرة جديدة للعهد الجديد. أم كانت مظهرًا لشعور أصيل في نفس من استوطنوا العراق ومن استوطنوا الشام كان له من بعد أثره؟ لا نريد أن نسبق الحوادث بجواب على أي من هذين السؤالين. فما حدث من بعد في عهد عثمان وفي عهد علي كفيل بأن يفصح عن الجواب خير إفصاح. وحسبنا أن نذكر هنا أن الذين استوطنوا الشام من عرب شبه الجزيرة كانوا من المهاجرين والأنصار أهل مكة والمدينة، وأن الذين استوطنوا البصرة والكوفة قد جاءوا إليها من سائر أرجاء شبه الجزيرة، وأن المهاجرين والأنصار كان لهم على غيرهم من العرب فضل السبق إلى الإسلام، ثم كان لسائر العرب من فضل الجهاد لإقامة الإمبراطورية الإسلامية ما لا يقل عما كان للمهاجرين والأنصار وإن لم يزد عليه.

تُرى هل أذعن الروم بعد هزيمتهم فلم يفكروا في مناجزة المسلمين؟ هل كفاهم ما أصابهم بالشام وبأرمينية؛ ليقنعوا بما بقي لهم في الأناضول وفي البلقان وفي إفريقية؟ لعلهم كانوا يفعلون لو لم يكونوا يعتزون بما لهم على البحر من قوة ليس للعرب مثلها، ولو لم تغرهم الإسكندرية بالوثوب إليها على متن الماء، وقد ظنوا أنهم قادرون على استرجاعها واسترجاع مصر منها.

فقد فتح عمرو بن العاص مصر، وأجلى الروم عنها، واستقرت له ولايتها في عهد عمر. وكانت سياسته فيها أن يتألف أهلها بتخفيف الضرائب وبتركهم أحرارًا في عقيدتهم، وترك المناصب الإدارية لأبناء البلاد وللروم الذين آثروا البقاء بها على الهجرة إلى وطنهم الأول. على أن هذه السياسة التي أرضت المصريين في مجموعهم أغضبت أهل الإسكندرية. فقد كان لهؤلاء من الامتيازات قبل الفتح العربي ما أعفاهم من كثير من الضرائب. فلما سوَّى القائد العربي بينهم وبين غيرهم وفرض عليهم ما فرضه على غيرهم أحفظ ذلك قلوبهم، وهيأ للروم الذين لم يغادروا عاصمة الإسكندرية فرصة التأليب على المسلمين وإثارة النفوس بحكمهم. ولم يدر بخلد عمرو أن يؤدي ما قد يحدث من ذلك إلى فتنة أو انتفاض؛ لذلك أبقى للإسكندرية حصونها المنيعة، ولم يبق بها من جنده غير حامية لا تزيد على الألف تحفظ النظام فيها وتفرض سلطان المسلمين عليها. فلما استقر الأمر في بلاد القسطنطينية كاتب الروم المقيمون بالإسكندرية عاهل بيزنطة، وأوحوا إليه أنه قادر إذا بعث إليهم السفن تحمل الجنود من غير أن يفطن المسلمون إلى ما يصنع أن يأخذ المدينة على غرة، وأن يتحصن بها، ثم يسير منها إلى أرجاء مصر فيعيد فتحها، ويسترد هذا الإقليم الغني الذي أمتع رومة ثم أمتع بيزنطة بخيره الوفير.

لم تبلغ هذه الأنباء عمرًا لأن الروم كتموها؛ ولأن ابن العاص كان في شغل عنها بما كان بينه وبين عمر من خلاف استفحل حتى اتهم عمر عَمرًا بأنه يفيد لنفسه من خراج مصر؛ ولذا بعث إلى مصر محمد بن مسلمة يقاسمه ماله، وكان عمر موشكًا أن يعزل عَمرًا لولا أنه قتل. ولم يكن عثمان خيرًا من عمر رأيًا في ابن العاص. ولعله لم ينس ما قاله فيه منذ أربع سنوات حين سار لفتح مصر؛ لذلك أضفى على عبد الله بن سعد بن أبي سرح، أخيه في الرضاع، عطفًا أثار نفس عمرو وأحفظ قلبه. وكان عبد الله بن سعد عاملًا بمصر عينه ابن الخطاب تحت إمرة عمرو بن العاص. وأوجس عمرو خيفة أن يقدم عثمان ابن أبي سرح وأن يمد في سلطانه، فزاده ذلك انصرافًا عن التفكير في أمر الإسكندرية، فلم يبلغه شيء من أنباء الروم وأفاعيلهم بها؛ وبخاصة لأن الروم كتموا ذلك أشد الكتمان.

لا أريد بالحديث عن عمرو في هذا المقام أن اتهمه بالتقصير. فسلطانه بمصر في هذه الفترة من الزمن يحيطه أشد الإبهام. قيل: إن عمر بن الخطاب إنما ولى عبد الله بن سعد ليضعف من سلطان عمرو؛ لذلك أسند إليه حكم الصعيد والفيوم وجعل له جباية الخراج. فلما بويع عثمان عزل عمرًا وجعل ولاية مصر كلها لعبد الله بن سعد. ويذهب البعض من أصحاب هذه الرواية إلى أن عمرًا غادر مصر إلى مكة عقب عزله، ويذهب البعض الآخر إلى أنه ظل مقيمًا بمصر رغم عزله. وفي رواية أخرى أن عثمان لم يعزل عمرًا، لكنه مد في سلطان عبد الله بن سعد وأظهر عطفه الشديد عليه.

أما وذلك وضع عمرو بمصر في هذه الفترة من الزمن فمن العسير اتهامه بالتقصير لعدم تتبعه أنباء الروم بالإسكندرية. بل إن له من العذر، حتى لو أنه كان باقيًا على ولاية مصر، أنه كان يدفع عن نفسه تهمًا شنيعة يراد إلصاقها به. وأية تهمة يمكن أن تسند لحاكم أشنع من اتهامه بعدم النزاهة، ومحاولة استغلال الحكم لمنفعته ولزيادة ثروته.

أيًّا ما يكون الأمر فقد أرسل روم الإسكندرية إلى الإمبراطور قنسطانز الثاني Constans II يسألونه أن يخلصهم من حكم المسلمين، ويهونون عليه الأمر بضعف مسلحة العرب في الإسكندرية، وبأنه صاحب البحر دون المسلمين، فإذا بعث بالجنود في السفن سرًّا فلم يفطن المسلمون له نزلت قواته عاصمة مصر فاستولت عليها واستولت منها على أقاليم مصر كلها. وراقت الفكرة قنسطانز وبلاطه وخيل إليهم أنهم متى عادوا إلى مصر فملكوها لم يكن ما أصابهم بالشام شيئًا مذكورًا.

ولا ريب كان لقنسطانز أبلغ العذر في الاقتناع بهذا الرأي. فلم يكن للعرب إلى يومئذ شراع واحد في البحر الأبيض. وقد طلب معاوية بن أبي سفيان إلى عمر بن الخطاب تجهيز السفن لحراسة الشواطيء بالشام ومصر ولمواجهة الروم إذا حاولت سفنهم مواجهة هذه الشوطيء، فأشفق ابن الخطاب مما طلب معاوية، وذكر ما أصاب العلاء بن الحضرمي حين غامر فاجتاز الخليج الفارسي بالجند في السفن فقطع عليه الفرس خط رجعته إلى سفنه. فلما ألح معاوية على عمر كتب إلى ابن العاص ليصف له البحر فكان جواب عمرو: «إني رأيت البحر خلقًا كبيرًا يركبه خلق صغير ليس إلا السماء والماء، إن ركد أحزن القلوب، وإن ثار أراغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة والشك كثرة. هم فيه كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق.» فزاد هذا الوصف إشفاق عمر فلم يبح لمعاوية أن يجهز السفن ومنعه من العود إلى مخاطبته في الأمر. أما والمسلمون لا يعرفون من أمر البحر شيئًا، وللروم على متنه القوة، وفي مقدورهم أن ينقلوا جندهم في السفن إلى مصر، فلا عجب أن ينتهز قنسطانز فرصة إن فاتته ضاع أمله في استرداد مصر، وفي استرداد هيبة الإمبراطورية التي ورثها عن أجداده، بل ضاع أمله في بقاء هذه الإمبراطورية في آسيا وإفريقية.

وجهز قنسطانز أسطولًا من ثلاثمائة سفينة أوقرها بالرجال. وجعل على قيادتها مانويل الخصي ودفعها للغاية التي أرادها، لكنه أخفى على الناس مقصدها حتى يظل أمرها سرًّا مكتومًا فلا يعرفه العرب. ونجح كيده فبلغ الأسطول الإسكندرية ونزل جنوده بها، فتلقاهم الروم المقيمون فيها وانضموا إليهم وساروا معهم إلى مسلحة العرب، فقتلوا رجالها جميعًا لم ينج منهم إلا نفر لاذوا بالفرار. واستقر مانويل وجنوده بالعاصمة العظيمة، وخيل إليهم أن مغامرتهم نجحت، وأن جلاء المسلمين عن مصر أصبح قدرًا مقدورًا.

كان نزول الروم الإسكندرية في الأشهر الأولى من السنة الخامسة والعشرين للهجرة (٦٦٤ ميلادية)، أي بعد عام وأشهر من بيعة عثمان. هذا تاريخ يكاد الرواة يجمعون عليه. وإجماعهم هذا يدل على أن مقتل عمر شجع بلاد القسطنطينية على المسارعة إلى إجابة الروم من أهل الإسكندرية، ظنًّا منهم أن وفاة الفاروق ستفت في عضد المسلمين وتقضي على الفتح الإسلامي الذي سار في عهده سيرة أذهلت الروم والفرس جميعًا.

ماذا صنع العرب حين بلغت أنباء الروم الفسطاط؟ أتراهم خفوا للقائهم ووقفوا عن الزحف داخل البلاد؟ أم تولتهم الخشية أن يهزمهم الروم فلزموا مسالحهم حتى يأتيهم المدد من شبه الجزيرة؟ تضطرب الروايات عن هذه الفترة الأولى كاضطرابها في أمر عمرو بن العاص وبقائه بمصر أو ذهابه إلى مكة. والثابت أن الروم أغاروا على ما جاور الإسكندرية من البلاد، وسار جيشهم في أرجاء مصر السفلى ينهب القمح والثمر والأموال من قراها ولا يدافعه مدافع. والظاهر أن العرب وقفوا من هذه الحوادث موقف الحيرة والاضطراب، وأنهم استمدوا أمير المؤمنين بالمدينة الرأي وطلبوا إليه المعونة. وأجمع أهل الرأي بالمدينة كما أجمع المسلمون بمصر على أن الرجل الذي يستطيع مواجهة هذا الموقف الدقيق هو عمرو بن العاص دون سواه. فقد كان اسمه يبعث الرهبة في نفوس الروم، وكانت سياسته تلقى من أهل مصر الرضا والتأييد؛ لهذا عهد إليه عثمان أن يتولى قتال الروم فيجليهم عن مصر كما أجلاهم عنها أول مرة. أفكان عمرو بمصر؟ أم كان بمكة حين عهد إليه الخليفة هذا العهد؟ لا نستطيع البت في هذا الأمر وقد اختلفت الروايات فيه. وإنما الثابت أن عمرًا لم يتردد في تنفيذ ما أمره الخليفة به، ولم يجد فيما أصابه من عمر ومن عثمان بعده ما يرده عن القيام بواجب مقدس هو الجهاد لله وفي سبيل الله.

أم صحيح ما يقال من أن الجهاد في سبيل الله لم يكن هو الذي أسرع بعمرو إلى إجابة عثمان إلى دعوته، وإنما دفعه إلى هذا الإسراع ما جبل عليه من الجرأة وحب الإمارة، ومن الحرص على أن يعرف المسلمون أن عمر بن الخطاب ظلمه حين خاصمه، وكان أحرى به أن يجزيه بالخير عن فتح مصر، وأن عثمان بن عفان لم ينصفه حين قدم عليه عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وأن المسلمين لا غنى لهم عن تدبيره وحسن حيلته، وأنهم سيحملون عثمان على أن يجعله على جند مصر وخراجها متى رد عادية الروم وأجلاهم عنها؟ لا نريد أن نسبق الحوادث بالجواب، فالحوادث كفيلة بإبرازه في وضوح وجلاء.

ندع هذا الجواب إذن ونقف مع عمرو بالفسطاط، ونسايره إلى مقر القيادة بحصن بابليون. لقد كان عمرو يعرف أفاعيل جيش الروم، وأنهم ساروا في بلاد مصر السفلى يغنمون وينهبون، ويتوفرون على الملذات ينتهبونها انتهابًا، وأن المصريين وقفوا من هؤلاء الغزاة القساة موقف الخوف والفزع، لا يعترضونهم ولا يعاونهم من أهل البلاد إلا قليلون.

كان خارجة بن حذافة أمير الجند في حصن بابليون. وكان رأي خارجة أن يسارع عمرو إلى مناجزتهم قبل أن يأتيهم المدد أو ييأس أهل مصر من العرب، فينضموا إلى الروم فتتعذر المقاومة وتسوء العاقبة. لكن القائد الداهية رأى غير هذا الرأي. رأى أن يترك الروم ينتشرون في البلاد ويعيثون في الأرض فسادًا فيزداد المصريون لهم بغضًا. قال مجيبًا دعوة خارجة لمبادرة العدو: «لا، ولكن دعهم يسيروا إليَّ فإنهم يصيبون من مرُّوا به فيخزى بعضهم ببعض.» وهذه كلمة تدل على أن عمرًا كان أعلم بالروم من أنفسهم، فكان يعرف أنهم يضمرون للمصريين أشد البغض منذ خرجت مصر من يدهم، وأنهم سيسيئون لا محالة معاملتهم.

وسار الروم في أرجاء مصر السفلى لا يلقون أية مقاومة. ولا يدعون المصريين مع ذلك وادعين، بل يغصبونهم ما لهم ويوجهون إليهم شر ألوان المهانة. وفي هذه الأثناء كان عمرو بن العاص ينظم ببابليون جنده ويعد للقتال عدته. فلما علم أن الروم اقتربوا من نقيوس خرج إليها وقد عزم لقاءهم بها. خرج على رأس خمسة عشر ألفًا مؤمنين بأنهم إن لم يهزموا الروم ارتدوا على أعقابهم إلى شبه الجزيرة العربية يجللهم عار الفرار. والتقى الجيشان تحت أسوار حصن نقيوس على شاطيء النهر، ولا يخامر الريب أي جندي من الروم أو من المسلمين في أن مصير اليوم حاسم، وأن أي الفريقين ظهر خلصت له مصر بخبراتها وبكل ما فيها من ثروة ونعيم؛ لذلك اشتد القتال وحمي وطيسه واستمات الفريقان فيه فترجح النصر بينهما، ورأى عمرو شدة القتال فاندفع بين الصفوف، تحته فرسه، وفي يده سيفه، يضرب به هام كل رومي لقيه، وإنه لكذلك إذ أصاب فرسه سهم أرداه. فترجل عنه، وقاتل مع المشاة أشد ما يكون حماسة، وقد عقد العزم على أن ينتصر أو يستشهد. ولم يكن الروم وقائدهم أقل من العرب ولا من أميرهم حماسة. ولقد تضعضع العرب أثناء المعركة وولى بعضهم الأدبار. فلما رأى عمرو صنيعهم زاده ما رأى عزمًا وإقدامًا وإصرارًا على الفوز أو الشهادة. ورأى العرب من حوله صنيعه فازدادوا على وطيس الحرب إقبالًا. وفي هذه الساعات الحاسمة أبدى الروم وأبدى العرب من ضروب الشجاعة وآيات البسالة ما سجل التاريخ من حوادثه ما هو أدنى إلى الأساطير. قيل: إن فارسًا من الروم عليه سلاح مذهب رأى مقتل الرجال من قومه ومن عدوه فتقدم الصفوف ودعا العرب إلى المبارزة، فبرز إليه منهم رجل اسمه حومل، فاقتتلا طويلًا برمحين فلم يغلب أحدهما الآخر. وألقى الرومي الرمح وأخذ سيفه فصنع حومل صنيعه، وبلغ من بأسهما وبراعتهما في الصراع أن وقف الجيشان صفوفًا خلف صفوف يشهدان هذا المنظر الرائع من مناظر البطولة. وتصاول الفارسان بالسيوف ثم حمل الرومي على مبارزه فتلقاه حومل وضربه بالسيف فقتله. وأصيب حومل بجراحات مات منها بعد أيام.

وعاد القتال بعد مصرع البطل الرومي فالتقى الجيشان واشتبك الناس وثار بينهم النقع. وسمت فعلة حومل بنفوس المسلمين. فأراد كل منهم أن يكون كحومل بأسًا وشجاعة، فاندفعوا إلى عدوهم يريدون الشهادة ويرون الجنة فتحت لهم أبوابها. ولم يصبر الروم لحملاتهم فتضعضع عزمهم ووهنت قوتهم. فانهزموا مولين الأدبار لا يلوون على شيء يريدون الإسكندرية يلوذون بحصونها من الموت وهو ملاقيهم. وتعقبهم العرب وقد زادهم النصر قوة على قوتهم، ولم يبق لديهم ريب في أن الله ناصرهم على عدوهم.

مات حومل بعد أيام من وقعة نقيوس فأرسل عمرو جثته إلى الفسطاط على سرير ودفنه في مشهد أكرم به فعال هذا البطل المغوار أيما إكرام. يقول المقريزي: «ورئي عمرو يحمل سريره بين عمودي نعشه حتى دفنه بالمقطم.» وعاد عمرو بعد أن أدى لهذا الشهيد واجبه الأخير، فسار مع الجيش يتعقب العدو المنهزم ليحاصره في العاصمة العظيمة.

لم يجد المسلمون مشقة في تعقب عدوهم، ولم يقف سيرهم إقدام العدو على تدمير الجسور وتخريب الطرق فقد عانى قبط مصر من بطش الروم ونهبهم في كل قرية مروا بها بعد نزولهم الإسكندرية، مما أعاد إلى ذاكرتهم ذلك الاضطهاد الديني الذي خضعوا له قبل الفتح العربي سنوات حسومًا، كما ذكروا أن الفتح العربي هو الذي أنجاهم من ذلك الاضطهاد. فلما انهزم الروم بنقيوس وفروا يبتغون ملاذًا بحصون الإسكندرية، وحطموا وراءهم كل جسر وأفسدوا كل طريق، هرع القبط من أهل القرى حين رأوا العرب يتعقبون هؤلاء الطغاة، فأصلحوا ما أفسده الروم وأمدوا العرب بما هم في حاجة إليه من عدة ومئونة، مظهرين من الاغتباط بما أصاب الروم، ما زاد العرب اطمئنانًا إلى غدهم، وإلى أنهم لن يؤتوا من خلفهم.

وبلغ عمرو أسوار الإسكندرية، فألفى الروم تحصنوا بها، وأقفلوا أبوابها وأقاموا المجانيق في أعاليها يقذفون بها من يقترب من المدينة. وأسف عمرو حين تبدت أمامه العاصمة في قوة منعتها، ورأى أنه أخطأ إذ ترك أسوارها قائمة بعد الفتح الأول، وأقسم لئن أظفره الله بها ليهدمن هذه الأسوار حتى تصبح كبيت الزانية يؤتى من كل مكان. وعسكر بجنوده في جانب المدينة الشرقي ليحصرها بينه وبين البحر وترعة الثعبان فلا يستطيع أحد منها خروجًا.

أفطال هذا الحصار أم قصر؟ وهل أقام عمرو من آلات الحصار ما صدع به الأسوار ثم دخل المدينة؟ أم خان واحد من حرسها الروم ففتح الباب الذي يحرسه لعمرو فدخل منه المسلمون؟ ليس لدينا من أسانيد التاريخ الثابتة ما يبين لنا زمن الحصار أو يرجح خيانة (ابن بسامة)، حارس الباب مما يسَّر اقتحام المسلمين المدينة بعد صدعهم أسوارها. فالروايات تضطرب هنا اضطرابها في كثير من وقائع الفتح لذلك العهد. فأما الأمر الذي أجمع عليه المؤرخون فذلك أن العرب أخذوا المدينة عنوة، وأنهم دخلوها يقتلون ويفتحون ويحرقون، وأن جند الروم فرت طائفة منهم بالمدينة فلاذت بالبحر، وأن أكثرهم قتل بالمدينة، وأن القائد مانويل الخصي كان في القتلى. وقد استمر العرب يقتلون ويغنمون حتى توسطوا المدينة، وحتى لم يبق أمامهم من يقاتلهم. هنالك أمرهم عمرو أن يرفعوا أيديهم، ثم أمر من بعد فبني بالمكان الذي حقنت فيه الدماء مسجدًا هو مسجد الرحمة.

فر الروم إلى السفن وهربوا في البحر نجاة بأنفسهم. عند ذلك عادت إلى الإسكندرية السكينة، وعاد إليها من أهل مصر من كان قد فر منها لدخول الروم فيها. ويذكر (بتلر)٢ أن بطريق القبط بنيامين كان بين الذين فروا منها ثم عادوا إليها، وأنه هو الذي طلب إلى عمرو ألا يسيء إلى القبط؛ لأنهم لم ينقضوا عهدهم معه، وألا يعقد صلحًا مع الروم، وأن يدفنه بكنيسة يخنس إذا مات. أما مؤرخو العرب فيذكرون أن الذي طلب هذه الأمور إلى عمرو هو المقوقس. والراجح أن المقوقس هنا هو بنيامين؛ لأن المقوقس كان لقبًا ولم يكن اسما، وبذلك تتفق الروايتان.

أعاد عمرو فتح الإسكندرية فتم بذلك جلاء الروم عن مصر للمرة الثانية، وهم لم يمض بين نزولهم الإسكندرية وفرارهم منها في هذه المرة غير أشهر. وفي هذه الفترة الوجيزة بلغ عمرو ما أراد، واطمأن أهل مصر كَرَّة أخرى إلى عود المسلمين وإلى حكمهم. فقد ألفوا هذا الحكم من قبل وسكنوا إلى عدله. وهم اليوم أشد رضًا به وسكونًا إليه بعد أن رأوا الروم ينهبون أموالهم، ورأوا المسلمين يردون عليهم هذه الأموال بعد أن غنموها من الروم. فقد ذهب أهل القرى إلى عمرو حين استتب له الأمر في العاصمة وقالوا له: «إن الروم أخذوا دوابنا وأموالنا ولم نخالف نحن عليكم وكنا على الطاعة.» فأراهم عمرو ما غنم المسلمون وطلب البينة ممن ادعى لنفسه شيئًا منها، ورده على من أثبتت البينة صحة قوله. ولم يكن عمرو ولا كان أهل مصر بعد ذلك في ريب من أن ولاية مصر ستعود له كما كانت بعد الفتح الأول، وأنه سيتولى سياستها وتدبير أمرها بما عرف من عدله وحسن بصره بالأمور.

ولقد كان له ولأهل مصر أبلغ العذر عما اعتقدوا من ذلك. فيكف يخرج عثمان عمرًا من مصر وقد أخرج عمرو الروم منها. ولكن عمرًا قدر فأخطأ، وكان عثمان أبلغ منه كيدًا. فقد تركه على ولاية مصر حتى عاد عبد الله بن سعد بن أبي سرح من غزو إفريقية، وذلك في تاريخ تختلف الروايات أكان في السنة السادسة والعشرين أم في السنة السابعة والعشرين للهجرة. عند ذلك أراد عثمان أن يقتصر عمرو على إمارة جند مصر، وأن يكون عبد الله بن سعد واليها وصاحب خراجها. ورأى عمرو في ذلك تعريضًا بأمانته، وإيماءً إلى أنه إن يكن قائدًا ماهرًا، فإن نزاهته ليست فوق مستوى الشبهات؛ لذا رفض ما أراد عثمان وقال: «أنا إذن كماسك البقرة بقرنيها وآخر يحلبها.» وعاد إلى مكة وفي نفسه من الحفيظة على عثمان ما سنرى أثره من بعد. يشهد بهذه الحفيظة أن عبد الله بن سعد بعث من خراج مصر، وعمرو بمكة، أكثر مما كان يبعث به عمرو، فقال عثمان يخاطب ابن العاص: «هل تعلم أن تلك اللقاح قد درت بعدك؟!» وأجابه عمرو: «وهلكت فصالها!» يريد أن المصريين أرهقوا بخراج لم يفرض هو عليهم مثله.

ولَّى عثمان عبد الله بن سعد مصر بعد عوده من غزو إفريقية في السنة السادسة والعشرين أو في السنة السابعة والعشرين للهجرة. وفي بعض الروايات أن عبد الله بن سعد استقل بولاية مصر قبل أن يذهب لغزو إفريقية، وأن هذا الغزو تم في السنة الثامنة والعشرين أو في السنة الثلاثين أو بعد ذلك. والرواة يذكرون هذه التواريخ ولا يؤكدونها. وأنا أرجح أن غزو إفريقية تم بعد أن قضى عمرو على ثورة الروم بمصر وجلائهم للمرة الثانية عن الإسكندرية، وأن ذلك كان في أواخر السنة الخامسة والعشرين، أو أوائل السنة السادسة والعشرين للهجرة؛ ولهذا الترجيح سند في كثير من الروايات، وله إلى جانب ذلك سببه. فما كان عثمان ليعزل عَمْرًا عن مصر ويوليها عبد الله بن سعد ليبعثه توًّا إلى إفريقية، بل الأدنى إلى المنطق أن يظل عمرو بمصر يرد إلى ربوعها السكينة، وأن يذهب عبد الله بن سعد إلى إفريقية فلا يكون بقاؤه بمصر مثارًا لنزاع بينه وبين عمرو. ومما يعزز هذا الترجيح أن عبد الله بن سعد لم يكن له في مقاومة الروم بمصر بلاء يذكر، وأن الذين يقولون: إنه قاومهم قبل أن يتولى عمرو بن العاص قتالهم يثبتون أن مقاومته باءت بالفشل.

وأنت تذكر أن ابن العاص كان قد سار إلى برقة إلى طرابلس ففتحهما بعد مصر في عهد عمر، وأنه أراد أن يتابع مسيرته ليفتح إفريقية، فنهاه عمر عن ذلك ورده عنه. فلما فتحت مصر للمرة الثانية أمر عثمان عبد الله بن سعد أن يسير إلى إفريقية وأمده بالرجال في قوة، اختلف أكانت عشرة آلاف، أم عشرين ألفًا، أم أربعين ألفًا. وتخطى عبد الله برقة وطرابلس حيث كان السلطان مطمئنًّا للمسلمين، وبلغوا إفريقية يريدون غزوها. وكانت إفريقية في تسمية العرب هي شمال القارة الإفريقية الممتد من تونس إلى طنجة في مراكش. وكانت هذه الأصقاع خاضعة لنفوذ الروم، متمتعة بحظ من الحكم الذاتي بإمرة أمير من الروم يدفع جزية عظيمة كل عام إلى بلاط بيزنطة. وفي قول أن حاكمها حين غزاها العرب، واسمه جريجوري (أو جرجير كما يسميه الطبري وابن الأثير وغيرهما) كان قد استقل بها على بيزنطة وأعلن نفسه إمبراطورًا عليها. فلما تخطى عبد الله بن سعد حدود طرابلس إلى تونس لقيته قوات جريجوري بظاهر مدينة سبيطلة ومنعته من التقدم، وكانت هذه القوات جرارة ذكر مؤرخو العرب أن عددها بلغ مائة وعشرين ألفًا أو مائتي ألف. ولقد ظل عبد الله بن سعد يداور هذه القوات يلتمس الوسيلة للظفر بها فلم يقدر. والراجح أنه أقام على ذلك أشهرًا لا يواتيه النصر ولا يغلبه الروم. والراجح أنه كان يتقدم لمواجهتها أحيانًا فلا ينال منها فيرتد عنها إلى طرابلس يريح ظهر رجاله، ويأخذ ما هو في حاجة إليه من مدد ومؤن.

ظل عبد الله بن سعد على ذلك أشهرًا انقطعت أخباره أثناءها عن مصر وعن المدينة، فأشفق عثمان أن يكون قد أصابه شر، فأمر عبد الله بن الزبير على جماعة من كبار المجاهدين بينهم طائفة من الصحابة والتابعين، وسيرهم مددًا لعبد الله بن سعد يعينونه على النصر وينقذونه وجيشه من الفناء، وسار عبد الله بن الزبير ومعه عبد الله، وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأمثالهم، فتخطوا تهامة والحجاز إلى مصر. ثم برقة وطرابلس حتى بلغوا جند عبد الله بن سعد وهم يقاتلون الروم. وكبَّر المسلمون حين رأوهم واطمأنت نفوسهم إلى أن الله قد أذن لهم بنصر ظلوا أشهرًا يطلبونه فلا يبلغونه.

وتجرى روايات بأن عبد الله بن الزبير لم يجد عبد الله بن سعد على رأس المقاتلين فسأل عنه فقيل: إنه مختبئ حذر. ذلك أنه سمع منادي جريجوري يقول: من قتل عبد الله بن سعد فله مائة ألف دينار وأزوجه ابنتي؛ لذلك خاف عبد الله أن يندس إليه من يقتله. وجاء ابن الزبير عبد الله بن سعد وأشار عليه أن يأمر مناديًا ينادي: «من أتاني برأس جرجير نفلته مائة ألف درهم، وزوجته ابنتي واستعملته على بلاده.» وفعل عبد الله ذلك، فصار جرجير أشد خوفًا منه على نفسه.

وعجب ابن الزبير لإبطاء النصر كل هذا الإبطاء. فلما رأى المسلمين يقاتلون عدوهم من بكرة كل يوم إلى الظهيرة، فإذا كان الظهر عاد كل فريق إلى خيامه ليستأنف القتال بكرة الغد، أيقن أن الأمر على هذا النحو لن ينتهي إلى غاية، فذهب إلى مقر عبد الله بن سعد وقال له: «إن أمرنا على هذا النحو يطول مع هؤلاء، وهم في أمداد متصلة وبلاد هي لهم، ونحن منقطعون عن المسلمين وبلادهم. والرأي عندي أن تترك توًّا جماعة صالحة من أبطال المسلمين في خيامهم متأهبين، ونقاتل نحن الروم في باقي العسكر إلى أن يضجروا ويملوا، فإذا رجعوا إلى خيامهم ورجع المسلمون، ركب من كان في الخيام من المسلمين ولم يشهدوا القتال وهم مستريحون، ونقصدهم على غرة فلعل الله ينصرنا عليهم.»

راق هذا الرأي عبد الله بن سعد، فاستشار فيه كبار الصحابة فأقروه. فلما كان الغد تولى عبد الله بن الزبير تنفيذه. ترك شجعان المسلمين في خيامهم وعندهم خيولهم وهم على أهبة القتال، وسار مع بقية الجيش، فقاتلوا الروم إلى الظهر قتالًا شديدًا ثم لم يتركوهم ساعة الظهر حتى ألحوا عليهم بالقتال حتى أتعبوهم. وعاد ابن الزبير وقد أيقن الروم أن القتال لن يستأنف إلا بكرة الغد؛ ولذا ألقوا سلاحهم واستراحوا في خيامهم. لكنهم ما كادوا يفعلون حتى كان ابن الزبير قد عاد إليهم فغشيهم ومعه شجعان المسلمين الذين لم يقاتلوا في الصباح، فخالطوهم وحملوا حملة رجل واحد مهللين مكبرين، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وقتلوا أميرهم جريجوري وأخذوا ابنته سبية فكانت من نصيب رجل من الأنصار.

سار عبد الله بن سعد بعد هذا النصر إلى سبيطلة، وكانت دار الملك، فحصرها وفتحها وغنم المسلمون منها أموالًا عظيمة، وبلغ سهم الفارس منها ثلاثة آلاف دينار، وسهم الراجل ألف دينار.

ومن سبيطلة بعث ابن سعد جيوشه في البلاد فبلغت قفصة. وكذلك فتح المسلمون إفريقية سهلها وجبلها ومهدوا لانتشار دين الله فيها. وصالح عبد الله بن سعد أهلها على مليونين وخمسمائة ألف دينار، وفي رواية أنه صالحهم على ثلاثمائة قنطار ذهبًا. وعاد عبد الله بن سعد من إفريقية إلى مصر بعد أن أقام بها خمسة عشر شهرًا.

وحسُن إسلام أهل إفريقية من بعد، وكانوا من أسمع أهل البلدان وأطوعهم. ومما يروى أن قنسطانز إمبراطور الروم بعث إليها بعد فتح المسلمين بلادهم أميرًا نزل قرطاجنة وطلب إليهم أداء جزية قدر ما أدوا للمسلمين، فردوا طلبه بأنه لم يستطع منعهم فلا جزية له عليهم.

تجري في شأن الفيء الذي غنمه العرب حين فتحوا إفريقية روايات نثبتها: منها أن عثمان بن عفان جعل لعبد الله بن سعد حين ولاه فتح إفريقية، خمس ما يستحقه بيت المال من الفيء. وبيت المال يستحق الخمس من مجموع ما غنم المسلمون. فلما تم الفتح قسم ابن سعد أربعة أخماس الغنم على الجنود، واحتجز لنفسه خمس الخمس وبعث أربعة أخماسه إلى المدينة. وسار وفد من الجند الذين فتحوا إفريقية إلى عثمان وشكوا إليه ما احتجزه عبد الله لنفسه، فقال لهم: «أنا نفلته، وأمرت له به، وذلك إليكم الآن، فإن رضيتم فقد جاز، وإن سخطتم فهو رد.» قالوا: «فإنا نسخطه.» قال عثمان: «فهو رد.» وكتب إلى عبد الله برد ذلك وباستصلاحهم. وفي رواية أنهم لم يكتفوا بأن يرد عبد الله إليهم ما أخذه لنفسه، بل قالوا لعثمان: «اعزله عنا فإنا لا نريد أن يتأمر علينا وقد وقع ما وقع.» فكتب إليه عثمان أن «استخلف على إفريقية رجلًا ممن ترضى ويرضون، واقسم الخمس الذي كنت نفلتك في سبيل الله، فإنهم قد سخطوا النفل.» ففعل عبد الله بن سعد ورجع إلى مصر.

هذه رواية الطبري. أما ابن الأثير فيقول: «وحمل خمس إفريقية إلى المدينة فاشتراه مروان بن الحكم بخمسمائة ألف دينار فوضعها عنه عثمان، وكان هذا مما أخذ عليه. وهذا أحسن ما قيل في خمس إفريقية. فإن بعض الناس يقول: أعطى عثمان خمس إفريقية لعبد الله بن سعد. وبعضهم يقول: أعطاه مروان بن الحكم وظهر بهذا أنه أعطى عبد الله خمس الغزوة الأولى، وأعطى مروان خمس الغزوة الثانية التي افتتحت فيها جميع إفريقية — والله أعلم.»

ومؤاخذة عثمان لبيعه خمس الفيء لمروان بن الحكم ترجع — إن صحت — إلى أن عثمان خالف في ذلك سنة رسول الله وسنة أبي بكر وعمر، ونقض بهذه المخالفة ما عاهد عليه حين استخلف من الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده. فلم تجر سنة رسول الله ولا سنة أبي بكر وعمر ببيع الغنائم، بل كانت توزع عينًا على المسلمين يأخذ كل منها نصيبه بالعدل والقسطاس المستقيم. يضاف إلى ذلك أن مروان كان ابن عم عثمان، وأنه كان سفيرًا إلى الطائف فلم يدخل مكة إلا في خلافة عثمان.

فتح عبد الله بن سعد إفريقية، وعاد إلى مصر. والرواة يختلفون: أترك ابن سعد أميرًا من المسلمين يتولى أمر إفريقية؟ أم أنه لم يستخلف عليها أحدًا؟ فالطبري يذكر أن عثمان أمر عبد الله بن سعد أن يستخلف على إفريقية، ويضيف أن أهل إفريقية اجتمعوا على الإسلام وحسنت طاعتهم. ويفهم من هذا القول: أنه خلف وراءه من المسلمين من أقام بإفريقية يفقه من أسلم من أهلها في دينهم ويقيم بينهم حدود الله. أما ابن الأثير فيذكر أنه: «قام بأمر إفريقية بعد جرجير رجل من الروم فطرده البطريق بعد فتن كثيرة فسار إلى الشام وبه معاوية، وقد استقر له الأمر بعد قتل علي، فوصف له إفريقية، وطلب إليه أن يرسل معه جيشًا، فسير معه معاوية بن حديج السكوني … فوصل إلى إفريقية وهي نار تضطرم، وأن ابن حديج قاتل أهل إفريقية وتغلب عليهم.» ويقول البلاذري: «لما صالح عبد الله بن سعد بطريق إفريقية، رجع إلى مصر ولم يول على إفريقية أحد … فلما ولي معاوية بن أبي سفيان ولى معاوية بن حديج السكوني مصرًا، فبعث في سنة خمسين عقبة بن نافع الفهري فغزاها وأخضعها.»

والذي يخلص من هذه الروايات أن المسلمين اكتفوا بإجلاء الروم عن إفريقية ثم تركوها لأهلها بعد أن صالحهم عبد الله بن سعد على الجزية، وأن أهل إفريقية أسلم كثير منهم، وأن البلاد وفت بما عاهدت عليه طيلة عهد عثمان وفي عهد علي، فلما عظمت الفتن بين المسلمين واحتدم النزاع بين علي ومعاوية نكث أهل إفريقية، من أسلم منهم ومن لم يسلم. فلما استقر الأمر لمعاوية جرد لهذه البلاد من فتحها ورد أهلها إلى الطاعة من جديد، ومن يومئذ أقام أهل الشمال الإفريقي على الإسلام وحسنت طاعتهم.

هذا ما أرجحه وتؤيده أكثر الروايات، فأما الذي لا خلاف عليه أن سلطان الروم تقلص عن شمال إفريقية، منذ فتحها المسلمون في عهد عثمان، وأن كل محاولة أريد بها استرداد هذه الأقاليم ذهبت عبثًا.٣

امتدت الإمبراطورية الإسلامية بفتح إفريقية، فاشتملت كل البلاد التي تشاطئ البحر المتوسط من أنطاكية في شمال الشام، وفي أقصي الشرق من ذلك البحر إلى أقصى الغرب منه في شمال إفريقية. وأيقن معاوية بالشام أن هذه الشواطيء الممتدة ألوف الأميال لا يمكن أن تأمن فجاءات العدو من البحر إلا أن يكون للعرب أسطول يواجه أسطول الروم إذا حاول العودة إلى أي من هذه الأقاليم. كان هذا رأيه منذ تولى الشام وعرف مهاجمة الروم أنطاكية من البحر؛ لذلك كتب إلى عمر يذكر له قرب جزيرة قبرص من حمص، ويقول: إن قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم. ولم يأذن له عمر كما قدمنا. فلما تولى عثمان وهاجم الروم مصر من البحر ثم امتدت شواطيء الإمبراطورية حتى الشمال الإفريقي كله، أعاد معاوية الكرة على عثمان واستأذنه في غزو قبرص من البحر. وخشي عثمان إن هو أذن أن يخالف سيرة عمر، فينقض عهده يوم بيعته ويؤاخذه الناس بمخالفته. لكنه رأى في طلب معاوية من حسن الرأي وبعد النظر ما يكون الرفض معه من سوء السياسة؛ لذلك كتب إلى معاوية يقول: «لقد شهدت ما رد عليك عمر حين استأمرته في غزو البحر.» وأعاد معاوية عليه القول فأجابه إلى ما طلب، لكنه قال له: «تنتخب الناس ولا تقرع بينهم، خيِّرهم، فمن اختار الغزو طائعًا فاحمله وأعنه.» وكذلك جعل عثمان ركوب البحر والغزو فيه تطوعًا لمن يشاء، فأمن مخالفة عمر في سيرته، ولم يرفض أمرًا اعتبره من حسن الرأي وبعد النظر.

لم يلبث معاوية حين تناول كتاب عثمان أن جهز السفن للقتال. وعرف عبد الله بن سعد بن أبي سرح أمر عثمان لمعاوية، فجهز السفن في مرفأ الإسكندرية وحمل عليها من تطوع للقتال على متن الماء. بذلك أصبح للمسلمين أسطول لا يقل عن أسطول الروم بأسًا، وأصبحت الدولة الإسلامية ولها إلى جانب قوتها البرية قوة بحرية على شواطئ بحري الروم والقلزم، فيها من غناء القتال وعدته ما لم يكن للعرب به عهد من قبل.

كان معاوية لا ريب على حق فيما أشار به من بناء الأسطول وغزو قبرص، واتخاذ قواعد في البحر لحماية الإمبراطورية الناشئة. فقد كانت الإمبراطورية تزداد على الأيام سعة، وتزداد شواطئها امتدادًا. ولم يكن قد بقي للروم من سيولة للعود إليها إلا البحر. فإذا أيقنوا أن أسطولهم سيلقى من بأس أسطول المسلمين ما يلقى جنودهم في الميادين من بأس جند العرب فت ذلك في ساعدهم وفتح أمام المسلمين أبواب التوسع إلى أقصى ما تمكنهم منه قوتهم وجيوشهم. ولعل عمر لو استطال به العمر وامتدت في عهده شواطئ الفتح كان ينتهي إلى الرأي الذي انتهى إليه عثمان. وقد كانت مشورة عثمان بالتطوع للغزو في البحر مشورة موفقة لم تفتح باب الخلاف ولم تترك لمعترض سبيلًا؛ لذا أسرع ببناء الأسطول الإسلامي في الشام وفي مصر، وأقبل المتطوعون عليه بأكثر مما توقع عثمان وتوقع معاوية، وأصبحت الدولة الإسلامية في زمن وجيز دولة بحرية مرهوبة الجانب، ثم صادر الأسطول أداة جوهرية في امتداد الفتح وفي تقوية كيان الإمبراطورية من بعد.

تقع قبرص في أقصى الشمال الشرقي للبحر المتوسط، قريبة من أرض الأناضول الواقعة شمالها، ومن الشام الواقعة إلى شرقها. وليس يفصل البحر بينها وبين هاتين الأرضين إلا بفاصل ضيق. وفي قبرص سلسلتان من الجبال يزيد ارتفاع بعض القمم فيها على ثلاثة آلاف من الأمتار. وقد كانت أرض الجزيرة — ولا تزال — مشهورة بخصبها وجودة فاكهتها وطيب هوائها. وهي إلى هذا قاعدة حربية منيعة تتحكم في شرق البحر الأبيض كله؛ لذلك كانت مطمع الطامعين على توالي الحقب. وكانت في ذلك العهد داخلة في منطقة نفوذ الروم، ثم كانت أول جزيرة غزاها المسلمون في البحر الأبيض. ركب إليها معاوية بن أبي سفيان البحر واصطحب معه زوجه فاختة بنت قرظة، وطائفة من الصحابة الذين استوطنوا الشام بعد أن جاءوا إليه من مكة والمدينة. وسارت سفينة معاوية في الطليعة وسارت من خلفها السفن عليها متطوعة المسلمين. فلما بلغوا قبرص وارتقوا إلى ساحلها لم ير حاكمها ولا رأى أهلها قتالهم. وما لهم يقاتلونهم والجزيرة في حكم الروم، فإذا لم يدفع الروم عنها لم تستطع هي الدفاع عن نفسها. وها لم تتصد للمسلمين سفينة من سفن الروم ولم تحاول منعهم عن مقصدهم. وتفاوض الفريقان في الصلح، ورأى أهل قبرص ألا يعرضهم صلحهم مع المسلمين إلى خلاف مع الروم قد يجر عليهم أذى لا قبل لهم بدفعه؛ لهذا صالحوا المسلمين على جزية سبعة آلاف ومائتي دينار يؤدونها لهم كل عام، على شريطة أن يؤدوا للروم مثلها. وفي مقابل هذا الصلح المزدوج مع الروم ومع المسلمين جميعًا لا يمنعهم المسلمون ولا يقاتلون عنهم من أرادهم من ورائهم، ويكون أهل قبرص عيونًا للمسلمين يؤذنونهم بسير عدوهم من الروم.

هذه رواية البلاذري في فتح قبرص. وهو يذكر أن غزوها كان في السنة الثامنة والعشرين أو السنة التاسعة والعشرين للهجرة، وأن أهل قبرص وفوا بعهدهم إلى السنة الثانية والثلاثين. وفي هذه السنة «أعانوا الروم على الغزاة في البحر بمراكب أعطوهم إياها، فغزاهم معاوية سنة ثلاث وثلاثين في خمسمائة مركب ففتح قبرص عنوة، فقتل وسبى ثم أقرهم على صلحهم وبعث إليها باثني عشر ألفًا، كلهم أهل ديوان فبنوا بها المساجد، ونقل إليها جماعة من بعلبك، وبنى بها مدينة وأقاموا يعطون الأعطية إلى أن توفي معاوية وولي بعده ابنه يزيد، فأقفل ذلك البعث وأمر بهدم المدينة. وبعض الرواة يزعم أن غزوة معاوية الثانية قبرص في سنة خمس وثلاثين.»

ورواية البلاذري هذه تفيد أن معاوية فتح قبرص وحده. أما الطبري وابن الأثير، ومن أرخ على وتيرتهما فيذكرون أن أسطول الشام، وأسطول مصر سار كل منهما يقصد قبرص. وكان على أسطول مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح. وأصحاب هذه الرواية لا يذكرون أن معاوية هو الذي تولى بنفسه قيادة الأسطول إلى قبرص بل يقولون: إنه استعمل على البحر عبد الله بن قيس الحارثي. ويتعذر القطع بصحة إحدى الروايات وزيف الأخرى. والذي أرجحه أن معاوية فتح قبرص بادئ الرأي صلحًا، وذلك حين كان الروم في شغل بنكبتهم في مصر وفي إفريقية، وأن عبد الله بن قيس الحارثي كان معه في هذا الفتح الذي لم يرق فيه دم ولم يجر فيه قتال. فلما نقض أهل قبرص وأعانوا الروم سار أسطول الشام وأسطول مصر إلى الجزيرة ففتحاها عنوةً وقتلَا وسبيَا من أهلها. وكان عبد الله بن قيس، وعبد الله بن سعد أميري البحر على الأسطولين في هذه الغزوة الثانية.

ويظهر من رواية الطبري ومن أخذ عنه أن عبد الله بن قيس برع في إمارة البحر أيما براعة، وأنه غزا خمسين غزاة ما بين شاتية وصائفة في البحر ولم يغرق فيه أحد ولم ينكب.

ويضيف الرواة أن عبد الله بن قيس «كان يدعو الله أن يرزقه العافية في جنده وألا يبتليه بمصاب أحد منهم، ففعل، حتى إذا أراد الله أن يصيبه وحده خرج في قارب طليعة فأتى إلى المرقى من أرض الروم عليه سؤَّال يفدون بذلك المكان، فتصدق عليهم، فرجعت امرأة من السؤال إلى قريتها فقالت للرجال: هل لكم في عبد الله بن قيس. قالوا: وأين هو؟ قالت: في المرقى. قالوا: أي عدوة الله، ومن أين تعرفين عبد الله بن قيس، فهو يختبئ. وقالت: أنتم أعجز من أن يخفى عبد الله على أحد. فساروا إليه فهجموا عليه فقاتلوه وقاتلهم فأصيب وحده وأفلت الملاح حتى أتى أصحابه … وقيل لتلك المرأة بعد: بأي شيء عرفته؟ قالت: بصدقته، أعطى كما يعطي الملوك ولم يقبض قبض التجار.» ورواة هذا الحديث يذكرون أن سفيان بن عدي الأزدي سار بعد مقتل عبد الله بن قيس لقتال عدوه فلم يظفر به. وكذلك مات أول أمير للبحر من المسلمين قتيلًا بغير قتال، ومات الرجل الذي لم يهزم قط لعجز أصحابه عن الأخذ بثأره والظفر بعدوه.

أيقن الروم بعد استيلاء المسلمين على قبرص، وبعد أن أصبح لهم أسطول يدافع عن شواطئ الشام وإفريقية، أنهم لن يستطيعوا العود إلى مصر وإفريقية، ولن يستطيعوا مناهضة المسلمين في الشام، ما لم يحطموا أسطول المسلمين لتعود لهم بتحطيمه سيادة البحر؛ وليكون لهم على موجه السلطان النافذ واليد المطلقة. ولن يتسنى ذلك لهم إذا تركوا المسلمين يكبر أسطولهم وتزداد كفاية ملاحيهم؛ لذلك عزموا غزوهم في البحر وتحطيم أسطولهم. وكانوا مطمئنين إلى مقدرتهم على الظفر بهذا الأسطول؛ لأن سفنهم كانت أكثر من سفن المسلمين عددًا، ولأن ملاحيهم كانوا أكثر من ملاحي المسلمين براعة.

كان ذلك عام إحدى وثلاثين للهجرة في رواية، وأربع وثلاثين في رواية أخرى. وتنفيذًا لعزمهم اجتمع الروم إلى قسطنطين بن هرقل وقد تولى قيادة خمسمائة أو ستمائة من السفن أطلقت شراعها تشق عباب البحر المتوسط إلى الإسكندرية تلقى فيها أسطول المسلمين الأكبر،٤ وعرف المسلمون نبأ الروم وسيرهم لقتالهم فتولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح والي مصر قيادة أسطول الإسكندرية وإفريقية وعدته مائتا سفينة شحنها بالشجعان المجربين ذوي البأس في الحرب. وأرسى بها بعيدًا عن الإسكندرية وفي طريق الروم إليها. وتراءى الأسطولان حين آذنت الشمس بالمغيب فبات الروم يدقون نواقيسهم، وبات المسلمون يصلون ويقرءون القرآن، وكل ينتظر ما يتنفس عنه الغد. فلما أصبحوا صف ابن أبي سرح أسطوله ورجاله، وأقام مكانه ينتظر مجيء الروم إليه. وهبت من جانب البحر ريح عاتية اتقاها أسطول المسلمين بأن أرسى إلى شواطئه، ولم ينزعج لها الروم؛ لأنها كانت مواتية لمواقع أسطولهم. فلما سكنت الريح بعث ابن أبي سرح يقول لقسطنطنين: إن شئتم خرجنا نحن وأنتم إلى البر؛ لأن الأعجل مقاومتكم. ولم يرض الروم هذا العرض؛ لأنهم ذاقوا من قبل بأس المسلمين في قتال البر؛ ولأن تدمير أسطول عدوهم كان مقصدهم الأول؛ لذلك بعثوا يقولون: الماء، الماء. ولم يتردد عبد الله بن سعد عن منازلتهم في الميدان الذي اختاروه. فتقدمت سفنه وتقدمت سفن الروم وأنشبوا القتال عنيفًا غاية العنف، بلغ من عنفه أن تداخلت سفن الأسطولين، فكان الرجال يثبون على الرجال بالسيوف والخناجر، ولا تجد الرحمة إلى قلب أحد منهم سبيلًا. ودفعت الأمواج سفن الأسطولين إلى الشاطئ فكان القتلى يهوون إلى رماله تغمرهم المياه ثم تنحسر عنهم وقد خالطتها دماؤهم فانقلب لونها أحمر قانيًا. وحمى الوطيس وأبلى الروم وأبلى المسلمون أحسن البلاء، فكثر القتلى في الجانبين كثرة لم يعهد لها في ذلك العهد وفي مثل هذه الوقائع نظير. روي عن بعض من حضر ذلك اليوم أنه قال: «رأيت الساحل حيث تضرب الريح الموج وإن عليه لمثل الظرب العظيم من جثث الرجال، وإن الدم لغالب على الماء، وصبر الناس يومئذ صبرًا لم يصبروه في موطن قط.» وأصابت قسطنطين جراحات أوهنت قوته وضعضعت عزمه. فلما بلغ منه ومن رجاله ورأى المسلمين لا يهن لهم عزم أيقن أن الدائرة لهم عليه فولى مدبرًا بما بقي من أسطوله ورجاله، وقد آمن بأن بأس المسلمين في البحر لا يقل عن بأسهم في البر، وأنهم لا غالب لهم.

رأى عبد الله بن سعد فرار عدوه فلم يتعقبه، بل أمر الأسطول بالمقام في مكان الموقعة وبقي هناك أيامًا حتى استراح الناس ثم قفل راجعًا إلى مرفأ الإسكندرية، وقد طعن عليه خصومه وخصوم عثمان بن عفان بما فعل من ذلك، وأذاعوا في الناس أنه لو تعقب أسطول الروم لقضى عليه القضاء الأخير، ولسوغ هذا القضاء، ولو إلى حد، ما أصاب المسلمين من خسائر فادحة في الرجال. أما ولم يفعل بل ترك عدوه يولي الأدبار، فحق على عثمان أن يعزله. لكن عثمان لن يفعل وابن أبي سرح أخوه في الرضاع، وعثمان هو الذي استوهب دمه من النبي يوم فتح مكة بعد أن أهدر النبي هذا الدم الفاسد المفسد. وانطلقت ألسنتهم في عثمان وأظهروا من القول ما لم يكونوا ينطقون به، حتى لقد أمر ابن سعد ألا يركب معه محمد بن حذيفة ومحمد بن أبي بكر زعيما هذه الحركة.

أما قسطنطين فسار في سفينته إلى صقلية. فلما عرف أهلها ما أصابه، قالوا له: أهلكت النصرانية وأفنيت رجالها، لو أتانا العرب لم يكن عندنا من يمنعهم، ثم أدخلوه حمامًا وقتلوه فيه وتركوا من كان معه يعودون إلى القسطنطينية.

يطلق المؤرخون على هذه الغزاة اسم غزوة الصواري. وقد يتبادر إلى الذهن أنهم أسموها كذلك لما رووا أن المسلمين حين تهيئوا للمعركة ربطوا سفنهم بعضها ببعض، أو أنهم دنوا من الروم وربطوا سفنهم بسفنهم كما يقول ابن كثير في (البداية والنهاية). أم لعلها سميت كذلك؛ لأن المكان الذي وقعت فيه كان يدعى ذات الصواري. فالمؤرخون الذين رووا نبأ هذه الغزاة يقولون جميعًا: إن عبد الله بن سعد أقام أيامًا بعد المعركة بذات الصواري، ثم عاد بعدها ظافرًا إلى الإسكندرية.

ومقام عبد الله بن سعد بذات الصواري هو الذي دفع بعضهم للومه أن لم يتعقب أسطول قسطنطين في فراره. وليس لدينا من تفصيل الوقائع ما يجعلنا نشارك هؤلاء اللائمين في لومهم، ولا ما يدعونا لالتماس العذر لابن سعد؛ لأن العدد العظيم الذي فقده المسلمون من الرجال وما نال من بقي حيًّا من شدة الجهد قد مال به إلى الاكتفاء بظفره الحاسم بعدوه، وإلى إيثار المقام بمكان الموقعة لدفن القتلى وليستريح الناس. على أن الثابت أن الروم لم تقم لهم بعد هذه الغزاة في البحر قائمة، وأن المسلمين أصبحوا بعدها سادة البحرين المتوسط والأحمر، فأمنوا بذلك أن يسير العدو على ظهر الماء إلى أي مكان من شواطئهم. وذلك ما حدث. فلم يفكر الروم من بعدُ في العود إلى إفريقية، أو إلى مصر، أو الشام.

•••

بينما كان الروم يحاولون غزو الشام واسترداد مصر وإفريقية، ويسيرون لتدمير أسطول المسلمين فيلقاهم المسلمون ويردونهم على أعقابهم في كل مكان، ويدمرون أسطولهم، كانت ولايات فارس يثور بعضها الحين بعد الحين فيلزمها المسلمون الطاعة، ويندفعون إلى ما وراءها من أرض آسيا. وقد رأينا كيف صالحت أذربيجان المسلمين في آخر عهد عمر، فلما استخلف عثمان منعت ما كانت صالحت عليه، فسار إليها الوليد بن عقبة فأخضعها على مثل صلحها الأول، كما رأينا في أرمينية وكيف أعان عليه الروم، فكان ذلك داعيًا إلى اشتباكهم بالمسلمين وانتصار المسلمين عليهم.

وليس يرجع انتقاض الولايات الفارسية إلى وفاة عمر وإلى قيام عثمان في الخلافة مقامه. فكثيرًا ما حدث في عهد عمر أن انتقضت هذه الولايات ومنعت ما صالحت المسلمين عليه فغلبها المسلمون على أمرها من جديد وردوها إلى الطاعة والإذعان. نقضت همذان صلحها مع المسلمين بعد غزوة نهاوند، فسار إليها نعيم بن مقرن فاستولى على ما حولها من البلاد ثم حاصرها فطلب أهلها الصلح فقبل نعيم منهم على أن تقيم بهمذان قوة من المسلمين يذكر وجودها أهل المدينة بالعهد ويقبض أميرها منهم الجزية. ونقضت اصطخر وانتقض في ولاية فارس كل مكان استطاع الانتقاض فسار الحكم بن أبي العاص إليها، وكان شهرك ملك هذه الولاية لا يزال متوجًا، فانتصر عليه انتصارًا حاسمًا وقتله هو وابنه وأخضع هذه الأرجاء من أرض كسرى إلى الصلح الذي عاهدت المسلمين عليه من قبل. وانتقضت غير اصطخر وهمذان مدن وولايات أخرى؛ فأعاد المسلمون إلى نفوس أهلها اليقين بأن مقاومتهم قد تحطمت، وأن كل ثورة يقومون بها تنقلب وبالًا عليهم.

وليس عجبًا أن يطمئن أهل مصر والشام وأن تثور ولايات فارس الحين بعد الحين. فقد كانت الشام وكانت مصر قبل الفتح العربي ولايتين رومانيتين خاضعتين لسلطان بيزنطة، وكانت تؤدي إلى عاهل القسطنطينية خراجًا فادحًا. فلما فتحها المسلمون لم يكرهوا أحدًا من أهلها على الإسلام، وتركوا من شئون الإدارة لأبنائها ما طمأن هؤلاء الأبناء إلى الحكم العربي، وخففوا عن الناس أعباء الضرائب، فرضي الناس حكمهم ولم يكونوا يرضون حكم الروم. أما والعرب غالبون على أمر هذه البلاد كما كان الروم، أجانب عنها مثلهم، فلم يكن لدافع معقول أن يحرك أهل الشام أو أهل مصر للثورة بالعرب الفاتحين، وكانوا أكثر من الروم عدلًا ورحمة؛ لذلك كان حكمهم أحب إلى القلوب وأدنى إلى أن تسيغه نفوس لم يترك الروم لذويها من القوة أو المنعة ما يدفعون به غزو غازٍ أو فتح فاتح.

وثم عامل آخر أدى إلى اطمئنان أهل الشام وأهل العراق. ذلك أن قبائل كثيرة من العرب نزحت إلى هذه البلاد، واستقرت بها وأقامت فيها إمارة الغساسنة بالشام وإمارة اللخميين بالحيرة، وذلك إلى أجيال كثيرة قبل بعثة النبي العربي؛ لذلك كثيرًا ما أسرعت هذه القبائل فانضمت إلى بني عمومتها من العرب في صراعهم الروم والفرس، مع استمساك هذه القبائل أول الأمر بدينها. فلما تم للعرب الغلب في الشام وفي العراق، ودخل كثيرون من العرب الذين استقروا بهذين القطرين في الدين الجديد، فأصهروا إلى بني عمومتهم من أبنائه وأصبحوا وإياهم أمة إسلامية واحدة، كان ذلك من العوامل القوية الأثر في اندحار الروم حين حاولوا العود لغزو الشام، وحين عاونوا أهل أرمينية كي تكون بلادهم ثغرة ينفذ الروم منها إلى العراق.

ولم يغير من سكينة أهل العراق إلى الحكم الجديد أن المدائن عاصمة كسرى كادت تقع في بلادهم. فقد فرت قوات الفرس من المدائن ومن العراق كله إلى أرجاء إيران، فخلصت المدائن للعرب الفاتحين، ولأهل العراق الذين استقروا به منذ مئات السنين؛ لذا لا يحدثنا التاريخ عن انتقاض حدث في العراق بعد فتحه، سواء في عهد عمر أو عهد عثمان. وربما كان إنشاء البصرة والكوفة بأرض العراق وإقامة جند المسلمين بهما، وما كان لهذا الجند من قوة وبطش قد كان ذا أثر في استقرار الأمر بالعراق واستتباب السكينة في ربوعه.

فأما ما امتد إلى شرق العراق العربي من أرجاء فارس فقد بقيت الثورة كمينة في نفوس أهله، وبقيت لهم بقية ضئيلة من أمل في رجوع كسرى يزدجرد إليهم من منفاه في بلاد الترك ليعيد إلى بلاده مجد آبائه من بني ساسان. ولم يكن دافع هذا الأمل إلى نفوسهم عقيدة دينية تؤمن بها قلوبهم، فهم يدفعون عنها ويدفعون حياتهم ثمنًا لها، بل كانت تحركهم إليه عزة قومية وطئها العرب بأقدامهم وبسنابك خيولهم. ولكن هذه العزة المهانة لم تبلغ من نفوسهم مبلغ التفاني في سبيلها، وبيع الأرواح بيع السماح لافتدائها.

وربما استبقى العرب أنفسهم هذه البقية الضئيلة من الأمل في نفوس الفرس. فقد كان المسلمون الذين أقاموا بالبصرة وبالكوفة طرازًا غير طراز المسلمين الذين أقاموا بالشام وبمصر. كان المسلمون الذين آزروا معاوية بالشام، والمسلمون الذين آزروا عمرو بن العاص وعبد الله بن سعد بن أبي سرح بمصر، أكثرهم من أهل مكة والمدينة من المهاجرين والأنصار، وكثير منهم صحب رسول الله وامتثل تعاليمه وقاتل في سبيل الله معه. وهؤلاء لم يكن يثور بينهم نزاع أو تتلظى بينهم فتنة إلى سنوات عدة من عهد عثمان؛ لذلك لم يكن عمر ولا كان عثمان بحاجة إلى تغيير ولاتهم الحين بعد الحين، بل استقر معاوية بالشام منذ ولاه عمر عليه إلى أن صار الملك إلى بني أمية فاتخذوا دمشق عاصمتهم، واستقر ابن العاص ثم استقر عبد الله بن سعد من بعده بمصر إلى آخر العهد بعثمان. أما أهل البصرة والكوفة فكانوا من قبائل العرب البعيدة عن مكة والمدينة، قل منهم من كان قد صحب النبي أو استمع إليه أو قاتل معه؛ لذلك كانت العصبية القبلية كثيرًا ما تثور بينهم، وكثيرًا ما كان أمير المؤمنين يضطر لتغيير ولاتهم. ومنازعاتهم وبرمهم بالولاة هو الذي دفع عمر بن الخطاب ليقول: «هات أمرًا أن أصلح به قومًا أن أبدلهم أميرًا مكان أمير.»

ثم إن القبائل التي سكنت البصرة والكوفة كانت لا تفتأ تظهر البرم بسلطان قريش، ويذكر بنوها أن الفتح في فارس تم بأيديهم، فليس لقريش حق في التسلط عليهم، وكانت أنباء ذلك تصل إلى الفرس في شتى الولايات، فكانت تشجعهم على الثورة والانتقاض الحين بعد الحين.

وكانت أنباء ما يحدث من ذلك تبلغ يزدجرد في منفاه فيحرك في نفسه شعاعة من أمل في مناوأة العرب، واستخلاص عرشه من أيديهم، وقد كان له في كثير من الولايات أنصار يؤمن بعضهم بحقه المقدس في العود إلى عرش آبائه، ونجحوا في أن يبثوا في قلوب البعض الحقد على الفاتحين الذين سلبوهم سلطانهم، فكان هؤلاء وأولئك يعملون على بث القلق وإلهاب النفوس ودفعها للثورة والانتقاض.

كانت هذه العوامل تتحرك في عهد عمر، لكنها كانت أشد بروزًا في عهد عثمان. ذكرنا من قبل أن عثمان أبقى المغيرة بن شعبة على ولاية الكوفة سنة أربع وعشرين للهجرة تنفيذًا لوصية عمر ألا يعزل الخليفة من بعده واليًا من ولايته قبل انسلاخ عام من وفاته. وكان عمر حين سمى الشورى سمى سعد بن أبي وقاص بينهم؛ فقد قال: «فإن أصابت الخلافة سعدًا فذاك، وإلا فأيهم استخلف فليستعن به فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة.» أما وسعد بطل القادسية وفاتح المدائن ومنشئ البصرة والكوفة فلا عجب أن يوليه عثمان إمارة الكوفة خلفًا للمغيرة بن شعبة. وتولاها سعد فذكرت ولايته الناس بحميد فعاله في العراق كله. مع ذلك تحركت نفوس الفرس؛ لأنهم لم يذوقوا في بلادهم بأسه، فلم تنخلع قلوبهم لسماع اسمه. يقول البلاذري: «إن سعد بن أبي وقاص لما ولى الكوفة لعثمان بن عفان ولى العلاء بن وهب ماه وهمذان، فغدر أهل همذان ونقضوا، فقاتلهم. ثم إنهم نزلوا على حكمه فصالحهم على أن يؤدوا خراج أرضهم وجزية الرءوس ويعطوا مائة ألف درهم للمسلمين، ثم لا يعرض لهم في حرمة ولا مال ولا ولد.»

ولم تكن همذان وحدها هي التي انتقضت في عهد عمر، وفي عهد عثمان. بل انتقضت غيرها مدن وولايات كثيرة. وقد كانت الري كثيرة الانتقاض منذ فتحها نعيم بن مقرن في عهد عمر. يقول البلاذري:٥ «لما ولي سعد بن أبي وقاص الكوفة في مرته الثانية أتى الريَّ وكانت ملتاثة فأصلحها، وغزا الديلم وذلك في أول سنة خمس وعشرين، ثم انصرف. وحدثني بكر بن الهيثم عن بكر بن ضريس قاضي الري، قال: لم تزل الري بعد أن فتحت أيام حذيفة تنتقض وتفتح حتى كان آخر من فتحها قرظة بن كعب الأنصاري في ولاية أبي موسى الكوفة لعثمان فاستقامت.»

لم تغن فعال سعد عنه، فلم يبق واليًا على الكوفة غير سنة وبعض السنة ثم عزله عثمان عنها، وولى مكانه الوليد بن عقبة. ويذكرون سببًا لعزله أنه استقرض مالًا من بيت المال، وكان عليه عبد الله بن مسعود. فلما تقاضى عبد الله سعدًا ما استقرضه لم يتيسر لسعد أداؤه، فاستعان قومًا عند عبد الله لينظره إلى ميسرة، وأبى عبد الله وألح في اقتضاء ما لبيت المال عند والي الكوفة. وتلاقى سعد وعبد الله بعد ذلك، فقال ابن مسعود: «أدِّ المال الذي قبلك»، فقال سعد: «ما أراك إلا ستلقى شرًّا، هل أنت إلا ابن مسعود عبد من هذيل؟!» ويجيبه عبد الله بن مسعود: «وإنك لابن حمينة.» ويشتد الجدال، فيتدخل أحد حضور المجلس قائلًا: «والله إنكما لصاحبا رسول الله ينظر إليكما.» ولم يهدئ هذا القول، ولا هدأ ما قيل من مثله من حدتهما، ثم خرج سعد رافعًا يديه يكاد يستنزل اللعنة على عبد الله، ورفع إلى عثمان ما حدث فغضب على الرجلين وهمَّ بعزلهما. ثم إنه راجع نفسه فرأى سعدًا أحق باللوم؛ لأن امتناعه عن أداء ما عليه هو الذي جر إلى النزاع، فجريرة سعد فيما وقع أعظم؛ لذا عزله عن الكوفة واستبقى ابن مسعود على بيت المال وأسند منصب سعد إلى الوليد بن عقبة.

كان الوليد بن عقبة أمويًّا كعثمان، وكان إلى ذلك أخا عثمان لأمه. وكان متهمًا بشرب الخمر. لكنه كان شجاعًا جريء الجنان. سبقنا إلى ذكر فعاله حين انتقضت أذربيجان وكيف ردها إلى الطاعة، وكيف قاد الذين قاتلوا المنتقضين في أرمينية. ثم إنه كان رجلًا حازمًا حسن الإدارة يستعين على أهواء الخاصة وشهواتهم بتألف قلوب الكافة وتقريبهم منه بالعطاء. قيل: «كان الوليد أدخل الناس على الناس خيرًا، فكان يقسم للولائد والعبيد.»٦ ويقول الطبري: «كان الناس في الوليد فرقتين، العامة معه والخاصة عليه؛ لذا كان محبوبًا إلى الناس قريبًا إلى قلوبهم. بقي في ولاية الكوفة خمس سنين وليس لداره باب، ولا يجترئ عليه مع ذلك مجترئ لمحبة الناس له وتعلقهم به»؛ ولذا كان جند الكوفة طوع بنانه، وكانوا على أهبة دائمة للقضاء على كل انتقاض يقع في ولايات فارس الخاضعة لسلطانه. على أن أخذه الخاصة بالشدة انتهى إلى ائتمارهم وتربصهم، حتى إذا أمكنتهم الفرصة شكوه إلى عثمان لشربه الخمر فاستقدمه، وأقام عليه الحد وعزله، وولى سعيد بن العاص بن أمية مكانه. وسنعود عند الكلام عن حكومة عثمان إلى تفصيل الأسباب التي أدت إلى ائتمار المؤتمرين بالوليد بن عقبة، وكيف نجحوا في إقناع الخليفة بإقامة الحد عليه وعزله.

وكان سعيد بن العاص أمويًّا قريب القرابة لعثمان. كان قد ربي في حجر عثمان. فلما فتح المسلمون الشام ذهب إليه وأقام مع معاوية بن أبي سفيان وقاتل معه وعرف بلاءه وصلاحه. فلما بلغ عمر بن الخطاب أمره استقدمه إلى المدينة واستعمله وأسبغ عليه عطفه، ولم يمت عمر حتى كان سعيد من الرجال المعدودين في قرش، فلما ولاه عثمان الكوفة ذهب إليها وهو يعلم من تفشي الروح القبلية فيها ما جعله يؤثر الشدة على الرفق بأهلها، فلم يلبث حين بلغها وأزال عنه غبار السفر أن صعد المنبر فخطب الناس فقال: «والله لقد بعثت إليكم وإني لكاره، ولكني لم أجد بدًّا إذ أمرت أن أئتمر. ألا إن الفتنة قد أطلعت خطمها وعينيها، والله لأضربن وجهها حتى ألحقها أو تعييني، وإني لرائد نفسي اليوم.»

ليس هذا الفصل مكان التفصيل لسيرة سعيد مع أهل الكوفة وسياسته فيهم، وإنما حديثنا فيه عن سياسة الفتح في عهد عثمان. وقد كان لسعيد بن العاص من الأثر في ذلك بالقضاء على انتقاض طبرستان ما نقف الآن عنده. فقد كان ملك طبرستان قد صالح سويد بن مقرن في عهد عمر بن الخطاب على طبرستان، وجبل جيلان بأن يدفع أهلها جزية كل عام، وهم من بعد ذلك آمنون لا يغار عليهم ولا يتطرق أحد إلى أرضهم إلا بإذنهم. وقد ظلوا سنوات يؤدون الجزية كاملة حينًا، منقوصة حينًا. فلما كانت سنة ثلاثين من الهجرة فشا الانتقاض في أرجاء مختلفة من بلاد الفرس، فنقضت خراسان، ونقضت جرجان، ونقضت طبرستان، ونقضت بلاد غيرها. وعرف سعيد بن العاص أن والي البصرة، وكان عبد الله بن عامر، قد سار إلى خراسان يخضعها. فسار هو إلى قومس وجرجان وطبرستان. ومن عجب أن هذه البلاد التي صالحت سويد بن مقرن في آخر عهد عمر دون قتال فزعًا من بأس المسلمين، ورهبة لسلطانهم قد فكرت هذه المرة أن تقف وقفة المستيئس تريد أن تدفع هؤلاء الغزاة الذين بسطوا سلطانهم على ملك كسرى سبع سنوات أو تزيد. على أن سعيدًا لم يلق مقاومة بقومس ولا بجرجان، بل صالحه أهل جرجان على مائتي ألف، فلما أراد أن يزحف من جرجان إلى طبرستان مشاطئًا بحر قزوين قاتله أهل طميسه من ثغور طبرستان أشد قتال حتى صلى صلاة الخوف. واستمرت مقاومة هذا الثغر زمنًا دل سعيدًا على أن أهل طبرستان جمعوا له فيه، فما زال يدبر مكيدة الحرب حتى حاصرهم وحصرهم، وأراهم أن لا سبيل لهم إلى المضي في مقاومته. وتولاهم اليأس فسألوه الأمان فأجابهم إلى ما طلبوا على ألا يقتل منهم رجل واحد، لكنهم كانوا قد أرهقوه وجنده وقتلوا من المسلمين من لم يكن لقتلهم مثله عهد من قبل؛ لذلك لم يلبث القوم حتى فتحوا لسعيد أبواب حصنهم أن رأوه يقتحمه عليهم ويقتل من فيه جميعًا خلا رجلًا واحدًا. واحتوى المسلمون ما في الحصن، ثم انطلقوا في أرض طبرستان وصحاريها، فلم يجدوا من يقاومهم.

أبلى جند الكوفة هذا البلاء الحسن في مقاومة الولايات الفارسية التي انتقضت. ولم يكن جند البصرة أقل من جند الكوفة حسن بلاء. وقد كان أبو موسى الأشعري والي البصرة حين وفاة عمر. فلما استخلف عثمان أقره عليها ست سنوات، أي: إلى سنة تسع وعشرين، وقيل: بل أبقاه ثلاث سنوات ثم عزله وولَّى مكانه عبد الله بن عامر ابن خال عثمان.

وقد ظلت الولايات الواقعة في سلطان جند البصرة مطمئنةً إلى سكينتها زمنًا بعد مقتل عمر، ثم امتدت إليها عدوى الانتقاض من غيرها من بلاد فارس، فأرسل إليها أبو موسى من ردها إلى حمى الطاعة.

ولا يفصل المؤرخون ما صنع أبو موسى، ومن بعثهم من أمراء الجند لرد المنتقضين إلى الطاعة. ولعل اختلاف الروايات في مدة ولايته البصرة أثناء خلافة عثمان، وهل كانت ثلاث سنوات أو ست سنوات، هو الذي صرفهم عن هذا التفصيل. يقول الطبري:٧ «عزل عثمان أبو موسى الأشعري عن البصرة، وكان عامله عليها ست سنين وولاها عبد الله بن عامر بن كريز … وقيل: إن أبا موسى إنما عمل لعثمان على البصرة ثلاث سنين.» ويقول بإسناد: «لما ولى عثمان أقر أبا موسى على البصرة ثلاث سنين وعزله في الرابعة، وأمر على خرسان عمير بن سعد، وعلى سجستان عبد الله بن عمير الليثي، فأثخن فيها إلى كابل، وأثخن عمير في خراسان حتى بلغ فرغانة.» ثم يقول في سبب عزل أبي موسى: «ولما كانت السنة الثالثة كفر أهل أيذج والأكراد، فنادى أبو موسى في الناس فحضهم وندبهم، وذكر من فضل الجهاد في الرحلة حتى حمل نفر على دوابهم، وأجمعوا على أن يخرجوا رجالًا. وقال آخرون: والله لا نعجل بشيء حتى ننظر ما صنيعه، فإن أشبه قوله فعله فعلنا كما فعل أصحابنا. فلما كان يوم خرج أخرج ثقله من قصره على أربعين بغلًا، فتعلقوا بعنانه، وقالوا: احملنا على بعض هذه الفضول وارغب من الرجلة فيما رغبتنا فيه. فقنع القوم حتى تركوا دابته ومضى، فأتوا عثمان فاستعفوه منه، وقالوا: ما كل ما نعلم يجب أن نقوله، فأبدلنا به: فقال: من تحبون؟ فقال غيلان بن خرشة: في كل أحد عوض من هذا العبد الذي قد أكل أرضنا وأحيا أمر الجاهلية فينا … فدعا عبد الله بن عامر وأمره على البصرة.»

وكان عبد الله بن عامر في فتوة الشباب. كان ابن خمس وعشرين سنة، قويَّ الجنان جريئًا في الحرب. لما سمع أبو موسى بتوليته قال لأهل البصرة: «يأتيكم غلام خراج ولاج، كريم الجدات والخالات والعمات يجمع له الجندان.» ولم يكذب أبو موسى؛ فقد جمع عثمان لعبد الله بن عامر جند أبي موسى وجند عثمان بن أبي العاص الثقفي من عمان والبحرين.

انتفض أهل ولاية فارس لأول ما تولى عبد الله بن عامر أمر البصرة، فسير إليهم عبيد الله بن معمر ليردهم إلى الطاعة، ولقيهم عبيد الله على باب اصطخر فإذا بهم تواعدوا واستعدوا. ولقد استماتوا في القتال فانهزم المسلمون أمامهم وقتل عبيد الله فيمن قتل. فلما بلغ عبد الله بن عامر ما حدث استنقذ جند البصرة وسار بالناس إلى اصطخر، فلقيه الفرس فيها كما لقوا عبيد الله وقد استماتوا في القتال. لكن أبا عامر كان أوسع حيلة وأجرأ جنانًا وأبرع محاورة؛ لذلك تراجع الفرس ولاذوا بحصون المدينة فحاصرها عبد الله وحاصرهم فيها ورماها بالمجانيق وما زال يضيق عليها الحصار حتى وهنت، فأخضعها عنوة وقتل بها مقتلة عظيمة وأفنى أكثر أهل البيوتات فيها ومن كان قد لجأ إليها من أساورة الفرس. فلما ذلت اصطخر سار عبد الله عنها إلى غيرها من مدن ولاية فارس، فقاوم بعضها عبثًا وألقى بعضها سلاحه دون مقاومة. فقد اشتد عبد الله في معاملة هؤلاء الثائرين المنتقضين شدة أذلت أهل فارس جميعًا ونكست رءوسهم.

وهناك من اصطخر المدينة المقدسة وعاصمة الفرس القديمة بعث عبد الله بن عامر أمراء جنده إلى ولاية خراسان التي انتقضت ليذلوها ويلزموها الطاعة ويبعث إلى نفوس أهلها اليقين بأن انتقاضهم لن يكون من أثره إلا أن يعرضهم للفناء أو للهوان. وبينما كان هؤلاء يسيرون في خراسان كان سعيد بن العاص يغزو جرجان وطبرستان وما والاها من الأرجاء، ويلزمهم جزاء ما نقضوا وثاروا ذلة وهوانًا وجزية مضاعفة.

حدث انتقاض الكثير من ولايات فارس سنة ثلاثين من الهجرة. وسبب ذلك أن يزدجرد كسرى الفرس كان قد فر في خلافة عمر إلى خاقان الترك بسمرقند. فلما فتح الأحنف بن قيس بلاد خراسان وبلغ حدود الترك خشي خاقان الترك أن يجتاز المسلمون إلى بلاده، وأن يسلبوه ملكه، وأن يصنعوا به ما صنعوا بيزدجرد، فحشد جنده وحشد معه أهل فرغانة وسار بهم وبيزدجرد يلقى المسلمين بخراسان. وكان عمر بن الخطاب حين عرف فعال الأحنف بن قيس، وبلوغه بلخ قد أظهر غاية إعجابه به فصاح: «هو الأحنف وهو سيد أهل الشرق.» ثم بعث إليه في نفس الوقت يأمره ألا يجتاز خراسان إلى بلاد الترك. فلما أقبل خاقان ويزدجرد، ودخل خراسان انسحب الأحنف إلى مرو الروز وأقنع الترك بأنه لا يريد قتالهم، ولا يريد أن يتخطى أرض الفرس إلى أرضهم. فلما اقتنع خاقان بذلك ارتد راجعًا إلى بلاده. وكان يزدجرد قد وصل في قوة فارسية إلى مرو الشاهجان فحصر حارثه بن النعمان أمير الجند المسلمين بها، واستخرج خزانته من موضعها. وكانت هذه الخزائن ثروة يخطئ تقديرها الإحصاء. فلما عرف انسحاب خاقان الترك وعوده إلى بلاده أراد أن يلحق به، وأن يحمل خزانته إلى عاصمة الترك معه. وأبى عليه أهل فارس أن يحمل الخزائن معه وأشاروا عليه أن يصالح العرب ليبقى بينهم. فلما أبى عليهم ما أرادوا، وأصر على الفرار بالخزائن ثاروا به وقاتلوه واستولوا على الخزائن، ففر وحاشيته إلى فرغانة عاصمة سمرقند.

وأقام لاجئًا عند خاقان وفي نفسه بقية ضئيلة من أمل ضعيف في أن يعود يومًا إلى عرشه. فلما قتل عمر كبرت هذه البقية وخيل إليه أن الفرصة سانحة لإثارة فارس بالمسلمين، فكاتب رجاله في مختلف الولايات كيما يحرض الناس على الثورة والانتقاض. وكان أهل الولايات المختلفة لا تزال تملأ نفوسهم رهبة المسلمين منذ حطموا قوتهم، ثم كانوا قد رأوا من عدل المسلمين وتسامحهم ما جعل القليل من هذه الولايات هو وحده الذي يسمع لدعاية كسرى، فينتقض على الحكم الجديد. وأسرع المسلمون فقضوا على ما حدث من الانتقاض في أول عهده، فسكنت فارس كلها إلى ما أصابها، وسكن يزدجرد زمنًا غير قصير إلى سوء مصيره. على أن ما كان يحدث بالبصرة وبالكوفة من تغير المسلمين على ولاتهم، قد أدى إلى استرخاء قبضة المسلمين على الولايات الشرقية من أرض فارس. وشعر عمال يزدجرد بما حدث من ذلك فكاتبوه وأذاعوا الدعوة في أهل الولايات المختلفة أن كسرى قادم إليهم ليسترد ملكه، ودعوا أهل البلاد ليجمعوا أمرهم ليقوموا قومة رجل واحد في مؤازرة عاهلهم ليعود إلى عرشه؛ وليرد إلى بلاده ما ضاع من هيبتها ومن مكانتها. ونجحت الدعاية وعاد يزدجرد من ملجئه في فرغانة إلى خراسان فشجع ذلك كل فارسي وأثار حماسته ونخوته. وكذلك انتقضت الولايات الشرقية كلها وسارت بالمسلمين تريد أن تجليهم عن أرضها.

ترامت أنباء ذلك إلى سعيد بن العاص بالكوفة وإلى عبد الله بن عامر بالبصرة، فأيقنا أن الأمر إن يفلت من أيديهم تذهبْ ريح المسلمين في بلاد الفرس جميعًا. عند ذلك ينقلب خصوم عثمان بالمدينة عليه وينزعونه من الخلافة. وإذا ضاع عثمان ضاع سعيد وضاع ابن عامر وضاع كل أموي. وتلك هي الطامة الكبرى؛ لذا سار كل من الرجلين بنفسه وسير أمراء جنده وحرضهم وحضهم على الجهاد في سبيل الله دفاعًا عن دين الله وعن المسلمين جميعًا. ولا أحسبهما نسيا ما في هذا الجهاد من دفاع عن العصبية وعن سلطانهما الذاتي المتصل بهذه العصبية. فلو أنها ذهبت وذهب هذا السلطان الذاتي معها فهيهات أن يعود.

التقى المسلمون والفرس في مواقع عدة ودار بين الفريقين قتال رأيت من شدته ومن احتماء وطيسه في بعض المواطن ما يذكرنا بالغزوات الكبرى. وقد ظفر الفرس بالمسلمين في بعض هذه المواقع. انهزم عبيد الله بن معمر أمام الفرس في اصطخر، وأدى حياته ثمنًا لهزيمته وهزيمة المسلمين الذين كانوا في إمرته. وكان عبد الله بن عامر قد وجه الأسود بن كلثوم العدوى إلى بيهق، من أعمال نيسابور، فدخل البلد من ثغرة كانت في أسوارها، ودخل معه طائفة من المسلمين، فأخذ العدو عليهم تلك الثغرة فقاتلهم حتى قتل هو والذين معه.

على أن ظفر الفرس كان نادرًا. وكان عبد الله بن عامر لا يلبث حينما يسمع بشيء منه أن يخف بنفسه أو يبعث من أمراء جنده من يرد العدو على أعقابه، ويرفع أعلام النصر عالية للمسلمين. وسار إلى اصطخر بعد مقتل ابن معمر، ففتحها وأذل أهلها، وأكمل أدهم بن كلثوم ما بدأه أخوه الأسود ففتح بيهق. واندفع ابن عامر في أرض خراسان ووجه أمراء الجند إلى شتى أرجائها فأشاع بها من الفزع ما تطايرت أمامه كل دعاية ليزدجرد، وما جعل أمراء الفرس على المدن يهرعون إلى الصلح يلتمسونه التماسًا، ويقدمون في سبيله طائل الأموال وبارعات السبايا.

وقد ذكر البلاذري تفصيلًا لبعض ما صالح عليه الفرس من أهل المدن والولايات المختلفة، فإذا به يبلغ عدة ملايين، لا أدري كيف كان يحصيها العرب! أكانوا يعدونها عدًّا أم يكيلونها كيلًا؟! لا أراني بحاجة إلى تفصيل ما فرض على كل مدينة أو كل ولاية فتفصيله يطول ولا غناء فيه. وحسب القارئ لتستبين له صورة من ذلك أن يعلم أن المسلمين ساروا إلى أقصى الشرق من حدود فارس فردوا كل منتقض إلى الطاعة، وفتحوا ما لم يكن قد فتح في عهد عمر، وأنهم انحدروا في أفغانستان حتى صاروا على مقربة من حدود الهند. وتختلف الروايات: هل أخذوا كابول وغيرها من مدن أفغانستان واستقروا بها؟ أم أنهم ردوا عنها، أم فتحوها ثم خرجت عن الطاعة فلم يعودوا إليها في عهد الخلافة؟ وأرجح الروايات أنهم لقوا من الشدة في جبال الأفغان ما صرفهم أيام عثمان عن متابعة الغزو في تلك النواحي.

روي أن الناس قالوا لعبد الله بن عامر حين تم له كل هذا الفتح: ما فتح لأحد ما فتح عليك، فارس وكرمان وسجستان وخراسان! فقال: «لا جرم لأجعلن شكر الله على ذلك أن أخرج محرمًا من موقفي هذا، سأحرم بعمرة من نيسابور.» وقدم على عثمان واستخلف على خراسان قيس بن الهيثم.

بينما كان المسلمون تساير أعلامهم النصر في مختلف الأرجاء من أرض فارس، كان يزدجرد يفر من ولاية إلى ولاية حتى انتهى به الفرار إلى أن قتل في منزل رجل ينقر الأرض على شاطئ نهر المرغاب. والروايات في قتله كثيرة مضطربة. ويرجع اضطرابها إلى اختلاف التاريخ لفتح الولايات المختلفة من بلاد فارس، وهل تم كله في عهد عمر، أم أن فارس وكرمان وسجستان وخراسان لم تفتح إلا في عهد عثمان. والذي رجحناه في كتابنا عن الفاروق، ونرجحه هنا أن فارس كلها فتحت في عهد عمر، وأنها نقضت بعد ذلك وثارت، وأن يزدجرد انتهز فرصة ثورتها فعاد من ملجئه عند خاقان الترك إليها. ويتعذر القول في أي سنة من عهد عثمان عاد. لكنه لم يلبث بعد عوده أن حاول قتال العرب، فجمع حوله جندًا يقاتل به عدوه. لكن هذا الجند لم يغن عنه شيئًا، ففر من كرمان إلى سجستان إلى خراسان، وهناك على شط المرغاب لقي حتفه.

وتجمع الروايات على أنه لم يقتل حين فراره أمام المسلمين، بل قتل لاختلافه مع ملوك الفرس وأساورتهم، يقول البلاذري:٨ إن «يزدجرد جلس ذات يوم بكرمان، فدخل عليه مرزبانها فلم يكلمه تيهًا، فأمر بجر رجله وقال: ما أنت بأهل لولاية قرية فضلًا عن الملك، ولو علم الله فيك خيرًا ما صيرك إلى هذه الحال! فمضى إلى سجستان فأكرمه ملكها وأعظمه، فلما مضت عليه أيام سأله عن الخراج فتنكر له. فلما رأى يزدجرد ذلك سار إلى خراسان فلما صار إلى حد مرو تلقاه ماهويه مرزبانها معظمًا مبجلًا. وقدم عليه نيزك طرخان فحمله وخلع عليه وأكرمه، فأقام نيزك عنده شهرًا ثم شخص وكتب إليه يخطب ابنته، فأحفظ ذلك يزدجرد وقال: اكتبوا إليه إنما أنت عبد من عبيدي فما جرأك على أن تخطب إلي. وأمر بمحاسبة ماهويه مرزبان مرو وسأله عن الأموال، فكتب ماهويه إلى نيزك يحرضه عليه ويقول: هذا الذي قدم مفلولًا طريدًا فمننت عليه ليرد عليه ملكه، فكتب إليك بما كتب. ثم تضافرا على قتله. وأقبل نيزك في الأتراك حتى نزل الجنابذ فحاربوه فتكافأ مع الترك، ثم دارت الدائرة عليه فقتل أصحابه ونهب عسكره، فأتى مدينة مرو فلم يفتح له فنزل عن دابته ومشى حتى دخل بيت طحان على المرغاب.»

ثم يقص البلاذري بعد ذلك قصة قتله في بيت ذلك الطحان.

وقد أورد الطبري قصة نيزك ويزدجرد على غير هذا النحو. كما أورد قصصًا أخرى تنتهي كلها إلى مقتل يزدجرد في بيت الطحان. وخلاصة ما أورده الطبري عن قصة نيزك أن يزدجرد فر بعد وقعة نهاوند إلى أصبهان وبها يومئذ دهقان يقال له: مطيار. وكان له عند أهل أصبهان حظوة؛ لأنه قاتل العرب ونال منهم. وأراد مطيار أن يدخل يومًا على يزدجرد فحجبه بوابه فعظم ذلك عليه فوثب على البواب فشجه فأدماه. ودخل البواب على يزدجرد فأفظعه منظره ورأى بعد أن عرف سبب ما نزل به أن لا مقام له بأصبهان فارتحل عنها إلى سجستان، ثم سار من سجستان إلى مرو في ألف رجل من الأساورة. وكان ماهويه دهقان مرو. ولأمر ما أراد يزدجرد أن يصرف الدهقنة عنه إلى ابن أخيه سنجان، فعمل ماهويه على هلاكه؛ لذا كتب إلى نيزك طرخان أن تكون أيديهم معًا في أخذ يزدجرد وقتله ومصالحة العرب عليه. وكتب نيزك إلى يزدجرد أنه قادم إلى نصرته. وخدع قوم يزدجرد فلقي نيزك في غير سلاح ولا جند، مطمئنًّا إليه وواثقًا به؛ فلما توسط نيزك عسكره خطب إلى يزدجرد ابنته ليقاتل معه عدوه. وغضب يزدجرد وسب نيزك فعلاه نيزك بخفقته، ففر يزدجرد حتى انتهى إلى بيت الطحان على المرغاب وهناك قتل.

وفي رواية أخرى يسوقها الطبري عن ابن إسحاق أن يزدجرد هرب من كرمان إلى مرو فسأل مرزبانها مالًا فمنعه. فخاف أهل مرو أن يعدو عليهم يزدجرد بعسكره، فأرسلوا إلى الترك يستنصرونهم عليه فأخذوه فبيتوه وقتلوا أصحابه ففر يزدجرد إلى منزل الطحان على المرغاب حيث قتل.

والروايات في مقتل يزدجرد تختلف اختلافها في فراره. ولا حاجة بنا إلى تفصيل هذه الروايات في مثل إسهاب الطبري وغيره من المؤلفين. وحسبنا أن نشير إلى أن بعضها يذكر أن الطحان رأى على يزدجرد حلة فلما نام قتله، أو أنه قدم له طعامًا فأكل وأتى له بشراب فسكر، فلما كان المساء أخذ منه الشراب فوضع تاجه على رأسه فعرفه الطحان فطمع فيه فقتله وأخذ جواهره وثيابه وألقاه في الماء، ثم عرف ماهويه خبره فقتل الطحان وأهل بيته وأخذ تاج كسرى وجواهره وثيابه. ويذكر البعض أن الطحان أخبر ماهويه بوجود يزدجرد عنده فعبث ماهويه عسكره، فذهبوا إلى يزدجرد فقتلوه، أو أنهم ذهبوا إليه فوجوده في النهر فأخرجوه منه فقال لهم: دعوني أصالح العرب، فأبوا عليه وقتلوه. وفي رواية أن الترك انتقموا له ووضعوا جثته في تابوت وحملوها إلى اصطخر حيث دفن. وأيما الروايات تصح فكلها تتفق على أن يزدجرد قتل بعد فراره إلى منزل ذلك الطحان، وبمقتله انتهت دولة الأكاسرة من بني ساسان.

فلم يكن ليزدجرد عقب يجتمع الناس حوله أو ينادون بأنه الوارث الشرعي للعرش. ثم إن كسرى قضى أربعًا وعشرين سنة بين اعتلائه العرش، ومقتله لم يسترح إلى الملك أثناءها إلا أربع السنوات الأولى، ثم ظل من بعد ذلك عشرين سنة حسومًا في فرار دائم أمام العرب الذين كانوا يطاردونه من ولاية إلى ولاية، ويضطرونه إلى مغادرة بلاده يستنصر الترك أو الصين، فلا يزجرونه إلا حين يخاف الترك أن يدهمهم العرب في عقر دارهم. أما وذلك شأنه وهذه ميتته، فأحرى بمقتله أن يسقط هيبة الملك في نفس كل فارسي، وأن يجعل أمراء الولايات يغتبط كل منهم، حين يبقى المسلمون، له سلطان كسلطانه في عهد الأكاسرة، ثم تكون الكلمة العليا للعرب في شئون الدولة العامة. والمؤرخون يذكرون أن يزدجرد اتصل بامرأة بيرو قبيل مقتله فولدت بعد أن مات غلامًا ذاهب السن سمي المخدج، وأن المخدج هذا ولد له بخراسان أولاد بينهم جاريتان بعث الحجاج بن يوسف بهما أو بإحداهما إلى الوليد بن عبد الملك فكان يزيد بن الوليد الناقص من نسل إحدى الجاريتين. فطبيعي ألا يكون لهذا المخدج أو لعقبه نصير من الفرس يجمع كلمة الناس حوله.

خمدت بمقتل يزدجرد مقاومة الفرس في أرجاء المملكة جميعها، فصالح المسلمين منهم من لم يكن صالحهم، ولم يشذ عن ذلك إلا جماعة الترك من أهل بلخ، وكانوا يجاورون ولاية الباب في أقصى الشمال الغربي من أرض إيران المشاطئة لبحر الخزر. ولا عجب أن تظل هذه المنطقة من أرض فارس أكثر المناطق استعصاءً على الفاتحين وأشدها ثورة بهم. فهي منطقة جبلية وعرة المسالك، وأهلها قوم ألفوا الحرب والانتقاض، فلا يسلمون طائعين وإن أحاط بهم العرب من كل جانب. ولقد أراد عبد الرحمن بن ربيعة حين بلغ أرضهم أن يقتحمها عليهم فقاوموه وقتلوه، وهزموا من كان في إمرته من المسلمين. وخشي عثمان ما ربما يكون لذلك من أثر في سائر الولايات، وأراد أن يثأر المسلمون لإخوانهم فكتب إلى سعيد بن العاص أمير الكوفة، وإلى معاوية بن أبي سفيان أمير الشام ليمد المسلمين الذين انحازوا بعد هزيمتهم إلى الباب، فسار حبيب بن مسلمة الفهري بأمر معاوية، وسلمان بن ربيعة الباهلي بأمر سعيد بن العاص إلى حيث أمرهم عثمان أن يسيروا. وانتصر المسلمون وأخذوا (فرج بلنجر) عنوة. لكن أهل الكوفة وأهل الشام اختلفوا من بعد. وكان هذا أول خلاف وقع بين جند المسلمين، والطبري ينسب خلافهم إلى أن سلمان أراد أن يتأمر على حبيب فأبى، وقال أهل الشام: … لقد هممنا بضرب سلمان. وقال أهل الكوفة: … إذن والله نضرب حبيبًا فيكثر القتل فيكم وفينا. وفي ذلك يقول شاعر أهل الكوفة أوس بن مغراء:

إن تضربوا سلمان نضرب حبيبكم
وإن ترحلوا نحو ابن عفَّان نرحل
وإن تقسطوا فالثَّغر ثغرُ أميرنا
وهذا أميرٌ في الكتائب مقبلُ
ونحن ولاةُ الثَّغر كنا حماتَهُ
ليالي. نَرمِي كلَّ ثَغرٍ ونُنْكِل

أما البلاذري فيرد الخلاف إلى أن سلمان بلغ مكان الموقعة بجنده بعد أن فرغ أهل الشام من عدوهم. فطلب أهل الكوفة إليهم أن يشركوهم في الغنيمة فأبوا، فتغالظ حبيب وسلمان في القول وتوعد بعض أهل الشام سلمان بالقتل، فقال شاعر أهل الكوفة الأبيات التي سلف ذكرها.

•••

استتب الأمر للمسلمين في فارس كما استتب لهم في إفريقية، فلم يلقوا إلى آخر خلافة عثمان محنة تذكر. وقد يحسب بعضهم هذا عجبًا. فسنرى عما قريب حين نعرض بالحديث لحكومة عثمان واتجاهات الرأي في عهده وما نشأ عن هذه الاتجاهات من آثار انتهت إلى الثورة وإلى مقتل عثمان، أن دبيب الشقاق كان يدب في هذه الدولة الناشئة حتى لقد هدد كيانها بالخطر. فكيف مع ذلك أقام أهل فارس على الهوان، وكيف تقاعس الروم فلم ينتهزوا الفرصة، ولم ينهضوا للأخذ بثأرهم واسترداد ما ضاع من ملكهم؟!

ليس الجواب على هذا السؤال عسيرًا، فقد بلغ النظام الاجتماعي والنظام السياسي في الفرس والروم مبلغًا من الهرم والانحلال صرف الناس عن التحمس له والدفاع عنه؛ لذلك لم تكن تحرك فرق الجند حين ذهابها لقتال العرب فكرة تدافع عنها، أو رجاء تريد تحقيقه، أو مثل إنساني أعلى يسعد الناس به، بل كانت هذه الفرق تذهب طوعًا لأمر السادة الحاكمين. وقل أن دفعت الطاعة للحاكم وحدها إلى تضحية وإن قلت، ما بالك والجندي يسير إلى ميدان القتال ليضحي بحياته؛ لهذا كان قواد الفرس وقواد الروم لا يضربون للجنود مثلًا في الإقدام، وكان الجنود أنفسهم أشد ما يكونون اغتباطًا ورضًا من الغنيمة بالإياب.

أما المسلمون فكانوا لا يزالون مأخوذين بجلال الدين الجديد والدعوة السامية إلى الأخوة الإنسانية، مندفعين إلى مثل أعلى يريدون تحقيقه. صحيح أن دبيب الخلاف بدأ يدب بين بني هاشم وبين بني أمية منذ استخلف عثمان. لكنه كان يدب على استحياء، فلم يكن يبدو للناس منه أثر، ولم يكن يحركهم إلى الانتقاض. وصحيح كذلك أن العرب من مختلف القبائل كانوا ينقمون على قريش سيادتها عليهم وسلطانها فيهم، وكانوا يظهرون البرم بهذا السلطان بين حين وحين. لكن هذه المنافسة وهذا البرم كانا لا يزالان في المهد، يتحدث عنهما الأفراد ولا يصلان إلى تحريك الجماعات. ولم تكن هذه المنافسات لتبلغ بحال إلى حيث تطغي على إيمان العرب بالرسالة السامية التي ألقى القدر عليها نشرها في ربوع الأرض جميعًا؛ لذا لم يكن من أثر التيارات الخفية التي كانت تمهد للثورة ولمقتل عثمان أن تقف سير الفتح أو تضعف ما دفعه الدين الجديد، والنظام الجديد إلى نفس المسلمين من قوة، وإن أمكن القول: بأن المسلمين كانوا قادرين لولاها على أن يذهبوا إلى أبعد مما ذهبوا، وأن يفتحوا أكثر مما فتحوا.

وهذا تفسير طبيعي؛ فقد قاوم العرب الدين الجديد مقاومة عنيفة، وتغلب على مقاومتهم لهذا الدين العرب الذين آمنوا به ورأوا فيه دعوة سامية إلى مبادئ بالغة غاية الرفعة. فلما واجهوا الفرس وواجهوا الروم وظفروا بهم زادهم الظفر بهذا الدين إيمانًا، ولم يبق في نفوس الجماعات العربية ريب في أن الاستمساك به هو الذي أعزهم وأعلى كلمتهم وجعلهم سادة أولئك الذين كانوا إلى عهد قريب سادة العالم. مع ذلك لم تنتزع المبادئ السامية الجديدة من النفوس كل ما ورثت من ماضيها الطويل القديم، ولم تنتزع منها بخاصة ما اعتبره أصحاب هذا الماضي غير متناف مع هذه المبادئ. وهل تتنافى خصومة بني هاشم وبني أمية مع ما أوحى الله إلى رسوله. أو ليست قرابة بني هاشم إلى الرسول مؤيدة لهم في طلب الخلافة من بعده. أوليس ما نفاه الإسلام من تفاضل بين الناس إلا بالتقوى، وما أقره من أن الأمر شورى بين المسلمين مؤيدًا لبني أمية وهم أكثر من بني هاشم نفرًا وأعز منهم بين العرب مكانة. ولكن ما فضل بني أمية على سائر العرب وهؤلاء العرب هم الذين فتحوا، وغنموا وأقاموا بناء الإمبراطورية. وما فضل العرب على غيرهم من اليهود والنصارى الذين دخلوا في الإسلام. واليهود والنصارى أهل كتاب قبل إسلامهم، على حين كان العرب كفارًا عبدة أوثان وأصنام؛ لا عجب إذن أن تتحرك هذه المعاني في النفوس في عهد عثمان. فالإيمان بالفكرة المجردة شيء، ومواجهة هذه الفكرة بواقع الحياة وتطبيقها على هذا الواقع شيء آخر.

على أن هذا التفكير لم يكن ليطغى على جلال الفكرة الإسلامية في عهد عثمان. فقد كان في النشأة الأولى لا يزال، ولم يكن ليمتد إلى الجماعات المندفعة بقوة الدين الجديد تفتح بلادًا عدا الانحلال على كل ما فيها من عقائد ونظم؛ لذلك اطرد الفتح واستقر. مع ذلك أثمر هذا التفكير اتجاهات جديدة في حياة الإمبراطورية الناشئة، وكان له من الأثر ما انتهى إلى الثورة وإلى مقتل عثمان.

وقد كان لحكومة عثمان أثر في اطراد الفتح واستقراره. وكان لها أثر كذلك في تشجيع العوامل التي انتهت إلى مقتل الخليفة الشيخ. وسنرى هذا الأثر في الفصل التالي عن حكومة عثمان واتجاهات الرأي في عهده.

١  فتوح البلدان ص٢٠٠ (الطبعة التجارية ١٩٣٢م).
٢  فتح العرب لمصر.
٣  ورد في ابن كثير أن عثمان بن عفان أمر بعد فتح إفريقية بفتح الأندلس، وسير إليها عبد الله بن نافع بن الحصين وعبد الله بن نافع بن قيس، وأنه قال: إن القسطنطينية إنما تفتح من قبل الأندلس، أو أن المسلمين فتحوها في عهده. أما البلاذري فيذكر أن طارق بن زياد عامل موسى بن نصير هو أول من غزا الأندلس. وهذا القول هو الصحيح.
٤  في بعض الروايات أنه سار إلى إفريقية. والذي تولى قيادة أسطول المسلمين هو عبد الله بن سعد والي مصر، فالرواية بأن الروم ساروا إلى الإسكندرية أرجح.
٥  فتوح البلدان ص٣١٥ (طبعة التجارية ١٩٣٢).
٦  الطبري ج٣ ص٣٣٠ (طبعة المكتبة التجارية سنة ١٩٣٩).
٧  تاريخ الطبري ج٣ ص٣٢٠ (طبعة التجارية ١٩٣٩).
٨  فتوح البلدان ٣١٢ (طبعة التجارية ١٩٣٢).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤