الفصل الخامس

نهاية عثمان

كانت الكوفة موطن الثورة الأساسي في خلافة عثمان، فكثيرًا ما أظهر أبناؤها تذمرهم من أمرائهم وولاتهم، فسخطوا على سعد بن أبي وقاص، ثم اتهموا الوليد بن عقبة بشرب الخمر، فولَّى عثمان سعيد بن العاص، فلما قدم على الكوفة قال لأهلها في خطبة له: إنه تولى أمورهم وهو كاره لذلك، وأعلن أن الفتنة قد أطلعت خطمها وعينيها. ثم أخذ سعيد يدرس أحوال الكوفة وأهواء أهلها ليتبين مواطن الداء. ولما وقف على حقيقة الحال فيها كتب إلى عثمان بما شاهده في هذه المدينة، فقال: «إن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم، وغلب على أهل الشرف والبيوتات منهم، والغالب على تلك البلاد روادف قدمت، وأعراب لحقت، حتى لا ينظر إلى ذي شرف أو بلاء من نابتتها ولا نازلتها.» فبعث عثمان إلى سعيد بن العاص يطلب إليه أن يقدم الصحابة على غيرهم من سكان الكوفة. وقد جاء في كتابه: «أما بعد، ففضل أهل السابقة والقدم، ومن فتح الله عليه تلك البلاد، وليكن من نزلها من غيرهم تبعًا لهم، إلا أن يكونوا تثاقلوا عن الحق وتركوه، وقام به هؤلاء، واحفظ لكل منزلته، وأعطهم جميعًا بقسطهم من الحق، فإن المعرفة بالناس يصاب بها العدل.»

كذلك ألقى عثمان على أهل المدينة خطبة، أخبرهم فيها بما وصله عن الحالة في الكوفة وحذرهم الفتنة، وعرض عليهم أن ينقل إلى الناس فيئهم حيث يقيمون في بلاد العرب، فرحب أهل المدينة بذلك وقالوا له: كيف تنقل إلينا ما أفاء الله علينا من الأرض؟ فقال عثمان: «نبيعها ممن شاء بما كان بالحجاز واليمن وغيرهما من البلاد.» فأظهروا ابتهاجهم وفتح الله لهم أمرًا لم يكن في حسابهم.

وكان هناك فريق من المسلمين يملك كثيرًا من المال بالحجاز، فاشتروا بهذا المال أرضًا في بلاد العراق التي اشتهرت بالخصب والثراء، وأصبح عدد كبير منهم من كبار الأثرياء مما أدى إلى تذمر العرب الذين كانوا يقيمون في أمصار العراق، وازداد سخطهم على عثمان وولاته لحرمانهم من الفيء والغنائم، وطالبوا الخليفة بألا يعطي من الفيء إلا الذين قاتلوا عليه. كما أن كثيرًا من سكان الأمصار الإسلامية أظهروا عدم ارتياحهم لسياسة عثمان.

أخذت بعض الشخصيات تثير السخط في نفوس أهل هذه الأمصار. من ذلك ما قام به عبد الله بن سبأ — وكان يهوديًّا من أهل صنعاء ببلاد اليمن ثم اعتنق الإسلام في أيام عثمان — إذ تنقل في الأمصار الإسلامية محاولًا إثارة الناس ضد عثمان. ففي البصرة تأثر بدعوته كثير من العامة. ولما تناهى أمره إلى عبد الله بن عامر أخرجه منها، فرحل إلى الكوفة يبث دعوته، ثم طُرد ابن سبأ من الكوفة، فقصد الشام، لكن معاوية ما لبث أن أمره بالرحيل عنها، فذهب إلى مصر حيث أخذ ينشر دعوته، ويرسل منها رسله إلى أشياعه في البصرة والكوفة؛ وكانت دعوته تتضمن أن لكل نبي وصيًّا، وأن عليًّا وصي محمد وأنه خاتم الأوصياء بعد محمد خاتم الأنبياء، وبذلك هيأ العقول إلى أن عثمان أخذ الخلافة بغير حق من عليٍّ وصي رسول الله.

ومن الشخصيات التي عارضت سياسة عثمان أبو ذر الغفاري — أحد كبار أئمة الحديث — الذي دعا إلى إصلاح أحوال المسلمين وتخفيف الفروق بين الأغنياء والفقراء. ذلك أن العرب الذين نزحوا إلى الولايات المفتوحة حصلوا على ثروات كبيرة، في حين كان إلى جوارهم بعض المسلمين يحيون حياة أقرب إلى الفاقة منها إلى التقشف. وصار أبو ذر ينكر على عثمان سياسته في التولية والعزل. فلما أمره عثمان بالرحيل إلى الشام، رحل إليها وأخذ يقول هناك ما قاله في المدينة، ويدعو إلى مواساة الفقراء، وما زال ينشر دعوته حتى رأى معاوية بن أبي سفيان أن يختبر صدق نوايا أبي ذر، فبعث إليه ذات ليلة برسول يحمل إليه ألف دينار، ثم أوعز إلى رسوله في الصباح ليستردها منه معتذرًا بأن المقصود بها غيره، فوجد أن أبا ذر وزعها على الفقراء، فأيقن معاوية أن أبا ذر جاد في دعوته. ولما خشي معاوية على أهل الشام من دعوة أبي ذر وكثرت شكايات الأغنياء مما يلقون من الفقراء، كتب يشكو منه إلى عثمان؛ فبعث عثمان إلى معاوية يأمره بإنفاذه إليه، ثم أذن له بعد قدومه إلى المدينة بالإقامة في الربذة؛١ وصار يجري عليه العطاء حتى مات.

رأى عثمان إزاء الدعايات السيئة في الأمصار الإسلامية ضد سياسته أن يبعث في طلب ولاته على هذه الأمصار في موسم الحج سنة ٣٤ﻫ ليكشفوا له عن أسباب الفتنة؛ فقدم عليه عبد الله بن عامر ومعاوية بن أبي سفيان وعبد الله بن أبي سرح وسعيد بن العاص وعمرو بن العاص؛ فلما اجتمع شملهم في الموسم، قال لهم: «إن لكل إمام وزراء ونصحاء، وإنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي. وقد صنع الناس ما رأيتم وطلبوا إليَّ أن أعزل عمالي وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون؛ فاجتهدوا رأيكم وأشيروا علي.» فقال له ابن عامر: «أرى لك يا أمير المؤمنين أن تشغلهم بالجهاد عنك حتى يذلوا لك ولا يكون همة أحدهم إلا في نفسه …» وقال سعيد: «احسم عنك الداء، فاقطع عنك الذي تخاف. إن لكل قوم قادة متى تهلك يتفرقوا ولا يجتمع لهم أمر»؛ فقال عثمان: «إن هذا هو الرأي لولا ما فيه.» وقال معاوية: «أشير عليك أن تأمر أمراء الأجناد فيكفيك كل رجل منهم ما قبله وأكفيك أنا أهل الشام.» وقال عبد الله بن سعيد: «إن الناس أهل طمع فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم.» ثم قام عمرو بن العاص، فقال: «يا أمير المؤمنين إنك قد ركبت الناس بمثل بني أمية فقلت وقالوا وزغت وزاغوا. فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزمًا وأقدم قدمًا.» فقال له عثمان: «أهذا الجد منك؟» فسكت عمرو حتى تفرقوا فقال: «والله يا أمير المؤمنين لأنت أكرم علي من ذلك، ولكني علمت أن بالباب من يبلغ الناس قول كل رجل منا، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي، فأقود إليك خيرًا وأدفع عنك شرًّا.»

لما عاد عثمان إلى المدينة بعد أن فرغ من مشاورة ولاته. عقد مجلسًا آخر شهده معاوية بن أبي سفيان وبعض كبار الصحابة، ومن بينهم علي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص. وبدأ معاوية الحديث بقوله: «أنتم أصحاب رسول الله وخبرته وولاة أمر هذه الأمة، لا يطمع في ذلك أحد غيركم، اخترتم صاحبكم من غير غلبة ولا طمع، وقد كبرت سنه وولى عمره، ولو انتظرتم به الهرم كان قريبًا، مع أني أرجو أن يكون أكرم على الله أن يبلغ به ذلك، وقد فشت قالة خفتها عليكم، فما عتبتم فيه من شيء فهذه يدي لكم به ولا تطمعوا الناس في أمركم، فوالله لئن طمعوا في ذلك لا رأيتم فيها أبدًا إلا إدبارًا.» فرد علي بن أبي طالب على مقالة معاوية بقوله: «وما لك وذلك؟ وما أدراك، لا أم لك.» فغضب معاوية إذ عرض عليٌّ بأمه هند وقال: «دع أمي مكانها، ليست بشر أمهاتكم، قد أسلمت وبايعت النبي ، وأجبني فيما أقول لك.» فقال عثمان: «صدق ابن أخي إني أخبركم عني وعما وليت، إن صاحبي اللذين كانا قبلي ظلما أنفسهما ومن كان منهما بسبيل احتسابًا، وإن رسول الله كان يعطي قرابته وأنا في رهط أهل عيلة وقلة معاش، فبسطت يدي في شيء من ذلك المال لمكان ما أقوم به فيه، ورأيت أن ذلك لي، فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه، فأمري لأمركم تبع. فقالوا: أصبت وأحسنت.» وانفض جمعهم وهم راضون.٢

أخذت الأمصار تحذو حذو الكوفة في التعبير عن استيائها من سياسة عثمان وسياسة عماله؛ فأقبل إلى المدينة في رجب سنة ٣٥ﻫ وفد كبير من أهل العرب في مصر. وكانوا قد كاتبوا أشياعهم من أهل الأمصار أن يتوافدوا بالمدينة. وأظهروا أنهم يريدون أن يسألوا عثمان عن أشياء لتطير في الناس ولتحق عليه. فأرسل إليهم عثمان رجلين أحدهما من بني مخزوم والآخر من بني زهرة؛ ليقفا على سبب مجيئهم إلى المدينة. فلما التقيا بهم، قالوا لهما: نريد أن نذكر له (أي: لعثمان) أشياء قد زرعناها في قلوب الناس، ثم نرجع إليهم فنزعم لهم أنا قررناه بها، فلم يخرج منها ولم يتب، ثم نخرج كأنا حجاج حتى نقدم فنحيط به، فنخلعه، فإن أبى قتلناه. ثم عاد الرجلان إلى عثمان وأخبراه بما سمعاه عن هؤلاء القوم، فضحك وقال: «اللهم سلم هؤلاء، فإنك إن لم تسلمهم شقوا.»

دعا عثمان المسلمين إلى صلاة جامعة، فأقبلوا جميعًا إلى مسجد المدينة، وفيهم صحابة الرسول ، فوقف عثمان فيهم خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، وأخبرهم خبر القوم، ثم قام الرجلان اللذان كان عثمان قد بعثهما للوقوف على حقيقة أغراض الوافدين إلى المدينة، فقالا لعثمان: «اقتلهم، فإن رسول الله قال: من دعا إلى نفسه أو إلى أحد وعلى الناس إمام فعليه لعنة الله، فاقتلوه.» فقال عثمان: «بل نعفو ونقيل ونبصرهم بجهدنا، ولا نحاد أحدًا حتى يركب حدًّا أو يبدي كفرًا، إن هؤلاء ذكروا أمورًا قد علموا منها مثل الذي علمتم إلا أنهم زعموا أنهم يذاكرونها ليوجبوها عليَّ عند من لا يعلم.» ثم أخذ عثمان يسوق ما اتهمه به هؤلاء الثوار ويدافع عن نفسه فيرد الاتهام عنه، فقال: «قالوا: أتم الصلاة في السفر وكانت لا تتم، ألا وإني قدمت بلدًا فيه أهلي، فأتممت لهذين الأمرين أوكذلك؟» فقالوا «اللهم نعم.» وانتقل عثمان إلى الاتهام الثاني، فقال: «وقالوا: وحميت حمى، وإني والله ما حميت حمى قبلي، والله ما حموا شيئًا لأحد ما حموا إلا غلب عليه أهل المدينة، ثم لم يمنعوا من رعيته أحدًا، واقتصروا لصدقات المسلمين يحمونها؛ لئلا يكون بين من يليها وبين أحد تنازع، ثم ما منعوا ولا نحوا منها أحدًا إلا من ساق درهمًا. وما لي من بعير غير راحلتين … وإني قد وليت وإني أكثر العرب بعيرًا وشاة، فما لي اليوم شاة ولا بعير غير بعيرين لحجي، أكذلك؟» فقال له الحاضرون: «اللهم نعم.» وطلبوا منه أن يقتل هؤلاء الثوار؛ فأبى عثمان ومضى يفند اتهاماتهم له؛ فقال: «وقالوا: إني رددت الحكم بن العاص — وقد سيره رسول الله — والحكم مكي سيَّره رسول الله من مكة إلى الطائف، ثم رده رسول الله ؛ فرسول الله سيره، ورسول الله رده … أكذلك؟» فأجاب الحاضرون: «اللهم نعم.» ثم قال عثمان: وقالوا: استعملت الأحداث، ولم أستعمل إلا مجتمعًا محتملًا مرضيًّا، وهؤلاء أهل عملهم فسلوهم عنه. وهؤلاء أهل بلده، ولقد ولَّى مَن قبلي أحدث منهم، وقيل في ذلك لرسول الله أشد مما قيل لي في استعماله أسامة.٣ أكذلك؟» فأجاب الحاضرون في المسجد: نعم.

واصل عثمان تفنيد الاتهامات التي وجهت إليه فقال: «وقالوا: إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي فإنه لم يمل معهم على جور، بل أحمل الحقوق عليهم. وأما إعطاؤهم، فإني أعطيهم من مالي، ولا أستحل أموال المسلمين لنفسي ولا لأحد من الناس، ولقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرغيدة من صلب مالي أزمان رسول الله وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي وفني عمري وودعت الذي لي في أهلي، فقال الملحدون ما قالوا، وإني والله ما حملت على مصر من الأمصار فضلًا فيجوز ذلك لمن قاله، ولقد رددته عليهم وما قدم عليَّ إلا الأخماس، ولا يحل لي منها شيء.»

استمع المسلمون الذين شهدوا هذا الاجتماع بالمسجد إلى دفاع عثمان عن سياسته، ورأوا أن يقتل عثمان كل من رفع لواء العصيان والثورة. غير أن عثمان آثر العفو عنهم ليعودوا إلى بلادهم. ولا غرو. فقد كان العفو والتسامح من أبرز صفات عثمان.

عاد أهل مصر إلى بلدهم، لكنهم ما لبثوا أن أقبلوا إلى المدينة في شوال من هذه السنة، وخرج في نفس الوقت جموع من الكوفة والبصرة، وأظهروا أنهم يريدون الحج حتى لا يتعرض أحد لهم، فلما جاءوا إلى المدينة رأوا عليًّا وطلحة والزبير، فعرض وفد مصر على عليٍّ بن أبي طالب أن يبايعوه فأبى وأمرهم بالانصراف عنه، وقدم وفد البصرة على طلحة فصدهم عنه. فعادوا يجرون أذيال الخيبة، وقدم وفد الكوفة على الزبير فخيب ظنهم.

تظاهرت وفود الأمصار الثائرة بالعودة إلى بلادهم حتى يفترق أهل المدينة، لكنهم ما لبثوا أن كروا راجعين، وفوجئ أهل المدينة بهؤلاء الثوار مكبرين في أرجاء بلدهم، وضربوا حصارًا حول دار عثمان وأعلنوا أن من كف يده فهو آمن، فلزم الناس بيوتهم.

أخذ كل من عليٍّ بن أبي طالب وطلحة والزبير يسأل الثوار عن سبب رجوعهم إلى المدينة، فأجاب أهل مصر عليًّا بقولهم: أخذنا مع بريد كتابًا بقتلنا. وقال البصريون والكوفيون مثل ذلك لطلحة والزبير، وأضافوا: نحن ننصر إخواننا ونمنعهم جميعًا. وقد روى الطبري قصة ذلك الكتاب فقال: إنما رد أهل مصر إلى عثمان بعد انصرافهم عنه أنه أدركهم غلام لعثمان على جمل له بصحيفة إلى أمير مصر أن يقتل بعضهم وأن يصلب بعضهم، فلما أتوا عثمان قالوا: هذا غلامك. قال: غلامي انطلق بغير علمي. قالوا: جملك. قال: أخذه من الدار بغير أمري، قالوا: خاتمك. قال: نقش عليه.

لما تحقق عثمان من خطورة الحالة بالمدينة ورأى نفسه عاجزًا عن إخماد حركة الثوار، بعث بكتب إلى الأمصار يطلب فيه المدد والنجدة. وجاء في هذه الكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فإن الله — عز وجل — بعث محمدًا بشيرًا، فبلغ عن الله ما أمره به، ثم مضى وقد قضى الذي عليه، وخلف فينا كتابًا فيه حلاله وحرامه وبيان الأمور التي قدر فأمضاها على ما أحب العباد وكرهوا، فكان الخليفة أبو بكر — رضي الله عنه — وعمر رضي الله عنه، ثم أدخلت في الشورى من غير علم ولا مسألة ولا ملأ من الأمة، ثم أجمع أهل الشورى عن ملأ منهم، ومن الناس على غير طلب مني ولا محبة فعملت فيهم ما يعرفون ولا ينكرون تابعًا غير مستتبع، متبعًا غير مبتدع، مقتديًا غير متكلف. فلما انتهت الأمور وانتكث الشر بأهله بدت ضغائن وأهواء على غير إجرام ولا ترة فيما مضي إلا إمضاء الكتاب، فطلبوا أمرًا وأعلنوا غيره بغير حجة ولا عذر، فعابوا عليَّ أشياء مما كانوا يرضون وأشياء عن ملأ من أهل المدينة لا يصلح غيرها، فصبرت لهم نفسي وكففتها عنهم منذ سنتين، وأنا أرى وأسمع، فازدادوا على الله — عز وجل — جرأة حتى أغاروا علينا في جوار رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، وأرض الهجرة، وثابت إليهم الأعراب، فهم كالأحزاب أيام الأحزاب أو من غزانا بأحد إلا ما يظهرون، فمن قدر على اللحاق بنا فليلحق.»

وعلى الرغم من وجود الثوار بالمدينة، فإن عثمان ظل فترة يخرج إلى المسجد يصلي بالناس كما كان يصلي بهم من قبل؛ فقصد المسجد ذات يوم، ثم جلس على المنبر ووجه حديثه إلى الثوار بقوله: يا هؤلاء العدى، الله الله، فوالله إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد ، فامحوا الخطايا بالصواب فإن الله — عز وجل — لا يمحو السيئ إلا بالحسن. فقام محمد بن مسلمة وقال: «أنا أشهد بذلك.» وتصدى له حكيم بن جبلة وأرغمه على السكوت والقعود. ثم قام زيد بن ثابت وطلب الاطلاع على الكتاب الذي زعم الثوار أن عثمان كتبه وبعث به إلى وليه على مصر. لكن الثوار سرعان ما هبوا في وجهه وثارت ثائرتهم، فحصبوا الناس حتى اضطروهم إلى الخروج من المسجد، ثم تحولوا إلى عثمان فحصبوه حتى سقط من فوق المنبر مغشيًّا عليه؛ فحمله بعض المسلمين إلى داره.

ولما أفاق من وعكته؛ خرج إلى المسجد يصلي بالناس، واستمر على ذلك عشرين يومًا أو ثلاثين يومًا في بعض الروايات حتى حال الثوار بينه وبين الخروج إلى المسجد، وعهدوا بالصلاة إلى زعيمهم الغافقي بن حرب العكي، الذي أعلن المصريون والكوفيون والبصريون طاعتهم له. ثم بعث الثوار إلى عثمان برسالة جاء فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فاعلم أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فالله الله؛ ثم الله الله، فإنك على دنيا، فاستتم إليها معها آخرة، ولا تلبس نصيبك من الآخرة، فلا تسوغ لك الدنيا، واعلم أنَّا واللهِ للهِ نغضب، وفي الله نرضى، وإنا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبة مصرحة …» وما لبث الثوار أن أعادوا الكَرَّة على عثمان، فبعثوا إليه وفدًا من قبلهم ولما التقى هذا الوفد بعثمان عاتبه على كتابه إلى واليه بمصر؛ فنفى عثمان صدور هذا الكتاب عنه، فقال له أعضاء الوفد: اعزل عنا عمالك الفساق، واستعمل علينا من لا يتهم على دمائنا وأموالنا واردد علينا مظالمنا، فأجابهم عثمان بقوله: ما أراني إذن في شيء إن كنت أستعمل من هويتم، وأعزل من كرهتم. الأمر إذن أمركم! فقالوا: والله لتفعلن أو لتُعزلن أو لتُقتلن، فانظر لنفسك أو دع. فأبى عليهم وقال: لم أكن لأخلع سربالًا سربلنيه الله.

وهكذا أراد الثوار حسم الأمر، فخيروا عثمان بين أن يمحو مظالمهم أو ينزل عن الخلافة، وإلا قتلوه. فأبى عثمان تحقيق الأمرين الأول والثاني. وكان الثوار قد طالت بهم الإقامة في المدينة، وأرادوا أن يحققوا ما قدموا من أجله، ومن ثَمَّ أخذوا يشددون الحصار على عثمان ليرغموه على النزول عن الخلافة.

لم يكن عثمان يظن أن من بين المسلمين من يقدم على قتل خليفتهم، ويتضح لنا ذلك من قوله لأصحابه: «ولم يقتلونني وقد سمعت رسول الله يقول: لا يحل دم امرئ مسلم إلا في إحدى ثلاث: رجل كفر بعد إيمانه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسًا بغير نفس. فوالله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام قط، ولا تمنيت أن لي بديني بدلًا منذ هداني الله، ولا قتلت نفسًا، ففيم يقتلونني؟»

على أن الثوار المحاصرين لدار عثمان ما لبثوا أن شرعوا في تنفيذ ما توعدوه به وأخذوا يدبرون قتله، فأشرف عليهم عثمان من داره، وصاح فيهم: يا قوم، لا تقتلوني فإني وال وأخ مسلم، فو الله إن أردت إلا الإصلاح ما استطعت أصبت أو أخطأت، وإنكم إن تقتلوني لا تصلوا جميعًا أبدًا ولا تغزوا جميعًا أبدًا ولا يقسم فيؤكم بينكم. ثم عاد عثمان يناشد الثوار التعقل والروية، ولما أيقن أنه أخفق في حث الثوار على العدول عن موقفهم بدا عليه الحنق والغيظ، وتوجه إلى ربه بالدعاء عليهم، فقال: «اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تبق منهم أحدًا.»

طال حصار الثوار لدار عثمان، وساءت معاملتهم له، فمنعوه من الخروج والصلاة في مسجد النبي وحالوا دون وصول الماء إليه، فأرسل عثمان إلى بعض أصحاب النبي وأمهات المؤمنين يطلب إليهم أن يمدوه بحاجته من الماء، فسارع عليٌّ إلى تلبية رغبته، وأقبل على الثوار، وقال لهم: «إن الذي تصنعون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين، لا تقطعوا عن هذا الرجل المادة، فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي، وما تعرض لكم هذا الرجل، فبم تستحلون حصره وقتله؟!» قالوا: «لا والله ولا نعمة عين، لا نتركه يأكل ولا يشرب.»

قيل: إن الحصار استمر أربعين يومًا. وكان عثمان من حين لآخر يحذر الثائرين الفتنة ويذكرهم بآيات الله، فلا يحفلون به. وبينما هو على هذه الحال، إذ دعاه رجل من الصحابة يدعى نيار بن عياض الأسلمي أن يخلع نفسه، فرماه كثير بن الصلت الكندي — أحد الذين كانوا يدافعون عن عثمان — بسهم أصاب منه مقتلًا؛ فطلب الثوار من عثمان أن يسلمهم قاتل ابن عياض ليقتلوه به، فأبى عثمان تسليمه لهم، وقال: «لم أكن لأقتل رجلًا نصرني وأنتم تريدون قتلي.» ولم يلبث الثوار أن أقدموا على مهاجمة دار عثمان وأشعلوا النار في بابها والسقيفة التي عليه، فخرج إليهم أصحاب عثمان يقاتلونهم ويصدونهم عن الدار. ودار بين الفريقين قتال عنيف، وأصيب فيه كثير من أنصار عثمان بجراح وقتل آخرون. ولم يكتف الثوار بذلك، بل أخذوا يتسللون إلى دار عثمان عن طريق دار عمرو بن حزم الأنصاري، فوجدوا عثمان يقرأ في المصحف سورة البقرة. وتقدمهم محمد بن أبي بكر الذي أمسك بلحية عثمان؛ وقال له: «قد أخزاك الله يا نعثل!» (ونعثل هذا كان رجلًا يهوديًّا من أهل المدينة يشبه عثمان في طول وكثافة لحيته.) فاستاء عثمان من فعله وقال له: «لست بنعثل ولكن عبد الله وأمير المؤمنين.» واستمر ابن أبي بكر يجذب لحية عثمان وهو يقول لعثمان: «ما أغنى عنك معاوية، ما أغنى عنك ابن عامر، ما أغنت عنك كتبك؟» فقال له عثمان: «يا ابن أخي دع عنك لحيتي، فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه.» فرد عليه ابن أبي بكر بقوله: «لو رآك أبي تعمل هذه الأعمال أنكرها عليك، وما أريد بك أشد من قبضي على لحيتك.» فقال عثمان في صبر وجلد: «أستنصر الله عليك وأستعين به.» فطعنه ابن أبي بكر في جبينه بمشقص (وهو سهم له نصل عريض)، ثم رفع كنانة بن بشر مشاقص كانت في يده فوجأ بها في أصل أذن عثمان فمضت حتى دخلت في حلقه، ثم علاه بالسيف فضربه به. وأراد عثمان أن يتقي ضربة السيف بيده فقطعها، كما أكبت عليه زوجه نائلة، وتلقت السيف عنه بيدها، فقطع إصبعها. وضرب سودان بن حمران المرادي عثمان في جنبه فخر صريعًا. وكان ذلك في يوم الجمعة الثامن عشر من ذي الحجة سنة ٣٥ﻫ، ثم هجم العامة على الدار فنهبوها كما نهبوا بيت المال.

لم يسمح الثوار في بادئ الأمر بدفن جثمان عثمان، فظل ثلاثة أيام دون دفن. وطلب بعض القرشيين من علي بن أبي طالب أن يتوسط لدى الثوار؛ ليسمحوا بمواراة جثمانه التراب؛ فأذنوا بدفنه. ولم يشهد جنازته سوى مروان بن الحكم وجبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وأبو جهم بن حذيفة العدوي، ونيار بن مكرم، وزوجتي عثمان نائلة بنت الفرافصة وأم البنين بنت عيينة. وحاول الدهماء قذف جنازة عثمان بالحجارة، فنهرهم علي بن أبي طالب، وهرع القوم بالجثمان ليواروه متخذين من الظلام ستارًا يحجبهم عن عيون الثوار.

١  قرية صغيرة على مقربة من المدينة.
٢  انظر. الطبري: ج٢ ص٣٨٢ (طبعة المكتبة التجارية).
٣  أي: أسامة بن زيد الذي ولاه الرسول قبيل وفاته قيادة الحملة التي وجهها لقتال الروم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤