تمهيد

ما المسألة؟
الحاجة إلى عزاء كمِّي

غريبٌ أمرُ فيزياء الكم. نراه غريبًا على الأقل؛ لأن قواعد عالَم الكَم، التي تحكُم آلية سَيْر العالَم على مستوى الذرَّات والجُسيمات دون الذَّرية (سلوك الضوء والمادة، على حدِّ تعريف ريتشارد فاينمان)، ليست القواعد التي نألَفُها؛ تلك القواعد التي ندعوها «منطقية».

إن قواعدَ الكَمِّ فيما يبدو تُخبرنا بأنه من الوارد أن تكون هناك قطة حية وميتة في الوقت ذاته، بينما يمكن لجُسيمٍ أن يكون في مكانَين في آنٍ واحد. فالواقع أن ذلك الجُسيم يُعَد موجةً أيضًا، وكل شيء في عالَم الكَم يمكن وصفُه في إطار الموجات كليةً، أو في إطار الجُسيمات كليةً أيضًا، أيهما تفضِّل. فقد اكتشف إرفين شرودنجر المعادلات التي تصف العالَم الكمِّي للموجات، فيما اكتشف فيرنر هايزنبرج المعادلات التي تصف العالَم الكمِّي للجُسيمات، وأثبت بول ديراك أن هاتين الصيغتين للواقع كلتاهما مُكافئة تمامًا للأخرى كوصفٍ لذلك العالَم الكمِّي. كان كل هذا واضحًا بحلول نهاية عشرينيات القرن العشرين. لكن ما أثار انزعاجًا شديدًا للعديد من علماء الفيزياء، فضلًا عن غير المتخصِّصين، أن أحدًا لم يستطِع (آنذاك أو منذ ذلك الحين) أن يأتيَ بتفسيرٍ منطقي لما يجري.

كان من بين ردود الأفعال تجاه هذا تجاهُل المشكلة؛ أملًا في تلاشيها. إن المعادلات (أيًّا كانت الصيغة التي تفضِّلها لها) تؤدي الغرض منها إن أردت أن تقوم بأشياء على غِرار تصميم جهاز ليزر، أو تفسير بنية الحمض النووي، أو صنْع جهاز كمبيوتر كمِّي. وظلَّت أجيال من الطلاب تؤمَر، في الواقع، «بالتزام الصمت وإجراء العمليات الحسابية»؛ فليس لهم السؤال عما «تعنيه» المعادلات، وإنما عليهم معالجة الأرقام فحسب. هذا أشبه بأن تضع إصبعَيك في أذُنَيك لكيلا تسمع شيئًا. لكن ثَمَّة علماء فيزياء أكثر تأمُّلًا التمسوا العزاء بأساليبَ أخرى. فجاءوا بمجموعة من الحلول البائسة بعض الشيء في سبيل «تفسير» ما يجري في عالَم الكَم.

تُدعى هذه الحلول، أو كموم العزاء، «تفسيرات». على مستوى المعادلات، ليس لأيٍّ من هذه التفسيرات أفضلية على الأُخريات، وإن كان أصحابها وأتباعهم سوف يُخبرونك بأن تفسيرهم المفضَّل هو العقيدة الصحيحة الوحيدة، وأن كلَّ من يتَّبع العقائد الأخرى مهرطِقون. من ناحية أخرى، لا يوجد بين هذه التفسيرات ما هو أسوأ من الآخر، من المنظور الرياضي. وأغلب الظن أن هذا يعني أننا نُغفِل شيئًا ما. ويومًا ما قد يُكتشف وصفٌ جديد فذٌّ للعالَم يقدِّم كل التكهنات والتنبؤات التي تقدِّمها نظرية الكَم الحالية، ولكنه سيكون منطقيًّا كذلك. حسنًا، لنا أن نأمُل ذلك على الأقل.

في الوقت ذاته، أعتقد أن الأمر قد يستحق تقديمَ نبذة عامة محايِدة عن بعض التفسيرات الأساسية لفيزياء الكَم. فكلها جامحة مقارنةً بالمنطق، وبعضها أكثر جموحًا وجنونًا، لكن الجموح في هذا العالَم ليس خطأً بالضرورة، وكون بعضها أشد جموحًا من غيرها ليس معناه بالضرورة أنها أشد خطأً. وقد وقع اختياري على ستة أمثلة، وهي الأمثلة الستة التقليدية، ويُعزى ذلك إلى حدٍّ كبير إلى تبرير استخدام الاقتباس المأخوذ من رواية «أليس». إن لديَّ آرائي في المزايا الخاصة بكلٍّ منها، التي أرجو ألا أُفصِح عنها؛ لأُفسحَ لكم المجال للاختيار، أو لوضع أصابعكم في آذانكم، بالطبع، التظاهر بعدم السمع.

لكن قبل تقديم هذه التفسيرات ينبغي أن أوضِّح ما نحاول تفسيره على وجه التحديد. غالبًا ما يسير العلم على نحوٍ متقطع بين نشاط وخمول. بَيد أنه يبدو ملائمًا في هذه الحالة أن نبدأ بفقرتين، في إشارة أخرى إلى تشارلز لوتويدج دودجسن (مؤلِّف «أليس في بلاد العجائب»، الذي كان يكتب الشعر مقسَّمًا لفقرات).

جون جريبين
يونيو ٢٠١٨

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤