الفقرة الثانية: الشبكة المعقَّدة
راحت مخلوقات التوف اللزجة الهائجة.
تدور وتَحفِر جحورًا في جانب التل.
ربما من الأسهل لنا حقًّا أن نتخيَّل كائنات التوف وهي تدور وتصنع جحورًا في تجربة الثقبين، عن تصوُّر الإلكترونات وهي تسلك سلوك الموجات والجسيمات. وتجنبًا للإفراط، لن أستخدم لفظ «كأنها» كلما أشرت إلى حدث أو كِيان في عالَم الكَم. لكن اعتبرْ أنك قرأتها.
لا شك أن كلمة «يدور» قد تكون مصطلحًا أفضل من المستخدم عادةً للدلالة على خاصية كمية أساسية للإلكترونات و«الجسيمات» الأخرى، وهي الخاصية التي يُشار إليها عادةً بمصطلح «اللف المغزلي». إن مصطلح اللف المغزلي مصطلحٌ مريح ومألوف، مثل الموجة أو الجسيم، ومضلِّل تمامًا مثل أيٍّ منهما. تُخبرنا المعادلات من ناحية أن الكِيان الكمي لا بد أن يدور مرتين ليعود من حيث بدأ، بصرف النظر عما يعنيه ذلك فيزيائيًّا (والذي لا أستطيع تخيُّله بالتأكيد). لكن اللف المغزلي خاصيةٌ مفيدة في مناقشة العديد من الظواهر الكمية؛ نظرًا لوجود نوعين منه، يمكن وصفهما بأنهما لفٌّ «لأعلى» ولفٌّ «لأسفل». وهذا من شأنه أن يبسُط مناقشات ربما كانت ستصبح بالغة التعقيد.
لنضرب مثالًا هنا، وهو الاحتمالية. كان عالم الفيزياء الألماني ماكس بورن هو مَن وضع مفهوم الاحتمالية، في سياق ميكانيكا الكَم، على أساسٍ رياضي سليم. لكن بدون الخوض في التفاصيل الرياضية، يمكننا إدراك أهميتها باستخدام مثال اللف المغزلي للإلكترون (أو دوران كائن التوف، كما كان يفضِّل إدينجتون على الأرجح). من الممكن أن نصِف تجربةً تُطلِق فيها إحدى الذرات إلكترونًا ينتقل عبر الفضاء (علمًا بأن هذه عمليةٌ حقيقية، تُسمَّى اضمحلال بيتا)، وذلك باستخدام معادلات ميكانيكا الكَم. في نسخة نموذجية للتجربة، يكون للإلكترون لفٌّ مغزلي محدَّد. ويكون هذا اللف إما لأعلى أو لأسفل. لكن لا سبيل لأن نحدِّد مقدَّمًا كيف سيكون. فلكل احتمال فرصةٌ مُتساوية. فإن أجريت التجربة ألفَ مرة، أو بألف ذرة في آنٍ واحد، فستجد ٥٠٠ إلكترون (ربما أكثر أو أقل قليلًا) يدور لأعلى، و٥٠٠ إلكترون يدور لأسفل. لكن إن أخذت إلكترونًا واحدًا وقمت بقياس لفِّه المغزلي، فلن تستطيع تحديد اتجاهه حتى تنظر.
تطوَّرت فكرة أينشتاين إلى بحثٍ علمي، نُشر عام ١٩٣٣، بمساعدة زميلَين له، هما بوريس بودولسكي وناثان روزن (قد يقول البعض إنها كانت عرقلة لا مساعدة؛ إذ خرج البحث رديءَ الصياغة ولم يقدِّم الحجة بوضوح). يُعرَف هذا البحث باسم «بحث إي بي آر»، من الأحرف الأولى لأسمائهم، وصارت النقطة التي أراد أينشتاين إثارتها معروفةً باسم «مفارقة إي بي أر»، وإن كانت في الواقع ليست مفارقة على الإطلاق، وإنما مجرَّد لغز. في عام ١٩٣٥، وفي بحث علمي قدَّم «مفارقة» أخرى شهيرة، خلع شرودنجر اسم «تشابك» على الطريقة التي يتصل بها، على ما يبدو، نظامان كميان عن طريق الفعل الشبحي عن بُعد. قال بحث «إي بي آر» إن نظرية الكَم «تجعل واقع [خواص النظام الثاني] متوقِّفة على عملية قياس تُجرى على النظام الأول، لا تؤثِّر على النظام الثاني بأي طريقة. لم يكن بإمكانهم توقُّع أن يسمح أي تعريف منطقي للواقع بحدوث ذلك.» وجاء في حسمهم للغز «إننا لذلك مُضطرون لاستنتاج أن الوصف الكمي الميكانيكي للواقع الفيزيائي … ليس كاملًا.» رأى أينشتاين أنه لا بد أن المسألة تنطوي على آليةٍ ما، تُعرَف باسم المتغيرات الخفية، من شأنها أن تضمن في هذا المثال أن الإلكترونات لم يكن لها خيار حقًّا في الدوران لأعلى أو لأسفل عند انطلاقها من مصدرها، وأن كل شيء كان مقررًا سلفًا.
رغم أن نشر بحث «إي آر بي» أثار جدلًا حاميَ الوطيس بين الخبراء، فقد تأخَّر التقدم الحقيقي نحو فهم تداعيات التشابك ثلاثة عقود، وهو ما يرجع إلى حدٍّ كبير إلى خطأٍ ارتكبه واحدٌ من أبرز العلماء الرياضيين في عصره، وهو جون فون نيومان، في كتاب مؤثِّر عن ميكانيكا الكَم نشره عام ١٩٣٢؛ أي «قبل» ظهور بحث «إي بي آر». قدَّم فون نيومان في ذلك الكتاب «برهانًا» على أن نظريات المتغيرات الخفية لم تستطِع تفسير سلوك عالَم الكَم، وأنها مستحيلة. ولشهرته وصِيته الذائع صدَّقه الجميع، دون التحقُّق من معادلاته. حسنًا ليس الجميع بالضبط. فقد اكتشفت باحثةٌ شابَّة في ألمانيا، وهي جريت هيرمان، موضعَ العوار في حجَّته، ونشرت بحثًا أُلقيَ عليه الضوء في عام ١٩٣٥، لكن في دورية فلسفية لا يقرؤها علماء الفيزياء فلم يُكتشَف إلا بعد ذلك بمدة طويلة. ورغم أن خطأ نيومان، كما سأوضِّح في العزاء الثاني، لم يمنع الناس تمامًا من العمل على نظريات المتغيرات الخفية «المستحيلة»، ظلت حجَّة نيومان قائمة حتى منتصف ستينيات القرن العشرين حين فنَّدها أحد علماء الفيزياء، فكشف عمَّا يعتريها من خطأ، وأعاد إحياء فكرة المتغيرات الخفية. لكن ربما لم يكن إحياؤه للمتغيرات الخفية ليُرضي أينشتاين؛ إذ أثبت أيضًا أن كل تلك النظريات لا بد أن تنطوي على الفعل الشبحي عن بُعد، الذي كان يُبغِضه، والذي يُعرَف رسميًّا أكثرَ باللاموضعية.
خاض علماء الفيزياء مسارًا شبيهًا من قبل، وإن كان لا يروق للعديد من علماء الفيزياء أنفسهم. في القرن السابع عشر، حين وضع روبرت هوك وإسحاق نيوتن أفكارهما بشأن الجاذبية أدركا أن القمر يظل ثابتًا في مدارٍ حول الأرض بفعل قوةٍ تجذب كلًّا منهما للآخر، وأن الكواكب تظل ثابتة في مدارٍ حول الشمس بفعل النوع نفسه من القوة. وأدركا أن هذا كان فعلًا عن بُعد. ورغم أن أيًّا منهما لم يَصِف هذا الفعل بأنه «شبحي»، فقد كان جهلهما بالآلية التي يعمل بها هو السبب وراء تعليق نيوتن الشهير «إنني لا أضع فرضيات»؛ بمعنى أن «تخميني لآلية عمل الجاذبية ليس أفضل من تخمينك». فقد كان حائرًا بشأن فِعل الجاذبية عن بُعد كحيرتنا إزاء الفعل الكمي عن بُعد. وفي القرن العشرين، جاء أينشتاين بالنظرية العامة للنسبية، ليستبدل بفكرة فِعل الجاذبية الشبحي عن بُعد فكرةَ وجود تشوُّهات في نسيج الفضاء ناتج عن وجود المادة (وإن كان لا بد من الإقرار بأن البعض يجِدون هذه الفكرة أيضًا شبحية). ربما يأتي في المستقبل عالِم مثل أينشتاين ليضع محلَّ الفعل الكمي الشبحي عن بُعد فكرةً أقلَّ غرابة. فقد أثبتت التجارب حتى الآن أن الظاهرة حقيقية.
في الواقع ينطوي إجراء تجربة على غرار تجارب بيل على تقنيةٍ تفُوق ما كان متوافرًا في منتصف ستينيات القرن العشرين، ولم يتوقَّع بيل أن يشهد إجراء التجربة. لكن مع أوائل ثمانينيات القرن العشرين أُجريت تجارب (باستخدام الفوتونات بدلًا من الإلكترونات) أثبتت خَرْق متباينة بيل. ومنذ ذلك الحين تأكَّد هذا من خلال مزيد ومزيد من التجارب على هذه الشاكلة، في ظل تنامي التطور التقني. ليس الواقع الموضعي بوصفٍ مقبول للعالَم؛ وبكلمات جون بيل نفسه التي ألقاها في اجتماعٍ عُقد في جنيف عام ١٩٩٠: «لا علمَ لي بأي تصوُّر للموضعية يتوافق مع ميكانيكا الكَم. لذلك أعتقد أننا عالقون في اللاموضعية.» ربما شعر أينشتاين أنه «لا يوجد تعريف منطقي للواقع» يمكن أن يسمح بهذا، لكن لا بد أن يكون الاستنتاج أن الواقع، على حدِّ تعبيره، غير منطقي. غير أن السمة الأروع للأمر برُمَّته كثيرًا ما تُغفل. فعلى الرغم أن نقطة الانطلاق لمبرهنة بيل كانت محاولة لفهم فيزياء الكَم، وأن تلك الكلمات أُلقيَت في مؤتمر عن فيزياء الكَم، فإن هذه النتائج لا تسري على فيزياء الكَم فقط. بل تنطبق على العالم، على الكون. وسواء كنتَ تعتقد أن فيزياء الكَم، باعتبارها وصفًا للآلية التي يعمل بها العالَم، قد يُستعاض عنها بشيء آخرَ يومًا ما أم لا، فهذا لن يغيِّر في الأمر شيئًا. فالتجارب تبيِّن أن الواقع الموضعي لا ينطبق على الكون. وسواء اخترت أن تجد العزاء في الحفاظ على الواقع وقبول اللاموضعية، أو في الحفاظ على الموضعية ورفض الواقع، فتلك مسألة اختيار شخصي، كما سنرى. لكن لا يمكن أن تختار الاثنين (وإن كان «بإمكانك» ألا تختار أيًّا منهما، إذا أردت أن توجِع رأسك بحق). ولكن قبل أن نلتمس العزاء لرءوسنا المتعَبة، يجدُر بنا الاطلاع على مستجدات قصة التشابك، لِما لها من تطبيقات عملية مهمة.
تشمل هذه التطبيقات ظاهرة تُعرف باسم النقل الكمي عن بُعد. وهو يقوم حاليًّا على الحقيقة المثبتة بالتجارب التي تقول إنه في حالة تشابُك كِيانين كميين، فوتونين على سبيل المثال، فإن ما يحدث لأحدهما يؤثِّر على الآخر مهما كانت المسافة بينهما. فهما في الواقع جزءان منفصلان من كِيان كمي واحد. لا يمكن استخدام هذا في نقل المعلومات بسرعةٍ تفوق سرعة الضوء؛ لأن ما يحدث لكل جسيم ينطوي على احتمالية وعشوائية. فإذا حدث تعديل في فوتون وتحوَّل إلى حالة كمية عشوائية، فسينتقل الآخر في الوقت ذاته إلى حالة كمية أخرى. لكن مَن يشاهد الفوتون الثاني إنما يرى فقط تغييرًا عشوائيًّا يخضع لقواعد الاحتمالية. ولكي ينقل هذا التغيير معلومة، يجب على من عدَّل الفوتون الأول أيًّا كان أن يرسل رسالة بوسائل مألوفة (أبطأ من الضوء) ليخبر الباحث الثاني بما يحدث. لكن من المحتمل بتعديل فوتون بطريقةٍ ما أن يتغيَّر الفوتون الثاني إلى نسخةٍ طِبق الأصل (تُسمَّى أحيانًا مستنسَخًا) من الفوتون الأول، بينما تضطرب حالة الفوتون الأول. في الواقع، لقد نُقل الفوتون الأول نقلًا كميًّا عن بُعد إلى موقع الفوتون الثاني. لكن لما كان الفوتون الأول في حالة اضطراب، فإن هذا لا يُعَد استنساخًا. مرة أخرى، لا بد من إتمام العملية بإرسال معلومات من خلال عملية دون سرعة الضوء. إن النقل الكمي عن بُعد يوصِّل المعلومات، لكنه يحتاج إلى «قناة كمية» و«قناة تقليدية».
بُذلت جهود بحثية جبَّارة في سبيل تطوير مثل تلك الأنظمة، لا سيما أن التقنية تمنح فرصةَ إنتاج شفرات لا يمكن اختراقها، وهو شيء بالغ الأهمية للصناعة والحكومات. والنقطة الجوهرية أنه إذا حاول أيُّ متلصِّص التنصُّت على القناة الكمية فستنهار البيانات، وهو ما يجعلها بلا قيمة ويكشف عن التداخل. ولا يهمُّ إذا قرأ المتلصِّص القناة التقليدية؛ فهي لن تفيد المتلصِّصين في شيء؛ إذ يمكن أن تُطبَع في الصحف أو تُنشَر على وسائل التواصل الاجتماعي، حسبما يشير كاتبو الشفرات. لا بد من وجود القناتَين لفكِّ شفرة المعلومات المشفَّرة. كذلك يدخل التشابك في تطوير أجهزة الكمبيوتر الكمية، وهو الموضوع الذي كثيرًا ما يتصدَّر عناوين الصحف هذه الأيام. فيتطلع الباحثون إلى إنترنت كمي آمن تمامًا، باستخدام الحوسبة الكمية والتشابك والنقل الكمي عن بُعد لمشاركة المعلومات بأمانٍ تام.
لقد غادرت هذه الفئة من التجارب المختبَرَ نحو العالَم الواسع، وما وراءه. ففي عام ٢٠١٢، نقل فريقٌ صيني معلوماتٍ كميةً بهذه الطريقة عبر بحيرة تشينجهاي، لمسافة ٩٧ كيلومترًا. وفي العام ذاته، نقل فريقٌ أوروبي فوتوناتٍ لمسافة ١٤٣ كيلومترًا، بين جزيرتَي لا بالما وتنريفي في جُزر الكناري. وجدير بالذكر أن التجربتين أكَّدتا عدم جواز متباينة بيل، وهو الشيء الذي يعتبره علماء الفيزياء الآن من المسلَّمات إلى حدٍّ كبير، مثل حقيقة سقوط التفاح من أشجاره.
تضمَّنت تجربة جُزر الكناري محطاتٍ أرضية على جبال بارتفاع نحو ٢٤٠٠ متر فوق سطح البحر، حيث يؤدي الهواء الرقيق إلى تقليل التداخل الجوي. لكن الهواء يزداد رقةً كلما ارتفعنا، علمًا بأن الارتفاع لأقل من ١٤٣ كيلومترًا عن جزيرة لا بالما يجعلنا على حافة الفضاء. في عام ٢٠١٦، أطلقت الصين القمر الصناعي ميكيوس (نسبةً لفيلسوف صيني من العصور الغابرة)، أُرسلت منه حُزَم إشعاعية من أزواج الفوتونات المتشابكة لمحطاتٍ مستقبِلة متفرقة على جبال التبت يفصل بينها ١٢٠٠ كيلومتر. كان القمر الصناعي يتحرَّك بسرعة ٨ كيلومترات في الثانية تقريبًا أثناء التجربة، لكن مع الحرص على استهداف حُزَم الفوتونات بدقة. أكَّد سلوك الفوتونات التوقُّعات المتسِقة مع مبرهنة بيل، وهو ما لم يُثِر اندهاش أحد، لكنه كان انتصارًا للتكنولوجيا. ورغم أن التجربة لا يصلح إجراؤها إلا ليلًا؛ لأن أشعة الشمس تبهر أجهزة الكشف وتحجُب عنها الرؤية، ومعدَّل نجاح «استعادة» الفوتونات على الأرض كان واحدًا من كل ستة ملايين أرسلها القمر الصناعي (لحسن الحظ أن الفوتونات رخيصة)، توجد بالفعل خططٌ لإطلاق مجموعة من الأقمار الصناعية بأشعةٍ أقوى يمكن الكشف عنها حتى في النهار، لتضع الأساس لشبكة اتصال كمية، ولِنقلِ الفوتونات إلى القمر الصناعي من الأرض. ربما سيكون هناك المزيد من التطور، والمزيد من العناوين الرئيسية، عند قراءتك هذا. لكن بينما قد يستمر خبراء التكنولوجيا في «التزام الصمت وإجراء العمليات الحسابية»، لا يزال علماء الفيزياء غير قادرين على الاتفاق على مغزى كل ذلك، ألا وهو «لماذا» يسير العالَم بهذا الشكل الذي يسير به.
حان الوقت للنظر بمزيد من التفصيل في بعض الطرُق التي يلتمسون بها العزاء. لكن على سبيل العودة إلى أرض الواقع، فكِّر مرةً أخرى في تجربة الثقبَين. يبدو كل إلكترون في التجربة أنه «يعلم» عدد الثقوب المفتوحة، وأين سيذهب. فهل التشابك — الفعل الشبحي عن بُعد — يلعب دورًا في هذه القصة كذلك؟ إذا كان زوج من الفوتونات ينطلق في اتجاهين متضادين جزءًا من نظام كمي واحد في الواقع، فهل لنا أن نعتبر تجربة الشق المزدوج برُمَّتها والإلكترون — كل الإلكترونات — جزءًا من نظام كمي واحد؟ ربما يعلم الإلكترون الثقوب المفتوحة؛ لأن حالة الثقوب هي أيضًا جزء من حالة الإلكترون. لكن حتى فكرة التشابك كانت لا تزال في علم الغيب حين بحث علماء الفيزياء عن عزاء لأول مرة في تفسير لميكانيكا الكَم صار هو المعيار المعترَف به لعقود.