الفصل الثاني

لماذا نختار الديمقراطية؟

ربما لذلك يحس المرءُ أن الريح خَفَّت عندما يسافر من مجتمعاتٍ متسلطة إلى مجتمعات حُرَّة.

تشارلس فرانكل

يُعد تشارلس فرانكل (١٩١٧–١٩٨٠) واحدًا من أولئك الأئمة الثقات في فقه الديمقراطية، وقد قام بتدريس الفلسفة بجامعة كولومبيا، وكان من المؤثرين الكبار داخل حلقة البراجماتية الليبرالية بالولايات المتحدة في مجال الفلسفة السياسية والاجتماعية والفكر التربوي.

يتساءل فرانكل: لماذا الديمقراطية؟ لماذا نختار الديمقراطية من بين غيرها من النظم السياسية الممكنة؟ ويُطلق العنان لتأملاته التي تضع اليد على الجواب الصحيح لأنها وضعتها على السؤال الصحيح … السؤال الذي يلمس مواضعَ الغموض ويمسك بجُمْع المشكلة، يقول فرانكل: لقد تعرضنا في هذا القرن (العشرين) للتجريدات الأيديولوجية والسياسية بدرجةٍ مفْرِطة، ورأينا مدى استعداد الناس لأن تضحي في سبيل اليقين الأيديولوجي، وليس من المستغرَب أن يكون أصحاب الوعي المرهَف قد تكوَّنَ لديهم شيءٌ قريبٌ من أيديولوجية الارتياب، وأنهم لا بد أن ينظروا بعين الشك والسخط إلى جميع المسائل المتعلقة بتبرير الأنظمة السياسية، لماذا نختار الديمقراطية؟! وهل بوسعنا وقد تَثقَّفْنا في مدرسة واقعية صارمة علَّمتْنا ما هي مخاطرُ الاعتقاد سوى أن نقول إن التعصب شيءٌ مقيتٌ وإننا يجب أن نختار الديمقراطية لأنها لا تدعونا إلى الاعتقاد إلا في أقل القليل؟

بل هي تدعونا إلى الكثير من الاعتقاد! وإنني لا أظن أن بإمكاننا أن نُثبتَ أن الحقيقة الداخلية عن العالم أو عن التاريخ الإنساني أو النفس البشرية تحملنا على أن نتبنَّى مُثُلًا ديمقراطية، فاختيار مثالٍ سياسي هو أمرٌ مختلفٌ عن عملية إثبات صدق مبرهنةٍ من المبرهنات في نسقٍ هندسيٍّ ما، وإن أولئك الذين يظنون أن الديمقراطية تحتاج إلى هذا النوع من التبرير إنما يُثيرون حولها الشكوكَ بشكل غير مباشر، فعلى الرغم من التضخم السيمانتي (الدلالي) الذي يُعاني منه النقاشُ الراهن حول المُثُل السياسية، فإن الأسباب التي تدعونا إلى اختيار الديمقراطية ليست غامضةً ولا صعبة، غير أنها أسبابٌ مُقلِقةٌ تهيب بمعتنقيها أن يراهنوا رهانًا كبيرًا على قدرتهم على العيش وَفْقَ ما وَقَعَ عليه اختيارُهم.

أهمية المنهج السياسي الديمقراطي

في مجالٍ كهذا يعجُّ بالدعاوَى الطنانة، من الأسلم لنا أن نبدأ باستعمال كلمة «ديمقراطية» بأضيق معنى لها، فالديمقراطية وفقًا لهذا التصور الضيق هي المنهج الخاص باختيار حكومةٍ عن طريق الانتخابات التنافسية التي يشارك فيها مَنْ هُم غيرُ أعضاءٍ في الجماعات الحاكمة، من المؤكد أن الديمقراطية بهذا المفهوم ليست هي المثال الأعلى للحياة مهما قلنا في مزاياها أو في عيوبها، وما نظن أحدًا قط نظر يومًا إلى حق تنظيم اقتراع مرةً كل عام أو نحوَ ذلك على أنه غايةٌ في ذاته، غير أنه من المؤكد أن المجتمع الذي تَرَسَّخ فيه المنهجُ السياسي الديمقراطي لديه مصدرٌ هائلٌ للطمأنينة، فهو يمتلك منهجًا آمنًا سلميًّا لتحديد مَن سوف يتولى السلطة، ولإحداث تغييراتٍ في بِنْية السلطة، إلا أن السلام نفسه ليس أكثر من قيمةٍ واحدةٍ بين غيرها من القيم، صحيح أن توفير الأمن والنظام هو أمر له قيمته، ولكن تقدير هذه القيمة على وجه الدقة هو شيءٌ متوقفٌ على نوع ذلك الأمن وهذا النظام، إن أهمية المنهج السياسي الديمقراطي إنما تكمن في نواتجها غير السياسية بالدرجة الأساس، إنه منهجٌ مهم لأن المجتمع الذي يترسخ فيه هذا المنهجُ سيكون من المحتمل أن يتميز عن غيره بجوانبَ أربعةٍ على الأقل: سيكون مُتميِّزًا من حيث الأوضاع التي تحمي حرياته، ونوع الإجماع السائد، وطبيعة الصراعات الدائرة داخله، والطريقة التي يُربِّي بها حكامَه ومواطنيه.

ولنبدأْ بالحريات. إن الديمقراطية، مُحدَّدةً بصرامةٍ كمنهج لاختيار الحكومات، لا تضمن الحريات الشخصية للمواطن، فكم تَعَدَّت حكوماتٌ ديمقراطية على الحريات الشخصية كما كان يحدث في مستعمرة «نيو إنجلاند»، وكم أمَّنَتْها حكوماتٌ غيرُ ديمقراطية كما في فيينا قبل الحرب العالمية الأولى، إلا أن للانتخابات التنافسية مزاياها، وليس السماحُ للمجتمع باختيار حكومته غيرَ واحدة من هذه المزايا، ذلك أنه من أجل الحفاظ على الانتخابات التنافسية فمن الضروري أن تكون لدينا معارضة، ولا بد أن تكون للمعارضة بعضُ الحقوق والسلطات الخاصة بها، فالآراء السديدة لبعض من هم خارج الحكومة يجب أن تُلتمَس، ويجب أن يتمتع بعضُ أعضاء المجتمع بضروبٍ من الحصانة ضد انتقام السلطات القائمة، وهذا يستتبع رتلًا كاملًا من المؤسسات: محاكم لا تخضع لغير قوة القانون، صحافة غير مكرَّسَة كليًّا لتعزيز مصالح من هم في السلطة، وكالات مستقلة للتحقيق والنقد الاجتماعيَّيْن.

إنَّ هذه الأوضاع اللازمة للانتخابات هي ما يُضفي على الانتخابات أهميتَها على المدى الطويل، وبخصوص الديمقراطية السياسية فإن هذه الأوضاع هي مجرد وسائل لغايات، فهي تجعل الانتخابات التنافسية ممكنة، ولكن ما كان لهذه الأوضاع أن تبرِّر ذاتها لو لم يكن نظام الانتخابات التنافسية يتطلَّبُها ويتعهدها. إنَّ الأوضاع اللازمة للحفاظ على نظام انتخابي صحيح هي السبب الأقوى الذي يدعونا إلى الحفاظ على هذا النظام، والحق أن المرء قد يُقدِّر مثل هذا النظام حتى لو كان يرى أن جميع الانتخابات هي عبثٌ وحماقةٌ، وقد يكون لديه سببٌ لهذا التقدير معادِلٌ أو ربما أقوى مما لدى ذلك الشخص الذي يجد نفسَه دائمًا يُصوِّتُ بسعادةٍ للطرف الفائز. إن غير المنتمي، وكذلك الخاسر، هما المستفيدان بوجهٍ خاص من وجود نظامٍ سياسيٍّ يخلق مؤسساتٍ ذاتَ مصلحةٍ مكتسبةٍ في الحرية.

يُساعد النظام السياسي الديمقراطي فوق ذلك على تبني نوع مختلف من الإجماع الاجتماعي، صحيح أن هناك ضروبًا كثيرةً من التنظيم السياسي قد أتاحت للناس أن يشعروا أن الحكومة التي يعيشون تحت إمْرَتِها هي حكومتهم، وليس هناك ما يدل على أن الديمقراطية هي بالضرورة أفضل من غيرها من النظم في تعزيز هذا الشعور بالتوحد بين الحكام والمحكومين، ولكن الفضيلة التي تنفرد بها الديمقراطية هي أنها تسبغ الطمأنينة على أولئك الأفراد الذين لا يعتبرون قادتهم السياسيين من فصيلِهم، والذين هم حَرِيُّون حقًّا أن يفقدوا احترامَهم لذاتهم إذا قدموا ولاءَهم غيرَ المشروط لأي مؤسسةٍ بشرية، ورغم كل ما يُقال عن ضغوط الديمقراطية نحو الإذعان (استبداد الأغلبية) وهو حقٌّ جزئيًّا فإن الديمقراطية تُكرِّس حقيقةَ الاختلافِ وفضيلةَ الرأي المستقل.

وهي لكي تكون ديمقراطيةً بحق فإنها تتطلب موقفًا إنسانيًّا راقيًا بشكل غير عادي: هو المعارضة الموالية، إن آية الإنسان المتحضر، وفقًا لقاعدة جستس هولمز الشهيرة، هي أنه يستطيع أن يفعل باقتناع في نفس الوقت الذي يشك فيه في مبادئه الأولى ويضعها موضع التساؤل، والمسوِّغ الأساسي لتنصيب حكومة ديمقراطية هو أنها تسمح بالمخالفة وتُبقي عليها، وهي من هذه الجهة تحتل نفس الموقع الأخلاقي للإنسان المتحضر.

من شأن المنهج الديمقراطي أيضًا أن يغير طبيعة الصراعات التي تحدث في المجتمع، إن المشكلة الأزلية لعلم السياسة هي كيف تدير الصراع، وما يجري في صراع ما، يتوقف على مَن هم المشاهدون للصراع وما هو رد فعلهم وما هي سلطتهم وقواهم، ومن الحقائق الهامة عن الديمقراطية السياسية أنها تُوسِّع بدرجةٍ هائلة قاعدةَ المشاهدين الذين يشهدون الصراع ويتأثرون به ويشاركون فيه، وهو ما يجعل مواطني النظام الديمقراطي يشعرون في كثيرٍ من الأحيان أن الديمقراطية مُضْجِرةٌ وأن مجتمعاتهم هشةٌ دون غيرها من المجتمعات، لقد كان هوبس (الذي قال عن نفسه إنه وُلِدَ هو والخوف توءمين) يؤيد الاستبداد من أجل الأمان النفسي والسلامة البدنية.

ولكن قولَنا: إنَّ الديمقراطية توسِّع مشهدَ الصراع مكافئٌ لقولنا إنها تقنية لصبغ الصراع بصِبغةٍ اجتماعية، فهي تفرض ألوانًا من الضغوط على المتصارعين وتمد من السيطرة الشعبية على المعارك الشخصية والترتيبات الخاصة، وهي تفعل ذلك سواء كانت هذه المعارك الشخصية داخل الحكومة أو خارجها، ولعل ارتباط الديمقراطية بفكرة المغامرة الشخصية لا يخلو من مفارقة، فالنظم الشمولية تنطوي، بمعنى ما، على مغامرات شخصية (أي فوق المناقشة والرقابة الخارجية) أشد هولًا مما نجده في النظم الديمقراطية، وتبقى مشكلة النظام الديمقراطي هي حقًّا معرفة أين نرسم الخط، أين نقول «من هنا لا محل للرقابة الخارجية» (هذا الخط يرسمه بصرامةٍ شديدةٍ أولئك الذين يصنعون القرارات الهامة في المجتمعات الشمولية).

غير أن الخدمة الحاسمة التي تقدمها الديمقراطية وتسبغها على شخصية المجتمع الذي يمارسها إنما تأتي من طريق التربية، ولنبدأ ببيان تأثير الديمقراطية السياسية على قادتها، فالمنهج الديمقراطي، شأنه شأن أي منهج سياسي آخر، هو منظومةٌ من القواعد التي تحكم التنافس السياسي، تتمتع مثل هذه القواعد بسطوةٍ انتقائية وأخرى تربوية، إنها تحبذ أنواعًا معينةً من الناس، وتجعل أصنافًا معينةً من الفضائل أكثر جدوى، وتتيح أيضًا ظهورَ أصنافٍ معينة من الشرور، من هنا فإن أهم ما يميز قواعد التنافس في النظام الديمقراطي هو أنها تسمح للخاسر أن يخسر بكرامةٍ وكبرياء، وتُتيح له أن يبقى وأن يحاول مرةً أخرى إذا شاء، فالرهانات ثقيلةٌ ولكنَّ لها حدودًا (ليس في الديمقراطية «كروت محروقة»، ولا «أفيال» تنزوي للموت، ولا معاركُ ديوكٍ لا بد فيها من أن يموت الخاسر)، وحتى نصيبها المقسوم من الفساد لا يعدم مزيةً تُقال في حقه: فهي تُعَرِّض أعضاءَها للمساءلة لا للهلاك، للتهمة لا للإدانة، إن الكف الملوثة بالشحم بغيضة ولكنها أهون على كل حال من لكمة القبضة الحديدية.

ويرتكز المنهج السياسي الديمقراطي، فوق ذلك، على الشورى المتبادلة بين القادة والأتباع، وهناك طرق عديدة للحصول على تأييد الناس لسياسات القادة في النظام الديمقراطي، غير أن أهم شيء هو ذلك الإحساس الذي تمنحه الديمقراطية للناس بأن رأيهم قد تم أخذُه وأن وجهة نظرهم قد تمَّ وضعها في الاعتبار، من شأن ذلك أن يجعل القيادة في النظام الديمقراطي أمرًا مرهقًا. والحق أن من أكبر المخاطر التي ينطوي عليها النظام الديمقراطي هو ببساطة أن القادة فيه يفتقرون إلى الخصوصية والهدوء اللازمين لأي قراراتٍ بعيدةِ المدى واضحة الرؤية، غير أن هذا خللٌ في فضيلة، فالسلطة، بصفة عامة، عزلة، والنظام الديمقراطي هو محاولةٌ محسوبةٌ لكَسْرِ هذه العزلة، فالشروط والأوضاع التي يتقلد تحتها القادةُ الديمقراطيون السلطةَ هي شروطٌ تُبَصِّرُهم بتعقيداتِ المشاكل التي حملوا مسئوليتَها، وتُفَقِّهُهُم في دقائق الأمور التي انتُدِبوا لها.

وهناك وجهٌ آخر لنفس العملة، كان بركليز يقول: «ربما تكون قلةٌ مِنَّا، نحن الأثينيِّين، هي القادرة على وضع السياسات، ولكننا جميعًا نملك القدرة على الحكم عليها، وبدلًا من أن ننظر إلى الحوار كحَجَرِ عثْرةٍ في طريق الفعل، فنحن نراه مقدمةً لا غِنى عنها لأي فعل سديد على الإطلاق.» ولكن ثمار الحوار الحر لا تفصح عن نفسها في السياسة العامة فحسب، إنها تفصح عن نفسها أيضًا في اتجاهات المتحاورين أنفسهم وفي مواقفهم وقدراتهم، إن الترتيبات السياسية الديمقراطية هي من بين العوامل التي أنتجت واحدةً من السمات المؤلمة والواعدة للحياة الحديثة، ألا وهي إحساس الناس بأن تعليمهم قاصر، وتأكيدهم بأن لهم الحق في التعليم، كما ساعدت الديمقراطية على تعزيز تصورٍ كلاسيكي للتعليم، وهو أنه يجب أن يكون تعليمًا اجتماعيًّا فضلًا عن كونه تقنيًّا، عامًّا فضلًا عن كونه خاصًّا، حُرًّا وليس نظريًّا مُنْبَتًّا عن الواقع العملي، وبمقدورنا أن نعكس التصور التقليدي للعلاقة بين التعليم والديمقراطية دون أن نجانب الصواب: إن التعليم ليس مجرد متطلبٍ أساسي للديمقراطية، إنما الديمقراطيةُ ذاتها إسهامٌ في التعليم.

فوائد الديمقراطية

ولكن بحسبنا ذلك من حديثٍ عن الأنظمة السياسية، فما السياسةُ، في أية نظرةٍ حُرَّةٍ إلى الحالة البشرية، سوى مؤسسةٍ تابعةٍ وعملٍ من الدرجة الثانية.

للسياسة مشاقُّها ومُتَعُها التي تمتحِنُ الضميرَ وتُمَحِّصُ الروح، وللسياسة أعباؤها الكبيرة التي عليها أن تضطلع بها، غير أن العمل السياسي، شأنه شأن العمل التجاري والصناعي، هو في صميمه ضربٌ من الأشغال الشاقة والكدح العبودي والسخرة، وسُدَّة الحكم (الدولة State) ليست هي الوجهة التي تقصدها إذا شئتَ سِجِلًّا حُرًّا للخبرة البشرية، فالحكومات لا تُنتِج العلمَ أو الفلسفةَ أو الموسيقى أو الأدب أو الأبناء، أو هي لا تُنتِجُ على أية حال عينات مُقْنِعةً من أي شيء من هذه الأشياء، قد تحقق السياسةُ مناقبَها الخاصة وأشكالها الخاصة من الامتياز، غير أن المناقب الإنسانية الأهم تتحقق في المجالات الأخرى غير السياسية، وإنما من هذه الجهة يجب، في رأيي، أن نتمَعَّنَ الديمقراطية في نهاية المطاف.

ذلك أنَّ الفكرة الديمقراطية تقوم على فرضيةِ أنَّ الغايات الهامة للحياة يحددها الأفرادُ كأفراد في مساعيهم الإرادية الخاصة. السياسة بالنسبة للديمقراطية الليبرالية هي مجرد جانبٍ واحدٍ من جوانب الحضارة، هي شرطٌ من شروط الحضارة وليست كلَّ شيءٍ في مناخ الحضارة وبيئتها، ربما لذلك يحسُّ المرءُ بأن الريح خَفَّتْ عندما يُسافر من مجتمعاتٍ مُتسلطة إلى مجتمعاتٍ حُرة، إنَّ المرء ليتلقى انطباعًا بالحيوية، حيوية المارة الذين يمضون لشأنهم الخاص ويُولِّدون زَخْمَهم الخاص، لعلهم يضطربون في اتجاهاتٍ أكثر اختلافًا مما يفعل أعضاءُ المجتمعات المنظمة مركزيًّا، غير أن الاتجاهات هي اتجاهاتهم هم، من هنا يكون أهم سبب لاختيار الديمقراطية هو تلك الكيفيات التي يتسنَّى للديمقراطية أن تجلبها إلى حياتنا اليومية، والطرائق التي تؤثِّث بها أذهاننا ومخيلاتنا وضمائرنا، هذه الكيفيات هي: الحرية، والتنوع، والوعي بالذات، والموقف الديمقراطي نفسه.

يُقال: إنَّ الديمقراطية بطبيعتها تُعادي التميز والبروز وتفضل «الوسطية» mediocrity وترعى الأنصاف، وهو رأي ليس بالجديد، ومن الحق أن الديمقراطيةَ تورِث التجانسَ بمعنى ما، فالديمقراطية تُذيب الفوارقَ الشديدة بين الطبقات، وتُحطِّم الرموزَ الجاهزة للوضع الاجتماعي بسرعةٍ هائلةٍ بحيث يغدو إنتاجُ رموزٍ جديدةٍ هو شغلًا جديدًا لصناعةٍ كبرى، وأوضح مثالٍ لذلك أن الديمقراطية تؤدي إلى زيادة الطلب على ما لا يُحْصَى من خيرات الحياة بدءًا من الأحذية حتى التعليم، ومع زيادة الطلب فإنها أيضًا تجد نفسَها مضطرةً إلى الهبوط بمستوى المعروض.

هناك رغم ذلك حقائقُ معينةٌ علينا أن نضعها بمقابل هذه الاتجاهات التي تغذيها الديمقراطية، أوَّلًا: أن المجتمعات الديمقراطية توفر لمواطنيها بعامة كمًّا أكبر من خبرات الحياة، وثانيًا: أن توءم المساواة هو روح الإنجاز وخُلُق التحصيل، ثمَّة توترٌ بين ارتياب الديمقراطية في الإنسان المعتزِل وإعجابها بالإنسان المشارك، ولكنَّ عداءها للتمييزات الاجتماعية المتباهية متأصل عادةً في الإيمان بأن كل إنسان يجب أن يُعطَى الفرصة، دون عون خارجي، لكي يُظهِر ما يستطيع أن يفعل، وأخيرًا فإن الضغوط تجاه التجانس كبيرة في كل المجتمعات، فهل الارتياب في الشواذ في أمريكا الميتروبوليتانية المساواتية أكبر مما كان عليه في ريف القرن الثامن عشر؟ صعبٌ أن نقول ذلك، وقد بَيَّنَ «برتراند راسل» أن «مغالطة الأرستقراطي» هي في الحكم على مجتمع ما من خلال صنف الحياة التي يقدمها لقلةٍ متميزةٍ منه، إن التفرد يتطلب شجاعةً في كل مكان، ويتطلب مالًا أيضًا في المعتاد، ويتطلب دائمًا ضمانًا بأن يبقى الفردُ محتفظًا بحقوقه الأساسية، ومن هذه النواحي فإن الديمقراطية الليبرالية الحديثة، برغم ما تُتَّهَم به من تعزيز التجانس، قد يَسَّرَت للإنسان العادي غير المتمتع بامتيازات أن يتفرد ويَبرز إذا شاء، وأتاحت له في ذلك ما لم يُتِحْهُ أيُّ نوعٍ آخرَ من المجتمعات التي عرفها التاريخ.

ذلك أنَّه مهما يكن من التباس بعض الحقائق فإن الالتزام الرسمي للديمقراطية هو للرأي القائل بأن لكل إنسان بنيتَه ومزاجَه الخاص، وأن هذه الخصوصيات الشخصية تستوجب الاحترام، وأنه إذا كان الفرد لا يعرف مصلحته فمن المستبعد أن تعرفها له صفوةٌ جاثمةٌ لا تتبدل، وليس هذا مجرد التزام رسمي بل إن المؤسسات في النظام الديمقراطي لَتُجَسِّدُه تجسيدًا عيانيًّا إلى أبعد حد، وعلى افتراض أن أعضاء المجتمع الديمقراطي لا يتمتعون من الضمانات الاقتصادية إلا بأقل القليل، فإن وضعهم يتمتع بمرونةٍ لم يحظَ بها كثيرٌ من الأفراد العاديين في الماضي، فإذا لم ينالوا الحُظْوةَ مع إحدى الجماعات الحاكمة فما يزال بإمكانهم أن يتحولوا عنها ويلتمسوا السبيلَ في جهةٍ أخرى.

ليس ثمَّة أدنى شك في أن هناك تركيزًا للسلطة في المجتمعات الديمقراطية، يتمثل في مجموعات كبيرة من مراكز القوى، ومن المتيقَّن بنفس الدرجة أن هناك شيئًا من الحرية في أي مجتمع من المجتمعات، أمَّا عن تركيز السلطة فهو يحدث لأن الأذكياء من الناس أينما كانوا يعرفون كيف يلعبون أدوارًا محورية، غير أن المجتمع الديمقراطي يشتمل على عددٍ أكبر من الأدوار المحورية لكي تُلعَب، وأمَّا عن الحرية فيجب أن ندرك أن حرية الاختيار الفردية ليست قيمةً مُطلَقة، وأنه ينبغي على كل مجتمع أن يَحِدَّ منها، فحقيقة الأمر أن حريةَ شخصٍ ما كثيرًا ما تقوم على تقييد حرية شخص آخر، ولكن في حينِ أن حرية الاختيار ليست قيمةً مُطلَقة، فإن النظام الديمقراطي إذ يذهب إلى أن لكل إنسان حقوقًا أساسيةً معينةً، فهو يُقَيِّض لحريةِ هذا الإنسان قيمةً جوهريةً صميمة، بحيث نشعر كلما اضطُرِرْنا إلى تقييدها بأن قيمةً كبرى قد أُهْدِرَت وشيئًا ثمينًا قد تمت التضحيةُ به؛ لهذا السبب يختلف التخطيطُ الاجتماعي في النظام الديمقراطي اختلافًا أساسيًّا عن التخطيط في البيئات غير الديمقراطية، من هنا فإن التعبير الغامض «المصلحة العامة» حين يرد في السياق الديمقراطي فإنه يحمل ضمنًا قيمة حرية الاختيار، حرية كل فرد من أفراد المجتمع، كعنصرٍ من عناصره.

ولكن أي فَرْقٍ ينتج عن هذا؟

أولُ فرقٍ هو تعزيزُ التنوع، والفرق الثاني هو تربية الأفراد في حالةٍ من الوعي الذاتي، وغنيٌّ عن القول أن التنوع أيضًا ليس هو كل شيء، وأن للتنوع حَدًّا، وهل علينا أن نحمي بائعي المخدرات باسم التنوع؟! على أننا كثيرًا ما نُغفِل المغزى الحقيقي للتنوع، وأهمية وجود الاختلافات والبدائل بحد ذاتها، فهي لا تمنحنا اختباراتٍ أكثر فحسب، أو تكسرُ لنا الرتابةَ فقط، بل هي تؤثر على الكيفية المباشرة لخبرتنا، وتُغَيِّر علاقتنا بأيِّما شيء اخترنا أن نملكه أو نفعله أو نكونه، هذا هو ما يفوتنا إدراكه عندما نُعرِّف الحرية بأنها مجردُ غيابِ الإحباطات المُحَسَّة، أو حين نظن أن المرء إذا نال كل ما يريد فلا فرق بين أن يكون مُختارًا أو غير مختار، إن الخيرَ الذي يختاره المرءُ بإرادته والذي يملك دائمًا إعادةَ النظر فيه هو خيرٌ ينتمي إليه بطريقةٍ تختلف عن الخير الذي يتلقاه بطريقةٍ سلبيةٍ، إنه مسئوليته.

وهذا يعني فائدةً أخرى للتنوع الديمقراطي، لسنا نقول: إنَّ الديمقراطية تجعل الناس أكثرَ حكمةً أو فضيلةً، ولا هو بِوُسْع أحد أن يجزم بذلك، غير أن الديمقراطية تدعو الناس إلى أن تفكر باحتمالِ وجودِ بدائلَ أخرى للطريقة التي يُحكَمون بها، وهي إذ تُذيب الحواجز الطبقية والامتيازات الموروثة التي تفرق بين الناس، فإنها تتيح للفرد معرفةَ المزيد من أصناف البشر وألوان الخبرات، وترفع من قدراته على التكيف مع كل ما هو جديد ومختلف، بذلك فإن الديمقراطية السياسية وحراكها الاجتماعي يُفضِيان بالفرد إلى درجة أعلى من الوعي بنسبية أساليبه الحياتية ودرجة أعلى من الوعي الذاتي في اختيار المعايير التي يعيش بها، الأمر الذي يُهيئ له وفرة من الخبرة الشخصية المكثفة، ويُعَدُّ هذا الإسهامُ الديمقراطي في إثراء خبرة الفرد من أهم أسباب تقدم الحضارة الليبرالية.

لا يخلو التمادي في هذه الاتجاهات من مخاطر (وهو مما يُفسِّر كثيرًا من ترددنا حول ما تعنيه الثورة الديمقراطية)، فالمُوضات والتقاليع تشغل وتشتت جماعاتٍ أكبرَ في المجتمعات الديمقراطية الحديثة، والحراك الاجتماعي رغم أنه يوسِّع مداركَ الإنسان وينوِّع خبراتِه، فهو يُقَصِّرُ إحساسَه بالزمن، فحين يَنْبَتُّ مواطنو الديمقراطية عن الرتب الثابتة والمحطات المحددة (ولكلٍّ منها أسطورتُها وأساسُها المنطقي وحسٌّ بوظيفتها التاريخية)، فإنهم يواجهون إغراءً غريبًا بالحياة التجريبية، وَفقَ الطبعة الأخيرة، كما لو لم يسبقهم بشرٌ في الحياة من قبل، غير أن هذه مخاطرُ الحداثةِ لا الديمقراطية، ومن الممكن السيطرة عليها، فمن شأن مَرافقَ مثل المحاكم والنقابات المهنية ودور العبادة والجامعات أن تكون ذُخرًا من الخبرة المُدَّخَرة، وبمقدورها في المجتمعات التي تمنحها استقلالًا عن الإلحاحات السياسية العابرة أن تعمل كوقاء ضد طغيان الحاضر الغَرَّار، إن الحداثة تتضمن ثورةً في الوعي الإنساني، والترتيبات الاجتماعية الديمقراطية تعكس هذه الثورة وتتقبلها، ولكنها تقدم الأدوات التي تُرشِّدها، وتسيطر عليها، وليس هناك نظامٌ منافسٌ للديمقراطية في الوقت الحالي يملك هاتين الصفتين بنفس الدرجة.

حقيقة الأمر أن مخاطر الديمقراطية هي ببساطة تلك المخاطر التي ينطوي عليها الإيماء للناس بأنْ ليس هناك أجوبةٌ عن كل شيء، فالديمقراطيةُ تجسيدٌ سياسيٌّ للمبدأ الذي يحكم المجتمع العلمي أيضًا، وهو أن التساؤل ينبغي أن يظل مفتوحًا، وأن ليس ثمةَ بياناتٌ مقدسة، وليس هناك إجاباتٌ نهائية، إنَّ الرياء والظلامية والأكاذيب تمثل بالطبع شطرًا كبيرًا من غذاء معظم الديمقراطيات، فالإنسانُ حيوانٌ خائفٌ من الحقيقة، وإنها لتكونُ معجزةً لو استطاع أي نظام اجتماعي أن يغير هذه الحقيقة وشيكًا، غير أن مؤسسات الديمقراطية الليبرالية تتفرد في أنها لا تتطلب من الناس أن يعتقدوا اعتقادًا نهائيًّا في أي شيء عدا منهج النقد الحر نفسه والتغيير السلمي، والأخلاق التي يقوم عليها هذا المنهج، الولاء الأعلى في مثل هذا النظام الاجتماعي هو لاستمرار البحث عن الحقيقة كيفما كانت، لا لاعتقاداتٍ بشريةٍ مؤقتةٍ ولا لمؤسساتٍ زائلة، حقيقة الأمر أن الأساس المنطقي للديمقراطية هو بالضبط أنها في غِنى عن الادِّعاء الأحمقِ المغرور بأنها تقوم على حقائق معصومة، وبوسع الناس أن تعتقد في الديمقراطية وتبقى رغم ذلك موقنةً بأن الحقيقة أكبر من أي شيءٍ يظنون أنهم يعرفونه.

ويبقى رغم ذلك سؤالٌ لعله أشدُّ الأسئلةِ إزعاجًا لنا وتنغيصًا:

الحرية، التنوع، الوعي بالذات، الوعي الحصيف بأن البشر غير معصومين، الولاء لمبدأ التساؤل المفتوح، كل هذه فضائل واضحة، غير أنها فضائل راقية رفيعة، فهل ترَفَّعَت الديمقراطية الليبرالية وتأبَّت على المنافسة؟ هل لديها أي شيء تقوله، لا لأولئك الذين عرفوها بالفعل وذاقوا حلاوتها، بل للأغلبية البشرية الذين ينبغي أن يهتدوا إليها ويَنشُدوها إذا كان للحريات الإنسانية أن تعُم قليلًا في العالم وتزداد حصتُها عما هي عليه الآن؟

من الأوهام المدمرة لدى الكثير من الليبراليين الغربيين ظَنُّهم بأن قيم الثقافة الليبرالية هي قيمنا نحن (الغربيين)، وأنها لا تصلح لأولئك الذين ينظرون إلى العالم على نحوٍ مختلفٍ، ولا تصلح على الإطلاق لمن يعيشون حياةً فقيرةً همجيةً قصيرةً، ورغم أن المستعمرين قد روَّجوا هذه النظرة لأغراضٍ مختلفةٍ فقد شاركوا فيها، وهي نظرة تنم عن فهمٍ مغلوط لطبيعة القيم الليبرالية. الحرية والتنوع والوعي بالذات والبحث عن الحقيقة؛ كل أولئك خبراتٌ مرهفةٌ ومن الصعب أن يتصور مزاياها من لم ينعم بها قَط، ولكن على الرغم من المتاعب التي تَجُرُّها هذه القيمُ فإن الدلائل، فيما أرى، تشير إلى أن معظم البشر سوف يسعدهم أن يحوزوا عليها، وسوف يرون حياتهم قد ارتقت بها. تتجسد مشكلةُ القيم الليبرالية المميزة لا في أنها ضيقة الأفق بل في أن الشعوب المقهورة لديها احتياجاتٌ أشد إلحاحًا: الدواء والتعليم والخبز والتحرر من المرابين والانعتاق من ربقة الفساد والأنظمة الاستغلالية، تَعِدُ الأنظمة غيرُ الليبرالية شعوبَها بهذه التحسينات المادية الأساسية وتُقَدِّمُها لهم في أحيانٍ كثيرةٍ، ومهما تَحَدَّثَت البرامجُ الليبرالية عن الحرية دون أن تَمَسَّ الفسادَ والاستغلالَ فإنها ستكون عاجزةً عن تقديم أي شيء بما فيه الحرية ذاتها.

ولكن ماذا نقول لأولئك المقهورين تحت إمرة الحكومات المتسلطة؟ وكيف نُقنِعُ هؤلاء الرازحين تحت وطأة المعاناة المتلهفين لتوفير احتياجاتهم الأساسية، أن البرامجَ الليبرالية قادرةٌ هي أيضًا على تحسين وضعهم المعيشي، وأن طريقَ الليبرالية رغم كثرة تعاريجه والتفافاته هو أفضلُ من طريق الاستبداد؟

يمكن أن نقول لهم ببساطة شديدة: إنَّ طريقَ التسلط طريقٌ ينغلق وراء سالكيه … طريقٌ لا رَجعَةَ فيه، بينما تمتاز الديمقراطيةُ الليبرالية بأنها تسمح بالمراجعة وإعادة النظر، فاختيارُ نظام تسلطي هو بمثابة الرهان بكُلِّ شيءٍ في رَمية نَرْدٍ واحدة، فإذا كان الرهانُ خاسرًا فلا مخرَجَ إلا من خلال العنف، وهو اتجاهٌ لا يُرْجَى منه خيرٌ كثير، أمَّا اختبار الطريق الليبرالي، وإن كان لا يقدم ضمانًا ضد الأخطاء، فهو يقدم ضمانًا ضد الخطأ القاتل الذي لا يقبل أيَّ تراجعٍ مأمونٍ أو تصحيح سلمي.

على أن هناك سببًا آخر لاختيار الديمقراطية، وهو أن الديمقراطية تصنع الديمقراطيين.

تخيل معي نظامًا ملتزمًا تمامًا برفاهية من يحكمهم، وتخيل معي، رغم كل المصاعب العملية، أنه نظام ذكي صادق شجاع وغير مضطر إلى التعامل بأي صورة من الصور مع أي من التكتلات الدولية التي تسود العالم الحديث، وتخيل أيضًا أن هذا النظام يهدف في النهاية إلى أن يغرس الديمقراطية والقيم الليبرالية في البلد الذي يحكمه، ولكن افترض فقط أن هذا النظام يَدَّعي أنه «في هذه المرحلة» هو النظام الوحيد الناطق بلسان المصلحة العامة والجماعة الوحيدة في المجتمع التي تعرف معنى الحقيقة والعدل. ماذا تكون النتيجة؟ النتيجة هي استحالة وجود توجه ديمقراطي، لقد وُصِفَ هذا الموقف بطرقٍ عِدَّة، كحب للحرية والمساواة والأخوة، وكاحترام لكرامة الفرد، واحترام دائم للحقوق الفردية، هذه الأوصاف ليست خطأ ولكنها نظرية بدرجة مفرِطة، فالموقف الديمقراطي في حقيقة الأمر هو ببساطة مزيجٌ من حُسنِ النية تجاه الآخرين والاعتقاد العامل باحتمال تمتعهم بالعقلانية، هذا هو ما يدمره النظام السياسي الاستبدادي، فما إن تسيطر على مجتمعٍ فكرةُ أن زمرةً معينةً هي التي تستأثر بالحكمة كلها حتى ينقسم هذا المجتمع إلى قسمين: قسم مستنير وقسم دون ذلك، وحتى يقوم القسم المستنير بتحديد مَن سوف يتقلد عضويةَ المؤسسة الحاكمة، ومثل هذا الوضع في أي دولة حديثة يحول دون نمو الثقة المتبادلة بين جماعاته المتعارضة، تلك الثقة التي تُعَد شرطًا أساسيًّا لنمو مجتمعٍ سياسيٍّ قويٍّ وحُرٍّ في الوقت نفسه.

والتنافس الذي يحدث في النظام الديمقراطي هو مثال للتنافس التعاوني، إنه نضالٌ يعمل كلا طرفيه على الإبقاء على الشروط اللازمة للنضال المهذب، وهو بالتالي يقوم على افتراض أنْ ليس ثمةَ صراعاتٌ مُستعصيةٌ على الحل، وأن من الممكن دائمًا تسوية الخلافات والتفاوض فيها إذا صَحَّت عزيمةُ الناس، مثل هذا النظام يتطلب أن يعامل الناسُ بعضهم بعضًا بصدق، وأن يبذُلوا جهدًا مخلصًا للتوصل إلى اتفاقات، وأن يصونوا هذه الاتفاقات بعد أن يتوصلوا إليها، وهذا النظام يقتضي منهم أن يدرك كل طرف أن الطرف الآخر له مصالحه، وأن يكون على استعداد لتقديم تنازلات من أجل هذه المصالح ما دامت لا تصطدم بالمبادئ الأساسية، ليس معنى ذلك أن الخُلُقَ الديمقراطي يدعو أصحابه إلى أن يكونوا حَمقَى وأن يفترضوا أن خصومهم قد ألقوا بكل أوراقهم على الطاولة، غير أن التنافس الديمقراطي يغدو مستحيلًا إذا فشل أطرافُه في استيعاب أن خصومهم سوف يدركون انتصارهم إذا فازوا، وسوف يتعاونون معهم بعد ذلك، أمَّا عقد النية على إفناء المعارضة أو على الانتصار بأي ثمن كان فهو يدمر أي احتمال للصراع المنظم، بهذا المعنى تكون الديمقراطية مِرانًا خُلُقيًّا لحسن النوايا، إنها نظامٌ يجعل من الممكن للبشر، لا أن يحبوا أعداءهم، بل على الأقل أن يعيشون دون خوفٍ منهم، وهذا الصنف من الثقة المتبادلة بين الخصوم هو ما تحطمه النظُمُ التسلطية.

لا جَرَمَ تبدو هذه الحجةُ ممعنةً في الطيش عند من يعيشون في المجتمعات التي مزقها انعدامُ الثقة قرونًا عدة، والتي لم تعرف كلمة «حكومة» إلا كمرادفٍ للقسوة والتضليل، إذا نجح مثلُ هؤلاء في تنصيب أنظمةٍ ديمقراطيةٍ في بلادهم فسوف يفعلون ذلك بتمييز خصومهم وعدم الثقة بهم، ولكن العنفَ الذي يصاحب أي ثورة اجتماعية عميقة (ما دام شرًّا لا بد منه، وما دام محدودًا بحدوده) غيرُ العنف حين يكون مذهبًا يفترض أن من المحال على الناس أن يتعاونوا ما لم تكن لهم نفس المصالح والأفكار، مثل هذا الافتراض، كما تشير كل الأدلة، يشجع على تبني الإرهاب كسياسة رسمية، ويحكم على المجتمع مدى الحياة بالخضوع لسلطة احتكارية لا تداول فيها ولا تبديل، وفي المجتمع الحديث حيث تتعدد الفئات السكانية، بل حقًّا في أي مجتمع شرع في حركة التحديث، فإن مذهب العصمة الحكومية يمرِّسُ الناس بالشك والمؤامرة، ربما سيحقق لهم هذا المذهبُ بعض الأهداف ويجني لهم بعضَ الثمار، غير أن مذاقها تحت هذه الظروف سيكون مذاقًا مُرًّا.

ولا يقتصر مذهبُ العصمة على تدمير النوايا الحسنة، بل يتنافر أيضًا مع الاعتقاد في عقلانية الآخرين، أمَّا اتخاذ الموقف الديمقراطي فيعني أن تمضي قُدُمًا وأنت تفترض احتمال أن يكون للآخرين مبرراتٌ مقنعةً للتفكير بالطريقة التي يفكرون بها، فإذا ما اختلفوا معك في أمرٍ فإن اختلافهم لا يجعلهم بالضرورة مستحقين للتقويم والإصلاح، هذا هو المعنى البسيط للقول الذي يتردد كثيرًا بأن الديمقراطية تؤمن بعقلانية البشر وتساويهم، وهو إيمانٌ لا يعني الإقرار بأن جميع البشر عقلانيون أو أنهم سواسيةٌ من حيث عقلانية التفكير والمعيشة، إنه في حقيقة الأمر «إيمان براجماتي» … بمعنى أنه يعبر عن سياسة أو نهج، هذا النهج هو ببساطة أن تعترفَ بعقول الآخرين وأذهانهم الخاصة (وتَعُدَّهم مسئولين عن أفعالهم) ما لم يثبُت عكسُ ذلك ببراهينَ قويةٍ ومحددةٍ تمامًا. مثل هذا الأسلوب يتيح مساحةً للفردانية ومُتنَفَّسًا للطباع الشخصية الخاصة، وتسمح لألوانِ الذكاءِ البشري أن تَبرُزَ وتُكتشَفَ وتُستخدَم.

وأخيرًا، فإن من يسأل نفسه لماذا يجب أن أختار الديمقراطية، فإنما يسألها أن تقرر مع أي نهج من النهجين يودُّ أن يعيش: مع النهج القائل بأن رفاقَه خَطِرون عليه وعلى أنفسهم، أم القائل بأنهم عقلاءُ ما لم يتكشَّفْ خطرُهم ويسفرْ عن وجهه، إن لكلٍّ من المسلكين مخاطرَه، لماذا ينبغي على المرء أن يختارَ أحدَهما دون الآخر؟ بإمكان المرء أن يجد أحد الأسباب إذا سأل نفسه عن العواقب التي يؤدي إليها المسلكُ المتبَع تجاه المشاعر الأولية التي سوف يضمرها نحو رفاقه، لا في عالمٍ مغايرٍ يتوسَّمُهُ، بل هنا والآن، إن ميزة النهج الديمقراطي هي أنه يخلق المشاعرَ الديمقراطية، فأولئك الذين لا يريدون أن يروا المجتمع الإنساني منقسمًا إلى مستغِلين ومستغَلين، أولئك الذين يريدون أن يروا كلَّ إنسانٍ يَنعمُ بملكيته الخاصة، ويؤمنون بأن الناس في نهاية المطاف سوف يعاملون بعضهم بعضًا بالاحترام والأخوة التي يُبْديها الندُّ للند، إنما يطلبون الديمقراطية باسم هذه الفضائل والتوجهات الأخلاقية، ولعل السبب النهائي لاختيار المنهج الديمقراطي هو أنه يقدم أرضًا للتدريب، هنا والآن، على هذه التوجهاتِ بالتحديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤