ابن أرلندا

١

هناك على ضفاف نهر التاميز، في ليلة ادلهم ظلامها وتلبد الضباب في سمائها، كان نحو خمسين سفينة بخارية تسير ذهابًا وإيابًا في ذلك النهر العظيم، فتنقل الركاب من ضفة إلى ضفة.

وإن بينهما سفينة ازدحم فيها الناس، بين نساء ورجال وأولاد على اختلاف طبقاتهم، فكان معظمهم شاخصين بأبصارهم إلى امرأة بين ركاب السفينة، لا تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها، ومعها غلام يبلغ عمره عشرة أعوام.

وقد اختلفت نظرات الناس إليهما، بين المعجب والمنذهل والمشفق؛ لأن ملابسهما كانت رثة تدل على الفقر، في حين أن مخائلهما كانت تدل على النبل والشهامة.

وكانت المرأة لابسة قبعة من القش وعلى كتفها شال قديم من نسيج القطن، وفي رجليها نعلان يدل تكدس الغبار عليهما أنها اجتازت مسافة شاسعة مشيًا على الأقدام.

أما الغلام فقد كان عاري الساقين إلى الركبتين، حاسر الرأس لا يستره غير شعر أشقر كثيف. وقد وشحته أمه وقاية له من البرد بوشاح يظهر أن أصل لونه كان أحمر وأزرق. ولكنه استحال لتقادم العهد به فصار أصفرَ سنجابيًّا.

أما الذي دعا ركاب السفينة إلى إطالة النظر إلى الغلام وأمه، فهو أن هذه الأم على فقر ملابسها، كانت فتنة للناظرين بما وهبها الله من الجمال، وكان أصدق وصف للغلام أنه كان ملاكًا لم ترسم مثل وجهه الصبوح أيدي أبرع المصورين.

وكانت المرأة بيضاء الوجه، قرمزية الشفتين، زرقاء العينين، سوداء الشعر. أما الغلام فكان أشقر الشعر، وله علامة غريبة يتميز بها، وهي خصلة حمراء دقيقة كانت تتسرب من شعره الأشقر إلى جبهته.

وكان الغلام وأمه ينظران بقلقٍ إلى تلك العيون المحدقة بهما، ولا يفهمان لها معنى، ثم يحولان أنظارهما عن الناس إلى ضفتي النهر؛ فيريان على أنوار المصابيح ما كانا يمران به من المنازل والحدائق والمحطات والجسور، فيظهر من اندهاشهما أنهما غريبان.

ولم يكن بين المسافرين من يعلم من أين قدما، لأنهما ركبا السفينة من محطة كرنويش وقد وصلا إليها ماشيين. فتنهدت الأم وأخذت كيسها وفيها نحو ثلاثة شلنات وبضع قطع من النقود النحاسية، فأخرجت منه بنسين ثمن التذكرتين، وأقامت في المحطة تنتظر قدوم السفينة وهي حاضنة ابنها.

ولم تكلم أحدًا مدة الانتظار حتى إذا وصلت السفينة إلى محطة أحواض الهند، سألت رجلًا بقربها: هل نحن في لندرا؟

وكان هذا الرجل بائع سمك، وهو أيكوسي فقال لها: نعم ولا؛ لأن لندرا لا نهاية لها كما يقول الإنكليز فإلى أين أنت ذاهبة؟

فترددت المرأة هنيهة ثم قالت له: إني ذاهبة إلى شارع يوجد فيه كنيسة تدعى سانت جيل، واسم هذا الشارع لورنس ستريت.

– إني أعرف هذا الشارع وهذه الكنيسة، فهي كنيسة كاثوليكية.

– نعم.

– ألعلك أرلندية؟

– نعم يا سيدي.

وكان هذا الرجل كريم الأخلاق، ولكنه كان كثير الكلام؛ فراق له الحديث مع هذه المرأة لما رآه من جمالها، وجعل يصف لها الطريق المؤدي إلى الكنيسة وصفًا مفصلًا دقيقًا حتى إذا انتهى من تفصيله قال لها: ألعلك ذاهبة يا سيدتي إلى أهل لك في تلك الناحية؟

– كلا، إني لا أعرف أحدًا من لندرا، ولكن قيل لي إنه يوجد في شارع لورنس رجل أرلندي يدعى بتريك سأقيم عنده أنا وابني.

– إن اسم بتريك كثير الشيوع بين الأرلنديين، وإذا كنت لا تعلمين عن هذا الأرلندي غير اسمه الأول، فإنه ستبيتين هذه الليلة دون مأوى.

فرفعت الأرلندية عينيها إلى السماء وقالت: إن الله رءوف كريم، ولا يتخلى عنا.

واستأنف الرجل الحديث فقال لها: إنك قادمة إلى لندرا لتشتغلي فيها دون شك.

– لا أعلم.

فاستغرب الرجل جوابها لا سيما حين رأى ملابسها الرثة، وقال لها: إن جميع الناس في لندرا يشتغلون ما خلا اللوردية.

– إني أتيت بمهمة أليس غدًا يوم ٢٧ أكتوبر؟

– نعم.

– إذن قد وجب علي أن أكون صباح غدٍ في كنيسة سانت جيل، وأن أقدم ولدي لكاهن تلك الكنيسة.

فقال لها الأيكوسي ببساطة: ولماذا تريدين تقديمه للكاهن، في يوم معين؟

– لأن أباه أوصاني بذلك قبل وفاته.

وكانت الأرلندية تحادث الأيكوسي، وهي غير مكترثة للناس الذين كانوا ينظرون إليها، وبينهم رجل من النبلاء وامرأة كانا ينظران إلى ولدها نظرات خاصة.

وعاد الأيكوسي إلى الحديث، وقد أعجبه أدب المرأة وأشفق عليها؛ لسلامة قلبها فقال لها: إن امرأتي يا سيدتي كريمة الأخلاق، فإذا أردت أن تبيتي الليلة عندنا مع ولدك استقبلتكما بملء الارتياح، وعند الصباح تذهبان إلى الكنيسة.

وكانت لهجة الأيكوسي تدل على المروءة الصادقة، والإخلاص الصحيح، غير أن المرأة رفضت دعوته شاكرة وقالت له: يجب علي أن أذهب إلى حيث أمرت أن أذهب.

وكانت السفينة قد وصلت إلى المحطة التي يسير فيها الأيكوسي إلى منزله، فقال لها: إذن أستودعك الله وأسأله أن يقيك شر المعتدين.

ثم انصرف وعادت السفينة إلى سيرها.

وكان الرجل النبيل والمرأة لا يزالان في السفينة. أما الرجل فكان ينظر إلى عيني الغلام ويقول في نفسه: ما أشبه هذه النظرات المتقدة بنظرات أدمون.

وأما المرأة فإنها انسلت كالأفعى، وجلست بجانب الأرلندية وابنها.

٢

كانت هذه المرأة التي انسلت إلى الأرلندية، أشرفت على سن الكهولة، وهي زرقاء العينين، مصفرة الأسنان، رقيقة الشفتين، تدل ملامحها على الخبث والدهاء.

فدنت من الأرلندية فبدأت حديثها معها بالثناء على ولدها، والإعجاب بجماله، ثم استطردت من ذلك إلى تعريفها بنفسها. فأخبرتها أنها كاثوليكية تدعى مسز فانوش وأن مهنتها تربية الأطفال، وأنها تقيم في منزل قرب أكسفورد على مسافة خطوتين من سانت جيل.

فقالت لها الأرلندية: تقولين إنك كاثوليكية، ألعلك أرلندية؟

فاشمأزت المرأة في البدء ولكنها فطنت إلى أن كل غريب يأنس بقومه في غربته فقالت لها: إني لم أولد في أرلندا، ولكني أرلندية الأصل فقد كان جدي أرلنديًّا، فلما هاجرنا إلى لندرا بقينا على مذهب الكثلكة. وقد لقيت عناء شديدًا من زوجي — رحمه الله — فإنه كان بروتستانتيًّا، وكان يحاول إكراهي على تغيير مذهبي في كل حين.

ثم غيرت الحديث وقالت لها: أأنت ذاهبة إلى سانت جيل؟

– نعم يا سيدتي.

– ألعلك تعرفين أحدًا من الأرلنديين في تلك الجهة؟

– كلا يا سيدتي، ولكني مرسلة إلى شخص يدعى بتريك.

– في شارع لورنس أليس كذلك؟

– هو ما تقولين.

وكان بجانب مسز فانوش امرأة لا تقل عنها خبثًا كما تدل ظواهرها فتبودلت بينهما نظرة سرية لم ترها الأرلندية، فكتبت المرأة بسرعة اسم بتريك، وسانت جيل، ولورنس ستريت.

وعادت مسز فانوش إلى محادثة الأرلندية فقالت لها: ماذا عزمت أن تصنعي بغلامك الجميل، ألا تدخليه في مدرسة جامعة؟

فابتسمت الأرلندية ابتسام حزن وقالت: لا أعلم لأني فقيرة، وربما طال زمن فقري.

– إني أرى مخائل النجابة تلوح بين عيني ولدك، وإذا شئت أدخلته إلى مدرستي مجانًا لوجه الله، وأنا مربية أطفال كما قلت لك.

وكان الغلام يسرح نظره، خلال حديث تلك المرأة مع أمه، بالقصور التي كانت تمر بها السفينة.

فلما مل هذه المناظر، عاد إلى أمه وشاهد مسز فانوش؛ فشعر بعاطفة كره لها وقال لأمه: من هي هذه المرأة يا أماه؟

فابتدرته مسز فانوش بقطعة من الحلوى، أخرجتها من كيس مخملي كانت تحمله بيدها، وقالت له: إني يا بني أرلندية مثلك، فاقبل مني هذه الحلوى.

وكان الغلام جائعًا غير أنه رفض الحلوى على جوعه؛ لنفوره من هذه المرأة وتشاغل عنها بالنظر إلى مياه النهر.

وعادت فانوش إلى محادثة الأرلندية فقالت لها: إنك لا تعرفين شيئًا من لندرا أيتها العزيزة، فإني أعرف هذا الرجل الذي تدعينه بتريك. فهو إسكافي فقير، ستلقين عناء شديدًا في المبيت عنده، وربما لا تجدين في منزله قطعة من الخبز.

– لا بأس فسأشتري طعامًا إذ لا يزال معي بقية نقود.

– لقد قلت لك إني أقيم على قيد خطوتين من كنيسة سانت جيل، فإذا بت عندي هذه الليلة تبيتين على أحسن حال، ثم تذهبين في الصباح إلى الكنيسة. فأبيت قريرة العين بضيافة أرلندية مثلي.

ونظرت الأرلندية إلى ولدها كأنها تستطلع إلهام قلبه بالنظر، فانضم الغلام إلى أمه والتصق بها كما تتلاصق الطيور حين تشعر بدنو العاصفة، ثم قال لها بلهجة الخائف: لا تذهبي يا أماه إلى منزل هذه المرأة.

فقالت له فانوش: ليكن ما تريد يا بني.

ثم تبادلت نظرة سرية مع رفيقتها. أما الغلام فإنه أخذ يد أمه وقبلها بلهف كأنه شعر بأنه أنقذها من خطر عظيم.

ولقد تقدم لنا القول في الفصل الأول أنه كان يوجد بين ركاب السفينة رجل من النبلاء ينظر نظرات خاصة إلى الغلام وأمه.

وكان مستمرًّا على مراقبة الغلام، فلما رأى ما كان منه ومن فانوش، وعلم أن السفينة باتت قريبة من المحطة، نظر إلى ما حواليه فرأى بقربه رجلًا يناهز الخامسة والأربعين من عمره، تدل هيئته على أن جميع شقاء لندرا قد تجمع فيه.

وكان لابسًا بنطلونًا برزت منه ركبتاه، وقبعة لا إطار لها، وسترة تجمعت فيها ألوان الأرض والسماء لتقادم عهدها. ولكنه كان واقفًا في السفينة وقفة الشامخ المتعاظم، ولعله كان يفتخر بأنه لا يدانيه في الفقر أحد.

فدنا منه الرجل النبيل وقال له: إني أدعى اللورد بالمير، وأقيم في شستر ستريت فإذا وافقتني فيما أريد أعطيتك عشرة جنيهات.

فاضطرب الفقير إذ لم يملك في زمانه هذه القيمة وقال له: ألعلك تهزأ بي يا سيدي؟

– كلا، قل لي ماذا تدعى؟

– شوكنج.

– ومهنتك؟

– لا مهنة لي.

– ومن أين ترتزق؟

– من أبواب الصدفة.

– هو ذا الصدفة قد فتحت لك أبوابها اليوم فادخلها.

– بل أنت فتحت لي أبواب السعادة. فقل ماذا تريد أن أعمل؟

– أترى هذه المرأة الجالسة على المقعد مع ولدها؟

– نعم.

– أريد أن تتبعها متى نزلت من المركب حتى تدخل منزلًا لتبيت فيه؛ فتعود إليَّ وتخبرني عن موضع المنزل؛ فتكسب المال.

– هذا أمر سهل ميسور، فإذا قضيته أين أجدك؟

– تجدني في منزلي الذي أرشدتك إليه، فاحذر أن يغيب عنك أثرها.

وكانت مسز فانوش في ذلك الحين قد دنت من رفيقتها، وقالت لها: إنك تعلمين أن مسز إميلي سوف تطالب بولدها، ثم إنك تعلمين أيضًا أن ولدها قد مات. وهل كان يخطر لنا في بال أن الأمور تنقلب إلى هذا الحال إذ لا بد لنا من هذا الغلام.

– ولكن الأم ماذا نفعل بها؟

– إن ويلتون يتخلص منها.

وعند ذلك وصلت السفينة إلى المحطة، فخرج الناس منها وازدحمت بهم المحطة، وبينهم الأرلندية وابنها وهي لا تعلم كيف تسير.

٣

وخرجا من المحطة فسارا على الرصيف وراء الجموع المزدحمة، وكانت الأرلندية آخذة ولدها بيدها وهي خائفة وجلة من هذا الازدحام، لا تعلم كيف تسير فإن بائع السمك كان قد أرشدها إلى الشارع الذي تريد الذهاب إليه غير أنها نسيت كل ما قاله؛ لأنها لم تأتِ قبل هذه المرة إلى لندرا، وكانت تضيع رشدها بين هذه الجموع.

ثم خفَّ الزحام بعد سير طويل فسألت أحد المارة عن شارع لورنس ستريت، فأجابها أنه لا يعرفه فشكرته، واستمرت في سيرها، فسألت آخر فأجابها كما أجابها الأول، فواصلت السير وقد ضلت الطريق وسارت في جهة الغرب، وطريقها من جهة الشرق.

وقد أجهدها السير ولم يعد يستطيع ابنها المشي، فشاهدت خمارة فدخلت إليها؛ بغية الاستراحة والاسترشاد.

وفيما هي جالسة مع ولدها على مقعد، شاهدت رجلًا دخل الخمارة وطلب كأسًا من الخمر فسرت الأرلندية لمرآه إذ ذكرت أنه كان معها في سفينة واحدة، فاستأنست به وأملت أن يرشدها إلى الطريق.

وكان هذا شوكنج نفسه الذي أرسله اللورد بالمير مقتفيًا أثر الأرلندية، فوقف قربها وكأسه بيده ثم نظر إليها فلقيها تتطلع إليه فقال لها: أظن يا سيدتي أنك ضللت السبيل في هذه العاصمة العظيمة.

– نعم، فإني أسأل منذ ساعة عن شارع لورنس ستريت، ولا أجد من يرشدني إليه.

– ذلك لأنك لم تسيري إلا في الشوارع التي يسكنها الأغنياء، وهم لا يعرفون هذا الشارع الذي يسكنه أشد الناس فقرًا، غير أني فقير مثلك، وقد وجب التعاون على الفقراء. وإذا شئت كنت دليلك إلى هذا الشارع.

– إني أقبل شاكرة ممتنة، وأسأل الله أن يجزيك عني خيرًا.

فشرب شوكنج كأسه ومشى أمامها فتبعته مع ولدها، وقد اطمأنت إليه لما رأته من دلائل السلامة بين عينيه، وكذلك الغلام فإنه نظر إليه في البدء نظرة تشف عن الريبة، ولكنه لم يلبث أن وثق به، وأعطاه يده وسار وإياه.

وذلك إن مخائل هذا الرجل كانت تدل على المروءة، وطيب العنصر، فلم تحجب ظواهر فقره تلك الشمائل، وإنما رضي أن يقتفي أثر الأرلندية بأمر اللورد لشدة فقره.

ولم يخطر له أن اللورد قد أعجبه جمال المرأة، فقال في نفسه: ليس ذلك من شأني وكان يجب عليَّ أن أعرض عن هذه النقيصة، ولكن فقري شديد وإذا كان هناك إثم، فإن الله يعاقب به ذلك الغني الذي يستغوي الفقراء بأمواله، ويتخذ ذهبه الوضاح ذريعة لإغواء القلوب الطاهرة.

وما زال يسير بهما حتى وصل إلى هذا الشارع، وهو أفقر شوارع لندرا، ولا يقيم فيه غير الأرلنديين، وكلهم فقراء معدمون.

وقد وجدوا امرأة واقفة عند باب منزل فقالت لها الأرلندية: أتعرفين يا سيدتي بتريك؟

– أي بتريك تعني، إن هذا الاسم كثير الشيوع بيننا.

– بتريك الإسكافي.

– نعم إن منزله في أول هذه العطفة غير أنك لا تجدينه في منزله، فإذا أردت أن تكلمي امرأته فهي في المنزل.

فشكرتها الأرلندية، وذهبت مع شوكنج وولدها إلى ذلك المنزل، وهو منزل حقير لا باب له ويصعد إليه بسلم متهدم.

فأجفلت الأرلندية من مظاهر هذا الفقر المدقع، خلافًا لشوكنج، فقد كان ذلك مألوفًا عنده، ووقف في أسفل السلم، وجعل ينادي امرأة بتريك.

وبعد تكرير النداء مرات ظهرت من النافذة امرأة نحيلة رثة الملابس، وعلى صدرها رضيع صغير. فنظرت إلى من يناديها نظرًا تائهًا يدل على اليأس وقالت: ماذا تريدون مني ومن يسأل عن بتريك؟ إن البوليس قبض عليه هذه الليلة، وزجه في السجن دون إشفاق، فهو لا يعود قبل أن يقتلنا الجوع.

فالتفت شوكنج إلى الأرلندية وقال لها: لقد سمعت شكوى هذه المنكودة البائسة، ولا رجاء لك في المبيت عندها.

فنظرت الأرلندية إلى ابنها نظرة ملؤها الإشفاق وقالت: رباه! أين نبيت؟

فقال لها شوكنج ببساطة: لا أعلم إذا كان لديك نقود.

– لم يبق معي غير ثلاثة شلنات وستة بنسات.

– إذن، لقد هان الأمر إذ يوجد في هذا الشارع فندق تبيتين فيه، وتتعشين فيه مع ولدك، ولا تدفعين غير شلن واحد، وفي الصباح يفعل الله ما يشاء.

– هلم بنا إليه فقد أضنى ولدي التعب والجوع.

فحمل شوكنج الغلام وسار به أمام أمه في طريق الفندق، فما سارت في أثره بضع خطوات، حتى شعرت بيد لمست كتفها، فالتفتت فرأت مسز فانوش.

فقالت لها فانوش: ألم أقل لك أيتها الحبيبة إنك لا تجدين مأوى في هذا الحي، وإني أحمد الله إذ لقيتك ثانية وتيسر لي تفريج كربك وخدمة ابنة وطني العزيز فهلمي معي إلى منزلي ولا تخيبي رجائي.

ونظرت الأم إلى ولدها كأنها تريد استشارته غير أن الغلام كان قد أضناه التعب، ونام بين يدي شوكنج.

فعادت فانوش إلى الإلحاح بلهجة تشف عن كرم عاطفة، وسلامة قصد، فاغترت الأرلندية بلطفها وأجابت دعوتها.

٤

وكأنما اتساع لندرا قد راعها حتى باتت تقبل بالمبيت عند أول إنسان يدعوها، وقد نسيت ما شعرت به من الكره لأول مرة رأت فيها فانوش في السفينة، ولم تذكر غير شيء واحد وهو أن ولدها تعب جائع.

فأسرعت فانوش إليها فتأبطت ذراعها، وأشارت إلى شوكنج أن يتبعها بالغلام فامتثل ومشى في أثرهما.

وكان منزل هذه المرأة قريبًا، وهو أجمل منازل هذا الشارع، فلما وصلوا إليه فتحت فانوش بابه بمفتاح كان معها، ودخلوا جميعًا فصعدوا سلمًا انتهو منه إلى ردهة متسعة، ودخلوا إلى غرفة مضاءة.

وكان في هذه الغرفة امرأة عجوز، وفتاتان صغيرتان، فقالت فانوش للعجوز: إني أتيت بامرأة فقيرة مع ولدها ليكونا في ضيافتي فأرجو يا عمتاه أن تعتني بهما خير اعتناء.

ونظرت العجوز إليها بسرور وارتياح، ورحبت بهما خير ترحيب وهي تقول: إن الضيف الفقير من عند الله.

ودنا شوكنج من الأرلندية فقال لها: إنك ستبيتين عند خير قوم — كما تبين لي — فاحمدي الله.

أما الأرلندية فإنها لما رأت أنها آمنة مطمئنة على ولدها، جعلت تبكي بكاء الفرح.

وأخذت فانوش بيدها وأجلستها قرب المستوقد وهي ترتعد من البرد، وطلبت من العجوز أن تعد الطعام.

ثم التفتت إلى الرجل وقالت له: إني لا أستطيع أن أبقيك في المنزل؛ إذ لا يبيت في منزلي رجال فاشرب هذه الكأس من الخمر، وخذ هذا الشلن مكافأة لك، والله يجزيك عن هذه المرأة وولدها خيرًا.

فشرب شوكنج الخمر وأخذ الشلن ثم انصرف وهو يقول في نفسه: لا شك أن هذا اليوم من أفضل أيامي، فقد شربت فيه خمرًا، وأمسيت وفي جيبي شلن، وعملت جميلًا مع أم وابنها، وإذا وفى اللورد بوعده، ولم يكن هازئًا بي فقد تمت سعادتي.

ثم حفظ في ذهنه رقم المنزل، وانصرف عائدًا إلى اللورد وهو يفكر بالعشرة جنيهات التي سيقبضها، ويهجس بسعادته الجديدة.

بينما كان شوكنج ذاهبًا إلى اللورد بالمير، كانت الأرلندية وولدها يتعشيان، وكانت دموع الشكر تهطل من أعينهما بين لقمة ولقمة.

وكانت الفتاتان الصغيرتان تأكلان معها، فدنت الفتاة الصغرى من الغلام وقالت له: ماذا تدعى؟

– رالف.

فعانقته مسرورة وقالت: إذن سنلعب سويًّا غدًا.

أما الفتاة الكبرى، فكانت تنظر إلى رالف وأمه، نظرات حزن وإشفاق.

ولما انتهوا من العشاء قالت فانوش للأرلندية: إنك تعبة دون شك فهلم إلى الغرفة التي أعددتها لك.

وقامت فمشت أمامها تحمل مصباحًا، فتبعتها الأرلندية ودنت الفتاة الكبرى من رالف فعانقته كما فعلت الفتاة الصغيرة، غير أنها اغتنمت فرصة ذهاب فانوش وقالت له همسًا: احذروا من أن تقيموا هنا.

فقال لها الغلام: لماذا؟

– لأنهم يضربونك كما يضربونا كل يوم.

وعند ذلك دخلت العجوز، وشاهدت الفتاة تحدث رالف فنظرت إليها نظرة منكرة اضطربت لها الفتاة، فانفصلت عن الغلام، وتبع أمه إلى الغرفة التي سارت إليها.

وهناك قالت فانوش للأرلندية: ألم تقولي لي أنك تودين الذهاب غدًا إلى سانت جيل؟

– نعم.

– في أية ساعة؟

– يجب أن أكون في الكنيسة مع ولدي عند الساعة ٨.

– إذن أستودعك الله وسنوقظك في الساعة ٧.

ثم تركتها وانصرفت، فأقبل الغلام إلى أمه وبين عينيه دلائل الحذر، وقال لها: أنقيم هنا وقتًا طويلًا يا أماه؟

– كلا سوف نبرح هذا المنزل غدًا.

– لماذا لا نذهب الآن؟

– لأن ذلك مستحيل يا بني.

فسكت الغلام ولكنه عاد إلى الحديث حينما كانت أمه تخلع عنه ملابسه، فقال لها بصوت خفيض: إني خائف يا أماه.

– لماذا أنت خائف وممن تخاف؟

– إن الفتاة الكبرى قالت لي لا يجب أن تقيموا هنا؛ لأن هؤلاء النساء يضربونك كما يضربونا.

فقالت له أمه بصوت المؤنب: ألست أنا معك يا بني. فكيف يضربونك وأنا بقربك؟

فسكن خوفه وقال: إذن نبيت هذه الليلة ولكن أتعديني أن نخرج غدًا من هذا المنزل؟

– دون شك.

وقبلها الغلام وصعد إلى سريره، ولم تمر به بضع دقائق حتى نام نومًا عميقًا.

أما الأرلندية فإنها ركعت قرب سريرها، وجعلت تصلي وتشكر الله لإحسانه إليها.

وفيما هي تصلي شعرت فجأة بأن حرارة شديدة قد دبت إليها، ثم أحست بدوار رأسها عقبه انحلال أعضائها، وانطباق أجفانها.

فحسبت أن ذلك على أثر ما لقيته من مشقة السير، ولكنها حاولت أن تفتح عينيها فلم تستطع، وأرادت أن تصيح مستغيثة فاختنق صوتها، ولم تستطع أن تتفوه بحرف.

وبعد جهاد غير طويل، فقدت رشادها، وسقطت على الأرض لا تعي.

وعند ذلك فتح باب الغرفة، ودخلت منه مسز فانوش، ودخل في أثرها رجل قبيح الهيئة رث الملابس.

٥

بعد أن أدخلت فانوش الأرلندية إلى غرفتها وتركتها، عادت إلى قاعة الطعام؛ فأمرت العجوز أن تدخل الفتاتين إلى مرقديهما، وأخذت من جيبها رسالة فجعلت تتطلع إليها وعيناها تتقدان بأشعة الفرح فتقول: لقد خدمتني الأقدار أجل خدمة، وسوف تشاهد السيدة إميلي أن لدي ولدًا أعطيها إياه، بشرط أن يجد رسولي ولتون.

وعند ذلك طرق باب الغرفة التي هي فيها، ثم فتح ودخل منه رجل يشبه بظواهر فقره ورثاثة ملابسه شوكنج غير أنه يختلف عنه بهيئته لأن كل ملامحه كانت تدل على الرذيلة وفساد الأخلاق.

ولما رأته فانوش فرحت بقدومه وقالت: أهذا أنت يا ولتون؟

– نعم يا سيدتي، لقد وافاني رسولك فأتيت بأمرك.

– لقد أحسنت ولكني أرجو أن لا تكون أفرطت في الشراب.

فابتسم الرجل ابتسام القانط وقال: أين أنا من السكر، إني منذ أمس لم آكل ولم أشرب.

– إذن اجلس على هذه المائدة واشرب كأسًا من البيرا، واملأ جوفك من الطعام، وأَصْغِ إليَّ لأننا سنتحدث بأمور خطيرة.

– ألعلك تودين إغراق إحدى الفتاتين؟

– كلا، بل أود أن تتذكر أشياء ماضية.

– إني جيد الذاكرة فإني حين يهجم الليل، ويمنعني الجوع عن الرقاد، يتمثل لي جميع أولئك الأطفال الذين قتلتهم بأمرك حتى إني أراهم يرقصون فوق الحصير الذي أنام عليه.

فهزت فانوش كتفيها وقالت: إنك تتخيل خيال الشعراء، ولكن لا سبيل الآن إلى مباحث الخيال؛ لأني سأعطيك جنيهًا على الفور وجنيهًا كل أسبوع مدة عام إذا وافقتني فيما أريد.

فقال لها بلهجة المتهكم: لقد أخطَئُوا، يا سيدتي، بتمثيل الأبالسة بقرون، ولو شاهدوك قبل ذلك العهد، لما جعلوا إلا رسمك مثالًا للشيطان؟

– هَبْ أني الشيطان نفسه، أتقبل أن أغويك؟

– إني أقبل بالرغم عني إذ يجب أن أعيش، فقولي ماذا تودين.

– أود أن تعود بالذكرى إلى تسع سنوات خلت، ألا تذكر منذ تسعة أعوام أن رجلًا نبيلًا جاءني بطفل صغير؟

– إنهم يأتونك بالأطفال كل يوم.

– نعم، ولكن ذلك الطفل، الذي أحدثك عنه، لا يمكن أن ننساه.

– ماذا يدعى الذي جاء به؟

– هو السير جون واترلي، أحد ضباط الجيش الهندي، فقد دفع إليَّ الغلام وسافر في اليوم الثاني إلى كلكوتا، فأصيب هناك بمرض قاتل كما قيل لي وترجح عندي أنه لا يعود.

وكان هذا الغلام ابنه من فتاة تدعى مسز إميلي همبوري، وهي ابنة أحد اللوردية، ومن كبار الأسرات النبيلة، بحيث كان نبلها حائلًا دون زواجها بمن تهواه، فجاءنا بالغلام وقال: ربوه إلى أن يبلغ الخامسة عشرة من عمره، وعلموه مهنة يعيش بها عيشًا شريفًا. وصرح لنا أن أم الغلام وأباه لا يستطيعان أن يطلباه.

– نعم، لقد ذكرت هذا الطفل، وذكرت أن أباه دفع لك ثمانمائة جنيه لتربيته، فكرهت إنفاق المال على الطفل، وأمرتني أن ألقيه في النهر بعد سفر أبيه، ولكن لماذا تريدين أن أذكر هذه الحادثة؟

– لأن أباه عاد إلى طلبه.

– كيف ذلك ألم يمت إثر مرضه؟

– كلا، بل إنه تزوج مسز إميلي؛ لأن أباها اللورد قد مات فاعترفت بهفوتها لأخيها، والتمست منه أن يأذن لها بزواج الضابط، فصفح عنها وأذن لها بالزواج فكتبت إليَّ مع زوجها يسألان إعادة الطفل.

فكبر الأمر على ولتون وقال: إن الموقف شديد فعلى ماذا عولت؟

فابتسمت فانوش وقالت: إن جميع الأطفال متشابهون في سن الولادة، وإن مسز إميلي تسألني الآن إعادة طفل تركته منذ تسعة أعوام، وعمره شهران، فأنا أرد إليها غلامًا بالغًا تسعة أو عشرة أعوام، ولا يخامر قلبها شيء من الشك.

– لقد أحسنت ولكن أين تجدين هذا الغلام؟

– إنه في هذه الغرفة فاتبعني.

ثم أخذت مصباحًا وتقدمته إلى الغرفة التي كانت فيها الأرلندية المنكودة، وابنها رالف وكانا قد رقدا بتأثير المخدر كما قدمناه.

ولما دخل ولتون في إثر فانوش ذعر، وقال: إني أرى امرأة.

– لا تخشى فإني سقيتها مخدرًا لا تستفيق منه قبل أربع ساعات، وقد بقي عليك أن تنيمها نوم الأبد.

– أهذه هي المهمة التي تريدين أن أقضيها؟

– نعم …

– وهذا الغلام الجميل النائم؟

– إنه ابنها، وإنما أقتل أمه كي أبعدها عنه إلى مسز إميلي.

– ولكن فاتك أن لهذا الغلام عشرة أعوام من العمر، فهو يذكر أهله وبلاده وأمه.

– لقد فطنت لكل شيء، وألَّفت حكاية أقصها على مسز إميلي وهي أني دفعت طفلها إلى مرضع أرلندية، وكنت أرسل لها نفقاته في كل شهر، ولما أرسلت إليَّ تطلب ابنها كتبت إلى المرضع أن تحضر به أرلندا؛ فجاءت به وكافأتها أحسن مكافأة وأرجعتها إلى بلادها.

– إنها خير حيلة ولا أزال على سابق رأيي فيك، وهو أن الشيطان لو رسم حق رسمه لما كان إلاك.

– كفى بلاهة، واعلم الآن أنه يجب قتل هذه المرأة.

– بأية طريقة؟

فهزت كتفيها، وقالت: ألعلك نسيت طريقة النهر؟

فحك ولتون أذنه وقال: كلا، ولكن المرأة الكبيرة لا تحمل بوشاح كما يحمل الطفل.

– ولكنها تحمل في مركبة ولا يزال جواني السائق صديقًا لك فيما أظن فإني أدفع له جنيهين أجرة نقلها.

ووقف ولتون وقفة المتردد غير أن فانوش حلت كيسها فحلت عقدة لسانه، ودفعت له الأجرة مقدمًا، فأخذ المال وقال: إن هذه الأيام شديدة العسر، ولا بد للمرء أن يعيش.

ثم دنا من الأرلندية فحملها على كتفه، وخرج بها إلى قاعة الطعام دون أن تستفيق وألقاها على المائدة.

فقالت له فانوش: يجب علينا أن نهتم الآن بإيجاد سائق المركبة.

– لقد كفيتك مئونة هذا الاهتمام، فإني علمت أنك لم تبحثي عني إلا لارتكاب جناية جديدة، وبحثت عن مركبة، وجئت إليك بمركبة السائق نفسه.

– وأين هو الآن؟

– إنه ينتظرني على الباب.

فاتقدت عيناها بأشعة الفرح الوحشي، وقالت: بورك فيك فإنك ما خلقت إلا للمنكرات والآثام.

٦

وحملوا تلك الأرلندية المنكودة، وهي لا تعي ونزلوا بها فأوقفت فانوش ولتون عند الباب وخرجت هي فتفقدت الطريق ثم عادت فقالت له: أسرع بحملها إلى المركبة قبل أن يفاجئنا البوليس.

ورأى ولتون أن الوقت قد حان للإدلال عليها التماسًا لزيادة الأجرة، فقال لها: إني ممتثل لك، ولكني لا أعلم ما يكون من السائق، إذ لم أخابره بعد.

ففقهت فانوش مراده وقالت له: إن الوقت غير متسع للمخابرة فخذ كل ما لدي الآن في هذا الكيس، وسأزيدك حين تعود.

ثم ألقت إليه كيسًا فيه نحو عشرين جنيهًا، فأخذه فرحًا وحمل الأرلندية، وخرج بها وألقاها في المركبة، وجلس بجانبها، ثم أمر السائق أن يسير إلى النهر.

وانطلقت المركبة وقد خاصر ولتون الأرلندية كي لا تقع من الاهتزاز، بحيث لو رآهما أحد لما شكك أنهما عاشقان.

وكان ينظر إليها فلا يراها لازدياد الظلام في ذلك الشارع المقفر، وبعد حين اجتازت المركبة ذلك الشارع إلى شارع كثرت أنواره، وكانت تلك الأنوار تنبعث إلى المركبة، ورأى ولتون وجه الأرلندية وارتعش، لأنه لم يكن إلى الآن نظر وجه هذه المرأة التي سيقتلها طمعًا بالقليل من المال.

وإنما كان ارتعاشه لما رآه من جمالها الباهر، ولما طبع على ذلك الوجه من علائم الطهر والسلامة، وقال في نفسه: حيف على هذه المرأة أن تموت في نضارة الشباب.

واستمرت المركبة في سيرها، وحجب الظلام وجه الأرلندية، وعاد ولتون إلى التفكير وجعل يوبخ نفسه ويقول: بل الحيف على من كان مثلي، يرتزق من قتل النفوس ثم يجد بين جنبيه قلبًا يشفق ويحن.

وبعد هنيهة وقفت المركبة وسمع ولتون السائق يناديه، فقال له: ماذا تريد ولماذا توقفت عن السير؟

– أريد أن أعلم الذي جئنا به من لندرا.

– إنها امرأة.

– ألعلها ميتة؟

– كلا، بل هي نائمة نوم تخدير.

– إني لا أشترك بهذا المشروع يا ولتون.

– لماذا؟

– لأني تعودت إغراق الأطفال وليس النساء.

– أما هما واحد؟

– كلا، فإن قتل النساء يورث الشقاء.

– إنك تمزح دون شك.

– كلا، فإن هذا اعتقادي، وفوق ذلك فإن هذه المرأة قد تستفيق وتستغيث.

– لا خوف من ذلك فقد سقيت جرعة كبيرة من الأفيون فهي شبه المائتين.

– وكم عينت أجرتنا؟

– خمسة جنيهات.

– للاثنين؟

– كلا، بل لكل واحد خمسة.

ولبث السائق مترددًا في أمره وقال: إن المهمة صعبة يا ولتون.

– لكنهم دفعوا لنا مقدمًا، أتريد أن تقبض حصتك؟

فتنهد السائق وقال: هات، لكن سوف تعلم أن هذه الحادثة ستؤدي بنا إلى المشنقة.

فابتسم ولتون وقال: أليس الموت واحدًا مهما تنوعت أسبابه، ومتى كان أمثالنا يتوقعون غير موت الشنق؟

ثم نقده خمسة جنيهات، وعادت مركبته إلى المسير، وعاد ولتون إلى التفكير وبالأرلندية فقد كانت منزوية في المركبة لا تفرق عن الموتى.

وما زالت المركبة تسير من شارع إلى شارع، حتى وصلت إلى جسر التيمس.

وكان يجتمع على هذا الجسر في النهار ألوف من المركبات، فإذا أقبل الليل انقطع سيرها، وأقفر ذلك المكان، ولا يسمع فيه غير هدير أمواج النهر.

وهناك أمره ولتون بالوقوف، وأخرج من جيبه حبلًا من الحرير الدقيق فربط به رجلي الأرلندية ويديها حتى إذا ألقاها في المياه، واستفاقت لبردها لا تستطيع دفاعًا وتغور في الأعماق.

وبعد أن أتم وثاقها، خرج من المركبة ثم حمل الأرلندية، ومشى بها مشي الخائف الوجل إلى الضفة.

٧

ولم يكد يسير بها خطوتين حتى استوقفه السائق وقال: احذر.

فالتفت ولتون منذعرًا؛ فرأى نورًا كبيرًا يدنو منه، وهو نور مركبة من تلك المركبات الضخمة التي تنقل عليها البضائع فأسرع عائدًا بالأرلندية إلى المركبة، واختبأ بها إلى أن تمر مركبة النقل.

ثم مرت تلك المركبة الضخمة، وأصاب نور مصباحها وجه الأرلندية، فعاد ولتون إلى الاضطراب وحار في أمره ولم يدر ما يصنع.

وقد استبطأه السائق بعد مرور المركبة فقال له: ما بالك ساكتًا؟

فلم يجب وعاد إلى حثه على الإسراع.

غير أن ولتون لم يسمع حديثه، وكان كالمصاب بدوار وجعل يناجي نفسه فيقول: ما هذا الخوف وما كنت أرهب القتل وأخشى هذه المواقف؟

وعاد السائق إلى حضه على السرعة فأجابه ولتون بصيحة رعب ذلك أن الأرلندية تنهدت تنهدًا ضعيفًا بعد أن كانت ساكتة كالأموات فوقف ولتون منذعرًا وقال: كلا لا أريد.

فقال له السائق: ماذا تريد ألا تريد إغراقها؟

– كلا!

– إذن، أعزمت أيها الشقي أن ترد المال لفانوش؟

– كلا، فإني لا أريد المال ولا أغرق هذه المرأة، فإن جمالها يأخذ بمجامع القلوب.

فقهقه السائق ضاحكًا وقال: يسرني أن أراك من أهل الغرام، أما وقد عزمت على أن ترد المال، فلا فرق عندي بين أن تغرقها أو تُبقي عليها، بل إني أوثر سلامتها، فإن قتل النساء يورث الشقاء، كما قلت لك، ولكن ماذا يجب أن نعمل؟!

– لا أعلم ولكنها شربت مقدارًا كبيرًا من الأفيون، بحيث يتسع لدينا مجال التروي قبل أن تستفيق.

– والآن إلى أين نذهب؟

– اذهب إلى حيث تشاء شرط أن تبعد عن هذا النهر.

فقال له السائق ممازحًا: ألعلك تريد أن تتزوج هذه الحسناء؟

واضطرب ولتون وقال: كلا فإني لا أجني جناية الزواج، فاذهب بنا إلى أفقر مكان في وينغ.

– كما تريد. ودفع الجياد فسارت باللصين والأرلندية نحو ساعة حتى وصلت إلى المكان الذي عينه ولتون، فوقفت المركبة عند باب خمارة، ونزل ولتون والسائق ودخلا إليها وجلسا يشربان ويتشاوران.

فقال له ولتون: لقد ارتأيت الرأي السديد في الطريق وذلك أن فانوش عهدت إلينا إخفاء الأم كي تتمكن من الاستيلاء على الولد.

– ألهذه المنكودة ولد؟

– نعم وسأقص عليك هذه الحكاية في فرصة أخرى، والآن إن فانوش نقدتنا الأجرة كي نخفي الأم، وإذ قد أحضرناها إلى هذا المكان، فإنها لا تسمع بعد ذلك بأخبارها.

– لكنَّ لهذه الأم ولدًا كما تقول فهي تبحث عنه حتى تجده.

– هو ما تقول غير أن هذه المرأة غريبة، وهي لم تعرف لندرا قبل هذه الليلة، بل إنها لا تعرف اسم فانوش، ولا الناحية التي تركت فيها ولدها، فكيف تستطيع أن تجده في هذه العاصمة التي تشبه القارب باتساعها؟

– إذن، ماذا عولت أن تصنع بها؟

– عولت أن نذهب بها إلى حديقة عمومية من حدائق وينغ فنضعها على مقعد من مقاعدها، ويفعل الله بها بعد ذلك ما يشاء.

– إنه رأي سديد فهلم بنا قبل أن تستفيق.

وخرج الاثنان من الخمارة إلى المركبة، وساروا بالأرلندية إلى أفقر شارع في وينغ، فحلَّ ولتون قيودها، وأنزلها إلى محل عمومي، وأجلسها على أحد مقاعده، وقال لرفيقه: إن جسمها قد بات حارًّا، وذلك دليل على قرب استفاقتها، وقد قرب زمن تردد الناس إلى وينغ فإن حاناتها لا تفتح قبل منتصف الليل، فإذا استفاقت فلا تعدم نصيرًا بين هؤلاء اللصوص.

– دون شك فإن المرأة تلقى خير ضيافة في وينغ بل في كل مكان.

– ليس ذلك من شأننا، والمهم عندنا أننا أبقينا على حياتها، وسرقنا مال فانوش كما ينبغي أن يسرق.

ثم ذهب اللصان وهما يضحكان.

وبعد حين تنبهت عصابات وينغ، وظلت تلك المنكودة نائمة فوق ذلك المقعد.

٨

كان حساب فانوش أن الأرلندية لا بد لها أن تستفيق بعد أربع ساعات من شربها المخدر، وقد تقدم لنا القول أنها تنهدت عندما كانت في المركبة مع ولتون، فكان ذلك دليلًا على قرب استفاقتها.

غير أن اللصين تركاها منذ ساعة، وهي لا تزال نائمة فوق المقعد الخشبي معرضة لبرد تلك الليلة القارص.

ولم تكن حانات وينغ قد فتحت أبوابها بعد.

أما الأرلندية فإنها بدأت بعد حين أن تستفيق، فتحركت ثم تمطت ثم فتحت فمها، وخرج من شفتيها اسم ولدها رالف، فإنها كانت تحلم به مدة رقادها، وقد رأته شب وترعرع وبات يمشي بخطوات ثابتة قوية إلى المستقبل.

ولما تحركت شفتاها فتحت عينيها، وكانت حانات وينغ قد فتحت أبوابها فتوارد إليها اللصوص والمومسات من كل فج.

وقد حسبت تلك المنكودة حين فتحت عينيها أنها لا تزال حالمة غير أن برد الهواء أزال منها هذا الظن. فوقفت منذعرة وكانت أول ما قالته: رباه! أين ولدي وأين أنا؟

ثم جعلت تمشي مشي المجانين، وتنادي ولدها رالف. ولكن رالف لم يجب.

وعند ذلك وضعت رأسها بين يديها كأنها تحاول جمع حواسها. فذكرت تلك المرأة التي باتت عندها، وكيف أنها بعد أن نام ولدها، جثت راكعة تصلي، ثم شعرت بدوار في رأسها، ثم لم تعد تذكر شيئًا. فصاحت عند ذلك صيحة يأس هائلة، إذ علمت أنهم سقوها مخدرًا كي يسرقوا ولدها.

ولكنها لم تكن تعرف اسم المرأة التي كانت عندها، ولا نمرة منزلها غير أن للأمهات قوة تنبعث من السماء فقالت في نفسها لأجدنه أين كان، وآخذه من يد خاطفته.

ثم جعلت تسير إلى الإمام هائمة، وهي تحسب أنها قريبة من ذلك المنزل، إذ لم يخطر لها أنهم أبعدوها عنه مسافة أربعة أميال.

وجعلت تخترق الشوارع والأزقة، وهي تارة تفرح ويشرق وجهها بنور البشر حين تحسب أنها اهتدت إلى الطريق، ثم لا تلبث أن تعود إلى اليأس حين تعلم أنها ضلت السبيل، فيقطب وجهها وتنظر إلى ما حولها نظرات لا تستقر على شيء.

وكانت تمر بين عصابات اللصوص والبحارة الداخلين إلى الخمارات والخارجين منها في ذلك الشارع المخيف، فيكلمونها بألفاظ بذيئة، فتفر منهم وقد ملأ الرعب قلبها، وتسير فلا تجد أمامها غير أمثالهم.

إلى أن مرت بعصابة من المومسات، كن يتخاصمن عند باب خمارة، فدنت منهن، وقد أنست بمنظر النساء، وقالت لهن: كيف الطريق إلى سانت جيل؟

فجعل بعض هؤلاء الفواجر يعبث بها، وبعضهن يضحك عليها ولم يرشدها إلى الطريق.

غير أن واحدة منهن ضخمة الجثة، هائلة المنظر، شرسة الأخلاق، ليس فيها شيء من صفات الإنسان، تقدمت إلى الأرلندية وقالت بلهجة التهديد: ماذا أتيت تعملين هنا، وأنت لست من أهل الحي؟ ألعلك علمت بقدوم البحارة اليوم من الهند فأتيت تزاحميننا في رزقنا؟ أم لعلك تريدين مزاحمتي على وليم؟

ثم ضمت يدها وهجمت عليها تريد أن تضربها، فهربت الأرلندية منها مذعورة، ولكن تلك الفاجرة وثبت عليها وثبة النمر المفترس، فقبضت عليها، وجعلت تجرها وتقول: إنك لا تبلغين مرادًا من وليم، ولا أطيق مزاحمة فيه.

أما الأرلندية فجعلت تصيح بصوت مختنق وتقول: إني لا أبحث عن وليم بل أبحث عن ولدي. بالله دعيني أبحث عن ولدي، وارحميني فإني أقسم لك أني لا أعرف وليم.

وفيما هي تبكي وتستغيث والنساء يضحكن من حولها، إذ سمعت صوت رجل يقول: هو ذا أنا وليم، فمن يذكر اسمي؟

فالتفتت الأرلندية وشاهدت رجلًا بملابس البحارة، عالي القامة، عريض المنكبين، فبسطت يديها إليه شأن المتوسل وقالت له: بالله ارحمني ودافع عني.

فدنا منها وليم وقال: من هي هذه المرأة؟ فإني لم أرها من قبل، لكنها حسناء.

ثم أشار إلى المرأة أن تتخلى عنها، فلما رأت المرأة أنه قد استحسن الأرلندية هاجت في فؤادها عوامل الغيرة، فصفعتها صفعة أسالت الدماء من أنفها غير مكترثة لوليم.

فغضب وليم غضبًا شديدًا، وضربها بصدرها ضربة شديدة ألقتها على الأرض صريعة والتفت إلى النساء وقال: إن كل من يمس هذه المرأة بسوء لا يلقى غير هذا العقاب.

ثم عاد إلى الأرلندية يعزيها ويواسيها، فاستأنست به وقالت له: أسألك بحق السماء أن تعينني على إيجاد ولدي.

– ألك ولد؟

– نعم وقد سلبوني إياه، فرده إليَّ أباركك وأدعو لك الله.

– أتحبيني إذا أعدت إليك ولدك؟

فلم تدرك تلك المنكودة معنى حبه الوحشي وقالت له: نعم نعم، أحبك حتى الموت.

– أين هو ولدك؟

– سر بي إلى سانت جيل وأنا أجده.

– ولكن هذا المكان بعيد جدًّا من هنا.

– بالله سر بي إليه. لنركب مركبة فإنها تقرب الأبعاد.

– سأفعل ما تريدين، ولكن هلمي معي قبل ذلك نشرب كأسًا من الخمر إني شديد الظمأ.

ثم ضمها إلى صدره وتأبط ذراعها، وأراد أن يسوقها إلى الخمارة بالعنف. فعلمت أن نكبتها مع هذا الرجل شر من نكبتها مع تلك المرأة. وحاولت أن تفلت منه، ولكنها لم تستطع إفلاتًا، فجعل يجرها جرًّا وهي تصيح وتستغيث، فلا تسمع من حولها غير قهقة الضاحكين، وبذاءة الهازئين.

٩

كان بالقرب من ذلك المكان خمارة يدعونها الخمارة السوداء، أطلق عليها هذا الاسم لكثرة ارتكاب الآثام فيها.

ولم تكن تفتح أبوابها إلا بعد انتصاف الليل، فيسرع إليها نحو خمسين رجلًا وامرأة من أهل ذلك الحي، ويجلسون حول موائد الشراب، فيتنادمون ويعاقرون الخمر ويتخاصمون لأدنى سبب فتسيل دماؤهم على تلك الموائد، ثم تغسل الدماء دون أن يتداخل البوليس في أمورهم وتعود إلى ما كانت عليه حتى الصباح.

وكانت تتولى هذه الخمارة امرأة. فكانت تنظر إلى المتخاصمين مبتسمة غير مكترثة لنتائج الخصام، حتى إذا قتل أحد أولئك الأشرار، أمرت خادمًا لها فحمل الجثة وألقاها في الشارع واستمرت الحفلات كأنه لم يحدث قتل ولم تسفك دماء.

وإن بين زبائن هذه الخمارة الهائلة رجلًا، كان يجلس كل ليلة قرب مجلس صاحبة الخمارة فيشرب كأسًا من الشراب جرعات صغيرة، والمرأة تنظر إليه من حين إلى حين نظرات تشف عن الارتياح والإعجاب.

وكان هذا الرجل في الحلقة الرابعة من عمره، أشقر الشعر، ربعة القوام، تظهر مخائل النبل، وآثار الشهامة بين عينيه، فتظهر أنه من طينة غير طينة أولئك اللصوص، وأن قدومه إلى تلك الخمارة كان لمآرب في النفس.

ولذلك كان يستلفت إليه الأنظار، ولم يكن أحد من زبائن الحانة يعلم أصل هذا الرجل فبعضهم كان يظنه أيكوسيًّا، وآخرون يحسبونه أرلنديًّا أو إنكليزيًّا، وفريق كانوا يقولون أنه فرنسيًّا.

وقد كان كثير التردد على هذه الخمارة، غير أنه لم يكن يكلم أحدًا، فإذا شرب كأسه دفع ثمنه وانصرف.

ولكنه كان أحيانًا يغرق في عباب التصورات، فيقيم الساعة والساعتين وهو مقطب الجبين، عابس الوجه، يناجي نفسه، فلقبه أهل الخمارة بالرجل العبوس، فسمي عندهم بهذا اللقب، إذ لم يكن له عندهم اسم معروف.

وقد حاول بعضهم أن يعرفوا شيئًا عن هذا الرجل، ولم يجدوا سبيلًا لذلك إلا بمخاصمته، فاتفق ثلاثة منهم على مبادرته بالعدوان، فانقض عليهم انقضاض الصاعقة وصرع الثلاثة واحدًا بعد آخر، فسجل اسمه منذ تلك الحادثة بين أبطال الخمارة، وبات الكل يجلونه ويحيونه تحية الاحترام.

ولم يكن يجالسه في الخمارة غير رجل واحد. وكان الجميع يحبونه لفقره، وسلامة قلبه، وهو شوكنج، ذلك الرجل الذي أرسله اللورد بالمير لاقتفاء أثر الأرلندية — كما عرف القراء — فكان الرجل العبوس يدفع عنه في كل ليلة ثمن شرابه، ويحسن إليه بما يقيه شر الجوع.

فبينما كان اللصوص والبحارة مجتمعين في تلك الليلة يسكرون ويعربدون، والنساء ترقص وتغني، وصاحبة الخمارة تنظر خلسة إلى الرجل العبوس، وهو منشغل عنها بهواجسه إذ دخل رجل إلى الخمارة استلفت أنظار الجميع، فصاحوا جميعهم صيحة عجب قائلين: هو ذا شوكنج.

وإنما كان عجبهم لأنهم شاهدوا هذا الرجل على غير ما عرفوه فإن عهدهم به رث الثياب، بارز الكوع، حافي القدمين. فرأوه عاد إليهم فجأة وهو بملابس التجار.

فقالت إحدى النساء: ما هذه النعمة؟ إني أرى في قدميك نعلين جديدين؟

وقال لص آخر: وإني أراك لابسًا قميصًا جديدًا.

وقالت صاحبة الحانة: لا شك أنه بات من أهل الثروة؛ لأنه لابس قبعة.

فضحك شوكنج وقال: نعم لقد بت غنيًّا، ولكن اطمئنوا لأني أودعت نقودي في المنزل.

فضحك الجمع، وتركهم معجبين بأمره، وذهب إلى الرجل العبوس وجلس بجانبه، وقال له: إني سأدفع اليوم ثمن الشراب، فقد طالما دفعت عني.

١٠

فابتسم الرجل العبوس وقال: معاذ الله أن أمنعك عما تود لأني لا أبغي مساس أحد فادفع أنت إذا كانت هذه مشيئتك غير أني أود أن تجيبني عن سؤال أسألك إياه.

– سل ما تشاء.

– ألديك نقود؟

فأجابه بصوت منخفض: اسكت ولا تفضحني أمامهم، فقد كسبت الليلة عشرة جنيهات، فأنفقت واحدًا على ملابسي، واشتريت سترة بثلاثة شلنات، وقبعة بشلنين، وبنطلونًا بشلن ونصف، وحذاء بأربعة شلنات، وقميصًا بشلنين، وكلها جديدة، فأصبحت كما ترى بهجة النواظر.

وكنت أود أن أشتري كثيرًا غير أن الحكمة تغلبت علي، فعزمت على استئجار غرفة لأسبوعين، بحيث يبقى معي ثمانية جنيهات ونصف فأعيش بها عامًا كاملًا عيش الأمراء.

فابتسم الرجل العبوس وقال له: ولكن كيف كسبت هذا المال؟

– إن الأمر بسيط، فقد خدمت أحد اللوردية خدمة كافأني عنها بهذا المبلغ.

– كيف كان ذلك؟ وما هي هذه الخدمة؟

– إني كنت أجتاز في مركب وبين ركابها أحد اللوردية، فدنا مني ودلني على امرأة وقال لي: إذا تبعتها وعدت إليَّ بعنوانها أعطيتك عشرة جنيهات، ففعلت وكسبت هذا المال بشرف كما ترى.

فهز الرجل العبوس رأسه وقال له: أتحسب أن هذه الطريقة في الكسب من الطرق الشريفة؟

فاحمرَّ وجه شوكنج من الخجل، وأدرك خطأه فقص على الرجل العبوس جميع ما عرفه من أمر الأرلندية، دون أن يغفل عن شيء من التفاصيل. فلما أتم حديثه قال له الرجل العبوس: إنك ارتكبت طيشًا لا يشفع فيه غير سلامة قلبك.

– لماذا؟

– إنك أحسنت بمساعدتك هذه المرأة، ولكنك أسأت بإرشادك اللورد إليها فقل لي ماذا يدعى هذا اللورد؟

– اللورد بالمير.

فقال له بلهجة المؤنب: لقد كان ينبغي أن تعلم أن لوردًا غنيًّا لا يبحث بحثًا سريًّا عن عنوان امرأة فقيرة لغاية صالحة.

فاضطرب شوكنج وقال: لقد أصبت فإني أخطأت وقد أغواني ذهبه، وما أنا فيه من الفقر غير أني أعرف المنزل الذي غادرت فيه الأرلندية، أتود أن أعود إليها وأحذرها من هذا اللورد؟

فلم يجد الرجل العبوس فرصة لإجابته، إذ سمع صيحة عظيمة في الخمارة.

ذلك أنه دخل إليها رجل كان آخذًا بتلابيب امرأة يسوقها مكرهة، وهي تستجير منه به وتتوسل إليه أن يطلق سراحها.

أما الرجل فإنه دفعها إلى وسط القاعة، وجلس جلوس المنتصر أمام مائدة، فشمر عن ساعديه إظهارًا لعضلاته القوية.

وقال: إني وليم البحار وقد خضعت لي نساء وينغ كلهن، وهمن بي هيامًا، فلا بد لك أن تقتدي بهن وتخضعي لي.

فصاح الجميع بصوت واحد: ليحيا وليم.

وأقبل النساء يعنفن تلك المرأة المنكودة لنفورها من وليم، فإذا استغاثت هزئن بها.

ولما سمع شوكنج هذا الضجيج التفت وصاح صيحة الدهش حين شاهد الأرلندية.

فقال له الرجل العبوس: ماذا أصابك؟

– هي هي!

– من هي؟

– الأرلندية!

– أم الغلام؟

– هي بعينها.

– كيف اتفق وجودها هنا؟

– لا أعلم!

فكف الرجل العبوس عن محادثته، وجعل يتأمل وجه هذه الأرلندية، وهو يندهش لجمالها النادر، ولما تبينه في وجهها من دلائل الشرف والطهر. فكانت مع أولئك اللصوص، تشبه ملاكًا سقط من السماء إلى الجحيم.

وكانت حين نظر إليها قد جثت راكعة، وقالت بصوت يخنقه البكاء: بالله ارحموني وأشفقوا عليَّ فما أنا كما يحسبني هذا الرجل، بل أنا أم منكودة اختطفوا منها ولدها. أستحلفكم بالله أن تنقذوني من هذا الرجل، وتدعوني أبحث عن ولدي.

وكأنما وليم قد خشي أن تدفع المروءة أولئك اللصوص إلى نجدتها. فأخرج خنجره ووضعه على المائدة وقال: إنكم جميعكم تعرفون من أنا، وقد رأيت هذه المرأة وأعجبني جمالها. فمن منكم يجسر على منازعتي فيها وإنقاذها مني؟

فسكت الجميع ولم يجسر أحد على اعتراضه فجذبها إليه وقال لها: أرأيت أيتها الحسناء كيف أنه لا يوجد من يجسر على منازعتي فيك؟ إذن ستكونين امرأة وليم على رغمك.

غير أن وليم لم يكد يتم حديثه حتى رأى رجلًا اخترق القاعة، ودنا منه، فقال: بل إنك تتركها على رغمك، وأنا الذي أنقذها منك.

فصاح الجميع عند ذلك: ليحيا الرجل العبوس! فإنه هو الذي تصدى لوليم. أما الأرلندية فقد اتقدت عيناها بأشعة الرجاء، فبسطت لهذا الرجل يد المتوسل، وعلمت أن الله أرسل لها من يخلصها من أولئك الفجار.

١١

كان مثل هجوم هذا الرجل على وليم، مثل هجوم داود النبي على جليات الجبار.

إن وليم لم يكن جبارًا، ولكنه كان يشبه الجبابرة بضخامة جسمه، حتى لقد يحسب من يراه أنه لو ضرب ثورًا لقتله، خلافًا للرجل الذي كانوا يلقبونه بالعبوس، فإنه كان نحيل الجسم تظهر عليه آثار النعومة كأنه من أولاد اللوردية.

فلما رآه وليم قادمًا إليه يحاول مخاصمته ضحك ضحكًا شديدًا، ثم جعل يتهكم عليه ويلقبه بألقاب النساء استخفافًا بقوته.

غير أن هذا الرجل نظر إليه نظرة منكرة، خرج على أثرها اللهب من عينيه، فاضطرب وليم لهذه النظرة وانقطع عن الضحك، ووقف في موقف الدفاع.

أما الرجل العبوس فإنه حال بينه وبين الأرلندية وقال له: إني أمنعك عن أن تمد يدك بسوء إلى هذه المرأة.

فتحمس اللصوص لما رأوه من ظواهر بسالته. وصاح بعضهم: يحيا الرجل العبوس.

وأما وليم فإنه ضم يديه وهجم على الرجل، وأطلق يده الهائلة عليه غير أن الرجل وثب وخلا من تلك الضربة، واختل توازن وليم، فاغتنم الرجل الفرصة، ولكمه لكمة شديدة في صدره؛ فانقلب وليم على ظهره.

وكان في وسع ذلك الرجل أن يستفيد من نصره، ويطعنه بخنجره طعنة قاضية غير أنه لم يفعل شيئًا من ذلك، بل إنه وقف مكتوف اليدين، ينتظر نهوض خصمه وعودته إلى القتال.

أما وليم فإنه نهض وهو يزأر زئير الأسود، وجرد خنجره وهجم على الرجل العبوس، فلم يجرد الرجل خنجره، ولكنه خلا من الضربة كما فعل في المرة الأولى. ثم انقض على خصمه، وحمله وألقاه على مسافة مترين. فسقط صريعًا وسقط الخنجر من يده.

فأسرع الرجل ووضع رجله فوق الخنجر، ووقف ينتظر نهوض خصمه أيضًا، وجعل ينظر إلى من كان حواليه فرأى شوكنج واقفًا مصفر الوجه، ورأى أن الأرلندية قد عرفته والتجأت إليه.

فنادى عند ذلك شوكنج وقال له: إني أعهد إليك بهذه المرأة، وليعلم كل من في هذه القاعة إني قد توليتها بحمايتي.

فوقع هذا الكلام خير وقع من اللصوص، فجعلوا يصفقون بأيديهم تصفيق الاستحسان ويصيحون: يحيا غالب وليم.

وهم وليم أن يعيد الكرة على خصمه غير أنه توقف وانقطعت أصوات اللصوص وساد السكون فجأة في تلك الخمارة.

ذلك أنهم رأوا رجلًا دخل إلى القاعة فأثر فيهم هذا التأثير العجيب، وباتوا كأن على رءوسهم الطير.

ووقفوا وقفة الاحترام أمام هذا الرجل، وهم مطرقون الرءوس هيبة وإجلالًا.

أما هذا الزائر الجديد الذي أكره اللصوص والفواجر على احترامه، فقد كان في مقتبل الشباب، طويل القامة، أصفر الوجه، أشقر الشعر طويله، وكان يتدلى على كتفيه.

وهو نحيل الجسم، أسود الملابس، نحيف الأعضاء، حتى يحسبه الناظر إليه امرأة متنكرة بملابس الرجال.

فاخترق صفوف اللصوص حتى وقف قرب وليم فقال له: لقد قال الله من قتل يقتل وقال أحبوا بعضكم بعضًا، فقد خلق الإنسان لمعاونة أخيه الإنسان. فما بالكم أيها الإخوة تتقاتلون؟

فركع وليم الوحشي أمام هذا الرجل، وأحنت المومسات رءوسهن، وأطرق اللصوص إطراق الاحترام.

وصاحت الأرلندية هو ذا الله قد أرسل لي ملاكًا من ملائكته الأطهار لإنقاذي.

أما هذا الرجال الذي فعلت كلماته بنفوس أولئك الأشرار فعل السحر فقد كان كاهنًا كاثوليكيًّا أرلنديًّا، عرفه جميع سكان وينغ، حين كان الهواء الأصفر يفتك بهم الفتك الذريع، فلا يجدون من يكترث بهم، ويعتني بمعالجتهم غير هذا الكاهن.

فكانوا يحترمونه احترامًا مقدسًا، وقد عرف بينهم باسم الكاهن صموئيل كاهن كنيسة سانت جيل.

ونظر هذا الكاهن نظرة المؤنب إلى وليم وقال له: إني ما جئت هذه الخمارة إلا من أجلك، فقد قيل لي إنك تسيء معاملة امرأة، وتريد إكراهها على الأمور الشائنة. فأسرعت كي أنقذها منك، وأهديك إلى الصراط القويم.

فاضطرب وليم وقال له، وهو لا يجسر أن ينظر إليه: أرجوك أن تصفح عني، وإني لا أعود إلى مثل هذه المآثم بعد الآن.

وعاد الكاهن إلى الأرلندية، وهي ملتجئة إلى شوكنج فقال لها: من أنت أيتها المرأة؟

أجابت: إني أم منكودة، خطفوا ولدها، فأشفق علي يا سيدي، ورد إليَّ ولدي.

فقال لها شوكنج: لا تخشي يا سيدتي مكروهًا على ولدك؛ لأني أعرف المنزل الذي بات فيه ألست أنا الذي أوصلتك إلى هذا المنزل؟ فثقي بي ولا بد لي من إرجاع ولدك إليك.

فصاحت الأرلندية صيحة فرح، وأكبت على يد الكاهن تقبلها فقال لها: أرى من لهجة كلامك أنك أرلندية.

– نعم يا سيدي.

– وأنا أرلندي فلينقذ الله الوطن العزيز.

ثم التفت إلى الرجل العبوس وقال له: وأنت أيها الرجل الكريم الذي تولى حماية هذه المنكودة من أنت؟

– إني رجل يطمع أن يكون من أهل الخير والصلاح، فإذا أذنت لي أن أكون بمعيتك كنت لك أطوع من العبيد.

ثم ركع أمام الكاهن، وقبل يده باحترام.

١٢

وعند ذلك أخذ جميع أولئك اللصوص يخرجون من تلك الخمارة، كأنما هم أنفوا من الإقامة في محل دنس طهر بوجود هذا الكاهن فيه، ولم يبق في الخمارة غير صاحبتها، والأرلندية، وشوكنج، والكاهن والرجل العبوس.

ولما تفرق الجميع عاد الكاهن إلى محادثة الأرلندية فقال لها: إذن أنت قادمة من أرلندة؟

– نعم يا سيدي، فقد وصلت إلى لندرا هذه الليلة مع ولدي.

– ما الذي دفعك إلى مهاجرة أرلندا؟ ألعله الفقر شأن جميع إخواننا الأرلنديين؟

– كلا يا سيدي، ولكنني أتيت إلى لندرا قيامًا بواجب مقدس، فقد أمرت أن أحضر الصلاة في سانت جيل، في الساعة الثامنة من صباح غد.

فارتعش الكاهن وقال: ألعلك نذرت نذرًا؟

فنظرت إليه نظر الواثق المطمئن وقالت: إن قلبي يحدثني بأنك من رجال الله، فلا جناح علي إذا بحت لك بحقيقة أمري.

– تكلمي.

– إني فلاحة فقيرة ولدت في جوار دبلين، وأنا ابنة صياد. وقد عهد إليَّ زوجي قبيل وفاته بقضاء مهمة لا أعلم شيئًا من سرها. ولكني أقسمت له يمينًا على قضائها.

– ما هي هذه المهمة؟

فأجابت يجب عليَّ أن أذكر لك بعض قصتي، كي تفهم المهمة التي انتدبت لها.

لما كبرت وترعرعت جعلت أعين أبي في التماس الرزق، فهو يصيد السمك وأنا أحيك له الشباك على أنه كان يسافر أحيانًا في مراكب الصيد إلى الأرض الجديدة ويصيد الحوت فيغيب ثلاثة شهور.

وقد اتفق أني بينما كنت ليلة في المنزل وكان أبي مسافرًا إذ أقبل إليَّ رجل يركض مذعورًا، وهو مخضب بالدماء فولج المنزل وقال لي: أستحلفك بالله وبأرلندا التي سفكت دمي من أجلها أن تخبئيني.

فلم أنظر إليه، ولم أنتبه لجراحه، ولم أسمع غير كلمة الوطن المقدسة. فأدخلته وفرشت له سرير أبي فنام فيه، وكنت أسمع عند ذلك عن بعد دوي البنادق.

ولم أعلم ماذا حدث غير أني ذكرت ما سمعته في ذلك الصباح من بعض الصيادين وهو أن الثورة قد نشبت في أرلندا، وأن إنكلترا أرسلت سفنها وجنودها لكبح الثائرين.

فعلمت أن ما أصاب هذا الرجل، اللاجئ إلى منزلنا، إنما كان من عداء الإنكليز.

فانصرفت إلى الاعتناء به، وأقمت طول الليل أصلي وأسأل الله أن يشفي الجريح، ولا يهدي الإنكليز إليه.

وعند الصباح برحت المنزل، وذهبت إلى الميناء، فعلمت أنه جرت معركة هائلة بين الأرلنديين والإنكليز. فكان النصر فيها للجنود وبددوا شمل إخواننا الأرلنديين، وهرب من سلم منهم إلى الجبال غير أن الإنكليز لم يفرحوا بهذا النصر، لأنهم لم يستطيعوا القبض على زعيم الثائرين.

فأسرعت عائدة إلى المنزل، وكان قلبي يحدثني أن ذلك الجريح هو نفس ذلك الزعيم، الذي يبحث عنه الإنكليز.

وأقام عندنا عدة أسابيع، وأنا أضمد جراحه كل يوم حتى شفي وتعافى، وكان أبي قد عاد من السفر فاعتنى به نفس اعتنائي وأكرم مثواه، فأقام عندنا مختفيًا بضعة شهور.

وكان في مقتبل الشباب، وضاء الطلعة تدل نظراته على أنه تعود الحكم على القلوب، فأحببته وأحبني ووافق أبي على زواجنا، فتزوج بي. وبعد أن سافر الإنكليز قبل أن يشتغل مع أبي في مهنته، ويتعاونان على الارتزاق.

وقد رزقت منه غلامًا، فكان يحمله بين يديه ويقول لي: إن هذا الغلام قد يكون منقذ أرلندا.

فكنت أصدق كل ما يقول، وأومن بكلامه كما أومن بالله.

وهنا تنهدت الأرلندية تنهدًا طويلًا، وأخرجت منديلها فمسحت به دموع عينيها.

فقال لها الكاهن صموئيل: أتمي حديثك يا ابنتي. وكانت لهجته تدل على أن الأمر خطير.

١٣

وعادت الأرلندية إلى حديثها فقالت: توالت الأيام وبدأ الشعر ينبت في رأس ولدي، فكان أسود قاتمًا، والعهد بشعور الأرلنديين أن تكون شقراء ولا سيما في عمر الحداثة.

ثم رأينا يومًا بين الشعر خصلة حمراء تنبت فجأة، فرأيت زوجي قد صاح صيحة فرح وقال لي: لقد كنت مصيبًا حين قلت لك إن هذا الغلام ينقذ أرلندا.

أما أنا فلم أفهم شيئًا من قوله، ولكنه مضى في حديثه فقال: أصغي يا امرأتي العزيزة لما أقوله لك، فإني اليوم صياد فقير أعيش معك على فقرنا عيش السعداء غير أني قد اضطر إلى فراقك فراقًا قد يكون أبديًّا؛ لأن أرلندا قد تحتاج إليَّ في الغد، فأعود إلى امتشاق ذلك الحسام، الذي سقط مني في المعركة الأخيرة.

ولا يعلم غير الله ما يكون من أمري، فقد أنتصر على من يضطهدنا، وأنقذ أرلندا من نير الإنكليز، وقد يكون النصر لأعدائنا فأموت في المعارك تاركًا هذه المهمة لولدنا العزيز.

ومهما يكنْ من أمري فاصدعي بما أقوله لك، وهو أنه في سنة ١٨٦٠ يجب أن تغادري أرلندا مع ولدك.

– إلى أين؟

– إلى إنكلترا حيث يقيم أسيادنا ومضطهدونا. وإذا وصلت إليها اذهبي في الساعة الثامنة من صباح ٢٧ أكتوبر إلى كنيسة سانت جيل، وادني بولدك من الهيكل، فإذا فرغ الكاهن من الصلاة، قدمي له الولد وقولي له: «لقد أتيتك بالذي تنتظرونه.»

فأقسمت له أن أفعل ما يريد. ومرت بنا الأيام وتوالت الأعوام، وهو معي يشتغل بالصيد فما جسرت مرة على طول عهدي بصحبته أن أسأله شيئًا عن ماضيه.

إلى أن جاء منزلنا في ليلة مظلمة رجال، لم أعرفهم من قبل فلما رآهم فرح بهم وأنس بلقائهم وقال لقد طال عهد غيابكم فقالوا: جئنا حين الأوان، فإن أرلندا محتاجة إلينا الآن، وفي اليوم التالي سافر معهم، فلم تحل دون سفره دموعي، فلما ودعني قال لي: تذكري اليمين ولا تنسي سانت جيل في ٢٧ أكتوبر سنة ١٨٦٠.

وبعد أيام اضطرمت الثورة في أرلندا، فجعلت القرى تثور الواحدة تلو الأخرى، فاندحرت الجنود الإنكليزية مرات كثيرة، غير أن الإنكليز يحاربون بأموالهم، فإذا قتل الجندي حل مكانه سواه، وهم يملئون البحر سفنًا عند الاقتضاء خلافًا للأرلنديين، فإنهم يحاربون برجالهم، فإذا قتل المجاهد منهم لا يجدون سواه، وظل القتل مخيمًا على الفريقين عدة أيام حتى انتهى القتال، وانجلى عن فوز الإنكليز، وعادت أرلندا تئن تحت نيرهم الثقيل.

ولكني لا أعلم ما جرى لزوجي، فحملت ولدي وذهبت به من قريتي إلى دبلين، فلما بلغت إليها سمعت الأجراس تدق، ورأيت الشوارع غاصة بجماهير الناس، فسألت عن السبب في ذلك فقيل لي إن المحكمة العليا حكمت بالإعدام على زعيم الثوار، وسينفذون الآن هذا الحكم.

فانقبضت نفسي وحدثني قلبي بمصاب أليم، وحاولت الرجوع ولكني كنت أشعر بقوة عظيمة تجذبني إلى ساحة الإعدام.

ثم باتت تلك الساحة، ورأيت المشنقة منصوبة فحاولت الرجوع ولكن الناس كانوا يزاحموني؛ فالتصقت بتلك المشنقة دون أن أريد، وبعد هنيهة جاءوا بالمحكوم عليه وأصعدوه درجات المشنقة فأغمضت عيني كي لا أرى ذلك المنكود، ولكنهما فتحتا بالرغم عني، فصحت صيحة منكرة حسب الناس أن روحي خرجت معها من صدري، ذلك أن هذا المحكوم عليه كان هو، أي زوجي، وقد رآني، وقال لي: «تذكري.»

ولم أعلم ما جرى بعد ذلك فقد أغمي علي، فلما فتحت عيني وجدت الظلام أسدل جناحه، والناس قد تفرقوا، ورأيت نفسي بعيدة عن ذلك المكان الذي قتل فيه زوجي شهيد أرلندا، ووجدت بجانبي رجلًا لم أكن أعرفه من قبل، وهو يحمل ولدي النائم فقال لي: اتبعيني، فتبعته وأنا فاقدة رشادي، لا أعلم أين أنا ولا كيف أسير.

وبعد مسير ساعة، وصلت إلى طريق قريتي فقال لي: اذهبي الآن إلى منزلك إذ لم أعد أخشى على ولدك، فإن الظالمين لا يبحثون عنه في منزلك، ولو علموا أنه ابن زعيم الأرلنديين لما أبقوا عليه، فاذهبي الآن رأف الله بحالك وتذكري.

ثم تركني وانصرف، فعلمت بعدئذ أن هذا الإنسان كان عارفًا بما أوصاني به زوجي.

وعند ذلك مسحت الأرلندية دموعها، وركعت أمام الكاهن صموئيل وقالت له: إنك عرفت كل شيء أستحلفك بالله وبذلك الإنسان الذي في سبيل الوطن أن تساعدني في سبيل إيجاد ولدي، إذ يجب أن أكون معه في سانت جيل وأن …

فقاطعها الكاهن بإشارة وقال: أنا هو الكاهن الذي سيقيم الصلاة غدًا في سانت جيل، وأنا هو الذي ينتظر قدومك بالغلام.

فنظرت إليه بانذهال عظيم وقالت: أنت هو؟

– نعم يا ابنتي وأنا أيضًا أنتظرك.

– وولدي أين هو؟

– كوني مطمئنة فسوف نجده.

ثم التفت إلى شوكنج والرجل العبوس وقال لهما: إنكما ستساعدانني على إيجاد الطفل فيما أظن.

فأجابه شوكنج إن إيجاده سهل؛ لأني أعرف أين هو.

وقال الرجل العبوس: إني مستعد لخدمتك في كل ما تريد.

فقال لهم: إذن هلموا بنا فإن هذا الغلام الذي نبحث عنه هو الذي تنتظره أرلندا.

وهموا بالخروج من الخمارة، فتقدمهم الكاهن ولكنه لم يمش خطوة إلى الباب حتى رأى رجلًا قد دخل إلى هذه الخمارة، فما أوشك أن رآه حتى ارتعش ونظر إلى رفاقه نظرة تدل على القلق والاضطراب.

١٤

ولم يكن منظر هذا الرجل الذي دخل يدعو إلى ما لقيه الكاهن من الاضطراب، فقد كان حسن البزة، نظيف الملابس، مختمًا بخاتم ثمين من الماس مما يدل على أنه من أهل اليسر غير أن عينيه كانتا غائرتين، وكانتا تشيران إلى ما فطر عليه من الخبث والطمع.

وكان على بساطة ظواهره يلقي الرعب في قلوب كثيرين من الذين عرفوه، فإنه كان يدعى توماس الجن، وهو من أشهر المرابين في لندرا، وقد أرادت التقاليد أن يكون من الإسرائيليين.

غير أنه كان يخالف أبناء طائفته في كثير من مبادئهم، فإن الربا يكاد يكون خاصًّا بالإسرائليين، ولكن معظمهم يأخذون ربحًا حلالًا خلافًا لهذا اليهودي، فقد كان يبلغ به الطمع أن يجعل الربا ضعف الأصل لا يردعه ضمير ولا تمنعه عواطف رحمة وإشفاق.

وكان من عادته أن لا يرد طالب قرض، ومن كلامه المأثور: إن كل مديون لا بد له أن يدفع في النهاية، وإن من يطالب بحقه لا يضيع له حق، ولذلك كان يسلف كل من يستدين منه بفوائد عظيمة، فلو قبض منه ربع ماله عليه لكان الرابح ولكنه كان يستعين بنظام لندرا الصارم، فيستوفي كل ما يعتقده حقًّا، وما هو إلا سرقة واختلاس، ولذلك ألقى الرعب في قلوب أمثاله، فكان إذا حيى أحدهم رفيقًا قال له: أجارك الله من توماس. وكان هذا الدعاء خيرًا من التحية.

هذا هو الشخص الذي دخل إلى الخمارة السوداء، فارتعش لرؤياه الكاهن.

أما توماس فإنه لم يحفل باضطراب الكاهن بل دنا منه وقال له: إنه لو قيل لي إني قد أجدك في مثل هذا المكان لما صدقت، ولهزأت بالقائلين.

وأجابه الكاهن بعظمة: إن من كان كاهنًا يا سيدي، وجب عليه أن يذهب إلى كل مكان يدعوه إليه الواجب.

– أرجوك العفو ومعاذ الله أن أحاول انتقادك، ولكني قلت هذا القول لأني أبحث عنك بحثًا طويلًا منذ حين فلا أجدك.

– ذلك لأني أقمت أسبوعين قرب مريض، ولم أكن أبرح منزله إلا إلى الكنيسة.

– ولذلك لم يجدوك في منزلك منذ أسبوعين، ولكنك أخطأت إلى نفسك خطأ عظيمًا.

– لماذا؟

– لأن رجال النظام والعدالة قد فعلوا في هذه المدة ما وجب عليهم. والآن فلنبحث في الموضوع فإنك اقترضت مني مائة جنيه لكنيستك منذ عام، وقد استحق الدين منذ شهر فما وفيته إلى الآن.

– نعم، لكني كتبت إليك أستمهلك شهرين.

– لا أنكر ما تقول.

– وإني أقسم لك بأني أفيك مالك بعد شهرين، فقد أمرت وكيلي في أرلندا أن يبيع ما بقي لي فيها من الأرض، وسيردني المال في أقرب حين.

وضحك توماس ضحك الهازئ، وقال: إني أعرف أراضي أرلندا وأثمانها، وأنا أشير عليك أن تبحث عن طريقة أخرى.

– ماذا تهمك الطريقة ما دام المال سيدفع إليك؟

– لقد أصبت لأن ذلك من شئونك الخاصة، ولا دخل لي بها.

ثم وقف وهم بالخروج من الخمارة، وظهرت علائم السرور على محيا الكاهن وقال له: إذن رضيت إطالة الأجل شهرين؟

فاندهش توماس وقال: متى قلت لك هذا القول؟

– ولكني أقسم لك بأني سأفيك مالك حين الاستحقاق.

– هذا ما أتمناه لك.

– إذن أترفض تمديد الأجل؟

– إني لا أرفض ولا أقبل، لأن أمرك بات منوطًا برجال النظام فاتفق معهم على ما تشاء.

– إني رجل فقير، لا سبيل لي إلى التقاضي.

فهز توماس كتفه وقال: ليس ذلك من شأني.

ثم تركه وخرج من الخمارة، وتبعه الكاهن وفي أثره شوكنج والرجل العبوس والأرلندية، والكاهن يتوسل إليه وهو لا يجيب حتى انتهى إلى مركبة، كان فيها اثنان وقال لهما: اذهبا بحضرة الكاهن إلى سجن المفلسين، فإن أوامر القبض عليه صريحة لا اعتراض فيها.

ووضع أحد الجنديين يده على كتف الكاهن وأمره أن يصعد إلى المركبة.

وعند ذلك نظر الكاهن إلى الرجل العبوس نظرة يأس وقال: أستحلفك بالله أن تهتم بإيجاد الغلام.

– أقسم لك بالله إني سأجده.

وصعد الكاهن إلى المركبة، وسار به الجنديان، وتهدد شوكنج توماس بقبضته ولكنه هز كتفه ومشى في حال سبيله دون أن يعبأ به، أما الأرلندية فإنها ركعت وجعلت تصلي.

١٥

وبعد أن انتهت من صلاتها وبكائها، أنهضها الرجل العبوس وقال: إني وعدتك بإرجاع ولدك، ولا بد من إرجاعه فاطمئني وهلمي بنا.

ونهضت الأرلندية وسارت مع الرجلين، وكان الصباح قد طلع فركبوا مركبة، ودل شوكنج السائق على الشارع الذي تقيم فيه فانوش، وانطلقت بهم تنهب الأرض.

وقال الرجل العبوس لشوكنج إبَّان مسير المركبة: يجب علينا الآن أن نبحث عن السبب الذي حمل المعتدين على التفريق بين الأم وولدها فدعني أسألها عَلِّي أقف على السبب.

ثم جعل يسأل الأرلندية أسئلة مختلفة، غير أن هذه المنكودة لم تكن تعرف من أمرها أكثر ما يعرف منه شوكنج، وقصت عليه كل ما علمه القراء إلى أن أخبرته بالدوار الذي أصابها حين كانت واقفة تصلي، وأنها فقدت رشادها ولما استفاقت وجدت نفسها بعيدة عن ولدها في أقذر شارع.

وقال لها: أرني لسانك.

فامتثلت ففحصه وقال: إنهم سقوك مخدرًا، ونقلوك من مكان إلى مكان دون أن تشعري، وذلك يدل على أنهم يريدون فصلك عن ولدك لسبب أجهله الآن، ولكن لا بد لي من معرفته فاطمئني أيتها السيدة، فإنهم لم يسرقوا ولدك ليسيئوا إليه، فإن هذه المدينة المتسعة كثيرة الأغنياء، ومن يعلم فقد يكون القصد من سرقة هذه المرأة لولدك أن تتبناه.

– كلا فإن مهنتها تربية الأطفال، وقد رأيت عندها بنتين صغيرتين كانتا ترتعشان خوفًا منها، حتى إن إحداهما قالت لولدي: لا تقم في هذا المنزل أو يضربوك كما يضربوننا.

وتاه الرجل العبوس في مهامه التصور والتفكير، واسترسلت الأرلندية إلى البكاء وظلت المركبة مندفعة في سيرها حتى وصلت إلى الشارع المقيمة فيه فانوش، وأوقفها شوكنج على مسافة قريبة من المنزل.

وقال له الرجل العبوس: ما هي نمرة المنزل؟

– ٣٥!

– إذن انتظرني في المركبة إلى أن أعود.

فأجفلت الأرلندية وقالت: ألا تصحبني ولماذا تدعني في المركبة ألست أنا التي يجب أن تطلب ولدها؟

– نعم يا ابنتي ولكننا لا نستطيع إرجاع الغلام إلا بالحيلة لا بالعنف، لأن في هذه العاصمة لا ينال مثل هذا الحق بالقوة غير الأغنياء وأصحاب المقامات، وما نحن منهم، وفوق ذلك لا يحق دخول المنازل عنوة لأحد.

وذكر شوكنج ما في جيبه من الذهب وقال: ألم أخبرك أني غني؟

فابتسم الرجل العبوس وقال: وأنا ألم أخبرك أنك طاهر القلب، وأنك أبله فانتظرني هنا مع هذه السيدة حتى أعود.

وأطرق شوكنج برأس خجلًا، وذهب الرجل العبوس إلى جهة المنزل، لكنه بدلًا من أن يقرع بابه تجاوزه إلى سواه.

وكان يوجد بإزاء المنزل خمارة دخل إليها وطلب كأسًا من الشراب ثم أخذ يحادث صاحبتها فقال لها: أتعرفين مسز فانوش؟

– نعم فإنها من زبائني.

– أين تقيم؟

– في هذا المنزل الذي أمامك رقم ٣٥.

– إنما أسألك عنها؛ لأن لدي فتاة صغيرة أحب أن أعهد إليها بتربيتها، لقد علمت أنها مربية أطفال.

واضطربت صاحبة الخمارة، وظهر أن عاملين يتنازعانها إلى أن تغلب أحدهما على الآخر فقالت له: إني أرى عليك مخائل السلامة، وقد وجب عليَّ نصحك ونصيحتي أن لا تضع فتاتك عند هذه المرأة.

– لماذا، أما هي مربية أطفال؟

– هي كذلك بالظاهر، أما بالحقيقة فهي سارقة أطفال.

فشكرها الرجل العبوس وتركها وانصرف. فمر بمنزل فانوش ونظر إليه نظرة الفاحص وتجاوزه ماشيًا على الرصيف؛ بغية فحص جميع ما يكتنفه وما يجاوره، ورأى رجلًا تدل ملابسه على الفقر المدقع، يسير الهُوَيْنى على الرصيف.

وتفرس فيه وكأنه دق عرفه فرسم على وجهه علامة الصليب بإبهام يده اليمنى، ولما رأى الفقير هذه العلامة السرية، ورأى الرجل العبوس يتفرس فيه دنا منه وقال له: لقد عرفت علامتك فماذا تريد أيها الأخ؟

وأعاد الرجل العبوس رسم علامة الصليب مرة ثانية، ولكنه رسمها هذه المرة باليد اليسرى.

فانحنى الفقير باحترام وقال له: مر أيها الرئيس فإني طوع لأمرك.

فقال الرجل العبوس: لقد علمت دون شك أن العلامة الأولى يراد بها أننا إخوان متساوون في جمعية واحدة، وأن العلامة الثانية يراد بها أن لهذه الجمعية رؤساء ومرءُوسين، فاعلم الآن أني واحد من أولئك الرؤساء.

– ماذا تريد أن أصنع؟

– أريد أن تتبعني.

وتبعه الفقير ممتثلًا دون أن يجيب.

١٦

أما الرجل العبوس فإنه سار توًّا إلى المركبة.

وقال له شوكنج: ماذا صنعت ألم تجد الغلام؟

فلم يجبه والتفت إلى الأرلندية، وهي تبكي بكاء الأطفال وقال لها: لا أسألك يا سيدتي إذا كنت تريدين إيجاد ولدك، فإنك تبذلين حياتك في هذا السبيل، ولكني أسألك أن تصغي إليَّ.

فكفكفت الأرلندية دمعها وقالت: قل يا سيدي ما تريد؟

– إن هذه المرأة التي كنت عندها سارقة أطفال، وهي لم تسرق ولدك للإساءة إليه بل لبيعه لعائلة تبحث عن وريث، كما يظهر فاطمئني على ولدك فليس عليه أقل خطر، واعلمي أن هذه المرأة لا تتوقع أن تراك، وإذا رأتك الآن أضعت الغلام، ولا تجيز الشرائع الإنكليزية الدخول إلى المنازل فهي تنادي البوليس في الحال، وتطردك من المنزل.

نعم إنك تستطيعين رفع شكواك إلى القضاة، لكنها تكون قد تمكنت من إبعاد الولد قبل أن يشرع القضاة بالتحقيق ولذلك يجب إذا أردت أن أعيد إليك ولدك أن تطيعيني طاعة لا حد لها.

– مر أطع وقل ما يجب أن أصنع.

– يجب أن تبقي هنا في هذه المركبة مع شوكنج.

ثم التفت إلى شوكنج وقال له: إني ذاهب الآن إلى منزل هذه المرأة فإن رأيتني قد ظهرت لك من نافذته دع السيدة في المركبة واحضر إليَّ.

– سأفعل ما تريد، اخفض صوتك لأني أرى رجلًا يسمعنا. وقد أراد به الرجل الفقير.

– لا تخف هذا الرجل فهو معنا وراقب النافذة، وإذا رأيتني منها فأسرع إليَّ.

ثم تركهما وانصرف مع الفقير إلى منزل فانوش، وقد أمره أن يزرر ثوبه وفعل مثله إيهامًا لأهل المنزل أنهما من البوليس السري.

ولما بلغا الباب طرقاه مرات متوالية فلم يفتح الباب، بل فتحت نافذة مطلة على الشارع وأطلت منها امرأة عجوز، فقالت لهما: ماذا تريدان؟

أجابها الرجل العبوس: إننا نريد منزل مسز فانوش.

– إنه منزلها، لكنها ليست فيه الآن.

– لا بأس، افتحي لنا.

– ولكن من أنتما؟

فقال لها الرجل العبوس بلهجة الآمر: قلت لك افتحي.

فترددت العجوز هنيهة، ثم فتحت لهما ودخلا، وأسرع الرجل العبوس إلى إقفال الباب والدخول.

ولما تبينتهما العجوز ذعرت وظهرت عليها علائم الخوف وقالت لهما: من أنتما وماذا تريدان؟

ولم يجبها الرجل العبوس بل تقدم إلى إحدى الغرف، وفتح بابها ورأى فيها البنتين الصغيرتين، فامتنعتا عن الشغل وجعلتا تنظران إلى هذين الشخصين.

وعند ذلك التفت الرجل العبوس إلى العجوز وقال لها: تقولين إن مسز فانوش ليست في المنزل؟

– كلا؟

– أين هي؟

– مسافرة.

– حسنًا وأين هي الأرلندية؟

وارتعشت العجوز وقالت: لا أفهم ماذا تقول.

– لقد جاء أمس في الليل إلى هذا المنزل رجل وامرأة وغلام.

– إنك منخدع يا سيدي.

– كلا، لأن الرجل برح المنزل، أما المرأة والغلام فقد بقيا فيه.

– قلت لك يا سيدي إني لا أفهم ما تقول.

ثم نظرت إلى البنتين نظرة تهديد، كأنها تحذرهما من أن تبوحا بشيء غير أن الرجل العبوس انتبه لنظرتها، فدنا من إحدى البنتين، وقال لها بلهجة لطف وحنان، ألم يحضر يا ابنتي مساء أمس رجل وامرأة وغلام؟

فقالت له الفتاة دون أن تكترث للعجوز: نعم يا سيدي.

وغضبت العجوز غضبًا شديدًا، وأخذت سوطها وحاولت ضرب الفتاة وهي تقول: سوف ترين أيتها الكاذبة.

غير أنه قبض على يدها ومنعها عن ضربها ثم عاد إلى الفتاة وقال لها: قولي الحقيقة يا ابنتي ولا تخافي، أتعشى الثلاثة الذين قدموا أمس هنا في هذا البيت؟

– نعم.

– وبعد العشاء؟

– أدخلوا الغلام وأمه إلى هذه الغرفة.

وأشارت إلى غرفة مقابلة لها، فأمر العبوس الفقير أن يفتح بابها ففتحه، ولم يكن أحد فيها، وقال للفتاة: أين هما الآن؟

– لا أعلم يا سيدي.

– ألم تريهما في هذا الصباح؟

– كلا.

– ربما إنك لم تَرَيْ الأم فهل رأيت الولد؟

– كلا.

– وأين هي مسز فانوش؟

– لا أعلم.

وعادت العجوز إلى الهياج وقالت: سوف أميتك أيتها الكاذبة جلدًا بالسياط.

وهمت أن تهجم عليها، ودفعها الرجل بصدرها دفعة شديدة، وسقطت على المقعد وقال لها: إذا خطر لك أن تفوهي بكلمة قتلتك دون إشفاق.

ثم دنا من النافذة ففتحها، ووقف كي يظهر لشوكنج كما اتفقا.

١٧

ورأى شوكنج إشارة الرجل العبوس وأسرع إلى مقابلته، ونزل الفقير ففتح له الباب، أما المرأة العجوز فقد كانت ملقية على المقعد، وهي توشك أن يغمى عليها من الخوف، وأما البنتان فقد كانتا تضحكان.

ولما دخل شوكنج نظر إلى ما حواليه ولم يجد الولد، وقال له الرجل العبوس: أخاف أن يكونوا خطفوه.

ثم عاد إلى الفتاة الصغيرة وقال لها: أأنت واثقة يا ابنتي أنك لم تري الولد مع مسز فانوش؟

– نعم.

– أتعرفين هذا الشخص. وأشار إلى شوكنج؟

– نعم، هو الذي جاء أمس مع المرأة والغلام.

والتفت عند ذلك إلى الرجل الفقير وقال له: إني أعهد إليك بمراقبة هذه العجوز، وإذا فاهت بكلمة وحاولت الاستغاثة اخنقها.

ثم خرج من الغرفة مع شوكنج وتفقد جميع غرف المنزل، وبحث في الحديقة وفي السطح بحثًا مدققًا، فلم يجد أثرًا للغلام، وعاد إلى العجوز فوجدها ترتعش من الخوف غير أنها كانت مصممة على الإنكار وقال لها: إنك قد ارتكبت جريمة هائلة لا يكون عقابك بعدها غير الشنق على أني أعد لك وسيلة للنجاة إذا أردت السلامة، وهي أن ترشديني إلى مكان الغلام.

وقالت له بصوت يتهدج من الخوف: اصنع بي ما تشاء، لأن الله يعينني عليك.

– إنه يوجد مركبة أوقفناها خاصة قرب هذا البيت، سنأخذك بها إلى إدارة البوليس وهناك تقولين ماذا فعلتم بابن الأرلندية، إلا إذا أردت أن تقولي هنا فنكفيك هذه المشقة.

– قلت لك لا أعلم.

– بل تعلمين.

– اقتلني إذا شئت، فإني لا أقول شيئًا ولا أعلم شيئًا.

فقال له شوكنج: أتريد أن أخنقها؟

– افعل، لأن الموت أقل ما تستحق.

وأخذ شوكنج منديله ولفه على عنقها فجعلت تصيح بصوت أبح وتقول: اقتلوني إذا شئتم ولكني لا أقول.

وأمره الرجل العبوس أن يضغط ففعل مهددًا، وصاحت العجوز صياح المختنق وكادت تبوح بما تعلمه.

غير أنهم سمعوا فجأة جرس الباب الخارجي يقرع قرعًا شديدًا، فكف شوكنج عن الضغط ونظر إلى الرجل العبوس نظرة المستشير، واغتنمت العجوز هذه الفرصة وجعلت تصيح وتستغيث.

ثم توالى قرع الجرس فأسرع الرجل العبوس إلى النافذة المطلة على الشارع، وأطل منها ورأى مركبة جميلة واقفة عند باب المنزل، وقد خرج منها رجل نبيل وقف بجانبه رجلان من البوليس.

وأدرك العبوس ما يحدق به من الخطر وأسرع إلى شوكنج والفقير وقال: هلموا بنا إلى الهرب وأسرعا.

ثم تقدمهما راكضًا إلى الحديقة، ووجد المفتاح في بابها ففتحه وخرج منه وأسرع الرجلان إلى الخروج في إثره.

ولما أمنوا الخطر قال العبوس لشوكنج: إننا لم نجد الغلام اليوم ولكن لا بد أن نجده في الغد.

ثم أعطاه ورقة مالية قيمتها عشرة جنيهات وقال له: خذ هذه الورقة واذهب بالأرلندية واستأجر لها بيتًا موافقًا وسليها عن مصابها، وعدها بإنقاذ ولدها قريبًا لأني كما قلت لك لا بد من أن أجده.

– وأنت ألا تحضر معنا؟

– كلا إذ يجب أن أرى الكاهن صموئيل.

– كيف تراه وهو في السجن؟

– ذلك أني سأحبس نفسي معه في السجن.

– لكنك إذا دخلت إلى السجن لا تخرج منه فكيف تستطيع البحث عن الغلام؟

– إني أواعدك على اللقاء غدًا في الساعة الرابعة في شارنج كروس، وعادتي أن أفي متى وعدت.

ثم افترقا فذهب شوكنج إلى الأرلندية وهو يتوجع لمصابها، وذهب الرجل العبوس يتبعه الفقير إلى شارع أكسفورد، وهناك أمر الفقير أن يعود إلى بيت فانوش. وأن يراقب ذلك الرجل النبيل الذي دخل إليه ويقتفي أثره أينما ذهب، ويعلم اسمه، وضرب له موعدًا للقاء في المكان الذي عينه لشوكنج.

فانحنى الفقير وانصرف ممتثلًا، وذهب الرجل العبوس في شأنه.

١٨

ولنذكر الآن ما جرى لابن الأرلندية وكيف اختفى.

ولا بد لنا أن نعود بالقارئ إلى بضع ساعات، حين كان ولتون والسائق ذاهبين بالأرلندية بغية إلقائها في النهر، فإن مسز فانوش لبثت واقفة في ذلك الحين عند باب المنزل تشيع اللصين بالنظر حتى توارت المركبة عن أنظارها، وعادت إلى منزلها وأحكمت إقفال بابه.

ثم دخلت إلى الغرفة التي كان نائمًا فيها ابن الأرلندية، وجعلت تتفرس فيه وتقول في نفسها: ما أعجب هذا الاتفاق الذي قدر لي الخروج من ذلك المأزق الضيق، بل إن هناك اتفاقًا أعجب، وهو أن هذا الغلام يشبه ابن مسز إميلي بعض الشبه، فإني سأسعد هذه المرأة كما أشقيت تلك، ومصائب قوم عند قوم فوائد.

وعند ذلك خرجت إلى قاعة الطعام ونادت العجوز قائلة لها: اجلسي بجانبي نتحدث فإن أمرنا خطير.

ولم يرق هذا الاقتراح للعجوز وقالت: لقد دب النعاس إلى أجفاننا فلننم الآن ولنرجئ الحديث إلى الغد.

فاتقدت عينا فانوش بأشعة الغضب وقالت: أتظنين أيتها البلهاء أني أدفع لك راتبًا كي تأكلي وتشربي وتنامي؟

فاشمئزت العجوز من هذا التقريع العنيف وقالت: أشكرك يا سيدتي لإحسانك إليَّ بالرواتب الكثيرة، لكني لو لم أكن في منزلك لما سارت أعمالك هذا السير المنتظم، فإن الأولاد عندك لا يرهبون إلاي.

– ذلك أكيد، لكن أعيد عليك ما قلته وهو أنه يجب أن نتحدث.

– إذن قولي ما تريدين.

– يجب أن ننظر الآن فيما يجب أن نفعله بهذا الغلام.

– إنك تعلمين أكثر مني.

– إن مسز إميلي وزوجها سيحضران بعد شهر فليس الوقت متسعًا لدينا كي نربيه على ما نريد.

– إن السوط يكفل حل كل عسير.

فهزت فانوش كتفها وقالت: إنك كلما كبرت زدت خرفًا وبلاهة.

– وبخيني واشتميني كما تشائين فإنك تدفعين لي رواتبي.

– لا أريد توبيخك بل أريد أن أظهر لك أن نفسك خالية من الذكاء، فإنه يجوز لنا أن نضرب الأطفال الذين عهد إلينا بتربيتهم؛ لأن أهلهم يدفعون لنا نفقاتهم ولا يطلبونهم إلا بعد عهد طويل، أما هذا الغلام فإننا سنسلمه إلى مسز إميلي بعد شهر، فنحن أحوج إلى إرضائه منا إلى ضربه، وذلك أولًا لكي ينسى أمه التي افترق عنها بما يجده من المؤانسة والملاطفة، ثم لأني رأيت منه صدقًا في العزيمة وصلابة في الرأي، ولذلك لا أجد بدًّا من أن ننهج معه مناهج اللين.

– إذن اعهدي به إليَّ فإني لا أعرف الرفق في تأديب البنين.

– بل سأفعل خيرًا من ذلك، أي إني سأبعده عن هذا البيت، فإنه متى صحا فيه، ولم يجد أمه، ملأ الدنيا صراخًا وعلم أهل الشارع بأمره، وافتضح أمرنا.

– والسوط؟

وغضبت فانوش وقالت: ألا تزالين أيتها البلهاء تذكرين السوط، ألم أقل لك إني أريد أن ألاينه وأسترضيه؟

– عفوك فقد نسيت، ولنعد إلى قولك الأخير، فإلى أين تريدين الذهاب به؟

– إلى ذلك البيت الجديد الذي اشتريته في خلاء همبستاد، فإنه يكاد يكون مقفرًا، وفيه حديقة غناء يلعب فيها الولد كما يشاء، فمتى عادت مسز إميلي أكون قد دربته على ما أريد، وجعلته يعتقد أنها أمه الحقيقية، وأن الأرلندية، لم تكن غير مرضعة، أما أنت فستبقين في البيت وتحتفظين به كما لو كنت فيه.

– إنك تعلمين أني مخلصة لك كل الإخلاص.

– إذن اذهبي الآن ونامي، أما أنا فإني ذاهبة الآن بالغلام.

فانصرفت العجوز وهي تقول افعلي ما تشائين، أما أنا فإني أفضل السوط.

ولم تحفل فانوش بقولها، ونادت خادمتها وقالت: احضري مركبة فإننا ذاهبون الآن إلى همبستاد.

فامتثلت الخادمة، وعادت فانوش إلى حجرة الغلام.

وكان الغلام نائمًا نوم تخدير — كما تقدم — والمخدر يؤثر بالصغار وضعفاء البنية أكثر من تأثيره بالكبار والأصحاء، فأخرجته من سريره دون أن يستفيق وألبسته ثيابه.

ولما انتهت من ذلك عادت الخادمة وأخبرتها أن المركبة على الباب فأمرتها أن تحمل الغلام إليها.

فقالت لها: ألعلك تريدين إغراقه أيضًا؟

أجابت: كلا، فإننا سنكسب منه ألف جنيه على الأقل، بل نحن سنذهب به في البرية.

وحملته الخادمة وخرجت به وتبعتها فانوش إلى المركبة، وسارت بهن وبلغت همبستاد بعد ساعة والغلام لا يزال نائمًا، وأخرجتاه من المركبة وأطلقتا السائق.

وكان هذا البيت صغيرًا قليل الغرف، غير أنه كان يحيط به حديقة متسعة، وحملت الخادمة الغلام واجتازت به الحديقة تتقدمها فانوش، فشعرت أنه بدأ يتحرك وقالت لسيدتها: إنه سيفيق قريبًا.

– لا بأس الآن فليستفق ويصرخ قدر ما يشاء، فلا جيران لنا يسمعون صياحه.

ثم دخلت به إلى البيت، ووضعته على مقعد، ولم يكد يستقر عليه حتى تحركت شفتاه، وكان أول كلمة فاه بها قوله «أمي».

وبعد هنيهة فتح عينيه ونظر إلى ما حواليه ورأى فانوش وقال لها: أين أمي؟

– نائمة يا بني.

فنهض عن المقعد ونظر إلى نفسه ورأى نفسه بملابسه وتذكر أنه خلعها قبل وقال لفانوش: لماذا أنا بملابسي؟ فلم تجبه.

وعاد إلى سؤالها عن أمه فقالت له: إني ذاهبة لأناديها.

ثم خرجت من الغرفة، وقد نظرت إلى الخادمة نظرة سرية، وكانت قد علمتها ماذا يجب أن تصنع مدة سيرهما في المركبة.

أما رالف فإنه سأل الخادمة أيضًا: لماذا أنا بملابسي؟

– إن أمك ألبستك إياها.

– وأين هي الآن؟

– في الدور العلوي.

– إني أريد أن أذهب إليها.

ثم مشى إلى الباب فحالت الخادمة دونه وقالت له: بل تبقى هنا.

– وإذا كنت لا أريد.

– ولكني أنا أريد.

وضرب الأرض برجله وقال: إني أريد أن أذهب إلى أمي.

ثم حاول أن يبعد الخادمة ويخرج فوقفت عند الباب ومنعته، فدفعها بعنف وغضبت منه وصفعته على وجهه صفعة تألم منها ألمًا شديدًا، وضم يده وضربها ضربة شديدة نتج عنها أن هذه المرأة الوحشية أخذت سوطها وقالت له: سوف ترى أيها الوقح كيف أربيك.

ثم انهالت بسوطها على ذلك المسكين، فجعل يصيح صياحًا يقطع القلوب من الإشفاق، لكن هذه المرأة لم يكن لها قلب يعرف الرحمة.

١٩

ولندع الآن هذا الغلام المنكود مع ظالميه، والأرلندية أمه مع شوكنج، ولنعد إلى ذلك الكاهن صموئيل الذي تركنا الجنديين ذاهبين به إلى السجن فنقول: يوجد في لندرا سجن خاص بالذين يتأخرون عن دفع ديونهم. ينفق كل دائن على من يسجنه فيه إلى أن يدفع الدين فيخرج منه أو يمل الدائن من الإنفاق ويطلق مدير السجن سراحه.

وقد كان هذا الكاهن استدان مائة جنيه من الصراف الإسرائيلي، وأنفقها على المعوزين من قومه، وهو يرجو أن يفي الدين في الأجل المعين بما سيبيعه من أرضه في أرلندا، إلا أن البيع لم يتيسر في الموعد المضروب، وأدخله الصراف إلى سجن المفلسين، وأبى أن يمدد أجل دينه، كما علم القراء من حديثهما في الخمارة السوداء.

ومن شروط هذا السجن، أنه إذا أراد أحد أقرباء المديون أو أحد أصحابه أن يسجن بدلًا منه يأذنون له فإذا عجز المديون عن الوفاء وأراد الذي سجن مكانه أن يخرج من السجن، جيء بالمديون الأصلي فسجن، وأطلقوا سراح من ناب عنه.

غير أن هذا الكاهن على كثرة أصحابه ومريديه لم يلق من يعرفه حين ذهب به الجنديان، وأبت نفسه الكريمة أن يطلب إلى من كان في الخمارة أن يسجن واحد منهم في مكانه إلى أن يتيسر له السعي لإيجاد المال، وسيق إلى السجن وعينوا له خير مكان في القاعة العامة فإن الجميع كانوا يحبونه لما عرف به من الصلاح.

ولقد تقدم لنا القول أن الرجل العبوس أخبر شوكنج أنه سيجتمع بالكاهن في سجنه، وواعده على المقابلة في اليوم التالي، ولما افترق عن شوكنج ذهب إلى منزله وغير ملابسه، ومضى توًّا إلى سجن المفلسين، وهو يفكر في طريقة تمكنه من أن يرى الكاهن ويخرجه من السجن.

ولما وصل إلى ذلك السجن، وجد في باحته قهوة يختلف إليها أهل المسجونين وأصحابهم فيقيمون فيها إلى أن يؤذن لهم بمقابلتهم.

وجلس أمام مائدة مع الجالسين، وجعل يجيل بينهم نظر الفاحص الخبير بشقاء القلوب.

ونظر فتاة في ريعان الشباب فضح فقرها لباسها، وستر ذلك الفقر ظواهر الأدب والوقار، فهاجت بقلبه عوامل الشفقة لما رآه من دلائل انكسارها وشقائها؛ فإنها كانت مطرقة إلى الأرض والدموع تنهل من عينيها، ولا ترفع نظرها إلا حين تشعر بقدوم قادم جديد إلى القهوة.

ثم دنا منها وسألها عن سبب بكائها بلهجة حنو أنست بها الصبية، وحكت له حكايتها، وخلاصتها أن مهنة أبيها النجارة، وأنه مديون بعشرة جنيهات لشخص لا رحمة في قلبه، وقد سلمه منذ ساعة إلى الجنود لسجنه حتى يفي الدين فأرسل إليها أبوها من أخبرها بالأمر فسبقته إلى السجن كي تراه قبل دخوله إليه، وإنها الآن تنتظره.

وقد حكت له هذه الحكاية بملء البساطة، فوصفت له معيشتها مع أبيها، وأنهما في أشد حالات الفقر، بحيث يستحيل على أبيها وفاء الدين. وأنه إذا بات ليلتين في السجن تموت هي من الجوع، ويموت هو من اليأس.

فرق الرجل العبوس لحكايتها، وتمثل له الشقاء بأبلغ صورة، فطيب خاطر الفتاة ووعدها خيرًا.

وقد خطر له أن يستفيد من هذه الصدفة في الغاية التي يسعى إليها. فبينما هو يحادث الصبية ويعدها بإنقاذ أبيها من السجن تفريجًا لكربتها، إذ دخل إلى القهوة جنديان كان بينهم رجل تدل ملابسه أنه من العمال، وقد طبع اليأس على جبينه، فلما رأته الصبية شهقت وقالت: هذا أبي، ثم أكبت على صدره تغسله بدموعها.

فاحترم الجنديان هذا المشهد المؤثر، وابتعدا عنها وجلسا حول مائدة وطلبا زجاجة من الشراب يصرفان الوقت بها حتى يتم الرجل وداع ابنته ويوصيها بما يريد.

وعند ذلك دنا الرجل العبوس من الجنديين وحياهما أحسن تحية، فاستقبلاه خير استقبال لما رأياه من حسن أدبه، وظواهر نبله، وجمال لباسه، مما يدل أنه من الأعيان، وأنه قادم إلى السجن للفرجة والتفقد، شأن كثير من ذوي اليسار والفراغ.

أما الرجل العبوس فإنه جلس معهما وجعل يحادثهما عن سجن المفلسين ونظاماته. ثم استطرد إلى البحث في أمر هذا الرجل وابنته، والسبب في سجنه ومبلغ دينه. فأخبراه بما عرفه من الصبية، فأظهر الرجل العبوس توجعًا شديدًا لهذا المنكود شاركه فيه الجنديان، لأنهما كانا عارفين بفقره المدقع.

ثم قال لهما: لقد خطر لي أن أحل محله في السجن.

فضحك الجنديان لاقتراحه وحسباه ممازحًا فقال له أحدهما: كيف يدخل من كان مثلك السجون؟

– يدخل ليخرج سواه.

– ولكنك لست من أهل الرجل ولا من أصدقائه.

– ومع ذلك إني أحب أن أحل محله لأفرج غمه.

– إن ذلك سهل عليك تستطيعه دون الدخول إلى السجن، فإذا دفعت عنه ما عليه أطلقناه في الحال.

فابتسم الرجل العبوس وقال: إني أعلم من ذلك ما تعلم، غير أني أوثر الدخول إلى السجن لأسباب كثيرة، منها أني أجد لذة في هذه المشقة التي سأكابدها عن هذا المنكود لا أجد مثلها إذا اقتصرت على دفع المال، فقد تعودت مثل هذا الإحسان حتى مللته.

ومنها أني أحب أن أدرس أحوال هذا السجن، وأتفقد المسجونين فيه، علي أجد بينهم من يستحق الإفراج فأدفع دينه وأفرج عنه. وماذا عليكما إذا أدخلتماني إلى السجن بدلًا من هذا الرجل؟

فعبس الجندي وعلم أنه غير مازح فيما قاله لما رآه من ظواهر جده فقال له: لا بأس، غير أن العادة أن يدخل السجين نفسه إلى السجن، ولا يخرج منه إلا بدفع المال أو عفو الدائن أو حلول غيره محله كضامن له إلى أن يجمع المال. وجميع هذه الأمور يكون مرجع الحكم فيها إلى حاكم السجن دون سواه.

– إني أعلم جميع هذه القيود، غير أن حاكم السجن لا يعرف هذا الشخص بالذات.

– ماذا تريد بهذا القول؟

– أريد به أني لو لبست هذه الملابس الرثة، التي يلبسها ذاك النجار، وعرضت على حاكم السجن باسمه لحبسني، وهو يعتقد أنه يحبس النجار نفسه.

– لكن من يقدمك للحاكم باسم النجار؟

– أنت ورفيقك هذا، ولا جناح عليكما، لأني سأدفع المال عن هذا النجار. ولدي كثير منه في محفظتي، فيطلقون سراحي ولا يدري بأمرنا أحد. فتكونان قد أحسنتما إليَّ لتسهيل سبل غايتي، وما وراءها إلا الخير، وأحسنتما إلى نفسيكما بما سأدفعه لكما من المكافأة عن هذه الخدمة الصالحة.

ثم أخرج محفظة من جيبه، كي يدفع ثمن الشراب، وفتحها أمام الجنديين. فرأيا فيها من الأوراق المتكدسة ما أدهشهما، فجعلا يتشاوران بالنظر.

وبعد أن دفع الرجل العبوس عشرة أضعاف ثمن الشراب بسخاء نادر، وعاد إلى إغواء الجنديين، وقد ترك المحفظة مفتوحة أمامهما. فطال العهد بهما حتى أقنعهما فنقدهما عشرين جنيهًا، واتفق معهما على أن يلبس ملابس النجار كي لا يلتبس أمره على الحاكم.

ولما تم الاتفاق ذهب إلى النجار وابنته، وأخبرهما بما حدث فجعلا يبكيان بكاء الفرح والامتنان.

ثم دخلا إلى غرفة من غرف القهوة، ولبس الرجل العبوس ملابس النجار، وعاد إلى الجنديين فذهبا به إلى الحاكم، فأمر بإدخاله إلى السجن. أما النجار وابنته فإنهما عادا إلى منزليهما، وهما يدعوان الله لهذا الإنسان النبيل.

٢٠

وكان حاكم هذا السجن كثير الشفقة والحنان، شديد الرأفة بالمسجونين، حريصًا على راحتهم. فلما دخل عليه الرجل العبوس، وهو بملابس النجار طيب خاطره وعزاه ثم دخل به إلى السجن.

وعندما فتح باب السجن، كان الكاهن صموئيل راكعًا على الأرض، وبيده كتاب صلاة. وكانت تلك القاعة مظلمة رطبة لا نار فيها تقي ألم البرد غير أن وجه الكاهن كان يشرق بفضيلة الصبر إشراقًا. فلما رأى الحاكم قد دخل عليه وقف له احترامًا وحياه.

فتأثر الحاكم لما رآه من شقائه وقال له: إن تأثري شديد من هذا المرابي المحتال، لأنه لا أدب في نفسه، ولا رحمة في قلبه، وليس له شيء من صفات الإنكليز.

فابتسم الكاهن وقال له: لماذا تحكم عليه هذا الحكم الصارم؟

– لأني أراه أفرط في العنف، لكن عنفه لا يطول لأن لي سلطة تامة في السجن وسأستخدمها.

ثم التفت إلى كاتبه وقال له: اكتب في الحال كتابًا إلى توماس الجن، وقل له إن ما ينفقه على مسجونيه غير كافٍ وإن إدارة السجن ترى أن الكهنة لا يجب أن يعاملوا معاملة الصادين، وأنه إذا لم يعين في القريب العاجل نفقات كافية للكاهن صموئيل فإن الإدارة تطلق سراحه.

فابتسم الكاهن أيضًا وقال له: أشكرك يا سيدي خير الشكر لأنك خير من عرفت من الحكام ولكني أرجوك أن لا تكتب شيئًا لهذا المرء لأني بخير، وقد تعودت شظف العيش.

– لكن ذلك مستحيل إذ لا تستطيع أن تعيش هذا العيش وإذا رضيته لنفسك فلا أرضاه لك.

– إني أعود أيضًا إلى شكرك ورجائك أن لا تكتب لهذا الشخص، لأنه من أهل الشر ولن تنال منه شيئًا. غير أني أسألك أن تأذن لي بالكتابة إلى أرلندا فإنهم يرسلون إليَّ في الحال قيمة ما عليَّ لهذا الشخص.

– سأفعل ما تريد ولكن بقاءك على هذا الفراش من القش يؤذيك، لأن البرد قارص.

– لقد رقدت مرات على أخشن منه، انظرْ إلى هؤلاء المسجونين التعساء؛ لأنهم أولى بالإشفاق مني.

وفيما هو يتكلم رأى الرجل العبوس بجانب الحاكم فبرقت عيناه وحاول أن يكلمه، غير أن العبوس أسرع إلى وضع سبابته فوق فمه إشارة إلى السكوت فانصرف الكاهن إلى محادثة الحاكم، وبعد هنيهة تفقد الحاكم المسجونين وخرج من السجن.

وبعد ذلك خلا الكاهن بالرجل العبوس، وقد اعتبر لأول وهلة رآه أن دخوله إلى السجن لم يكن لدين عليه بل كان الدين حجة تذرع بها للوصول إليه فكان أول ما سأله إياه قوله: أعثرت على الغلام؟

فرد العبوس: كلا.

فامتعض الكاهن وقال: رباه! إني أسير في السجن، ولا حيلة لي بالبحث.

فقال له العبوس: إني لم أعثر على الغلام، ولكني سأعثر عليه وأقسم لك على ذلك.

– لكن كيف تجده وأنت سجين مثلي؟

– هو ما تقول. غير أني أستطيع الخروج من السجن حين أريد. ولكني أردت أن أراك وأحدثك، ولهذا دخلت إلى السجن بدلًا من إنسان فقير.

فعجب الكاهن لأمره ورأى الإخلاص يجول في عينيه فقال له: من أنت أيها المرء لأني توسمت فيك الخير حين رأيتك؟

فأطرق العبوس بعينيه إلى الأرض وقال: إني كنت من كبار المجرمين فتبت توبة صادقة منذ عشرة أعوام، وأنا أضحي نفسي كل يوم في سبل الخير راجيًا أن أنال عفو الله.

ثم رأى أن الكاهن لم يثق به كل الثقة، فرسم بإبهامه على وجهه تلك العلامة السرية التي أكرهت ذلك الفقير على الخضوع حين شاهده قرب بيت فانوش.

فارتعش الكاهن حين رأى العلامة، وعاد العبوس إلى رسمها أيضًا، فمد الكاهن يده وصافحه وقال: إذن أنت أرلندي، وقد كنت أحسبك فرنسيًّا؟

– بل أنا فرنسي ولكن جميع أهل الشقاء إخواني.

– ولكني رأيت من علامتك السرية، أنك واحد منا فمن أدخلك في سلكنا؟

– شخص مات في سبيل أرلندا.

– وهذا الشخص؟

– إن الإنكليز الذين حكموا عليه وأعدموه شنقًا يحسبون أنه إنسان فقير متسول من عامة الناس ويدعونه فالتن.

فاضطرب الكاهن وقال: أنت عرفت فالتن؟

– إني عشت وإياه عيشًا واحدًا ستة أشهر في دبلين. ولما حكم عليه بالإعدام أنقذته من سجنه، وكاد يفوز بالفرار إلى أوروبا. ولكن الله أبى أن يبلغ كل مراده، فإني استأجرت سفينة وجعلت بحارتها من الفرنسيين، وتوليت أنا رئاستها، فركبناها وركب معنا فالتن، وكنت واثقًا من الفوز كل الثقة.

وفيما نحن في البحر والسفينة تمخر بنا إلى أرض الحرية قال لي فالتن: إني أراك واثقًا من الفوز غير أن قلبي يحدثني بأني غير ناج من قبضة الإنكليز، وقد حان لي أن أخبرك من أنا لأن ساعتي أتت.

ثم مال على أذني وأخبرني عن تينك العلامتين، وهما علامة العضو البسيط في جمعيتنا وعلامة الرؤساء.

وقال لي: إنك ستذهب أيضًا إلى لندرا فتبحث في تلك المدينة المتسعة عن كاهن شاب يدعى الكاهن صموئيل، فإنه رئيسنا الأكبر إلى أن يترعرع الغلام الذي ننتظره فيتولى الرئاسة العليا مكانه، ومتى اجتمعت بالكاهن حدثه عني، وإذا كنت قد قضيت فاذكر حوادثي الأخيرة. أما إذا بلغت إلى أرض الحرية ونجوت من الإنكليز لا تقل شيئًا عني لأنه لم يرني مرة في حياته ولكنه يعرفني.

– إذن قد مات فالتن؟

– نعم، فإننا بينما كانت السفينة تمخر بنا، هبت عاصفة شديدة ألقتها على الصخور، والتجأنا كلنا إلى صخر ولم يكن عندنا ريب أننا سنموت جوعًا. غير أنه عندما أشرق الصباح ظهرت لنا دارعة إنكليزية فقال فالتن: هلموا نشير إليها.

فمنعته عن ذلك وقلت: إننا إذا استسلمنا إلى الدارعة عرفوك وقبضوا عليك وعدت إلى سجنك.

قال: إذا مت أنا افتديتك وافتديت سائر البحارة، فالموت محتم ومعاذ الله أن أرضى لكم الموت من أجلي. ثم نزع قميصه دون أن يصغي إليَّ، وجعل يشير بها إلى الدارعة، فرآنا رجالها، وأسرعوا إلى نجدتنا. فحملونا بقارب إلى الدارعة فنجونا كلنا ما خلا فالتن.

فقال الكاهن: أرأيته حين إعدامه؟

– نعم فقد أعدم بعد ذلك بأسبوع في مدينة دبلين، وكنت واقفًا تحت المشنقة فكان آخر كلمة قالها لي «تذكر».

وكان العبوس يروي الرواية بلهجة تدل على تأثره، فمد إليه الكاهن يده، وقال: أمن أجل هذا أتيتني؟

– نعم.

– رباه وكيف السبيل إلى إيجاد الولد لأن الأرلندية قد صدقت فيما قالته، وابنها هو الذي ننتظره لنكون له خدامًا أمناء.

– إني أقسم لك بأننا نجده.

فقال بلهجة تشف عما خامر فؤاده من الحزن: لكن كيف؟

فابتسم العبوس وقال: أصغِ إليَّ تعلم كيف نجد الغلام.

٢١

ثم قص عليه جميع ما حدث له بالتفصيل، وكيف دخل إلى منزل فانوش، وأيقن من اختفاء الغلام، حتى إذا أتم حديثه قال الكاهن: إني أرى عليك مظاهر الارتياح، لاعتقادك أن الغلام قد اختطفته المرأة لبيعه لإحدى العائلات، وإن التفتيش عنه سهل ميسور، فأصغِ إليَّ الآن أنت بدورك.

كانت أرلندا منذ مائة عام على ما هي الآن راصفة في قيود الذل والاستعباد للإنكليز فاستمرت ثلاثين عامًا تحارب حرب كفاح عن حريتها برئاسة رجلين كانا أخوين.

وكان هذان الشخصان من نسل ملوكنا القدماء، وللأرلنديين اعتقاد أنه لا ينقذ أرلندا من ربقة العبودية غير أحد أبناء هذه الأسرة.

وقتل أحد الأخوين في ساحة القتال، أما الآخر فقد خان أمته ووطنه وباع نفسه للإنكليز؛ فكافأته إنكلترا فجعلته عضوًا في البرلمان ومنحته لقب اللوردية.

وولد لهذا الخائن ولدان فخلف أحدهما أباه في البرلمان وبقي إنكليزي المبدأ، وأما أخوه فإنه ذكر أن الدماء التي تجول في عروقه أرلندية وأنه يجب أن يموت شهيدًا بها.

وهذا الرجل يدعى السير أدموند، فإنه برح إنكلترا عائدًا إلى أرلندا وقد علمت كيف مات من الأرلندية.

– أهو والد الغلام الذي نبحث عنه وزوج تلك المنكودة؟

– هو بعينه.

– لقد فهمت الآن كل شيء.

– كلا، لم تفهم شيئًا، فإن أخا السير أدموند بدلًا من أن يمد يده لأخيه، ويعينه على إنقاذ أرلندا من قبضة الإنكليز، مالأ الإنكليز على أخيه وحقد عليه حقد اللئام.

– ألا يمكن أن يكون هذا الخائن نفسه قد اختطف الغلام؟

– نعم إنه هو الذي اختطفه ولكنه لم يسرقه ليجعله وريثه، بل ليمحو أثره من الوجود ويتبعه بأبيه؛ فإن من قتل الأسد لا يعف عن الشبل، ونهر التيمس بعيد الغور.

ارتعش الرجل العبوس وذكر في الحال ما أخبره به شوكنج عن ذلك اللورد الذي أمره أن يقتفي أثر الأرلندية وأعطاه عشرة جنيهات، فقال للكاهن: إنك مصيب في ظنك كما أرى. فهل تعرف اسم هذا اللورد شقيق السير أدمون؟

– نعم إنه يدعى السير بالمير.

فصاح الرجل العبوس صيحة خوف وإشفاق وقال: لم يبق لدي شك أن سارق الغلام هو هذا اللورد، ولذلك يجب أن نسرع إلى الخروج من السجن في الحال ونجد الولد.

فَأَنَّ الكاهن أنين الموجع. وقال: كيف السبيل إلى الخروج من السجن؟ إن هذا المرابي قد حبسني وعاملني دون إشفاق؛ لأنه مدفوع إلى هذه الفظاعة من أولئك الذين يضطهدوننا، ولم يكن غير آلة في أيديهم فإنهم قد عرفوا أن الغلام قادم من أرلندا وأني سأحتفل صباح اليوم بقداس بحضور أربعة رجال هم رؤساء مثلي في جمعيتنا وهم قادمون من أرلندا وأيكوسيا وبلاد الغال وأميركا، وأنا صلة التعارف بينهم فإنهم لا يعرفون بعضهم بعضًا ولكن أعدائنا عرفوا بأمرهم، وعرفوا أني سأبارك الغلام أمامهم فحالوا دون هذا الاجتماع بسجني في اليوم المعين لاجتماعنا وحالوا دون مباركة الولد باختطافه.

ثم أطرق برأسه وقال: ويلاه إنهم قد يكونون قتلوه، وأنا أسير في هذا السجن فكيف أعمل؟

– أما الولد فلا بد أن نجده ويستحيل أن يقتلوه كما تتوهم، وأما هذا السجن فإننا نستطيع الخروج منه متى شئنا.

فنظر الكاهن إلى ملابسه الرثة وقال: يستحيل الخروج من السجن إلا بعد دفع الدين وأين نجد المال؟

– تجده في جيبي فإن لدي من الأموال قدر ما تشاء لخدمة أرلندا، فلا تعجب لأمري فستعلمه بعد.

وقد رأيت الحاكم ميالًا إليك فادْعُه الآن، وأنا أدفع عنك وعني ونخرج من هذا السجن في الحال. ثم أخرج محفظة أوراقه من جيبه، وفتحها أمام الكاهن فسر بما رآه سرورًا لا يوصف وأسرع إلى خادم السجن فسأله أن يدعو له الحاكم.

وبعد هنيهة أقبل الحاكم فدفع الرجل العبوس دينه ودين الكاهن، فسر الحاكم بما رآه من كرم الرجل العبوس، وعلم — كما أوهمه — أنه رجل غني من أهل الخير يتنكر ويدخل مثل هذه السجون، فيفرج عن التعساء فيها، وللحال أطلق سراحهما مع رجلين آخرين دفع عنهما الرجل العبوس دينهما لما تبينه من حالتهما التي تحمل على الإشفاق، وسار الكاهن والرجل العبوس وقد شيعهما الحاكم إلى الباب بمظاهر الاحترام والإجلال.

٢٢

عندما خرج الكاهن والعبوس من السجن كان الظلام قد انسدل وأضاءت لندرا مصابيحها، وهي لا تنقص عن المليون وتعكس أشعتها على مياه التيمس، وترقصها الرياح وتضطرب فوق الأمواج. ولما بلغا إلى الشارع سأله الرجل العبوس إلى أين يريد الذهاب؟

– إلى كنيسة سانت جيل.

وسارا مسرعين وجعلا يتحادثان على الطريق ما يأتي:

وقال له الرجل العبوس: إني عهدت بالأرلندية صباح اليوم إلى شوكنج، وواعدته على اللقاء غدًا لأني لم أكن متوقعًا الدخول إلى السجن بهذه السهولة، ولذلك فلا نستطيع أن نقف على أخبار الأرلندية وابنها قبل غد.

– كيف نقف على أخبار ابنها؟

– لأني كلفت رجلًا فقيرًا من جمعيتنا أن يقتفي أثر الرجل النبيل الذي طرق باب بيت فانوش حين كنت فيه وواعدته على اللقاء غدًا أيضًا كما واعدت شوكنج.

– في أي مكان؟

– في محطة شارتج كروس.

– إذن لنذهب توًّا إلى سانت جيل، وقد يكون الأربعة الذين أنتظرهم كتبوا لي شيئًا.

وساروا حتى انتهوا إلى منزل فانوش، وهو في طريقهم إلى سانت جيل، ورأى العبوس ذلك البيت مظلمًا لا أثر للنور فيه، ثم رأى رجلًا يمشي على الرصيف فارتعش لمرآه، لأنه كان ذلك الفقير الذي كلفه بمراقبة النبيل، وناداه وقال له: لماذا أنت هنا؟

– لأن الشخص لا يزال في البيت.

– أهو فيه منذ الصباح؟

– كلا، بل إنه خرج صباحًا وسار بمركبته إلى منزله في الشارع شترستريت.

– ماذا يدعى؟

– اللورد بالمير.

ودنا الكاهن عندما سمع هذا الاسم، ورآه الفقير فتوقف عن الكلام إلى أن أمره العبوس بالكلام وقال: إنك أمرتني أن أعرف اسم هذا الرجل ومنزله، وأن أعود بعد ذلك إلى مراقبة البيت، وعدت ووقفت بجواره مراقبًا كل النهار ولم يحدث شيء، وبقيت العجوز في البيت، غير أن اللورد عاد إلى البيت منذ ساعة وهو لا يزال فيه.

والتفت العبوس إلى الكاهن وقال له: إني لا أجد بدًّا من الدخول إلى هذا البيت.

– كيف تدخل إليه؟

– لا أعلم، ولكني سأجد طريقة وربما دخلت من باب الحديقة المشرف على الزقاق، غير أنه يجب أن تبقى أنت والفقير في مكانكما.

– حسنًا سأقف، لكن ماذا يجب أن أعمل.

– تتبعان اللورد بالمير إذا خرج من المنزل قبل أن أعود إليكما؟

– سأقف فاذهب أنت في شأنك.

وابتعد الكاهن والفقير ووقفا في منعطف وجعلا يراقبان البيت، وذهب الرجل العبوس إلى الزقاق بغية دخول البيت من باب الحديقة، فما مشى خطوتين إلى الزقاق حتى أحس أن رجلًا يتبعه، ووقف فرأى الرجل قد وقف أيضًا فتنبه له وقال: سوف نرى من هذا الشخص.

ثم عاد إلى المشي وتبعه الرجل إلى أن مر بباب الحديقة، ورأى نورًا ينبعث من نافذة المنزل إلى شجرة كبيرة في الحديقة.

وهناك وقف ورأى الشخص أسرع في خطواته واقترب منه وقال في نفسه: لقد عرفت من أنت وماذا تريد وسوف ترى أني أخبث منك.

ولما كاد يدنو منه مشى العبوس مجتازًا باب الحديقة، وجعل يمر بأبواب المنازل فيهزها ويتفقدها كي يعلم إذا كانت محكمة الإقفال، ثم عاد بعد أن تفقد جميع أبواب الزقاق إلى الحديقة.

والعادة في إنكلترا أن البوليس يتفقد المنازل، فإذا رأى باب أحدها مفتوحًا طرق الباب ونادى أصحاب البيت كي يقفلوه، بحيث أيقن الشخص الذي كان يتبع العبوس أنه من رجال البوليس السري.

ولما عاد العبوس بعد تفقد المنازل إلى الحديقة، التقى بالشخص الذي كان يتبعه فقال له الرجل: ألعلك نسيت أيها الزميل أنك متنكر فكيف تتفقد الأبواب؟

فقال له العبوس: إني تعودت هذه العادة بحيث لا أمتنع عنها ولو كنت متنكرًا.

فخدع الرجل وكان بوليسًا متنكرًا بقول العبوس وقال: لقد أصبت فإني أنا متعود هذه العادة أيضًا، وقد تفقدت هذه الأبواب قبلك، ولكن ماذا تعمل هنا؟

فغمز العبوس بعينه وقال: وأنت ماذا تعمل؟

وضحك البوليس وقال له: أرى أنك أحد الأربعة الذين طلبهم اللورد اليوم من إدارة البوليس.

– هو ذاك.

– لا أدري ما يحمل هذا اللورد على مبارحة قصره المنيف والقدوم في الليل إلى أشد الشوارع خطرًا، إذ لا يقيم في هذا الشارع غير الأرلنديين، فلو علموا أن عضوًا من البرلمان قد جاء شارعهم، فماذا يفعلون؟

– اسكت أيها الرفيق فإن ذلك لا يعنينا، لكن هذا اللورد يقيم في المنزل منذ ساعة؟

وقال البوليس: نعم.

– ولذلك بدأت أخاف عليه، ولم يعد بد من الاطمئنان.

وقد ذكر الرجل العبوس أنه حين خرج صباحًا من باب الحديقة أقفل الباب وراءه إقفالًا بسيطًا، ودنا من ذلك الباب ودفعه ففتح، ودهش البوليس وقال له: ماذا تفعل؟

– أريد أن أتفقد اللورد فإني أخشى أن يكون أصيب بمكروه.

ولم يعترضه البوليس لاعتقاده أنه زميل له، ودخل العبوس وأقفل باب الحديقة من الداخل بالمفتاح، فمشى مشيًا خفيفًا إلى ناحية المنزل واختبأ وراء الشجرة، ونظر إلى النافذة التي كان ينبعث منها النور في غرفة أرضية فرأى المرأة العجوز واللورد بالمير جالسين على مقعد وهما يتحدثان، فنام على الأرض وأخذ يزحف زحفًا إلى النافذة كي يسمع ما يقولان.

٢٣

لا بد لنا قبل بيان السبب الذي عاد من أجله اللورد إلى منزل فانوش أن نعود إلى ما حدث في صباح ذلك اليوم حين اضطر الرجل العبوس ورفاقه إلى الهرب من باب الحديقة.

فإن اللورد بالمير حين عاد إليه شوكنج، وأخبره بعنوان المنزل الذي ذهبت إليه الأرلندية، رأى أن يحضر إلى منزل فانوش، ويقول للأرلندية: إنه كان صديقًا لزوجها، ويذهب بها وبولدها إلى منزله، وهناك لا يعدم وسيلة لإدراك سؤاله من هذا الغلام الذي قد يكون خطرًا قويًّا على إنكلترا يومًا من الأيام.

فذهب إلى المنزل وطرق الباب مرارًا فلم تفتح له العجوز إلا بعد أن استفاقت من رعبها، وهرب العبوس ومن كان معه، فاعتذرت إليه لتأخرها عن فتح الباب بحجة أنها كانت في الحديقة.

ثم دخلت به إلى قاعة الجلوس، ورحبت به ترحيبًا عظيمًا لما رأته من ظواهر نبله، فقال لها اللورد: إنك مربية أطفال أليس كذلك؟

– نعم يا سيدي.

– ولك شريكة كما قيل لي؟

– نعم، لكنها ليست في لندرا الآن فهي في الضواحي.

– لا بأس، ولكنكم أضفتم أمس امرأة وابنها أليس كذلك؟

– فارتعشت العجوز وحسبت أنه زوج مسز إميلي فقالت له: ألعلك يا سيدي السير واترلي؟

– كلا، بل أنا اللورد بالمير.

وعضت العجوز شفتها، ووقفت موقف الحذر فقال لها اللورد: إني أتيت بطلب المرأة والغلام لأنهما من أهلي.

– ولكنهما سافرا في هذا الصباح يا حضرة الميلورد.

– إلى أين؟

– لا أعلم.

فنظر إليها نظر الفاحص وقال: أأنت صادقة فيما تقولين؟

– نعم يا سيدي الميلورد، ولكن …

– ولكن ماذا؟

– ولكن شريكتي قد تقول لك ما أجهله أنا.

– وأين هي شريكتك الآن؟

– في منزلها في ضواحي لندرا، لكنها ستعود في المساء فإذا أحببت أن تراها تجدها في انتظارك.

ورأى اللورد من حديثها واضطرابها أن في الأمر سرًّا وقال لها: إني أمنحك مائة جنيه إذا كنت تخبرينني في مساء اليوم أين أجد الأرلندية وغلامها ولا سيما الغلام.

– إذن أنت تبحث يا حضرة الميلورد عن الغلام بشكل خاص؟

– نعم.

وكانت العجوز كثيرة الطمع، حاقدة على مولاتها، فطمعت بمال اللورد وقالت له: إذن عد في المساء، وإني أعدك بإخبارك عما تريد. فتركها اللورد وذهب.

•••

أما العجوز فإنها استرسلت إلى التصورات بعد ذهابه، وجعلت تقول في نفسها: إن فانوش محتاجة إلى الغلام وهؤلاء الثلاثة الذين كادوا يقتلونني محتاجين إليه، ثم إن هذا اللورد النبيل الذي طالما قرأت اسمه في جريدة التيمس محتاج إليه فلماذا لا أغتنم هذه الفرصة وأستفيد من أمواله.

إني إذا كتمت السر ووفيت بعهد فانوش، فإنها ترضى عني وتكافئني عن وفائي بثوب قديم أو حذاء جديد، وهذا منتهى ما يبلغ إليه كرمها، لكن كرم هذا اللورد لا يقف عند حد وعده بل أضمن بماله مستقبلي، ولا أبوح له بالسر إلا بعد أن ينقدني ما أريد، ويبعدني عن لندرا، بحيث أكون أمنت انتقام فانوش.

وعلى ذلك فقد عزمت عزمًا أكيدًا على خيانة فانوش.

أما اللورد بالمير فإنه عاد في الساعة الثامنة مساء، لكنه خشي سوء العاقبة بذهابه منفردًا إلى شارع يقيم فيه الأرلنديون، وذهب إلى مدير البوليس وأخبره عن المكان الذاهب إليه، وسأله أن يرسل إلى تلك الجهة أربعة من رجال البوليس السري.

وكانت العجوز قد أنامت البنتين حين قدومه ففتحت له الباب، وذهبت به إلى غرفة أرضية معتزلة في الحديقة كي لا يسمع حديثهما أحد، ثم أقفلت الباب وجلست وإياه على مقعد قرب النافذة وقالت له: إني أعلم يا حضرة اللورد أين هو الغلام، لكني لا أخبرك بموضعه إلا بعد شروط أقترحها فإن حياتي ورزقي معرضان للخطر.

فأجابها ببرود: قولي ما هي شروطك.

– أطلب ما يقيني شر العوز إلى آخر العمر.

– أيكفيك إيراد مائة جنيه في العام؟

– يكفي، لكن ليس هذا كل ما أطلبه.

– ماذا تريدين غير هذا؟

– أريد أن أبرح لندرا كي لا يقف الذين أخونهم على أثري.

– أتريدين الذهاب إلى أوروبا؟

– كلا فإني أوثر الإقامة في بريتون.

– اذهبي إلى حيث تشائين.

وفيما كانت العجوز تتكلم سمعت حركة في الحديقة فأسرعت منذعرة إلى النافذة كي ترى مصدر هذه الحركة.

٢٤

إن الحركة التي سمعتها العجوز كانت صادرة من الرجل العبوس كما سترى فلقد تركناه يزحف على بطنه حتى وصل إلى تحت النافذة، لكنه لم يكن يسمع حديث اللورد والعجوز.

وكانت النافذة عالية نحو مترين، وفي قربها شجرة ضخمة التصقت أغصانها بجدار الغرفة، ورأى الرجل العبوس في ذلك الجدار مروحة يضعها الإنكليز في معظم الغرف لتجديد الهواء، فارتأى أن يتسلق الشجرة، ويضع أذنه على مروحة الجدار، فانكسر الغصن لثقل جسمه، وخرج لانكساره ذلك الصوت الذي سمعته العجوز.

ولو جرى مثل هذا الحادث لغير الرجل العبوس، كان سقط على الأرض وافتضح أمره، غير أنه لما شعر بانكسار الغصن وثب كالهر إلى غصن آخر وتعلق به، وجعلت العجوز تجيل نظرها في الحديقة دون أن ترفع رأسها إلى الشجرة، فاطمأنت وعادت إلى اللورد وقالت: لا شك أن هذا الصوت خرج من الزقاق، وعند ذلك عاد الرجل العبوس فاختار موقفًا صالحًا للسمع وسمع ما يأتي:

قال اللورد بالمير: ما بالك لا تزالين مضطربة وإذا كنت أتولى حمايتك فَمِّمَ تخافين؟

قالت: ذلك لا ريب فيه، غير أني لا أقول شيئًا قبل أن أصير في طريق بريتون.

– كيف ذاك ألا تقولين لي الليلة أين هو الغلام؟

وأجابته بلهجة كاد ييأس لها اللورد: كلا لا أقول، ومع ذاك فلا خوف على الغلام، ولا بأس أن تراه غدًا.

– لكنك وعدتيني أن تخبريني بأمره في هذا المساء.

– أصغِ يا سيدي لاقتراحي فإن خوفي شديد ولا أنثني عن عزمي، أما اقتراحي فهو أن تأتي في الساعة السابعة من صباح غد، فتحضر إليَّ المال الذي وعدتني به وأذهب معك في مركبتك إلى حيث يقيم الغلام.

ولما رأى اللورد من لهجتها أنه يستحيل إقناعها قال: لا بأس، سأحضر غدًا.

ثم وقف يحاول الانصراف، فنزل الرجل العبوس عن الشجرة وهو يقول في نفسه: لقد قضي الأمر وليس اللورد بالمير الذي يأخذ الغلام بل نحن.

ثم خرج من الحديقة إلى الزقاق بينما كانت العجوز منهمكة بتوديع اللورد ورأى البوليس لا يزال في مكانه فقال له البوليس: ماذا جرى؟

– لم يجر شيء فإنه لا يزال في المنزل فابق في مكانك، وسأذهب أنا فأراقب في الشارع.

ثم تركه وانصرف إلى حيث كان الكاهن والفقير، فأسرع إليه الكاهن وقال: ماذا رأيت؟

– لا حاجة الليلة إلى اقتفاء أثر اللورد فإننا سنظفر بالولد غدًا في مثل هذه الساعة.

– أأنت واثق مما تقول؟

– إني سأقص عليك ما علمت واحكم بعد ذاك.

ثم قص عليه جميع ما سمعه من اللورد والعجوز، وأضاف إلى ذاك قوله: إني واثق كل الثقة ولو كنت أعلم أين شوكنج الآن لذهبت إلى الأرلندية وطَمْأَنتُها، لكن لندرا متسعة ولا بد من الصبر إلى الغد.

– لنصبر والآن هلموا بنا إلى سانت جيل.

وسار الثلاثة إلى تلك الكنيسة، ففتح الكاهن بابها بمفتاح كان بجيبه ودخل مع رفيقيه.

وكان فيها أمام الهيكل رجل عجوز راكع يصلي، ولما رأى الكاهن نهض منذعرًا وأسرع إليه فقال: ألعلك نسيت يا سيدي أن اليوم كان يوم ٢٧ أكتوبر فقد كانت الكنيسة في الصباح غاصة بالمصلين؟

– وا أسفاه إني كنت في السجن للدين الذي تعرفه، فلا تخف هذين الرجلين فإنهما من إخواننا وأخبرني بما جرى.

– إن الناس انتظروا حتى سئموا، فتفرقوا وكان بينهم الأربعة الذين تنتظرهم فانصرفوا مع الناس إذ لم أجد سبيلًا لحملهم على الانتظار.

فقال الكاهن بلهجة اليأس: وأنا لا أجد سبيلًا للاهتداء إليهم، فقد مضى الموعد المعين.

فابتسم الرجل العبوس وقال: أما أنا فسأجدهم.

– كيف؟

– بواسطة الجرائد فإنه يوجد في لندرا مائتا جريدة يقرأها ملايين الناس، فلننشر في جميع هذه الجرائد إعلانًا واحدًا مآله أن كاهن سانت جيل يعلن لطائفته أن الاجتماع الديني الذي كان موعد عقده ٢٧ أكتوبر قد تأجل إلى ٣ نوفمبر، فإذا نشر هذا الإعلان في مائتي جريدة فلا بد أن يطلع عليه أولئك الأربعة القادمون من أرلندا وأيكوسيا وأميركا وبلاد الغال.

– إن الطريقة مضمونة، ولكن أين نجد المال لنشر هذه الإعلانات؟

– تجده عندي إن لدي كثيرًا من الملايين معدة لخدمة أرلندا.

٢٥

ولنعد الآن إلى الأرلندية، إن هذه المنكودة عندما عاد إليها شوكنج فأخبرها أن ابنها غير موجود في منزل فانوش صارت تبكي بكاء مؤلمًا، وهي توشك أن تجن من يأسها، فأخذ شوكنج يعزيها ويعدها الوعود الجميلة، وهي لا تريد إلا بكاء ويأسًا فقال لها: كفاك يا سيدتي بكاء، إن الرجل العبوس لا بد أن يجد ابنك، ويأتي به أينما كان أليس لك ثقة بهذا الرجل الكريم؟ فلم تجبه. فقال: إذا كنت لا تثقين به ألا تثقين بالكاهن صموئيل؟

– ولكنه في السجن.

– إنه سيخرج منه اليوم أو غدًا دون شك، إن الرجل العبوس وعد بإنقاذه وهو لا يخلف وعدًا.

ولبث شوكنج يعزي هذه المنكودة، ويواسيها حتى أذعنت له ورضيت بالذهاب معه إلى غرفة يستأجرها لها، فذهب الاثنان إلى منزل معد للتأجير فاستأجر غرفة للأرلندية وغرفة له وأقام معها طول ذلك النهار.

وكانت قاعدة معه تظهر الجلد، ولكنها لم تكتم في خاطرها قصدًا عزمت على فعله وهو أن تغافل شوكنج وتعود إلى بيت فانوش معتقدة أنها لا تعود منه إلا بولدها.

فلما أقبل الليل تظاهرت أنها في حاجة إلى النوم، فودعت شوكنج ودخلت إلى غرفتها.

أما شوكنج فإنه كان طاهر القلب، سليم النية، ولكنه على طهارة ضميره لم يكن يخلو من عيوب لطول عهده بعشرة الأشرار، فكان أخص ما اقتبسه منهم عادة السكر.

فلما نامت الأرلندية ذكر ما في جيبه من المال، وحن إلى الشرب فخرج من المنزل إلى أقرب خمارة منه، وجعل يشرب وهو يعتقد أن الأرلندية قد أضناها التعب فنامت.

غير أنه كان مخطئًا في زعمه، إن هذه المنكودة سمعت وقع أقدامه على السلم حين خروجه من المنزل فأطلت من النافذة وراقبته حتى رأته اجتاز الشارع فخرجت من البيت، وسارت إلى الشارع المقيمة فيه فانوش وهي تقول في نفسها: سأكرهها على إرجاع ولدي أين كان.

بينما كانت تسير مسرعة، وهي لا تعي لفرط اضطرابها صدمت رجلًا كان قادمًا من الطريق الذاهبة فيها فصاح الرجل صيحة دهش حين رآها، ونظرت الأرلندية إليه فتذكرت أنها رأته أمس في السفينة.

أما الرجل فقد كان اللورد بالمير وكان في ذلك الحين عائدًا من بيت فانوش بعد أن اتفق مع العجوز على ما عرفناه.

وكان شوكنج لم يذكر شيئًا للأرلندية عن اللورد بالمير احتفاظًا بثقتها فيه ولخجله من ارتكاب خيانة التجسس لا سيما بعد أن عنفه الرجل العبوس على ما فعل، لم تجد الأرلندية ما يحملها على الخوف من هذا اللورد.

أما اللورد فلم يكد يراها حتى صاح صيحة دهشة، وعقبها صيحة فرح وقال: أهذا أنت أيتها العزيزة؟

وكانت الأرلندية قد رأته في السفينة يمتاز على سائر ركابها بمظاهر نبله، ثم رأته الآن وهي في أشد مواقف الضيق، شعرت بعاطفة سرية تدفعها إلى الثقة به، سرت لرؤياه وقالت: أحمد الله لالتقائي بك، إن الله قد أرسلك إليَّ.

– ولكني أراك تبكين؟

قالت بصوت يتهدج: إنهم خطفوا ولدي فرده إليَّ بالله، إنك قوي قادر.

وكان اللورد لا يعلم أنهم فرقوا بين الأم والولد.

تأبط ذراعها وقال لها: اصعدي معي إلى هذه المركبة، إني عضو من أعضاء مجلس اللوردية وسأرد لك ولدك بما لي من النفوذ.

امتثلت المنكودة وصعدت إلى المركبة، وقد أشرق في قلبها نور الرجاء، وسارت المركبة إلى منزل اللورد.

أما شوكنج، كان في ذلك الحين آمنًا مطمئنًا، يشرب القدح تلو القدح.

وكانت هذه المنكودة لم تر منذ وصولها إلى لندرا غير الأشقياء والبؤساء ورجال الشر، سرها أن أرسلت لها الأقدار معينًا قويًّا من أعظم رجال المملكة سلطة ونفوذًا وثقة به، إن جميع الذين عرفتهم وعدوها بإرجاع ولدها فما وجدت بينهم من صدق في وعده، وقد وعدها هذا اللورد النبيل مثل وعدهم، فكان أولى منهم بثقتها وأدعى إلى رجائها، وفوق ذلك أن اللورد كان يكلمها بأرق الألفاظ.

ولما عرفها بنفسه وملأ قلبها رجاء قال لها: بقي أن تعلمي أيتها العزيزة أني لم ألتق بك اتفاقًا، إني أبحث عنك منذ أمس في هذه العاصمة المتسعة الأرجاء.

فدهشت وقالت: أنت تبحث عني ولماذا؟

– لأن هذا الولد العزيز الذين تبكين لفراقه أذكرني رجلًا عرفته في عهد شبابي، وهو من خير الأصدقاء. ثم تنهد وقال بلهجة بدا فيها التأثر: وإن هذا الصديق قد مات وا أسفاه لأشرف الغايات.

فارتعشت الأرلندية وذكرت زوجها اللورد.

أما اللورد فإنه مضى في حديثه وقال: إن هذا الحبيب أدمون قد مات في سبيل أرلندا العزيزة، ألا يمكن أن يكون هذا الرجل والد ابنك؟

واضطربت تلك الأم اضطرابًا عظيمًا وقالت: أتدعو هذا الرجل الذي مات مجاهدًا عن أرلندا أدمون وتقول إنك تحبه؟

فتظاهر اللورد بالبكاء وقال: كيف لا أحبه وهو أخي؟

وقالت الأرلندية: وأنا كيف لا أبكيه وهو زوجي، وكيف لا أثق بعد الآن بإرجاع ولدي وهو ابن أخيك؟

فعانقها اللورد عناقًا طويلًا، وقال: لقد عرفت ذاك من عيني الغلام فلا تبكي بعد الآن أيتها الحبيبة فإن ولدك ولدي ودمه دمي وهو عندي.

وأوشكت المسكينة أن تجن من فرحها، وقالت كيف ذلك ألعلك وجدته وكيف تقول أنه عندك؟

– نعم إنه مقيم في قصر من قصوري، يبعد ثلاثين مرحلة عن أرلندا، وأنا مخبرك بكل أمر فإن امرأة مهنتها سرقة الأطفال خدعتك ودعتك إلى منزلها، ففرقت بينك وبين ولدك أليس كذلك؟

– نعم فقد سقتني شرابًا مخدرًا فضاع رشادي.

– ثم ألقوك في الطريق.

– نعم ولما استفقت وجدت نفسي في مكان مجهول.

– أتمي حديثك يا ابنتي.

وقد دفعها إلى الكلام كي يقف على حقيقة أمرها ويؤلف حيلة لخديعتها.

وحكت له كل ما جرى لها بالتفصيل، وكيف اهتم الكاهن والرجل العبوس بأمرها.

وعلم اللورد أن اللذين اختطفوا ولدها لا يريدون به غير المتاجرة، وندم على ما وعد به العجوز إذ كان يعتقد أنها تخون أرلندا بإرشاده إلى الغلام.

وعند ذاك وقفت المركبة أمام باب قصره، فنزل وأنزل الأرلندية فبهتت لما رأته من ظواهر العظمة والجلال، ودخل بها اللورد إلى ذاك القصر المنيف وقال لها: هنا ولد زوجك أخي. ثم مشى بها من قاعة إلى أخرى حتى أدخلها إلى قاعة الاجتماع الكبرى، فجلس وجلست بجانبه وهي منذهلة لما تراه من البذخ والثروة. ثم قرع الجرس فأسرع الخادم إلى إجابته.

فقال: اصعد إلى غرفة مسز ألن وقل لها إن أباك ينتظرك في القاعة الكبرى، وإنه وجد الذي كان يبحث عنه.

فانحنى الخادم وانصرف.

وبعد هنيهة، فتح الباب ودخلت منه صبية تدهش الأبصار بجمالها، وفخامة ملابسها، فخجلت الأرلندية من نفسها لفقر ملابسها، ودنت منها الصبية وحيتها.

وقال لها أبوها: عانقيها يا ابنتي فإنها أرملة الحبيب أدمون.

•••

أما شوكنج فإنه أقام في الخمارة إلى منتصف الليل، فتعشى وعاد إلى غرفته فنام إلى الصباح، وانتظر الأرلندية مدة طويلة فلم تخرج من غرفتها، وقام إلى تلك الغرفة وطرق بابها فلم تجب، فقلق ونظر إلى الباب ورأى المفتاح فيه فأداره وفتح الباب ووجد الغرفة خالية، والنافذة مفتوحة، والفراش على ما كان عليه من انتظام أول الليل.

ونادى عند ذاك صاحبة المنزل، وسألها عن الأرلندية فقالت إنها لم ترها.

وكان في ذلك البيت امرأة من ساكنيه فقالت إنها رأت الأرلندية خارجة من البيت في أول الليل.

فأظلم النور في عيني شوكنج، وأشرف على اليأس وخرج من البيت لا يعي وأخذ يطوف في الشوارع والأزقة المجاورة سائلًا عن الأرلندية ذاكرًا أوصافها فلم يرشده أحد إليها.

وقال في نفسه: لقد فقدت كما فقد الغلام، ولولا إدماني الشراب لما أصبت بهذه النكبة، فويح لنفسي ماذا أقول للكاهن صموئيل، وماذا أقول للرجل العبوس؟

وقد ذكر عند ذاك موعده مع العبوس في محطة كروس فقال: لأذهب إليه فإن هذا الرجل قادر على كل شيء، فهو يجد الغلام وأمه وقد أخطأت ولا بد لي من إخباره بما حدث.

وذهب إلى المحطة فوجد الرجل العبوس بانتظاره، ورأى معه الكاهن صموئيل، فعظم العبوس في عينيه، إذ وفى بما وعد به من إنقاذ الكاهن، لكنه كان مضطرب الوجه متلعثم اللسان، ولم يعلم منه العبوس خبر اختفاء الأرلندية إلا بعد الجهد، ولما أتم حكايته قال له: ألم تهتد إلى المكان الذي يمكن أن تكون فيه.

فقال شوكنج: لو كنت أعلم ذاك المكان لكنت ذهبت إليه.

فهز الرجل العبوس رأسه وقال: ألا تذكر أنك أوقفت اللورد بالمير على أثرها فمن من الناس غيره يهتم بشأنها؟

فقال الكاهن: أتظن أن اللورد اختطفها؟

– لا أقول ذاك على سبيل الظن بل إن لي ملء الثقة، وإذا كانت الأرلندية قد اختطفت فهي دون شك عند اللورد بالمير.

ولما سمع شوكنج كلامه هم بالذهاب.

فقال له العبوس: إلى أين؟

– إلى بيت اللورد.

– كلا لم يحن الوقت، إذ يجب أن نجد الابن قبل الأم.

– متى نجده؟

– في هذا المساء ونحن في حاجة إليك فهلموا بنا لأن الوقت فسيح لدينا.

٢٦

كان اللورد بالمير يتحدث مع ابنته في الساعة السابعة من المساء.

وكانت ابنته مسز ألن من الفتيات اللواتي إذا شبهت بالثمرة، فقد يقال فيها إنها نضجت قبل أوان النضج، فإنها على غضاضة شبابها، وما يدعو إليه سنها من الاندفاع في تيار الصبا.

كانت تتشاغل عن ملاهي النساء على فرط جمالها بأحاديث السياسة وآراء العلماء. ولم يفتها شيء من دقائق تاريخ بلادها، وأسرار الثورة الأرلندية، وكانت تشبه أباها بكره أرلندا، وهي مهد أسرتها وأم آبائها، وتكره كل ممالئ لها على الإنكليز، بحيث كانت أعظم نصير لأبيها في تلك الأغراض.

وكان أبوها في تلك الساعة يحدثها عن الأرلندية وابنها، فبدأت بمعارضته قائلة: إني لم أدرك قصدك إلى الآن.

– لكنه بسيط فإني أريد الاستيلاء على الغلام، وحرمان الأرلنديين منه إذ قد يتولى زعامتهم متى ترعرع وبلغ رشده.

– إن القصد حسن، لكن.

– لقد فهمت ما تريدين فإنك تنكرين علي تربية الغلام الذي لطخ أبوه اسم عائلتنا بموته شنقًا.

– هو ذاك.

فابتسم وقال: أصغِ إليَّ يا ابنتي فإني بت واثقًا الآن أن الغلام لم يسرقه الأرلنديون ليجعلوه رئيسًا لهم، بل اختطفته امرأة لتبيعه من عائلة تتبناه، وهنا لا بد لك أن تعجبي كيف أني أسعى إلى إنقاذه وحقي أن أدعه وشأنه بين أولئك السارقين، لكن أصغي إليَّ إصغاء تامًّا تعلمي قصدي.

إني أريد الاستيلاء على الأم وابنها وإرسالهما إلى قصرنا، في ضواحي فلاسك، فأملق الولد كل تمليق، وأوهم الأم أني أرلندي المشرب، وأني عامل على استقلال أرلندا بالسر، ثم أعين للغلام كثيرًا من الخدم والمرشدين يربونه على ما أريد.

– ولكن أمه تربيه على ما تريد وتدربه على حب أرلندا؟

فابتسم اللورد ابتسام الأبالسة وقال: إن الأم قد تموت فإن المرء معرض للموت كل حين.

فقد تسقط من شاهق فتقتل، أو تشرب ماء باردًا إثر تعب فتموت، أو تأكل أكلة تتخمها، وأكثر موت الناس بالتخم، فلنفرض أن الأم ماتت عن ولدها وهو في الثانية عشرة من عمره، فإذا ربيناه على حب الإنكليز، لا يبلغ سن الشباب حتى ينسى أرلندا والأرلنديين، وإذا كان إنكليزيًّا صادقًا، فإنه يخلفني في مجلس اللوردية بعد موتي.

واندهشت الصبية وقالت: ماذا أسمع يا أبي إني لا أفهم ما تقول.

– إني أريد أن أجعل هذا الغلام زوجًا لك يا ألن.

فامتعض وجه الفتاة وظهر النفور والكبرياء بين عينيها قائلة: أنا أتزوج هذا الشريد الطريد المتسول؟

– لا تنسي يا ابنتي أن أباه أخي وفوق ذاك فإني لم أقل لك كل ما في نفسي بعد ومتى علمت كل قصدي هان الأمر عليك.

– إني مصغية إليك.

– أول ما أبدأ به أني في عرف الناس من أغنى الأغنياء، لكني في الحقيقة أوشك أن أكون فقيرًا فقد خسرت ثلاثة أرباع ثروتي في تلك الهوة التي يدعونها البورصة، وأصل ثروتنا أن أبي حين تخلى عن أرلندا، وهو يومئذ رئيسها وحالف الإنكليز كافأته الحكومة أعظم مكافأة فمنحته معظم أراضي العصاة التي ضبطتها بحيث بات جدك أعظم غني في بلاد الإنكليز.

ولم يكن يخطر له في بال أن أخي أدمون سيخون الإنكليز ويعود إلى أرلندا، فقسم تلك الثروة العظيمة بيني وبينه قبيل وفاته بإذن خاص من البرلمان، فإن حق الإرث في الأسرات النبيلة للبكر كما تعلمين، فبت كثير الغنى ولكني لم أنل غير نصف ثروة أبي.

– وماذا جرى للنصف الآخر؟

– ضبطته الحكومة حين شذ أخي عن طاعتها، وذهب إلى أرلندا وتولى زعامة الثائرين، لهذا أردت أن أربيه على حب الإنكليز، فإذا اشتهر أمره تمكنت من حمل الحكومة على إرجاع مال أبيه إليه، وإذا تزوجت به تزوجت رجلًا غنيًّا تحفظين به مقام أسرتك ونفوذها فهل تجدين نفورًا منه بعد الآن؟

– كلا يا أبي، ولكن كم عمر هذا الغلام؟

– عشرة أعوام.

– وأنا لي من العمر ستة عشر عامًا.

– وماذا عليك إذا كان أحدث منك فإن الزواج أصبح في هذه الأيام زواج غايات، فإذا تزوجته تزوجت ثروته، وهذا كل ما يطلب منك فعله.

– لقد رضيت والآن أتعلم أين هو الغلام؟

– كلا فإن المرأة العجوز سترشدني إليه، وقد حان الموعد ولا بد من الذهاب الآن.

– أتذهب وحدك، ألا تخاف مكيدة في شارع لا يسكنه غير الأرلنديين؟

– لقد حذرت قبل أن تحذريني فطلبت إلى رئيس البوليس أن يرسل إلى ذاك الشارع أربعة متنكرين من رجاله يعرفونني فلا خوف علي وهم يخفرونني، والآن إني ذاهب في مركبة للأجرة فاعتني بالأرلندية وابذلي الجهد في حملها على الثقة بنا.

– لم يبق لنا حاجة بذلك فقد باتت ثقتها بنا لا حد لها بعد أن أريتها صورة زوجها أدمون.

وقبل اللورد جبين ابنته وانصرف.

وبعد خمس دقائق كان اللورد في الشارع، فرأى مركبة واقفة معدة للأجرة فصعد إليها وأمر السائق أن يسير إلى ديدلي ستريت، وانطلقت المركبة ودفعها السائق فجعلت تنهب الأرض نهبًا، لا جرم فإن شوكنج كان فيما مضى من عهده من سائقي المركبات الماهرين.

وذهبت المركبة فمرت بشارع دبر وستمنستر فشارع البرلمان إلى أن مرت بشارع الأميرالية، فأوقف اللورد المركبة وأطل من نافذتها فرأى رجلين واقفين فأسرعا إلى المركبة.

فقال له أحدهما: نحن الذين تنتظرنا يا حضرة الميلورد.

وفتح لهما باب المركبة قائلًا: إذن اصعدا.

فصعد الرجلان وجلسا أمامه، ودفع السائق المركبة إلى حيث أمره اللورد أي إلى بيت فانوش.

ولما وقفت عند بابه خرج اللورد وطرق الباب، فأسرعت إليه العجوز إذ كانت في انتظاره.

وقالت: لقد خفت في البدء أن لا تعود، ثم تعلمت حينًا بهذا الرجاء، وتمنيت أن لا تعود لشدة خوفي.

– مما تخافين؟

– من أولئك الذين سأخونهم فإنهم إذا عثروا بي قتلوني لا محالة.

فأخرج اللورد محفظته من جيبه، وقال لها ببرود: لقد أحضرت لك المال الذي طلبتيه، وتذكرة السفر في القطار الذي يبرح لندرا إلى بريتون عند منتصف الليل.

فمدت العجوز يدها بلهف لتقبض المال، غير أن اللورد أرجع المحفظة إلى جيبه وقال لها: لا أعطيك شيئًا إلا بعد أن أرى الغلام فأوصلك بنفسي إلى المحطة.

فظهرت علائم الريب على العجوز، وقالت: من يضمن لي أنك لا تخدعني؟

– يضمنه اسمي فإني أدعى اللورد بالمير.

– لقد وثقت بك، لكن ماذا عزمت أن تصنع بالغلام؟

– أريد أن أرده إلى أمه.

فاضطربت العجوز اضطرابًا شديدًا لاعتقادها أن الأرلندية في قعر التيمس، وقالت: أين هي أمه؟

– إنها عندي وقد وصلت إلي بعد أن نجت من الموت بشكل عجيب، أرأيت كيف أني عالم بكثير من الأسرار، فلا تضيعي الوقت عبثًا، واعلمي أني أحضرت معي بوليسين سيذهبان معنا، فإما أن تهديني إلى الغلام فأدفع لك المال وأوصلك إلى المحطة، وإما تمتنعي فأسلمك إلى البوليسين.

فهلع قلب العجوز وقالت: إني أقسم لك يا سيدي أني أرشدك إلى موضع الغلام.

– إذن هلمي بنا.

فخرجت من المنزل، ودخلت مع اللورد إلى المركبة، ورأت فيها رجلين كما قال، غير أنها لم تتبينهما، لأن مركبات لندرا لا مصابيح فيها، فسألها اللورد: إلى أين ترغب الذهاب.

– إلى همبستماد في شارع ماتمونت نمرة ١٨.

– أنجد الغلام هناك؟

– دون شك.

فأمر اللورد السائق أن يسير إلى الجهة التي عينتها العجوز فامتثل السائق وهو شوكنج كما عرف القراء.

وبعد ساعة وصلوا إلى المكان المعين فرأوا منزلًا صغيرًا تحيط به حديقة متسعة، فأمر اللورد العجوز أن تخرج من المركبة كي ترشدهم فذعرت وقالت: أسألك بالله أن تبقيني في المركبة فإنهم يقتلونني دون شك إذا رأوني.

– إذن ابقي فيها فإن المال معي، ولا أخالك تهربين دونه.

ثم خرج من المركبة وخرج في أثره الشخصان المتنكران، فدنا من الباب وحاول أن يقرعه.

غير أن أحد الشخصين حال دونه وقال له: لا يجب أن ننبه أهل البيت بطرق الباب.

– ولكن كيف ندخل إليه؟

– لقد تحسبت لكل شيء.

ثم أخرج من جيبه حلقة ضخمة فيها كثير من المفاتيح المختلفة الأشكال، وأخذ يعالج الباب بتلك المفاتيح، حتى فتحه وقال للورد: تفضل يا سيدي بالدخول.

فدخل اللورد آمنًا مطمئنًا، ودخلا في أثره وأقفلا الباب ثم انقضا عليه فجأة وألقياه إلى الأرض وقيداه ووضعا في فمه كمامة، وعلى عينيه عصابة وألقياه عند جذع الشجرة.

وعند ذاك قال أحدهما لرفيقه: هلم بنا الآن لنبحث عن الغلام.

وكان هذا الرجل المتنكر العبوس كما كان سائق المركبة شوكنج.

٢٧

ولنعد الآن إلى حيث تركنا الغلام مع خادمة فانوش، فإن تلك الخادمة انهالت عليه بالسوط، وضربته ضربًا مؤلمًا فجعل يصيح وهو كلما صاح زادته ضربًا.

وعند ذاك فتح الباب فجأة، ودخلت منه فانوش وكانت الخادمة لا تزال تضربه فصاحت بها فانوش صيحة قوية، وهجمت عليها وانتزعت السوط من يدها، وطردتها من الغرفة فخرجت الخادمة دون أن تفوه بكلمة.

وعادت فانوش إلى الغلام، وضمته إلى صدرها، وجعلت تقبله وتسترضيه فنفر منها وقال لها: أين أمي؟

فقالت له بلطف: إن أمك يا بني قد سافرت إلى حين وعهدت إليَّ بالاعتناء بك.

فنظر إليها نظرة رجل فاحص كأنه يريد أن يخترق خفايا قلبها وقال: إنك تخدعينني.

– وأي غرض لي بخداعك يا بني وأنت ترى عطفي عليك، أما أمك فقد سافرت حقيقة لكنها ستعود؟

– متى تعود؟

– غدًا.

– إنك تخدعينني أيضًا، وأنا أريد الذهاب من هذا المنزل.

– إلى أين تذهب يا بني؟

– إلى اللحاق بأمي.

– ولكن هذا مستحيل، فإن أمك سافرت.

وضرب الأرض بقدمه وقال: إني أريد أن أخرج من هذا البيت. ثم مشى إلى الباب.

واعترضته فانوش وقالت له بلطف: قلت لك يا بني إن أمك مسافرة، فإذا أردت أن نعاملك معاملة اللين واللطف، وجب عليك أن تكون هادئًا مطواعًا لنا وإلا …

– اضربيني كما تشائين، لكني دعيني أخرج من هنا.

فأجفلت فانوش لما رأته من عناد الغلام، ونادت الخادمة فأقبلت وبيدها السوط، فقالت لها: أدخلي هذا المتمرد إلى مضجعه.

ثم خرجت وتركته مع الخادمة، فأخذت الخادمة يده وجرته بعنف، فكان يصيح وهي تضربه ويستغيث بأمه باكيًا، حتى لم يعد يستطيع صبرًا على الضرب، فكف عن المقاومة والاستغاثة ودخل إلى مضجعه، فجلست الخادمة بقربه تتهدده بالسوط إلى أن دب النعاس إلى جفنيه فنام.

ولما صحا رأى أشعة الشمس قد ملأت غرفته، وأجال في تلك الغرفة نظرًا حائرًا، ورأى أنه وحيد فيها وعاد إلى مناداة أمه.

ففتح الباب ودخلت فانوش وهي تبتسم، وحاولت أن تقبله فدفعها عنه وقال: أريد أن أرى أمي.

– إنها ستعود غدًا.

وتظاهر الغلام بتصديقها، وكف عن البكاء والسؤال.

فجعلت فانوش تملقه وتلاطفه وتعده بقرب عودة أمه، ثم أذنت له أن يلعب في الحديقة.

ونزل إليها وأقام فيها نحو ساعتين يتسلق من شجرة إلى أخرى حتى مل اللعب، وعاد إلى البيت وقد علم أنه غير البيت الذي كان فيه مع أمه وقال في نفسه: لا بد لي من الهرب منه والذهاب إلى البيت الذي تقيم فيه أمي إذ أجدها دون شك.

وقد تجسم هذا الخاطر في فكره، فلم يعد يفتكر إلا بالفرار، لكن فانوش كانت كل النهار معه، فصبر صبر الرجال بعد أن قرر خطة الفرار، وتظاهر أمامها بملء الطاعة والانقياد، فباتت واثقة من إدراك قصدها منه.

وبعد العشاء قالت له: لقد حان وقت الرقاد فهلم إلى غرفتك.

ولم يعترضها ودخل معها طائعًا ساكتًا، فخلعت عنه ملابسه وأرقدته في مضجعه، ثم أقفلت الباب وخرجت إلى غرفة أخرى، وأقامت مع خادمتها تتحدثان.

أما رالف فإنه صبر ساعة، ثم قام فلبس ملابسه جميعها دون الحذاء، وعول على الفرار واثقًا من إدراك أمه إذ لم يكن يعلم شيئًا من اتساع لندرا، وهو يحسبها لحداثته كالقرية التي ولد فيها.

ولما أتم ملابسه فتح النافذة المطلة على الحديقة، وهناك شجرة كبيرة تتصل أغصانها بالنافذة تتدلى منها إلى الحديقة دون أن يسمع له حس.

وبينما كان الغلام قد وثب إلى الحديقة، كانت المرأتان تتحدثان، وكانت الخادمة تلوم فانوش لإخبارها العجوز بأنها أتت بالغلام إلى هذا المنزل، وكانت فانوش تخطئها لعدم الثقة بالعجوز، إذ لا يوجد ما يحملها على الخيانة.

وفيما هما تتحدثان سمعتا حركة فقالت فانوش: ما هذه الحركة التي أسمعها ألعلها صادرة من غرفة الغلام؟

– كلا، بل يخال لي أنها من الحديقة، وإني أسمع وقع خطوات.

– وكيف يكون ذلك وباب الحديقة محكم الإقفال؟

– لا أعلم.

ثم أصغت قليلًا وتابعت: إني أسمع وقع خطوات، وإن الخطوات تقترب.

واصفر وجه فانوش لأنها سمعت أيضًا صرير مفتاح في قفل باب المنزل، ثم وقفت موقف الحذر وقالت: الويل لهم إذا كانوا لصوصًا فإني لا أخافهم.

لكنها لم تكد تتم كلامها حتى فتح باب الغرفة، ودخل منه رجلان وهما الرجل العبوس والفقير.

وكان بيد العبوس مسدس فصوبه على فانوش وقال لها ببرود: لا حاجة إلى الصياح يا سيدتي فما نحن من اللصوص، لكني أريد أن أحادثك، ويجب أن تصغي إليَّ.

فذعرت فانوش وراعتها نظرات هذا الرجل الساحرة، فلم تقو على النظر إليه وطأطأت رأسها ثم قالت: من أنت وماذا تريد؟

– أتعرفين اللورد بالمير يا سيدتي؟

فاطمأنت فانوش لسماعها اسم رجل من أعضاء البرلمان وقالت: كلا.

– إن هذا اللورد يبحث الآن عن ابن أخيه.

– إني لا أفهم ما تقول.

– لكنك ستفهمين، فإنك تقيمين في الشارع الأرلندي، ومهنتك تربية الأطفال ولك شريكة عجوز وهي التي أرشدت اللورد إلى منزلك هذا، وباعته أسرارك بمبلغ جزيل.

فقالت لها الخادمة: أرأيت كيف صدق ظني لحذري من هذه الخائنة؟

وعاد الرجل العبوس إلى محادثتها فقال لها: لكن هذه العجوز لم تقبض المال بعد لحسن الحظ؛ فأَعطِينا الغلام وخذي أنت المال.

وظهرت على فانوش علائم الفرج، ونظرت إلى غرفة الغلام كأنها تستوثق من إقفال بابها.

وباغت الرجل العبوس هذه النظرة وقال: لقد عثرنا به هذه المرة.

ثم وثب إلى باب الغرفة وفتحه، ولكنه ما لبث أن دخل حتى وقف على عتبة الباب حائرًا مبهوتًا؛ لأنه لم ير الغلام ولكنه رأى سريرًا صغيرًا عليه أثر الغلام، فدنا منه ووضع يده عليه فوجده لا يزال حارًّا.

ونظر إلى النوافذ فرأى إحداها مفتوحة، وهي التي تطل على الحديقة فأطل منها، فلم ير أحدًا.

وعند ذلك دخلت المرأتان وصاحتا صيحة دهش صادقة لم يشكك الرجل العبوس بعدها أن الغلام قد هرب من النافذة دون أن تعلما، فتسلق الشجرة ونزل إلى الحديقة كما نزل الغلام وبحث في جميع ضواحيها وأطرافها، فلم يجد له أثر إلى أن وصل إلى شجرة تصل أغصانها إلى أعلى الجدار، ورأى غصنًا منكسرًا ساقطًا منها، وعلم من الكسر أنه حديث فأيقن أن الغلام قد تسلق هذه الشجرة إلى سور الحديقة، ووثب منه إلى الشارع.

وكان الفقير قد أدركه إلى الحديقة، وكذلك شوكنج فقال لهما الرجل العبوس: إن الغلام لم يهرب إلا من زمن قريب، ولا بد أن نجده في همبستاد فهلموا نبحث عنه.

ثم خرج الثلاثة باحثين عن الغلام، وقد ترك العجوز في المركبة وهي توشك أن تجن من الخوف واللورد بالمير مقيدًا مكمومًا مبرقعًا ملقى في الحديقة على الأرض.

٢٨

ولنعد الآن إلى مس ألن ابنة هذا اللورد، فإنها كانت تنتظر عودة أبيها وقد جلست مع الأرلندية تلاطفها وتعدها أجمل الوعود، وتمنيها بمستقبل ابنها التماسًا لثقتها بها وبأبيها.

غير أن الأرلندية كانت في غنى عن هذه الوعود، فإن ثقتها باتت قوية باللورد حين رأت في قصره صورة زوجها، وهو في العشرين من عمره، ولم يخطر لها أن اللورد يحقد عليه؛ لأنه لم يخبرها بشيء من ماضيه.

وبقيت مس ألن معها إلى منتصف الليل، وهما في غرفتين متجاورتين، ثم استأذنت منها وسألتها أن تستريح بالنوم قائلة إن اللورد لا يعود بابنها قبل الصباح؛ لأن القصر الذي وضعه فيه بعيد، فاطمأنت الأرلندية وذهبت مس ألن إلى غرفتها.

وقد استبطأت أباها وباتت عرضة للهواجس والأفكار، ففتحت نافذة غرفتها وأشرفت منها على حديقة القصر الغناء تستنشق النسيم العليل، وتفرج كربة السأم بمناظر الأشجار.

ثم ملت هذه المناظر فجلست قرب مكتبتها، وأخذت كتابًا فجعلت تقرأ فيه وهي مولية ظهرها للنافذة المفتوحة.

وفيما هي تقرأ وتشاغل نفسها بالمطالعة، عن غياب أبيها سمعت صوت حركة في الغرفة، فالتفتت ورأت رجلًا واقفًا وراءها مشهرًا بيده خنجرًا، وهو ينظر إليها بعينين براقتين فعلتا في نفسها فعل الكهرباء بالجسم، وعقد لسانها عن الصياح.

أما الرجل العبوس فإنه دنا منها وقال: احذري أن تستغيثي إذا كنت تؤثرين السلامة.

وتراجعت منذعرة وعيناها شاخصتان إلى هذا الرجل الذي تجاسر على إنذارها بالقتل، وهي لم تره مرة من قبل.

على أن هذا الرجل كان جميل الملابس تدل هيئته على أنه من الأشراف، وكان أعجب ما فيه عينيه، فقد كان لهما سلطة غريبة على القلوب تغض لهما الأبصار.

وكأنما مس ألن قد اطمأنت قليلًا لهيئته، فحلت عقدة لسانها وقالت له: من أنت وماذا تريد وكيف دخلت إلى هنا؟

– إني أسألك العفو مرارًا يا مس ألن فقد أكرهت على الدخول إلى غرفتك من النافذة، إذ لا يجب أن يراني أحد.

وكان يقول لها هذا الاعتذار بلهجة لطيفة، أثرت في فؤادها أكثر من تأثير عينيه، وخافت تلك النظرات أكثر مما خافت من الخنجر.

فعادت إلى سؤاله عما يريد وقد استندت إلى الجدار حذرًا من السقوط لفرط اضطرابها.

فقال لها: إني آتٍ يا سيدتي لأكلمك باسم أبيك.

فدهشت الفتاة وقالت: باسم أبي؟

ثم جعلت تنظر إليه نظرات الدهش فأخرج خاتمًا من إصبعه، وأعطاها إياه وقال لها: أتعرفين هذا الخاتم؟

فنظرت الفتاة إلى الخاتم وقالت: نعم، إنه خاتم أبي فهل هو أعطاك إياه؟

فابتسم الرجل وقال: نعم ولا يا سيدتي أي إن الخاتم برهان على أن أباك في قبضة يدي، وأن حياته متعلقة بحياتي.

فذعرت الفتاة وقالت: ولكن من أنت أيها الرجل؟

– إن اسمي لا يفيدك شيئًا، يا سيدتي، فإنهم يدعونني «الرجل العبوس».

ثم دنا منها أيضًا وقال: يوجد عندكم يا سيدتي، امرأة تدعى حنة الأرلندية.

فعاد إلى الفتاة بعض ثباتها وعنفوانها فقالت له: ماذا يهمك شأنها؟

فقال لها العبوس بملء السكينة. إنك تسأليني يا سيدتي سؤالًا يحق لك سؤاله ولذلك أجيبك عنه فأقول: إن اللورد بالمير أباك كان منذ يومين في سفينة يجتاز النهر فلقي هذه المرأة مع غلامها، وعلم من ملامح الغلام أنه ابن أخيه السير أدمون بالمير.

وحاولت الفتاة أن تصيح صيحة دهش، غير أن نظرات هذا الشخص ضغطت عليها فسكتت.

وعاد إلى الحديث فقال: إن اللورد بالمير قد اختطف هذه المرأة، وجاء بها إلى منزله وعول على اختطاف الغلام أيضًا لفرط اهتمامه بهما، ولما كنت أنا أيضًا أهتم بهذه المرأة وغلامها فقد خاطرت بالدخول إلى غرفتك، وتسلقت سور الحديقة ثم تسلقت الأشجار إلى النافذة، بحيث لو رآني البوليس أو خدم القصر لقضيت بقية أيامي في أعماق السجون.

فزادت دهشة مس ألن وجعلت تنظر إلى هذا الرجل نظرة الفاحص، فتراه على أحسن حال ثم تراه يكلمها بملء السكينة كأنما قد جاءها بعد موعد، ولكنها كانت مصغية إليه فلم تجبه.

ومضى العبوس في حديثه فقال: إني فعلت أعظم مما رأيت مني إني قبضت على نبيل من مجلس اللوردية، فقيدته ووضعت في فمه كمامة. فاحذري من أن تفوهي بحرف، فإني إذا لم أخرج من هنا حرًّا سالمًا فإنك لا ترين هذا اللورد المقيد إلى الأبد، وهو أبوك لأن حياته موقوفة على حياتي.

ثم قال: وهي تنظر إليه نظرات ممزوجة بين الرعب والإعجاب: إن الأرلندية في هذا المنزل، وأنا أريد أن أراها.

وقد قال هذا القول بلهجة سيادة هاجت كبرياء الفتاة فقالت: لم يقل أحد لي كلمة أريد قبل الآن.

– وأنا أعتذر إذا كنت أول من قالها لك، وقد ألجأتني الضرورة فلا تضيعي الوقت لأن حياة أبيك في خطر، وقد يحدث عن امتناعك …

فقاطعته الفتاة وقالت: ما يضمن لي صحة ما تقول؟

– يضمنه خاتم أبيك الذي أريتك إياه.

فعضت شفتها ولم تجب. فقال لها: إذن، أرجوك أن تذهبي بي إلى غرفة الأرلندية.

وكانت نظراته لا تزال ضاغطة عليها، تفعل فيها فعل السحر. وفوق ذلك فقد أيقنت أن أباها معرض للخطر. ففتحت باب غرفتها ودلته على غرفة الأرلندية المجاورة لغرفتها، فقال لها قبل أن يخرج: لي كلمة أيضًا يا سيدتي.

– قل.

– لقد قلت لك إن أباك في خطر، إلا إذا خرجت من منزلك حرًّا سالمًا. واحذري أن تنادي خدمك لأني إذا لم أعد إلى عصابتي عند الفجر، يصبح اللورد بالمير جثة لا حراك فيها.

ونظرت إليه نظرة هائلة دلت على ما في فؤادها من الحقد وقالت: سأعمل ما تريد لكنك إذا سلمت اليوم لا تسلم غدًا.

– قد تدركون ما تريدون مني في الغد. أما اليوم إن السيادة لي.

ثم فتح باب غرفة الأرلندية ودخل. فسقطت تلك الفتاة المتكبرة على كرسي وقد وهت قواها. ثم غطت عينيها بيديها كأنها تخاف أن تصيبها نظرات ذلك الشخص.

وكانت الأرلندية لا تزال ساهرة تصلي، وهي تنتظر عودة اللورد بابنها. وقد كان الحديث بين الرجل العبوس والفتاة بصوت منخفض، فلم تسمع شيئًا منه. ثم إنها لم تشعر بدخول الرجل إليها لانصرافها إلى الصلاة حتى دنا منها ووضع يده على كتفها فالتفتت إليه منذهلة. فأسرع إلى إسكاتها بإشارة وقال لها: أستحلفك باسم ولدك أن تصغي إليَّ، وأن لا تصيحي أدنى صيحة تنبه إلينا الخدم.

وعرفته الأرلندية بالرغم من تغيير زيه، وذكرت أنه أنقذها من يد البحار فقالت له باطمئنان: ماذا تريد مني؟

– إني آتٍ لأكلمك باسم زوجك الميت وابنك الحي.

فارتعشت تلك الأم لاسم ولدها وقالت: إنهم سيردونه إليَّ.

– وأنا آتٍ يا سيدتي لأكلمك أيضًا باسم أرلندا التي تحاولين خيانتها دون أن تعلمي ما تفعلين، بل أنا آتٍ باسم هذا الكاهن الذي جئت بولدك من أرلندا لتقدميه إليه.

ونظرت إليه منذهلة وهي لا تعلم ما يريد فقال: أنت يا امرأة السير أدمون أتعلمين أين أنت الآن؟

– إني في منزل أخو زوجي، وحامي ولدي.

– بل أنت في قبضة قاتل زوجك، ومضطهد ولدك، بل أنت في منزل ذلك الخائن الذي دمر أرلندا وقتل منقذيها.

– إنك كاذب دون شك.

فوضع يده فوق صدره وقال: إني أقسم لك باسم ولدك الذي لا يرده إليك سواي إني لا أقول غير الحق.

– ماذا تقول عن ولدي؟ إن اللورد بالمير سيأتيني به، قبل أن يطلع الصباح.

فأجابها ببرود: إن اللورد بالمير لا يعود إلى منزله، إلا إذا خرجت أنت منه!

– كيف ذلك أتريد أن أبرح هذا المنزل؟

– إني باسم زوجك الميت، وولدك الحي، والكاهن الذي ينتظرك، وأرلندا التي تعتمد عليك، أدعوك إلى الخروج من هذا المنزل والذهاب معي.

وكانت الأرلندية تنظر إليه نظرات الريبة، فما خفي ذلك على العبوس وقال: أرى أنك غير واثقة بي.

فأطرقت ولم تجب.

وتابع قائلًا: إنك لا تثقين بي كما أنك لم تثقي بالكاهن؛ لاسترسالك بثقتك إلى شقيق زوجك وما هو إلا قاتله.

– من يضمن لي صدق ما تقول؟

– لقد أصبت فقد وعدتك في المرة الأولى أن أرد لك ولدك فما فعلت فصار يحق لك أن لا تصدقي الآن ما أقول.

– رد لي ولدي أصدقك في كل شيء.

– إني لا أستطيع رده إلا إذا خرجت أنت من هنا. واسمعي السبب إن ابنك قد اختطفته امرأة تتاجر ببيع الأطفال، لكنه لو كان عندها أو لو كان شريدًا تائهًا في أحياء لندرا لما لقي من الخطر نذرًا مما يلقاه في منزل اللورد بالمير. وماذا قال لك هذا اللورد؟ إنه قال إني أخو زوجك وإن ولدك ولدي ومنزلي منزلك.

– نعم لقد قال لي هذا الكلام.

– وهو سيفي بوعده فتعيشين في بيته عيشة كرائم العقائل، وينشأ ابنك عنده كما ينشأ أبناء النبلاء، لكنك أنت قد تموتين.

– وماذا علي من الموت إذا غادرت ولدي سعيدًا؟

– لقد أصبت، إنه قد يبلغ أقصى درجات السعادة. لكنه ينشأ يا امرأة السير أدمون محبًّا لإنكلترا، كارهًا لأرلندا وشهدائها، ومنهم زوجك الفقيد.

فارتعشت وقالت: ماذا تقول؟

– أقول إن زوجك مات شهيد أرلندا، وهو يلعن إنكلترا. لكن اللورد بالمير كان من أشد أعضاء البرلمان نفوذًا، وكان يستطيع إنقاذ أخيه من الشنق، لكنه رضي له الموت وقتل الأسد، وهو الآن يريد أن يجعل الشبل إنكليزيًّا فينتقم مرتين.

إن ابنك قد يصبح لوردًا نافذ الكلمة، عظيم الجاه، كارهًا لأرلندا متشيعًا للإنكليز ويعيش عيشًا سعيدًا، غير أن أباه في قبره ينكره ويأنف أن يكون والدًا له أفترضين بهذا؟

فذعرت الأرلندية وقالت له: كفى بالله! إن ابني لا يكون إنكليزيًّا ما حييت.

– إذن، اعلمي أنك إذا خرجت معي من هذا المنزل يغدو ابنك فقيرًا ويعيش عيش الشقاء والجهاد. لكنه يغدو زعيمًا لجيش سري، وإن هؤلاء الجنود الأمناء، قد يضحون اليوم بدمائهم في سبيل الوطن، لكن لا بد لهم أن ينتصروا، ويطردوا الإنكليز من أرلندا، فتذكري كلام زوجك السير أدمون واختاري.

وكأنما ذكرى زوجها قد فعلت بها فعل السحر فوقفت قائلة هلم بنا، إني رضيت أن أبرح هذا المنزل.

– كلمة أيضًا يا سيدتي، إن ابنك لم نجده بعد، لكن لا بد لنا أن نجده لأن أرلندا تبحث عنه الآن لتجعله رئيسها.

– لقد وثقت بكلامك لكن أتظن أن اللورد بالمير كان يخدعني حين وعدني أن يعود بولدي؟

– كلا، لكنه فشل كما فشلنا، لأن المرأة التي سرقت ولدك ذهبت به إلى همبستاد، وعرف اللورد بالمير المنزل الذي خبأته فيه وذهب لإحضاره مع شخصين كنت أنا أحدهما.

فتعجبت قائلة: كيف أنت؟

نعم، لأنه كان يحسبني من رجال البوليس السري، ولما وصلنا إلى المنزل وجدنا أن ابنك قد هرب منه.

لكن ذلك لا يحمل على الخوف؛ لأنه سوف يتوه في الأزقة ساعة أو ساعتين فيهتدي إليه البوليس، ويأخذه إلى الدير كولد متشرد، فيبيت فيها بمأمن إلى أن نذهب ونطلبه.

– أتقول الحق؟

– دون ريب لأنه لا يجد في الأزقة من الخطر معشار ما تجدينه ويجده في منزل هذا اللورد.

– لقد وثقت بك يا سيدي، لأن عينيك وقلبي يحملاني على الثقة بك، والركون إليك.

– أشكرك باسم أرلندا، هلمي بنا لأن الكاهن صموئيل ينتظرنا خارج الباب فقد أخرجته من السجن.

– ليكن ما تريد، هلم بنا.

فتأبط العبوس ذراعها، وذهب بها إلى غرفة مس ألن فقال لها: إنك يا سيدتي قد وفيت بشيء مما طلبته إليك، لكن بقي لي عندك مأرب ولا تزال حياة أبيك في خطر حتى تقضيه.

– ماذا تريد مني؟

– أريد أن توصلينا إلى باب الحديقة الخارجي؛ لأننا سنخرج من ذلك الباب إلى الزقاق، فلا يشعر بنا أحد.

فنظرت مس ألن إلى الأرلندية وقالت لها بلهجة العتب: إذن عولت على فراقنا، والذهاب مع هذا الشخص؟

– هذا ما تريده أرلندا.

فحاولت أن تجيبها، غير أن نظرات الرجل العبوس كهربتها، فحملت بيدها المصباح، وسارت أمامهما من رواق إلى رواق حتى انتهوا إلى الحديقة، ففتحت بابها الخارجي مغضبة حانقة وقالت للرجل العبوس: هو ذا قد بلغت ما أردت.

فقال لها متهكمًا: إلى اللقاء يا سيدتي.

فهاجت فيها عوامل الكبرياء والحقد وقالت: نعم إلى اللقاء ولا بد لنا أن نلتقي، وسيكون بيننا ما يقل دونه الموت.

٢٩

ولقد كان الرجل العبوس صادقًا فيما قاله عن الغلام، فقد تفرق هو وشوكنج والفقير في جميع جهات همبستاد، باحثين سائلين عن الغلام، فلم يجدوه لأن الغلام بعد أن نزل من النافذة إلى الحديقة، لم يكن يجول في خاطره غير الهرب من فانوش وما لقي في منزلها من العنف.

وكان يعتقد أنه إذا خرج من المنزل لا بد أن يجد أمه؛ لذلك أسرع إلى تسلق سور الحديقة، فسقط مرارًا وتهشمت يداه ورجلاه الصغيرة، ولكنه كان كلما سقط زاد همة وعزيمة. وعاد إلى تسلق الجدار، مستعينًا بما يكتنفه من الأشجار حتى بلغ مراده، وبلغ إلى أعلى الجدار فتدلى منه وألقى نفسه إلى الشارع العام ذاكرًا اسم أمه فقط، ورض جسمه رضوضًا شديدة، ودميت يداه ورجلاه، لكنه لم يكترث لما أصابه بعد أن ظفر بحريته، وهو لو بقي هنيهة في المنزل لأنقذه العبوس ونجاه من خطوب كثيرة.

وكان أول ما عمله بعد أن نهض، أنه نظر إلى ما وراءه نظرة المنذعر، كأنه خشي أن تكون فانوش قد أدركته بسوطها، فجعل يركض هائمًا على وجهه حتى بعد بعدًا شاسعًا عن همبستاد وبلغ لندرا المتصلة بها.

ولم يكن يخطر لهذا المسكين أنه يبعد عن المنزل الذي كانت فيه أمه هذا البعد الشاسع، فقد جاءوا به وهو نائم إلى همبستاد، وجميع أزقة لندرا متشابهة. فكان يسير من حي إلى حي هائمًا حائرًا، والدم يسيل من قدميه وركبتيه.

ولم يكن يعرف اسم الشارع الذي غادر فيه أمه فيسأل عليه، فجعل يسير مندفعًا إلى الأمام، وإذا رأى شارعًا يشبه الشارع الذي كانت فيه أمه جد في السير، واتقدت عيناه بأشعة الأمل. وإذا طال سيره وعلم أنه أضل السبيل، وقف قانطًا جازعًا يذكر أمه ويبكي، ثم لا يجد من يجيبه ويرثي لدموعه، فيستمر في سيره.

وبقي على ذلك ٤ ساعات حتى وهت قدماه من المشي، وضعفت نفسه من الجزع، فجلس على حافة باب منزل واسترسل إلى البكاء، فكان بكاؤه يقطع القلوب من الإشفاق.

غير أن أهل لندرا مشهورون بعدم الاكتراث، فقد مر بهذا المسكين كثير من الناس، فلم يكترث أحد لبلواه، بل إن كثيرين منهم لم ينظروا إليه. إلى أن اتفق مرور امرأة به فوقفت تنظر إليه نظرة المتوجع، ثم وضعت يدها فوق كتفه وقالت له بصوت حنون: ماذا أصابك يا بني؟

والتفت رالف إلى تلك المرأة التي رقت له فرآها صبية حسناء، وخيل له أنها تشبه أمه فزاد بكاؤه وشهيقه.

فقالت له: ألعلك ضائع يا بني؟

– إني أبحث عن أمي؟

– ماذا تدعى أمك؟

– حنة.

– أأنت أرلندي؟

– نعم.

– وأنا أيضًا أرلندية مثلك واسمي سوزان، أتحب أن تذهب معي لأعينك على لقاء أمك.

فنظر إليها الغلام نظرة شكر. لكن عينيه كانتا تدلان على الارتياب فقالت: تعال معي أيها الحبيب كي لا يقال إن سوزان الأرلندية تدع غلامًا من أبناء وطنها يموت في أزقة لندرا من البرد والجوع، ثم أخذت بيد الغلام وسارت به.

غير أن الغلام حاول الامتناع في البدء، إلى أن رأى في نبرات صوتها الرقيقة ونظراتها الحنونة ما دعاه إلى الامتثال فقال لها: أحقيقة إنك أرلندية يا سيدتي؟

– إني ولدت في دبلين يا بني.

– وتساعديني على لقاء أمي؟

– دون ريب وإذا كانت أرلندية فإن إيجادها سهل ميسور؛ لأن جميع الأرلنديين متعارفون في هذه المدينة لما بينهم من جامعة الشقاء.

– أقسمي لي إنك لا تخدعيني.

– أقسم لك بالله يا بني إني صادقة، وإني أريد لك الخير، فأين تقيم أمك وفي أي شارع؟

– في سانت جيل.

– ليس هذا اسم شارع بل اسم كنيسة.

– لا أعلم غير هذا الاسم.

– حسنًا سنذهب غدًا إلى سانت جيل، فإذا كنت أنت تبحث عن أمك فهي أيضًا تبحث عنك دون ريب.

فاضطرب رالف وقال: لماذا لا نذهب الآن؟ ولماذا التأجيل إلى الغد؟

– لأن الكنائس لا تفتح في الليل.

فأيقن الغلام أنها مصيبة في قولها، فمسح دموعه بكم ثوبه وقال: لكن الغد بعيد.

فابتسمت له قائلة: كلا يا بني ألا تعلم أننا الآن في منتصف الليل؟

فاقتنع الصبي، وسار معها حتى وصلا إلى مطعم، فقالت له: ألعلك جائع؟

– كلا.

فواصلا السير حتى اقتربت من الشارع التي كانت مقيمة فيه، فلقيها كثير من الناس، وجعلوا يمازحونها بشأن الغلام، وهو لا يفهم شيئًا مما يقولون، حتى مرت قرب خمارة، فلقيها أحد الفتيان وقال: كيف حال ولتون؟

– لا أعلم، إني لم أره منذ يومين.

– ألعله مسجون؟

فردت بصوت مضطرب: لا أعلم.

– ومن هذا الغلام الذي معك؟

– لقيته جالسًا عند باب يبكي.

– إن مخائل النجابة تبدو بين عينيه، وسيكون له أعظم شأن بين اللصوص.

– لكني أرجو له غير ما ترجوه؛ لأني سأرده غدًا إلى أمه.

فقال لها الفتى: لو سمعك ويلتون تتفوهين بهذا الكلام، لما نجوت من ضربه.

ثم ودعها وانصرف.

وسارت سوزان والغلام حتى وصلت إلى منزلها، وهناك رأت رجلًا آخر تعرفه فقالت: أرأيت ويلتون؟

– كلا، لكني أعلم أنه بدأ بعمل خطير، قد ينجح فيه لأن سرقة الجيوب لم تعد تفيد في مهنتنا لكثرة حذر الناس.

فلم تجبه ودخلت والغلام إلى المنزل فأنارته، وظهر لرالف أن هذا المنزل مؤلف من غرفة واحدة أعدت للطبخ والاستقبال والنوم، ووجد طاولة صغيرة كان عليها بقية من الطعام وإبريق فيه بقية من البيرا.

فسألته سوزان: أتريد أن تأكل الآن؟

– كلا يا سيدتي.

– أتريد أن تنام؟

– حبذا النوم، ولكني لا أستطيعه إلا إذا وعدتني وعدًا صادقًا بلقاء أمي غدًا.

– لقد أقسمت لك يا بني فنم مطمئنًا.

ثم حملته إلى سرير كان في زاوية الغرفة، فلم يكد يستقر عليه حتى نام لفرط ما عاناه من التعب. غير أنه لم يسترسل في نومه حتى صحا، إذ سمع وقع أقدام في الغرفة تلاها صيحة فرح من سوزان. ففتح عينيه ورأى رجلًا في الغرفة، ورأى سوزان تعانقه وتقول: قد طال غيابك حتى خشيت أن تكون مسجونًا، فضحك الرجل وأجابها بقبلة.

فاضطرب رالف وكاد يصيح، إذ رأى يد الرجل عارية، وهي مصبوغة بالدماء.

٣٠

ولم يكن هذا الرجل قد رأى الغلام بعد لانشغاله بسوزان، وكانت سوزان قد نسيت الغلام لفرحها بقدوم الرجل.

أما رالف فإنه كان يضطرب في سريره، ولا يجسر أن يتكلم.

ودار الحديث بينهما فقالت سوزان: لقد خفت عليك خوفًا عظيمًا فأين كنت؟

وكان هذا الرجل عشيقها ويلتون، فجلس بقربها وقال لها: لقد كان أمري خطيرًا، وأوشك الجنود أن يقبضوا عليَّ، ولكني فزت فوزًا تامًّا وسلمت من الجنود. ثم مد يده إلى جيبه وجعل يخرج منه دنانير ويلقيها أمامها، حتى اجتمع منها قدر كثير. وعند ذلك رأت سوزان يده مخضبة بالدماء فذعرت وقالت: ماذا أرى ألعلك قتلت الشيخ المنكود؟

– كلا، إني وعدتك أن لا أسفك دمًا بشريًّا إلا إذا اضطررت.

– إذن من أين هذه الدماء؟

– اسمعي ما جرى إن المنزل الذي سرقناه كائن بين الحقول — كما تعلمين — ولم يكن فيه غير صاحبه الشيخ، فدخلنا إليه وقيدنا العجوز ثم أخذنا ماله فاقتسمناه أمامه بملء السكينة.

ولما تمت القسمة وحاولنا الخروج من الباب، رأينا العسس وراءنا، فعدنا إلى حديقة المنزل. وجرى في أثرنا الجنود بعد أن اغتصبوا الباب. وأسرعت أنا إلى سور الحديقة وتسلقت الجدار فأدركني جندي وجذبني برجلي فهويت إلى الأرض وقبض عليَّ وأخذ يصيح مستغيثًا بإخوانه لأنهم كانوا يطاردون رفاقي. وهنا رأيت أنه لا بد لي من سفك الدماء، فأغمدت خنجري في صدره وهربت.

وكان رالف يسمع الكلام ولا يفهمه، لكن هيئة ويلتون كانت تدعوه إلى الخوف.

أما الرجل فكان جميل الوجه، يمتزج جماله بالقسوة، فكانت سوزان تعجب بجماله ولا تهاب قوته، ولكن رالف لم يكن يتجاوز العشرة أعوام، فخاف هذا الشخص خوفًا قويًّا.

وحالت التفاتة ويلتون ورأى الغلام، فدهش وقال بلهجة المغضب: من هذا؟

فأغمض رالف عينيه لخوفه وحبس أنفاسه وردت سوزان بلهجة المستعطف: إنه ولد فقير، التقيته تائهًا في الطريق يبكي، فأشفقت عليه لأنه أرلندي مثلي كما تعلم.

فقال متهكمًا: يسرني أن أرى منك هذا الإشفاق.

ثم دنا قرب السرير كي يرى الغلام، فأمسكت يده قائلة له: أرجوك أن لا تسيء إليه فهو نائم، انظر إلى جماله إنه يشبه الملائكة.

– إنه جميل كما … ولكن ماذا تريدين أن تصنعي به؟

– سأرده غدًا إلى أمه، في شارع الأرلنديين، قرب كنيسة سانت جيل.

– حسنًا، والآن أتريدين أن ننام ثلاثتنا في سرير واحد؟

– سأنقله إلى المقعد.

ثم دنت من رالف، وأيقظته ففتح عينيه، وتطلع خائفًا إلى ويلتون فقالت له: لا تخف يا بني إنه لا يؤذيك.

فلم يجبها الولد، لكن الخوف كان باديًا بين عينيه.

أما ويلتون فإنه حدق بالولد مليًّا، ثم قال لسوزان: قد أخطأت إذ عزمت على إرجاعه إلى أمه وخير لنا لو بقي عندنا.

فاضطرب رالف اضطرابًا قويًّا. أما سوزان فإنها اعترضته بعنف قائلة: كلا يجب أن يسقط إلى الهوة التي وقعنا فيها، وأكون أنا التي قذفته إليها.

– أراك من أهل الفضيلة هذه الليلة، فدعي شرفك هذا الآن؛ لأن هذا الغلام يفيدنا على حداثته فائدة بليغة.

– كلا، إن هذا لا يكون.

فغضب ويلتون وقال: ويحك؟ أبلغ من قحتك أن تجسري على اعتراضي. ثم رفع يده منذرًا إياها بالضرب.

فردت قائلة: اضربني ما تشاء، ولكني لا أريد أن يخرج هذا الصبي لصًّا مثلك.

فهاج غضبه وقال: أتحتقريني أيضًا أيتها الشقية.

ثم هم بضربها، ولكن حدث أمر لم ينتظر، وهو أن الغلام الصغير الذي كان واقفًا عند السرير، يرتعش من الخوف أسرع إلى ويلتون وحال بينه وبين سوزان قبل أن تصل إليها يده، وقد اتقدت عيناه وحسب نفسه رجلًا قادرًا على حماية تلك المرأة.

فلما رأى ويلتون ما كان من جرأته سر به سرورًا عظيمًا، وضحك قائلًا: طب نفسًا أيها العزيز، إني لا أضربها إكرامًا لك. ثم أراد أن يعانقه فنفر الغلام منه، وتهدده بالنظر الشذر فقال ويلتون: لقد أحسنت أيضًا. ثم عانق سوزان وقال: إني أعانقها أيضًا إكرامًا لك فاطمئن.

فارتاح خاطر سوزان وقالت: إنك تظهر من الشر ما ليس فيك.

– سأفعل ما تريدين أيتها الحبيبة، وسنرد الغلام غدًا إلى أمه، ودعيه الآن ينام.

وكان يكلمها وينظر إلى الغلام نظرات حنو. لكن رالف لم يطمئن حتى عادت سوزان إلى وعده وتطمينه، فذهب إلى المقعد ونام آمنًا.

ولما أيقن ويلتون أنه نام قال همسًا في أذن سوزان: إن الأقدار أرسلت إلينا هذا الغلام.

– ماذا تعني؟

– إننا غدًا في مثل هذه الساعة يكون لنا بفضل هذا الغلام من المال ما يكفينا شر هذه المهنة.

فقالت بلهجة التأنيب: لقد قلت لك يا ويلتون، إني لا أريد أن يكون هذا الغلام من اللصوص.

– لا تغضبي أيتها الحبيبة، وأصغي إليَّ تعلمي ما أريد.

وكان الولد نائمًا لا يسمع الحديث، وفوق ذلك فقد كانا يتكلمان همسًا مبالغة في الحذر، فقال ويلتون: إني أريد أن أعمل عملًا أخلص به من هذه المهنة الخطيرة، فإني إذا بقيت عليها لا يبعد ذلك اليوم الذي ترقص فيه رجلاي بالخلاء في سجن نيوجات.

– لا تقل هذه الأقوال، فإنك تخيفني من الموت فتميتني من الخوف.

– ولكن الشنق نصيب أمثالي فلا بد أن ألاقيه.

– بالله كفى.

– إني ملاق هذا الجزاء؛ لأن الله الذي تستحلفيني به كائن حي سيبلوني بهذا العقاب على أنه لو كان لي ألف جنيه فقط؛ لنجوت من الشنق وعشت عيشة السعداء.

– إذا ظفرت بهذا المال ترجع عن مهنتك الشائنة، وتمتنع من السرقات وتبرح إنكلترا؟

– دون شك، أسافر بك إلى فرنسا، وأتزوج منك ونعيش ما بقي لنا من العمر عيش الأشراف.

فتنهدت وقالت: وا أسفاه إن التعلل بالأماني سهل، وأين لنا أن نظفر بهذا المال.

– من يعلم فإن هذا الولد يخدمنا خدمة جليلة، ويحق لنا الرجاء.

فعادت سوزان إلى تأنيبه وقالت: لماذا تريد أن تصير هذا الولد الشريف المنكود لصًّا، ألم ترَ جماله ونبله، أيخلق بمثل هذا الولد وهو يشبه الملائكة أن يكون مأواه السجون؟

فضحك اللص ضحك الساخر وقال: يعجبني أن أراك نبيلة العواطف، ولكني أعدك وعدًا صادقًا أن أرد الولد إلى أمه متى قضيت مأربي.

– وما هو مأربك؟

– أصغي إليَّ فإني مهتم بأمر خطير منذ عهد بعيد، ولم أطلع عليه العصابة كي لا تشاركني بما سأختلسه، فإنه يبلغ ألف وقد يبلغ أربعة آلاف.

– أربعة آلاف جنيه! إنها ثروة لا تدرك بالأحلام، وممن تسرقها؟

– من رجل يسرق الناس مثلي، ولكنه يعد من أشراف اللصوص؛ لأنه يسرق الناس بالعلانية والجهر، ونحن نسرقهم بالسر، ولأنه لا يرحم فقيرًا، ولا يشفق على عامل وقد ملأ اسمه القلوب ذعرًا.

– ما اسم هذا الرجل؟

– هو توماس الجن.

– أهو ذلك المرابي الشهير؟

– هو بعينه فإني أتهيأ منذ عام لسرقة ما سرقه من الناس ولدي الآن مفاتيح تفتح جميع أبواب منزله.

– أين يقيم؟

– في شارع فلبيرن قرب محطة وسترن، وهو يعيش وحده فليس في منزله خادمة أو خادم.

– ولكنه يبقي نقوده في صناديق مصرفه، ولا يضع مثل هذا المبلغ في بيته وهو فيه وحده كما تقول؟

– إني أراقبه منذ عام أتم المراقبة، وقد علمت أنه يبقي نقوده في مصرفه جميع أيام الأسبوع ما خلا يوم الأحد لعلمه أن بعض الناس يحتاجون إلى المال في هذا اليوم فلا يجدونه إلا عنده في بيته لإقفال الأسواق أيام الأحد؛ فيطمع فيهم ويأخذ من الربا قدر ما يشاء، ولذلك يأخذ مساء السبت مبلغًا كبيرًا من المال النقدي والأوراق المالية إلى بيته وهو آمن على ماله في ذلك البيت، لأنه يضعه في صندوق ضخم من الحديد لا يستطيع أحد اغتصابه إلاي، فإني علمت سره.

– كيف ذاك؟

– إني قبل أن أكون لصًّا كنت تاجرًا صغيرًا، وكنت متزوجًا زواجًا شرعيًّا، فما خرب تجارتي غير هذا المرابي، وهو الذي قتل امرأتي رغمًا، فإني علقت بشركه واستدنت مبلغًا صغيرًا، وتجسم المبلغ بزوره واحتياله، وبلغ معدل ما أخذه من الربا ثلاثمائة في المائة، فأفلست حين عجزت عن الدفع، وغلت يدي عن الأعمال، ودخلت إلى سجن المفلسين، وكان ذاك اليوم بدء عهدي بالسرقات.

أما صندوق هذا المرابي، فقد وضعه في غرفة ليس لها غير باب واحد، ولهذا الباب نافذة صغيرة جدًّا، فإذا أتى أحد لمقابلته في منزله ينظره من تلك النافذة قبل أن يفتح له الباب، ولو كنت أستطيع مد يدي من النافذة لبلغت مرادي من صندوق هذا المرابي منذ عهد طويل.

– أليس لك مفتاح لهذا الباب؟

– نعم، ولكني إذا فتحته أقتل في الحال، وذلك أن هذا الخبيث قد وضع وراء الباب بندقية بشكل عجيب بحيث إنه إذا فتح الباب أطلقت البندقية، ووقع رصاصها في صدر من يفتحه.

– ولكنك قلت لي إن هذه الغرفة ليس لها غير باب واحد، فكيف يدخل منه توماس ولا تصيبه البندقية؟

– وهذا السر الوحيد الذي لم أوفق إلى كشفه من أسرار منزله.

– إذن لا رجاء بسرقة صندوقه، إذ يستحيل الدخول إلى الغرفة.

– كلا، فإن نافذة الباب لو كانت متسعة لمددت يدي منها، وقطعت بمقص حبلًا ربط به الباب واتصل بالبندقية، وإذا قطع الحبل لا يبقى خوف من انطلاقها، لكن النافذة ضيقة ويدي ضخمة، ولهذا أردت أن أبقي الغلام عندنا كي أستخدم يده الصغيرة فيقطع الحبل، وعند ذاك أبلغ مرادي من الصندوق، وأتوب إلى الله توبة صادقة، ولا أعود بعدها إلى ارتكاب منكر.

– أتعدني وعدًا صادقًا أن ترد الولد إلى أمه بعد قضاء مأربك؟

– أقسم لك بالله.

أجابت: ولكن توماس قد لا يخرج من منزله متى كان فيه هذا القدر من المال.

– كلا، فإني أراقبه منذ عام كما قلت لك، فهو يضع المال في الصندوق كل ليلة سبت، ثم يضع البندقية في موضعها، ويخرج آمنًا فيقضي ليلته في الملعب.

– حسنًا، وماذا تصنع بالولد إلى يوم السبت؟

– إني أتعهد بحمله على الصبر.

فقالت له بصوت مضطرب: ألعلك تريد ضربه؟

– أقسم لك إني لا أفعل شيئًا من هذا.

– حسنًا. ماذا تصنع؟

– سوف ترين.

وهنا انقطع حديثهما فأطبقا أجفانهما، وناما كما نام الولد.

٣١

ولما استفاقا صباحًا كان رالف لا يزال نائمًا فقال ويلتون لسوزان: كنت عولت على أن أسقي الولد مخدرًا فينام إلى المساء، حيث أذهب به إلى بيت المرابي، لكني رأيت أن ذاك يحمله على الشك بنا، والذي أراه الآن هو أن تذهبي به حين يصحو بحجة البحث عن أمه، وتسيرين به كل النهار من شارع إلى شارع، وتبعدين كل البعد عن سانت جيل حذرًا من أن يظفر بأمه اتفاقًا.

ومتى أقبل المساء، تدخلين به إلى الخمارة الكائنة في أول عطفة من شارع إدورد فتتعشين معه، وقبل أن تفرغا من الطعام أحضر إليكما بمركبة وأنا في ملابس نظيفة، وهناك يكون بدء العمل.

– سأفعل كل ما تريد على شرط أن تجدد وعدك إليَّ بإعادته إلى أمه.

– سأفعل بعد أن يقطع حبل الباب، ويكون ذلك أول ما أهتم به. ثم تركها وخرج من البيت على أن يجتمعا مساء في المكان المعين.

أما سوزان فإنها خرجت بالولد بعده، وجعلت تسير به من شارع إلى شارع، وتنتقل من مكان إلى مكان، ومن كنيسة إلى كنيسة، وفي كل موضع توهمه أنها تسأل عن أمه بحيث بات له فيها كل الثقة، لكنه لم يظفر بأمه، وكان يمشي حزينًا منكسر القلب.

وما زال هذا دأبهما حتى الليل، فدخلت به الخمارة المعينة، وطلبت أكلًا وشرابًا، وكان رالف قد تعب تعبًا شديدًا، حتى اضطرت سوزان إلى حمله فأكل بملء الشهية، لكنه كان يلهج كل حين بأمه، ولا يذكر غير اسمها، وكانت سوزان تعلله بالعودة إلى البحث عنها غدًا، وتضمن له لقاءها فيثق بها ويرتاح لوعودها.

وفيما هما يأكلان فتح باب الخمارة، ودخل ويلتون فقال للغلام لقد وجدت أمك يا بني.

ولم يدر الولد بما يجيبه لشدة فرحه، لكنه وثب إليه فتعلق به، وجعل يعانق هذا اللص ويذرف دموع الامتنان.

وقال له ويلتون: لا تحول إلينا الأنظار يا ابني وأصغي إليَّ لأخبرك الحقيقة، إن أمك في السجن، لكنها ليست مسجونة في سجن الحكومة، بل في منزل أحد الأشرار، كما كنت أنت مسجونًا في ذلك المنزل الذي كانوا يضربونك فيه.

فأجفل الصبي وقال: أيجسرون على ضربها؟

– كلا، لم يضربوها بعد ولكنا إذا تأخرنا عن إنقاذها فلا بد أن يضربوها، وقد عرفت لحسن الحظ المكان المسجونة فيه.

ثم غمز سوزان بعينه فقالت له بملء البساطة: أين هو ذاك المكان؟

– إنه غير بعيد.

فقال رالف: إذن هلم بنا لإنقاذها الآن.

فابتسم ويلتون وقبل رالف قبلة حنو ثم قال له: إني معجب ببسالتك يا بني، ولكن وقت إنقاذ أمك لم يحن بعد.

– لماذا؟

– إذ يجب علينا أن ننتظر إلى أن ينام حراسها، فأتم الآن عشاءك وسنذهب بعد العشاء.

ثم انصرف عنه إلى سوزان، وجعل يحدثها بلغة اللصوص الاصطلاحية، وهي لغة لا يفهمها رالف فقال: لقد أعددت كل المعدات، وأرجو أن نعود بفوز عظيم ونرتاح من عناء المهنة.

– أأنت واثق من وجود المال في المنزل.

– نعم، فقد راقبته ورأيته دخل إلى البنك في الساعة الثالثة والنصف، وخرج منه بكثير من الأوراق المالية، وقد التقى ساعة خروجه بصديق له فسمعته يواعده على اللقاء في ليشتر سكار في الساعة العاشرة، لذلك لا بد له من ركوب القطار في الساعة التاسعة ونصف، ولا بد لنا أن نصبر حتى نسمع صفير القطار.

– ومتى ظفرنا بالمال، فماذا نصنع بالولد!

نذهب به إلى كنيسة سانت جيل، فلا بد لأمه أن تطلبه منها فنودعه هناك، ونذهب توًّا إلى فرنسا.

وأقاما يتحدثان بمثل هذه الأحاديث إلى أن حان الوقت المعين، فخرجوا من الخمارة إلى مركبة كان أعدها ويلتون، فدخلت إليها سوزان والغلام، وصعد ويلتون فجلس بجانب السائق وأمره أن يسير إلى المحطة.

ولم يكد يبلغ إليها حتى رأى ويلتون توماس الجن صاعدًا مسرعًا إلى درجات سلم المحطة، فأيقن أنه مسافر وأن الجو قد خلا له، فأمر السائق أن يسير إلى منزل المرابي، ولما بلغ إليه أوقفه عند باب الحديقة، ونزل من المركبة فأخرج منها سوزان والطفل.

ثم فتح باب الحديقة بمفتاح كان معه، ودخلوا جميعًا فأقفل الباب وبقيت المركبة تنتظر في مكانها.

وبعد أن اجتازوا الحديقة، صعدوا سلمًا انتهوا منها إلى باب المنزل، فأخرج ويلتون مفتاحًا وفتح الباب مطمئنًا لوثوقه أنه لا يوجد أحد في المنزل. فسأل الولد: أهنا محبوسة أمي؟

– نعم، يا بني وسوف تراها فاحذر أن تتكلم كي لا يستيقظ النيام.

وبعد ذاك مشوا في رواق طويل، انتهوا منه إلى باب الحجرة التي فيها الصندوق.

وأنار ويلتون شمعة كانت في جيبه، وخاطب سوزان انظري ألا ترين هذا الثقب الصغير في باب الغرفة؟

– نعم.

– هذا هو الثقب الذي يجب أن يمد رالف يده منه ويقطع الحبل.

٣٢

ولنعد الآن إلى توماس الجن فإنه خرج من البنك بعد أن قبض منه ألفي جنيه، وعاد بها إلى مكتبه فجعل يكتب رسائل إلى عملائه، إذ كان ذلك اليوم يوم السبت والبريد لا يشتغل يوم الأحد في بلاد الإنكليز.

وقبل أن يفرغ من كتابة رسائله قرع باب مكتبه؛ فأمر الطارق بالدخول دون أن ينهض من مجلسه، ولكنه ما لبث أن رأى هذا الزائر حتى وثب من مكانه مضطربًا وأسرع إلى استقباله بملء الاحترام.

وكان هذا الزائر رجلًا طويل القامة، عليه مسحة من الشباب، وهو براق العينين، تبدو عليه مخائل النجابة والعزم الأكيد.

وكانت ملابسه كلها سوداء مثل رجال الدين فقال له: إنك لم تنتظر زيارتي يا مستر توماس.

– كلا يا سيدي، لم يخطر لي في بال أن أنال هذا الشرف.

– إن الوقت غير متسع لي الآن، فلا أطيل المباحثة وأدخل توًّا في الموضوع، إنك أوقفت الكاهن صموئيل، وهو لا يستطيع أن يعقد حفلة ٢٦ أكتوبر، لكن سجنه لا يكفي لنجاح المهمة التي نخدمها، وقد جاء إلى لندرا أربعة رجال خطرهم عظيم على إنكلترا، وبحثوا بحثًا دقيقًا عن الكاهن فلم يظفروا به، ولكن عيوننا لم تغفل عنهم فإن واحدًا منهم قد سرق وهو قادم من أميركا إلى لفربول. وكان معه حوالة على بنك همبري وشركاه، غير أن هذه الحوالة قد سرقت أيضًا فلم يبق له شيء من المال. لكن أحد عمالي كان يقفوه في الليل والنهار، وقد أقنعه على الالتجاء إليك فهو سيحضر إليك غدًا الأحد، ويسألك أن تسلفه ألف جنيه لميعاد شهر فتعطيه ثلاثة آلاف.

– أحب أن أعطيه كل ما تأمرني به غير أن البنك أقفل الآن، وليس لدي غير ألف جنيه.

– لقد توقعت ذاك؛ فأحضرت لك المال.

ثم أخذ محفظته من جيبه، وأخرج منها أوراقًا مالية بقيمة ثلاثة آلاف جنيه، وأعطاه إياها وقال: هذا كل ما أردت أن أقوله لك اليوم، ثم تركه وانصرف. فشيعه المرابي إلى الباب بملء التعظيم والاحترام.

ولما أصبح وحده قال في نفسه: هذه أول مرة اجتمع فيها لدي في منزلي خمسة آلاف جنيه، فلا بد لي من مضاعفة الحذر والاحتياط. ثم خرج من مكتبه، فركب مركبة وذهب بها إلى المنزل.

وهناك دخل إلى الحجرة التي وصفناها من بابها فوضع المال في الصندوق الحديدي، ووضع البندقية في موضعها، فربط زنادها بطرف حبل رفيع، وربط الطرف الآخر بالباب بحيث إذا فتح الباب من الخارج اشتد الحبل، وأطلقت البندقية على فاتحه.

غير أن المرابي لم يقتصر هذه المرة على البندقية لكثرة ما كان لديه من الأموال، فعمد إلى احتياط آخر لم يكشفه ويلتون قبل الآن، وهو أنه كان لديه مدفع صغير من المدافع الرشاشة، يضعه عندما يريد المبالغة في الحذر فوق الصندوق الحديدي، ويربط زناده بحبل ويشد الحبل إلى أعلى الباب بحيث لا يستطيع الناظر من نافذة الباب أن يراه، بل يرى فقط حبل البندقية، ولهذا خفي أمره على ويلتون.

فلما أتم وضع البندقية والمدفع، واطمأن باله أراد الخروج ولكنه لم يخرج من الباب بل أنه أزاح سريره قليلًا، وضغط على لولب كان مستترًا وراء السرير ففتح باب سري يؤدي إلى سلم في جوف المنزل؛ فخرج منه وأقفله ثم نزل درجات السلم فانتهى منها إلى باب سري آخر ففتحه، فإذا هو بالحديقة فخرج منها إلى الشارع، وذهب منه إلى المحطة.

ولما وصل إليها ذهب ليشتري تذكرة، فسمع وهو يصعد السلم صوتًا يناديه فالتفت ورآه وعلم أنه جوهان كالفرن، وهو جندي السجن الذي ذهب بالكاهن إليه فقال له الجندي: إني كنت ذاهبًا إلى مكتبك يا سيدي غير أني رأيتك داخلًا إلى المحطة فأسرعت إليك.

– ماذا تريد مني؟

– إني آتٍ إليك بالدين الذي كان على الكاهن الأرلندي.

فاضطرب المرابي وقال: كيف دفع ومتى، ومن أين جاءوه بالمال؟

– لا أعلم، ولكنه دفع منذ يومين، فأطلق حاكم السجن سراحه وأمرني اليوم أن أحضر لك المال. ثم أعطاه أوراقًا مالية قيمتها مائتا جنيه، وهو يعجب لما يراه من دلائل استياء المرابي وانقباض سحنته والعهد به أنه لا يفرحه غير المال.

أما توماس فإنه أخذ الأوراق ووضعها في جيبه، ونظر في ساعته فقال في نفسه: لا يزال الوقت فسيحًا وليس من الحكمة أن أذهب إلى محلات اللهو والشراب ومعي مثل هذا المبلغ، فلأعد به إلى البيت وأسافر في قطار آخر.

وعند ذلك خرج من المحطة وسار عائدًا إلى منزله، وقبل أن يبلغ إليه رأى مركبة عند بابه فاضطرب وقال: من عسى أن يكون في منزلي؟

وأسرع في خطواته فرأى باب الحديقة مقفلًا والسائق نائمًا في المركبة، ولم يجد أثرًا للنور في البيت فقال في نفسه: لعل وقوف المركبة هنا من قبيل الاتفاق، ثم فتح باب الحديقة ودخل.

•••

كان ويلتون وسوزان والصبي في المنزل حين دخل إليه المرابي، وقد ذكرنا للقراء كيف دخلوا إليه.

وكان أول ما صنعه ويلتون أنه نظر من نافذة الباب الصغيرة فرأى الحبل في مكانه وقال للصبي: إن أمك في هذا المنزل كما قلت لك، فإن شئت أن تراها وجب عليك أن تفعل كل ما أقوله لك.

– سأفعل كل ما تريد.

فحمله ويلتون وقال له: مد يدك من النافذة، وابحث عن حبل متصل بها.

فمد الصبي يده وقال: قد عثرت بالحبل.

فأعطاه مقصًّا وقال: قص الحبل بهذا المقص.

فامتثل الغلام، وقص الحبل.

فأنزله ويلتون إلى الأرض، فأخذت سوزان بيده، ووقفت معه إزاء الباب فنظر ويلتون من النافذة، فرأى الحبل مقطوعًا ساقطًا إلى الأرض؛ فاطمأن من البندقية وأخذ مفتاحًا من جيبه فوضعه في قفل الباب وأداره، ثم جذب الباب إليه وخرج دوي هائل يشبه دوي الرعد القاصف، واشترك بهذا الدوي صيحتان، إحداهما خرجت من صدر ذلك الغلام الصغير المنكود؛ فسقط مضرجًا بدمائه، والثاني من سوزان فإنها أصيبت برصاصة بصدرها، وكان ذلك دوي المدفع الرشاش.

أما ذلك اللص الأثيم فقد نجا من المدفع بأعجوبة، فسلم الأثيم وأصيب البريء.

وفي الوقت نفسه فتح باب الحديقة، وكان الذي فتحه توماس الجن، فلما بوغت بصوت المدفع جعل يصيح مستنجدًا إذ أيقن أن المدفع لم ينطلق إلا لمباغتة اللصوص.

أما ويلتون فلم ينتبه لصياح المرابي، ولم يكترث لمصاب الغلام، ولم يحفل بسرقة الأموال، فلم يشغله غير تلك الخليلة التي رآها مضرجة بدمائها، فإن عواطف الحب الصادقة قد تتمكن حتى في نفوس اللصوص فاحتملها وأسرع بها هاربًا إلى الحديقة، فابتدره توماس وقبض على عنقه وهو يقول: أيها اللص إنك ستنال جزاءك.

وكان بين الاثنين عراك شديد في الظلام أسفر عن أن ويلتون طعن المرابي بخنجره في بطنه، وهرب بسوزان وهي مغمى عليها، أما ذلك الطفل المنكود فقد تركه صريعًا على الأرض وهو مصاب برصاصة في كتفه.

٣٣

وحمل ويلتون سوزان إلى المركبة، وهو يكاد يجن إشفاقًا عليها وأمر السائق أن يسير، فسار بهما إلى المنزل وهناك أطلق سراح السائق، وأخرجها من المركبة وهي لا تزال مغميًّا عليها، فأدركه وهو عند الباب صديق له يدعى كرفان فذعر لما رآه من إغماء سوزان واضطراب عشيقها فقال: ماذا حدث؟

– حدث أني فشلت في مهمة أتأهب لها منذ عام، وأظنهم قتلوا لي هذه الحبيبة فإنها جريحة.

وكان يقول هذا القول بصوت يتهدج من الاضطراب والإشفاق، كمن يجهش بالبكاء، فطيب كرافان خاطره، وساعده على حملها إلى المنزل وقال: إني كنت خادمًا عند طبيب جراح؛ فتعلمت منه بعض المبادئ.

وكانت سوزان مصابة برصاصتين، إحداهما تحت الثدي الأيمن، والثانية في العنق، فلما وضعها ويلتون فوق السرير ورآها لا تتحرك، جعل ينتف شعره ويلطم وجهه ويصيح ويلاه إنها قتيلة لا رجاء فيها.

ففحصها كرافان وقال: كلا إنها مغمى عليها، وليست جراحها خطرة انظر إن إحدى الرصاصتين أصابت ضلعًا، والثانية لم تنل غير الجلد فهلم الآن نضمد الجرحين.

فأخذ هذان اللصان يمزقان ملابسهما؛ ليضمدا بها الجراح، ويمنعا نزف الدماء ثم خرج كرافان من المنزل، وعاد مسرعًا بشيء من الخل فجعل يدعك به صدغيها، فما طال بها الأمر حتى تنهدت ثم فتحت عينيها، ورأت ويلتون وصاحت صيحة فرح وابتسمت له.

وجعل هذا اللص يبكي سرورًا، وقد أعاده الحب إنسانًا، فأخذ يقبلها ويقول إنك حية والحمد لله.

فقالت سوزان: إني أحمد الله لنجاتك، أما أنا فقد دنت ساعتي.

ثم خطر لها خاطر فجائي، فالتفتت إلى ما حولها وقالت: رباه أين الغلام؟

– لا أعلم حقيقة أمره لانصرافي إلى الاهتمام بك، فإما أن يكون قتيلًا أو هو جريح.

فاضطربت وقالت: لقد أخطأت يا ويلتون، فإنك ستحمل تبعة دمه المسفوك ظلمًا. ثم جعلت تبكي.

أما ويلتون فإن وجهه تجهم عند ذكر الغلام وقال: إني أوثر أن يكون قد مات كي لا يبوح بما علمه من أمرنا.

فعادت المخاوف إلى سوزان، وجزعت على حبيبها قائلة له: إني الآن بين يدي الموت كما قلت لك فودعني أيها الحبيب آخر وداع، واهرب فإن البوليس يبحث عنك دون شك.

– أأنا أهرب وأودعك على ما أنت فيه فإني أوثر ألف شنق على هذا الغدر الذميم.

– يسرني أن أراك قبل موتي، ولكن لي أخ بين الذين أحبهم أريد أن أراه.

– أأنت لك أخ؟

– نعم إنه رجل فقير يكسب رزقه بشق النفس؛ لأنه بقي شريفًا وأبى أن ينغمس في الآثام، فلا ترفض طلبي بالله فهذا آخر ما أطلبه إليك.

– ولكن أين هو أخوك؟

– إنه يقيم في ديدلي ستريت وهو إسكافي.

فتحمس كرافان لكلامها وقال لها: وماذا يدعى أخوك؟

– جون كولدن.

– لقد عرفته أليس نمرة البيت المقيم فيه ٢٧؟

– هو بعينه.

فقال له ويلتون: إذا كنت قد عرفته أيها الصديق، فأرجوك أن تذهب إليه وتأتي به.

فامتثل كرافان ومضى، وبقي ويلتون ينظر إلى سوزان نظرات اليأس.

فقالت له بلهجة المؤنب: لماذا أيها الحبيب لم تصغ إليَّ، وترد الغلام إلى أمه؟

فغطى وجهه بيديه وقال: هو القدر أيتها الحبيبة ولا حيلة برده. ثم ركع أمام سريرها، وخاض في عباب التصورات.

٣٤

أما كرافان فإنه سار توًّا إلى شارع ديدلي ستريت، ووقف عند البيت الذي نمرته ٣٧، وهناك أقبية تحت الأرض ينزل إليها بسلم من الرصيف، يشتغل فيها العمال، فنزل كرافان إلى القبو فرأى صاحب دكان الأحذية، وأمامه العمال يشتغلون فدنا منه وقال: إني أبحث عن جون كولد، فقد قيل لي إنه يشتغل عندك.

فامتعض وجه صاحب الدكان وأجابه. كلا إنه ليس هنا.

– أين أستطيع أن أجده الآن؟

فنظر إليه الرجل نظر المشفق وقال له: ألعله من أصدقائك؟

– كلا، لكني قادم إليه بمهمة.

وجعل العمال يتساءلون حين سمعوا اسم كولدن ويتكلمون همسًا.

أما صاحب الدكان فإنه نهض عن كرسيه إلى كرافان وقال له: إني لا أعرفه، لكني أرى أنك من الإنكليز، ويجب على الإنكليز أن يتعاونوا، ولهذا وجبت عليَّ نصيحتك فاعلم يا بني أنك إذا كنت من أصدقاء جون كولدن فخير لك أن تقاطعه وتبتعد عنه.

– لماذا؟

– لأنه ضل سواء السبيل وانضم إلى أولئك الأرلنديين الذين دأبوا على كيد المكائد لبلادنا الحرة.

– أشكرك لنصحك، لكني أتيته بمهمة كما قلت لك ومتى أنهيتها لا أكترث لأمره، بل أعين البوليس إذا انتدبني للقبض عليه، ولكني في حاجة إلى أن أراه، وأرجوك أن ترشدني إلى مكانه.

– إني طردته من دكاني حين علمت أنه دخل في سلك تلك الجمعية السرية الأرلندية التي تأتمر كل يوم بدولة الإنكليز، فهو لا يشتغل عندي منذ ذلك العهد.

– لكن ألا تعلم أين يقيم؟

– رأيته عدة مرار يتردد إلى هذه الخمارة التي بإزائنا.

فشكره كرافان وذهب توًّا إلى الخمارة، وجعل يقول في نفسه: إني لا أجد في نفسي ما يجده هذا الإسكافي من الغيرة على بلاده، ويسرني وجود هذه الجمعية السرية فإنها منذ تكاثر أعضاؤها انصرف البوليس عن الاهتمام باللصوص، وتركنا نفعل ما نشاء.

قال هذا في نفسه وذهب إلى الخمارة، فطلب كأس شراب وأجال نظره في الحاضرين فوقع على رجل لابس ملابس جديدة، فأحدق به وأخذ ينظر معجبًا إلى ملابسه ويقول: إني أعرف هذا الشخص حق المعرفة، لكني أنكر ما أراه عليه من ظواهر النعمة فقد عهدته من أمثالي.

ثم دنا منه فوضع يده على كتفه قائلًا: أي صديقنا شوكنج لقد أصبحت من أهل الثروة كما أرى، فمن أين هذه النعمة؟

فنظر شوكنج إلى محدثه ثم نظر إلى ملابسه نظرة ملؤها الكبرياء وقال: إن من جد وجد.

– لقد أحسنت البيان غير أني لا أجد فرقًا بين الشقاء والرخاء، فإنك على ما أنت فيه من ظواهر الإثراء مفكر مهموم كمن حكم عليه بالشنق.

فتنهد شوكنج تنهدًا طويلًا دون أن يجيب، ولكنه نظر إلى الساعة المعلقة في الحائط نظر الجازع، فقال له كرافان: ألعلك تنتظر أحدًا؟

– نعم …

– وأنا أيضًا فإني أنتظر جوهن كولدن.

فدهش شوكنج وقال: من الذي تنتظره؟

– جوهن كولدن.

– وأنا أيضًا أنتظر الشخص نفسه، أليس ذلك بعجيب؟

غير أن كرافان لم يتمكن من الرد، فإن باب الخمارة فتح عند ذلك ودخل منه كولدن فصاح الاثنان قائلين: هذا هو.

أما كولدن هذا فهو نفس الشخص الأرلندي الفقير الذي رآه الرجل العبوس عند باب منزل فانوش، وأدخله في سلك عصابته.

ولما دخل كولدن لم يكترث لكرافان ودنا من شوكنج فقال له: إننا على وشك أن نجد الصبي، فلقد قيل لنا أن امرأة وجدته يبكي عند باب أحد المنازل فأخذته.

فانتبه كرافان للحديث وقال: ألعلكم تبحثون عن غلام؟

فالتفت جوهن إليه وقال: أهذا أنت؟ ثم صافحه قائلًا: نعم إننا نبحث عن غلام فقدناه.

– ما هي صفات هذا الغلام وعمره؟

– إنه أرلندي أشقر جميل، لا يزيد عمره عن عشرة أعوام.

– إذا كان هذا ما تقولون فأنا أرشدكم إليه، ألم تقل يا جوهن إنه كان يبكي، وأن امرأة قد أخذته؟

– نعم.

– إذن، اعلم أن هذه المرأة التي لقيت الصبي الأرلندي هي أختك سوزان.

فصاح جوهن قائلًا: ليحمي الله أرلندا.

ثم أحنى رأسه مكتئبًا، فلم ينتبه شوكنج لكآبته وقال: إذن هلموا بنا إلى مكان الصبي.

٣٥

وسار الثلاثة إلى منزل سوزان، فكان كرافن يقول في نفسه: إني أتيت لأدعو أخا سوزان، وليس من شأني أن أخبرهم بتفصيل ما جرى للغلام، بل قد أخطأت بالحديث عنه.

وأما شوكنج فكان يتبعه ويقول في نفسه: إن الأرلندية هربت من المنزل، إذ لا ثقة لها بي، وقد أصابت في شكها، لأني كنت السبب في دخولها إلى منزل فانوش، ولكني سأرد لها غلامها الآن فأستعيض تلك الثقة، وفوق ذلك فإن الرجل العبوس يعود إلى ثقته بي، لأنه يحسبني الآن من البله.

وأما كولدن فكان يقول: ما عسى تريد مني أختي، وأنا لم أرها منذ عهد؟

وسار الثلاثة حتى اقتربوا من المنزل، فتأبط كرافن ذراع كولدن وقال له: ألعلك لم تر أختك من أمد طويل؟

– نعم فإنها قد نهجت مناهج الضلال، وقد أنكرتها حين رأيتها تخطر بثياب الحرير فإن أبناء أبي لا يأكلون طعامهم إلا ممزوجًا بعرق الجبين، وإذا كنت قد رضيت أن أتبعك إليها لأني أريد أرى هذا الغلام رجاء أن يكون هو الذي أبحث عنه.

– لا أظنك تجهل أن أختك تقيم مع رجل يدعى ويلتون.

– نعم أعرفه وهو من اللصوص.

– هو ما تقول وقد حدثت نكبة.

فاضطرب كولدن وقال: ما هذه النكبة؟

– إن سوزان وويلتون حاولا سرقة منزل، فخبط سعيهما وأصيبت سوزان بجراح.

فارتعد جوهان كولدن، ونسي حياة أخته الأثيمة. فلم يذكر إلا أنها أخته. وأسرع في خطواته حتى بلغوا إلى المنزل. فكان أول من دخل إليه وتبعه شوكنج، ووقف على عتبة الباب وأجال في الحضور نظرًا وقال: أين هو الصبي؟

فتلفت ويلتون إليه، ثم التفت إلى كولدن وقال له: ماذا يريد هذا الرجل؟

فأجابه شوكنج قائلًا: إني أريد الولد.

– أي ولد هذا؟

– الولد الذي وجدته امرأتك.

– إنك لا تراه فقد بات من الأموات.

فَأَنَّ شوكنج والأرلندية أنين الموجع، وأمسك جوهان كولدن ذراع أخته وهزها بعنف وقال: لا أعلم إذا كانت جراحك خفيفة أو كنت في خطر الموت، وإنك إذا أردت أن يعفو الله عن ذنوبك الماضية، فأخبرينا أين هو الصبي؟

فتوجعت سوزان واغرورقت عيناها بالدموع وردت: إني أنا وجدته، أما ويلتون فأضاعه.

فاضطرب شوكنج ودخل إلى الحجرة وهو يقول: أضاع أيضًا؟

ولم تجبه سوزان، بل قالت لأخيها: ألعلك تعرف هذا الولد؟

– نعم ألا يدعى هذا الولد الذي عثرت به رالف؟

– نعم.

فقال لها بلهجة الوعيد: إذن أخبرينا بما جرى له.

– لا أعلم حقيقة أمره، فقد يكون قتيلًا، وقد يكون مجروحًا مثلي.

وعندها أخذت تعترف لأخيها وشوكنج بكل ما حدث دون أن يجسر ويلتون على مقاطعتها، حتى إذا انتهت من كلامها، رأت دمعة تجول في عين أخيها وسمعته يقول لها: ويحك أيتها الشقية إنك أضعت أرلندا بأسرها بإضاعتك هذا الصبي.

– أرلندا؟

– نعم، إنك لا تعلمين أية نكبة نكبت بها وطنك وبلادك، واعلمي أنه يجب عليك أن تخبرينا أن تركتيه، فقد يكون جريحًا كما تروين.

– تركناه في كلدن ستريت في منزل توماس الجن المرابي.

فارتعد ويلتون خوفًا وقال: ماذا تفعلين يا سوزان أتريدين أن ترسليني إلى المشنقة؟

وكان شقيق سوزان ضخم الجثة، قوي العضل، فوقف أمام ويلتون وقال له: إذا كان الولد قد قتل، فليس إقرار سوزان الذي سيرسلك إلى الشنق، بل هو خنجري الذي يقذف بك إلى هوة الأبد.

وحسبت سوزان أن عشيقها وأخاها سيختصمان فقالت لهما: بالله خليا الخصام فليس هذا وقته، ودعاني أنظر إليكما النظر الأخير.

وكان كرافن قد خرج هنيهة من الحجرة، فعاد عند ذلك منذعرًا وهو يقول: قد أقبل رجال البوليس وهم كثيرون يا ويلتون. أسرع إلى الفرار لأنهم ما جاءوا إلا للقبض عليك.

فقال ويلتون: يا للشقاء إن الولد لم يمت، وقد باح لهم بأمري، دون ريب.

وسمعه شوكنج يتكلم هذا الكلام، فسر سرورًا عظيمًا، وقال له: إذا كنت صادقًا فيما تقول، أيها اللص الأثيم، وكان الولد حيًّا صفحت عنك.

أما ويلتون فلم يصغ إليه، بل وثب من الغرفة لخوفه من البوليس، وصعد درجات السطح وهو لا يلوي من خوفه على أحد.

ولما بلغ السطح كان الجنود قد دخلوا إلى الغرفة؛ فتقدم رئيسهم وقال إننا نبحث عن شخص يدعى ويلتون.

فرد كرافن قائلًا: إن الطير قد هرب من القفص.

– وإننا نبحث أيضًا عن امرأة تدعى سوزان.

فأجابته سوزان، بصوت يتهدج من الاضطراب، قائلة: أنا هي يا سيدي.

وكان الجنود يعلمون أن كرافن من اللصوص. غير أن البوليس في بلاد الإنكليز لا يقبض على اللص إلا حين يرتكب الجريمة، فاقتصر على أن يأخذه كشاهد فقط.

ولذلك سأله عما يعلم فقال له: إن شوكنج وجوهان كولدن أتيا إلى الحجرة، وسألا عن ولد أضاعاه.

فأكد رئيس الجنود أن الولد لا يزال حيًّا، وأنه مصاب بجرح خفيف.

وهنا ضمت سوزان يديها إلى صدرها وقالت لرئيس الجنود: إنني أنا وويلتون المجرمان وأما الصبي فهو بريء.

أما رئيس الجنود لم يحفل بكلامها وقال لها: لك أن تقولي ما تشائين. أما الولد فلا بد له أن يذهب إلى سجن الطاحون، ويقيم فيه إلى أن يبلغ العشرين من عمره.

وهنا ارتعدت فرائص شوكنج وجوهان، لأنهما كانا يعرفان هذا السجن الهائل، الذي اخترعه الإنكليز لتأديب السارقين، لأنهم يلقون فيه من العذاب ما يدل على أن الذين اخترعوه لا أثر في قلوبهم للرحمة.

ولما تأكد رئيس الجنود أن كرافن لا يد له في هذه السرقة، أذن له بالانصراف.

فانصرف باكيًا بكاء الأطفال وهو يقول: ترى أيبقي العبوس هذا الطفل المنكود في ذلك السجن الهائل المخيف؟

٣٦

ولنعد الآن إلى منزل توماس الجن، فإنه عندما دوى المدفع وسمع الجيران دويه، فخافوا وحسبوا أن أنابيب الغاز قد انفجرت، ولم يجسر أحد على الخروج، بل فتحوا النوافذ وجعلوا ينظرون بعضهم إلى بعض ويتساءلون.

ثم خرج بعضهم بعد ربع ساعة، فكان قدوة لسواه واجتمع عند باب الحديقة كثيرون، ولم يجسر أحد على الدخول.

وبعد هنيهة أقبل البوليس وأخذ مصباحًا ودخل، فتبعه الناس. وهناك رأوا ذلك المرابي طريحًا على الأرض، يستغيث لفرط ما نزف من دمائه، لأن خنجر ويلتون قد أصاب ضلوعه فأسال دمه غزيرًا.

أما الجرح فلم يكن خطرًا، فنادوا على الفور طبيبًا مجاورًا وحملوا توماس إلى سريره، ورأوا عند باب الغرفة ذلك الفتى المنكود مضرجًا بدمائه؛ فحملوه إلى غرفة توماس.

فصاح توماس قائلًا حين رآه: هو ذا واحد من أولئك اللصوص الذين حاولوا سرقتي.

غير أن الحضور تلقوا كلامه بالشك لما رأوه من حداثة عمر الولد، وجماله النادر، وهيئته التي تدل على السلام، فنظر الطبيب جرح الولد أيضًا، ورأى أن الرصاصة أصابت الجلد فقط.

وكان الفتى عندئذ مغميًّا عليه، فرد الطبيب صوابه إليه بما شممه من المنعشات. ولما فتح عينيه، أجال بين الحضور نظرًا حائرًا مضطربًا، وأخذ يبكي.

وصرخ به توماس يقول: يا ربيب اللصوص، قل من الذين كانوا معك.

فذعر الولد وتمادى في بكائه دون أن يجيب.

ولما رأى توماس أنه لا يجيب، وأن الناس لا يعتقدون أن الولد شريك اللصوص، أراهم النافذة الصغيرة في الباب، وباح لهم بسر المدفع والبندقية، وأراهم الحبل المقطوع، وأثبت لهم أن الفتى مد يده من النافذة وقصه، وأن يد الرجل لا يمكن أن تدخل منها لضيقها.

أما رالف فقد هاله ما سمعه، واعترف بما يعرفه، وذكر اسم ويلتون وسوزان.

ولما سمع البوليس اسم ويلتون عرفه، ففرق الجميع وأخذ رالف وهو يقاسي من خوفه ما يكابده من جرحه، وسار به إلى مركز البوليس.

فعجب مأمور المركز لأمره، وسألهم عن هذا الولد، فأخبروه بما حدث له.

فركع رالف أمامه وأقسم له أنه غير لص.

أما المأمور فلم يحفل بكلامه، وأمر الكاتب أن يكتب ما يقول، وأخذ يستنطقه. فأخبره رالف بأمه وكيف أضاعها، وعن تلك المرأة التي سجنته في منزلها وكانت تضربه، وكيف أن الأرلندية وجدته، إلى آخر ما علمه القراء.

وكان يتكلم بلهجة مؤثرة، ولما أتم حديثه نظر المأمور في ساعته وقال للكاتب: اختم التقرير؛ لأن الساعة قد بلغت العاشرة الآن، وغدًا يوم الأحد وهو يوم راحة. ثم أمر السجان أن يذهب به إلى السجن، وأن يعود به إليه يوم الإثنين.

فجعل رالف يبكي ويتوسل إلى المأمور أن يطلق سراحه ويبحث عن أمه، غير أنه لم يكترث له لاعتقاده أنه لص ذكي، تدرب على المهنة منذ حداثته، وأن الحكاية التي رواها ملفقة.

وكان طبيب البوليس واقفًا فقال للمأمور: إن هذا الفتى جريح ويحتاج إلى عناية.

فأجابه بجفاء: لا بأس عليه، سيشفى في الحبس.

ثم أخذ تقريرًا كان أمامه عن رجل قتل أمس، ورأى فيه أنهم يتهمون بقتله لصًّا يدعى ويلتون، وإذا كان قد سمع من رالف اسم ويلتون، أمر فريقًا ليقبضوا عليه.

وقد عرف القراء كيف أنهم كبسوا منزله، وكيف فر منهم.

أما رالف فإن السجان دفعه بعنف إلى سجنه المؤقت، وهو يبكي وينتحب، فرماه على فراش من القش لينام عليه، والدم لا يزال يسيل من جرحه.

٣٧

لم تكد تدق الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي، حتى غصت كنيسة سانت جيل بالمصلين، ومعظمهم بالملابس الرثة، بل إن كثيرين منهم كانوا حفاة الأقدام، مما يدل على شدة فقر الأرلنديين.

وكانوا خليطًا عظيمًا من النساء والأولاد والرجال والشيوخ. وإنما كانوا كثيرين في ذاك اليوم، لما أشيع بينهم من أن كاهنهم صموئيل قد زج في الحبس، وكانت علائم الحزن والقلق بادية في وجوههم، وكلهم ينتظرون بفارغ الصبر، أن يفتح باب الهيكل، ليروا من الذي يخدم القداس.

ثم بدأت الصلاة والقلوب واجفة مضطربة، وفتح باب الهيكل فصاح جميع الحضور صيحة فرح بصوت واحد؛ لأنهم رأوا الأب صموئيل واقفًا بالباب.

وبدأ الأب صموئيل بالصلاة حتى إذا فرغ من تلاوة الإنجيل، وقف بباب الهيكل وقال يخاطب الناس:

أيها الإخوة

في مثل هذه الساعة من يوم ٢٦ أكتوبر، أي منذ أربعة أيام، وكان موعد الاحتفال بقداس خاص، وكنا ننتظر قدوم أربعة من بلاد بعيدة لا يعرف بعضهم بعضًا، ولكنهم مجموعون متعارفون في حب أرلندا وطننا العزيز، وكان الاتفاق أن أكون أنا واسطة التعارف بينهم.

وقد اتفق ما حال دون حضوري في ذاك اليوم، فلا أعلم إذا كانوا قد حضروا فيه، ثم لا أعلم إذا كان قد حضر أحد منهم اليوم، فإذا كانوا قد جاءوا فليدخلوا إلى الهيكل بعد انتهاء القداس.

وبعد أن فرغ من خطبته، أتم حفلة القداس.

وكان عند باب الهيكل امرأة راكعة تصلي، وتذرف الدمع السخين، وهي الأرلندية والدة رالف، الذي تركناه جريحًا ملقيًّا في الحبس على فرشة من القش. وكان بالقرب منها رجل ينظر إليها نظرات الإشفاق، وهو الرجل العبوس.

ولما انتهت الصلاة وتفرق الناس، أخذ العبوس بيد الأرلندية، ودخل بها إلى الهيكل ووقف أمام صموئيل.

ثم دخل في أثرهما رجلان، واقتربا من الأب صموئيل، وأظهرا له إشارات سرية عرفهما وأجابهما بمثلها، ثم التفت إلى العبوس وقال له: لم يحضر من الأربعة غير اثنين.

فأجابه الرجل العبوس قائلًا: إني سأعثر عليهما، إذ لا بد أن يكونا في لندرا.

فاطمأن الأب صموئيل لحديثه وقال للاثنين: من أين أتيتما؟

فقال أحدهما: من أيكوسيا.

وقال الآخر: من بلاد الغال.

فقال للأيكوسي: كم رجل عندك؟

– عشرون ألفًا.

وسأل الآخر هذا السؤال، فرد: ثلاثون ألفًا.

فأطرق الرجل العبوس برأسه وقال: إن هذا العدد لا يكفي، ولم يحن وقت العمل.

فقال الأيكوسي: ولكنه لا بد أن يحين، فأين هو الفتى الذي ننتظره؟

فوضع الأب صموئيل يده فوق كتف الأرلندية وقال: هذه أمه.

فاصفر وجه الأيكوسي وقال: إني أراها تبكي، فهل أصيب الفتى بمكروه؟

فرد صموئيل: نعم إنه في قبضة أعدائنا.

فنظر العبوس نظرات متقدة، تكهرب الأجسام، وقال: سأنقذه من أيديهم.

فارتعش الرجلان لنظراته وقالا له: من أنت؟

– إني مثلكما وأحد زعماء هذه المهمة النبيلة التي نخدمها.

فقال أحدهما: ما اسمك؟

– لا اسم لي.

فبهت الرجلان لهذا الجواب الغريب، وأخذ كل منهما ينظر إلى الآخر، فقال لهما العبوس: إني أنوب عن شخص مات شهيد أرلندا، وقد تلقيت أوامره الأخيرة قبيل موته، وكنت واقفًا تحت مشنقته.

فقالا: وهذا الشخص ماذا يدعى؟

– فالتن.

فانحنى الرجلان احترامًا.

وعندها التفت العبوس إلى الأب صموئيل وقال له: إنك أصبت بصلاتك اليوم صلاة الأموات عن نفوس الذين سيموتون، إذ لا بد أن يسفك دم كثير قبل أن ننزع الغلام من أيدي المضطهدين الآثمين؟

فارتعش الرجلان لكلامه، ورفعت الأرلندية عينيها إلى السماء، وهما مغرورقتان بالدموع، وقال له صموئيل: سيكون شهداء أرلندا كثيرين، وستسيل دماؤهم الزكية فتروي الأرض، وإني أزودك ببركات الله وأرجو أن يحميك ويقيك.

وعندها تركهم العبوس، وخرج من الكنيسة فلقي عند بابها شوكنج ينتظره؛ لأنه قد عرف منه حوادث الأمس.

ولم يكن شوكنج كاثوليكيًّا أرلنديًّا فوقف عند باب الكنيسة، ولم يشترك في الصلاة لأنه من شيعة البروتستانت.

وكان منذ أسبوع لا يكترث لأمور أرلندا، ولا تهمه شئون الأرلنديين. فبات الآن كواحد منهم بعد أن عرف الأرلندية والأب صموئيل، وبحث عن الغلام، ولا سيما بعد أن تعلق بخدمة هذا الشخص السري الذي يتنكر باسم الرجل العبوس.

ولما لقيه العبوس قال له: أفعلت كما قلت لك؟

– نعم، إن ويلتون قد قبض عليه، وذلك أنه صعد إلى السطح كما أخبرتك أمس، ولكنه لم يجسر على النزول منه، لأن البيت كانت تطوقه الجنود، فاختبأ داخل أنبوبة المستوقد طول ليله.

وعند الصباح كانت الجنود لا تزال في الطريق، ولكنه رأى نافذة قد فتحت أمام المستوقد، وبرز منها لص يدعى جاك، ويلقبه إخوانه بالعصفور الأزرق، فقال لويلتون: أسرع بالخروج، لقد عثرت على طريقة لإنقاذك.

فامتثل ويلتون وخرج من مخبأه. وفيما هو ينزل درجات السلم، أطبقت عليه الجنود، وكانوا مختبئين في منزل فطوقوه وأسروه.

– يظهر أن جاك قد خانه.

– هو ذاك، والسبب في هذه الخيانة أن جمعية اللصوص عقدت جلسة حين كان ويلتون مختبئًا فوق السطح فحكمت عليه.

– لماذا ولأي ذنب اقترفه؟

– إنه سرق أخيرًا منزلًا مع بعض زملائه، فأخذ فوق نصيبه من القيمة اختلاسًا، أي إنه سرق إخوانه. ولهذا قررت الجمعية تسليمه بدلًا من إنقاذه. وهذا سبب ما كان من خيانة العصفور الأزرق، فإنه خدعه بأمر الجمعية.

– ألم يدافع ويلتون عن نفسه حين طوقه الجنود؟

– نعم، فإنه دافع دفاع اليأس، ولم يقبضوا عليه إلا بعد أن جرح اثنين منهم جراحًا خطرة، ولذلك ساروا به توًّا إلى سجن نيوجات، وسيشنق بعد أسبوعين.

– وماذا حدث لعشيقته سوزان؟

– إنهم لم يستطيعوا نقلها من غرفتها، لفرط ما نزف من دمائها، وقد قرر الطبيب إنها لا تشفى قبل شهر، فوضع البوليس حارسًا على باب منزلها إلى أن تشفى.

– ومتى شفيت يذهبون بها إلى السجن؟

– دون ريب إذا أراد اللصوص.

– كيف ذلك؟

– هذا ما أخبرني به كرافان، فإن جمعية اللصوص التي حكمت على ويلتون، ستجتمع أيضًا وتنظر في أمر سوزان. وهم مختلفون بشأنها والأكثرية ترى أنها غير مذنبة، وإذا أجمعوا على تبرئتها أنقذوها.

– أينقذونها رغم البوليس؟

– بل بملء إرادته، لأن البوليس في هذا الشارع لا يفعل إلا ما يريده اللصوص.

فابتسم العبوس وظهر من هيئته كأنه يذكر أمورًا بعيدة، ثم التفت إلى شوكنج وقال له: أين جوهان كولدن؟

– إني لم أره، ولكنه يجب أن يكون قرب مركز بوليس كلبيرن يراقب الفتى.

فافتكر العبوس هنيهة ثم قال له: أصغِ إليَّ الآن، فإنك قد لا تراني عدة أيام فلا تقلق عليَّ، وانتظر هنا إلى أن يخرج الأب صموئيل والأرلندية فإنها اطمأنت الآن، لأننا لم نخبرها بما حدث لولدها، ووعدناها بإرجاعه وهي واثقة بنا.

فقال له شوكنج: أترى تصدق هذه الوعود، وينجو هذا الغلام المنكود؟

فهز العبوس كتفيه وقال: إنك لا تزال ساذج القلب، وكيف لا ينجو؟ أتريد أن ندعه في ذاك الحبس المخيف؟

– وكيف تمنع البوليس أن يدخله إليه؟

فابتسم العبوس ولم يجب. وقال له شوكنج: لدي رأي، أرجو أن يكون مصيبًا.

– ما هو هذا الرأي؟

– هو أن نحيط مركز البوليس بخمسين رجلًا من الأشداء، فإذا خرجت الجنود برالف إلى الحبس أطبقنا عليهم وأخذناه بالهجوم.

– إن رأيك في غاية السداد. ولكنه فاتك أنه يوجد قرب مركز البوليس ثكنة غاصة بالجند، إذا نفخ بالبوق أتوا زرافات، ومزقونا برصاص بنادقهم كل ممزق.

– أصبت فلم تخطر لي هذه النكبة، أما إذا دخل الفتى إلى حبس الطاحون فكيف تخرجه منه؟

– ذاك موكول لي، وسوف ترى. فابق هنا إلى أن يخرج الأب صموئيل والأرلندية، واحرص عليها كل الحرص، فقد وكلت حراستها إليك.

ثم تركه وسار إلى الشارع الكبير، وركب مركبة وأمر سائقها أن يسير به إلى شارع بال مال، وهو شارع عظيم لا يقيم فيه غير النبلاء.

فسارت المركبة وجعل العبوس يقول في نفسه: لقد مضى عهد طويل دون أن أعود إلى المنزل، فماذا عسى أن تقول عني صاحبته؟

ولما وصلت المركبة إلى ذاك الشارع، أوقفها عند باب منزل فخم، وخرج ودفع أجرة السائق، وأخذ مفتاحًا من جيبه ففتح الباب ودخل. فكان السائق ينظر معجبًا إلى ملابسه الرثة ويقول: ماذا يصنع هذا الفقير في منازل اللوردية؟

٣٨

وبعد ساعة خرج الرجل العبوس من هذا المنزل، وهو لابس خير الملابس، وقد امتطى جوادًا من أفضل الجياد، وخرج وراءه خادم على جواد آخر.

وكان في قرب ذلك المنزل بائع كتب، رأى الرجل العبوس حين دخل بملابسه الرثة. فأنكر دخوله وظن فيه الظنون. ثم رآه خرج وهو على أفخر ما يكون من الهندام والتأنق، فحار في أمره وراح ينظر إليه منذهلًا حتى ابتعد عنه ولم يعد يراه.

أما العبوس فإنه سار يتبعه خادمه، فقطع شارع بال مال إلى جمس ستريت، ثم إلى بيكاديللي وذهب منها إلى هايدبارك. وكانت الساعة العاشرة صباحًا، وقد كثر المتنزهون من رجال ونساء، ومعظمهم يمتطون الجياد.

فما سار هنيهة في أروقة ذلك البستان الكبير، حتى رأى فتاة مقبلة على فرسها وراءه، فالتقى النظران واتقدا اتقاد السلاح المصقول أصابته أشعة الشمس، فصرخت الفتاة منذعرة: هذا هو.

وقال العبوس: هذه هي مس ألن.

وكانت مس ألن، ابنة اللورد بالمير، تسير يتبعها خادم عجوز. ولما رأت أن الرجل العبوس قد تجاسر وحياها، غضبت غضبًا عظيمًا والتفتت إلى خادمها، وأشارت إليه أن يوافيها، فلما دنا منها وقالت له: أرأيت هذا الشخص الذي حياني؟

– نعم.

– أريد أن تتبعه الليل والنهار، وتلازمه ملازمة ظله، ولا تعود إليَّ إلا بعد أن تعرف اسمه وأين يقيم.

فانحنى الخادم ممتثلًا، وسار في أثر العبوس.

أما هو فلما رآها تكلم خادمها، أدرك قصدها فقال في نفسه: إن خادمك لن يقضي المهمة التي انتدبته إليها. ثم فك أزرار ثوبه، وأخرج من جيبه دفترًا، فانتزع منه ورقة وكتب عليها ما يأتي:

يظهر يا مس ألن أنك تريدين أن تعرفي من أنا اطمئني فسأتشرف بإخبارك عما ترغبين الوقوف عليه بنفسي في الليلة القادمة عند نصف الليل.

خادمك المطيع
المجهول

ولما فرغ من الكتابة طوى الورقة، ونادى خادمه فقال له: أسرع بإدراك تلك الفتاة، وأعطها هذه الورقة.

فأخذها الخادم وقال له: أين ألقاك يا سيدي بعدها؟

– لست محتاجًا إليك، فاذهب بعد إعطائها الرسالة إلى المنزل.

ثم افترق الاثنان وذهب الخادم إلى الفتاة، وسار العبوس يتنزه وخادم مس ألن يتبعه كيفما سار.

وظل العبوس يسير من مكان إلى مكان، وهو يهزأ بالخادم الذي يتبعه، حتى انتهى إلى غدير يفصل بين طريقين، حرم البوليس على الفرسان قطعه. ولكن العبوس لم يحفل بهذا المنع، فبحث عن أضيق مكان في الغدير، ولكز بطن فرسه فوثب به من ضفة إلى ضفة، وجرى في الطريق الآخر يسابق الرياح.

وكان الخادم العجوز يبعد عنه عدة أمتار، فأسرع في أثره وأراد الاقتداء به فجمح جواده وأبى الوثوب، فكان بين الفرس والفارس نزاع قوي أسفر عن انتصار الفارس، فوثب الجواد كما أراد راكبه. ولكنه لم يتمكن من اجتياز الغدير فبلغت يداه الضفة، ولكن رجليه سقطتا في المياه، فانقلب الخادم إلى الأرض. وأسرع إليه البوليس كي يغرمه بالجزاء المفروض على الذي يجتاز النهر. فلم يكد ينتهي الخادم من نقاشه مع البوليس، حتى رأى أن العبوس قد احتجب عن الأنظار. فعاد إلى مولاته بالخيبة والخذلان.

أما الرجل العبوس فإنه واصل سيره آمنًا، وهو يقول في نفسه: لأذهب الآن إلى مركز البوليس كيلبرن عَلِّي أعثر على طريقة لإنقاذ الفتى قبل إرساله إلى الحبس.

•••

إن مراكز البوليس في لندرا تشبه مراكزه في مصر، غير أن الفرق بينهما أنه يبقى في كل مركز قاض دائم يحق التبرئة والحكم وإطلاق المسجونين. وكان رئيس هذا المركز قاضيًا شريف الأخلاق حاد الطباع، لكنه كان عاقلًا خبيرًا شديد الوطأة على اللصوص، حتى إنه كان يقطع دابرهم.

وكان له ابنة يحبها حبًّا عظيمًا، لا يلين فؤاده القاسي غير صوتها الحنون. وقد كان ذلك اليوم يوم أحد، وهو يوم يرتاح فيه القضاة فلا يشتغلون، فكان هذا القاضي يراجع في منزله بعض المذكرات، وبيته فوق مركز البوليس.

وفيما هو منهمك في تلاوتها فتح باب غرفته، ودخلت منه ابنته فانقطع عن القراءة، وابتسم لها قائلًا: ماذا تريدين يا ابنتي؟

– إني أراك منهمكًا في الأشغال، أتشتغل يوم الأحد؟

– ذلك لا بد منه، إذ يجب عليَّ أن أضع تقريرًا لحادثة الأمس.

– وأنا قد أتيت أيضًا لأحادثك في هذا الشأن، وأتمنى أن لا تؤنبني يا أبي؟

فقال لها بلهجة حنو: متى كنت أؤنبك يا ابنتي قولي ما تشائين. ثم شدها نحوه وقبلها بجبينها.

– إن طبيب المركز قد جاء الآن.

– ماذا يريد ألعله أتى من أجل هذا الولد الجريح؟

– نعم يا أبي، فقد أتى يسألني ضمادًا لجرح الولد المنكود، أعطيته وساعدته على ضمد جراحه، ولكني واثقة يا أبي من براءة هذا الصغير.

– أتظنين أنه بريء؟

– بل أؤكد وقد قص علينا حكايته، وهي تؤثر بالجماد.

فهز القاضي كتفيه دون أن يجيبها، وانصرف عن محادثتها إلى النظر في تقرير كان أمامه، فما أتم تلاوته حتى ارتعش وقال: ما هذا؟

فلم تجسر الفتاة على محادثة أبيها بشأن الولد بعد ما رأت اضطرابه، ولكنه هو افتتح الحديث بشأنه، فقال لها: تقولين أن الولد قص عليك حكايته ماذا قال لك؟

– يقول إنه أتى إلى لندرا منذ أربعة أيام فقط مع أمه، وأنه أرلندي وأمه تدعى حنة، وأن امرأتين فصلتاه عن أمه، وحبستاه في بيت له حديقة، فهرب من هذا البيت راجيًا أن يلقي أمه وصار يركض في شوارع لندرا، وهو لا يعلم أين يسير حتى عثرت به امرأة تدعى سوزان، فسارت به إلى دارها ووعدته أن تجمعه بأمه في الغد.

فضرب القاضي يده على المذكرة التي قرأها وقال: ما هذا الاتفاق الغريب انظري هذه المذكرة، فقد أرسلها لي الآن معاون بوليس مالبورج، وأظنها خاصة بهذا الولد فاقرئيها.

تناولت الفتاة المذكرة، وقرأت ما يأتي:

في صباح اليوم أتى إلى مركزنا اللورد بالمير، أحد أعضاء المجلس الأعلى، وقال لنا أن ولدًا أرلنديًّا يدعى رالف وعمره عشرة أعوام سرقته امرأتان وأخذتاه إلى بيت في همستاد، فغافل الولد المرأتين وهرب من البيت، ولا بد أن يكون تاه في شوارع لندرا، وأن البوليس حجر عليه كما يحجر على المتشردين.

وإن اللورد بالمير يهتم بهذا الولد كل الاهتمام، ويطلب أن يرد إليه على عهدته، ثم إنه وضع جائزة قدرها ألف جنيه يمنحها لمن يرد إليه الولد.

فرحت الفتاة فرحًا عظيمًا وقالت: لا شك أن الولد هو الذي يطلبه، وأنك سترده إليه أليس كذلك يا أبي؟

– إن الأمر مستحيل؛ لأن الولد قد اشترك بسرقة، ويجب على اللورد بالمير أن يحضر غدًا بنفسه ويطلبه مني.

– لا بأس فيسطلق سراحه في كل حال، وهذا ما أتمناه، ولكن ألا يجب أن نخبر اللورد بأمره؟

– لقد أصبت يا ابنتي، وسأذهب بنفسي وأخبره.

ثم قام فلبس قبعته وقال: إني ذاهب إلى منزل اللورد، وقد أغيب ساعة، فإذا حدث أمر بغيابي فادعي سكرتيري المستر توب، ولكن اكتبي المذكرات بيدك، فإني لم أجد أجهل من هذا السكرتير على طول عهده بالخدمة.

ثم خرج وهو يقول في نفسه، ما أجمل هذا الاتفاق فسأقبض الجائزة، وهي تبلغ قيمة راتبي عن عشرة أعوام فأجعلها مهرًا لابنتي؟

وعادت الفتاة إلى غرفتها، ولم يطل جلوسها حتى سمعت وقع حوافر جواد في الشارع، فأطلت من الشباك فرأت فارسًا جميلًا، نزل عن حصانه عند باب المركز فأعطاه لأحد الغلمان ودخل إلى المركز، وكان هذا الفارس الرجل العبوس.

٣٩

ولنذكر الآن من أين جاء الرجل العبوس قبل أن ندخل بأذهان القراء معه إلى مركز البوليس، فإنه حين تخلص من مراقبة خادم مس ألن ذهب توًّا إلى منزل توماس الجن ذلك المرابي الجريح، فوجد الناس مزدحمين عند باب الحديقة يتحدثون بحادثة الأمس، وكل منهم يرويها رواية مختلفة.

وكان جميع سكان ذلك الشارع يعرفون ذاك المرابي المحتال، فما وجد بينهم من أشفق لنكبته، بل كان بعضهم يأسفون لعدم فوز اللصوص.

وقد حاول بعض الجيران أن يعودوه، ليس إشفاقًا عليه بل من قبيل الفضول، غير أن المرابي أتى بممرضة في الليلة، وأمرها أن لا تأذن لأحد بالدخول إليه.

فلما وصل الرجل العبوس، ورأى الناس جمال فرسه وملابسه، ما شككوا أنه من كبار النبلاء، ثم رأوه قد اختلط بفريق منهم، وسألهم عن سبب تجمعهم فحكوا له ما حدث لتوماس، وكيف أنهم سمعوا دوي المدفع، فأظهر عجبًا شديدًا وقال لهم: إني من أهل الشذوذ والفضول، وقد تعودت أن أقيد في دفتري جميع الجرائم الكبرى التي تحدث في لندرا، ولا بد لي من أن أرى هذا الرجل.

وإن أهل الشذوذ كثيرون في بلاد الإنكليز بين نبلائهم، حتى إن الشذوذ يكاد يكون خاصة بهم، لذلك تلقى الجمهور كلامه بالارتياح، فأخذ العبوس دفترًا من حقيبته، وأخذ يكتب فيه أجوبة الأسئلة التي كان يلقيها على الحضور، حتى إذا فرغ من الأسئلة قال: إني أريد أن أرى هذا المرابي.

فقال له أحدهم: لا سبيل يا سيدي اللورد إلى رؤيته، فإنه لا يؤذن لأحد بالدخول.

– لكنه يأذن لي.

ثم ترجل عن فرسه ودفعه لأحد الحاضرين، وتقدم من باب المنزل وقرعه.

وبعد حين أتت الخادمة فقال لها: قولي لسيدك إن لوردًا نبيلًا يريد أن يرى منزلك، ويدفع مقابل ذلك عشرة جنيهات.

ودهشت الخادمة لهذا الكرم، وعادت إلى توماس لتخبره.

والعادة عند الإنكليز أنهم يتراهنون على كل ما يحتمل الرهان، ويغتنمون كل فرصة لفرط ولوعهم بالمراهنة، فلما رأوا الخادمة عادت إلى سيدها لتستأذن الرجل بالدخول حمي وطيس المراهنة بين القائلين بقبول توماس بإدخاله والقائلين برفضه، ووقفوا ينتظرون عودة الخادمة.

ثم عادت الخادمة فتطاولت إليها الأعناق، وسمعوها تقول له: تفضل يا سيدي.

فاسودت وجوه وابيضت أخرى، ودخل الرجل العبوس إلى المنزل، ورأى المرابي مضطجعًا في سريره.

وعند ذاك طلب إليه أن يريه المدفع وأراه إياه، وأخبره بطريقة وضعه ثم أخبره بكل ما حدث في تلك الليلة، حتى إذا وصل بحكايته إلى الغلام الأرلندي سأله العبوس: أين هو الغلام؟

– في السجن.

– في أي سجن؟

– في سجن مركز كلبورن.

– إذن أريد أن أراه، وإني أدفع لذلك عشرة جنيهات أيضًا.

فطمع المرابي بالمال وقال: إن للقاضي صديق لي، فهو لا يرفض طلبي إذا طلبت منه أن يأذن لك بمشاهدة الغلام.

– إذن اكتب لي كتاب توصية، فإني أدعى اللورد كورنهيل.

فكتب المرابي ذلك الكتاب إلى القاضي، ثم قبض المال من العبوس، وهو يتنهد بشرًا.

أما العبوس فإنه أخذ الكتاب، وودع المرابي وخرج، فلما وصل إلى باب الحديقة، رأى الخادمة تجادل شخصًا يريد الدخول لمقابلة توماس وهي تأبى إدخاله قائلة إنه مريض لا يستطيع مقابلة أحد، ولما رأى أنه لا حيلة معها قال لها: قولي لسيدك إني غريب قادم من أميركا.

ولما سمع الرجل العبوس وارتعش، ثم أحدق به وقال: أتتكلم الفرنسية يا سيدي؟

فرد الأميركي بتلك اللغة.

وفي خلال ذلك أشار العبوس بسرعة تلك الإشارات الخاصة بزعماء الأرلنديين فانذهل الأميركي ورد بمثل إشارته، فقال العبوس بالفرنسية: إذن أنت هو الشخص الذي ننتظر قدومه من أميركا فهلم بنا، إذ لم يبق لك حاجة بالدخول إلى هذا المرابي المحتال، فقد أنقذتك يد الاتفاق من شراكه.

٤٠

وسار الاثنان إلى مركز البوليس، فلما وصلا إليه وقف الأميركي بعيدًا، وترجل العبوس عن فرسه، ودنا من الباب وطرقه.

وكانت ابنة القاضي قد رأته من النافذة، وأعجبت به كما تقدم فلم تنادي السكرتير بل قامت بنفسها، وفتحت الباب فحياها العبوس أحسن تحية وقال لها: إني أخشى يا سيدتي أن أكون مخطئًا، إذ لا يمكن أن تكون فتاة لها ما لك من الجمال، وهي تفتح أبواب السجون.

فسرت الفتاة لهذا الثناء، ورأت عليه ظواهر النبلاء فقالت: إلى أين أنت ذاهب يا سيدي الميلورد؟

– إلى مركز بوليس كليبرن.

– لقد وصلت فهذا هو المركز، وما أنت بمخطئ.

– إني أريد أن أرى القاضي؟

– هو أبي.

– لا شك يا سيدتي أن أباك كثير العجب والافتخار بهذا الجمال الباهر.

فاحمر وجه الفتاة، وأطرقت بنظرها إلى الأرض فقال لها: لدي كتاب يا سيدتي لأبيك من المستر توماس الجن.

– أهو ذلك المرابي الذي كادوا يقتلونه ليلة أمس؟

– هو بعينه فاسمحي لي يا سيدتي أن أخبرك من أنا، فإني أدعى اللورد كورنهيل، وأنا مولع منذ أعوام بجميع تواريخ الجرائم وتفاصيلها، فبات لدي منها مجموعة نفيسة.

– ولكن أبي غائب الآن.

فظهرت على العبوس علائم الاستياء، غير أن الفتاة استدركت فقالت: إنه يحق لي يا سيدي أن أفتح رسائل أبي، لقد خولني هذا الحق.

– إذن خذي واقرئي يا سيدتي.

وأعطاها كتاب التوصية، ففضته وقرأت ما فيه ثم قالت: إذن يجب أن أدعو مستر توبي.

– من هو؟

– إنه سكرتير أبي، فإنه يقرأ التوراة في غرفته.

ثم وقفت في باب غرفتها، ونادت السكرتير فرد عليها.

وعادت إلى العبوس وقالت: إنك لو رأيت يا سيدي الميلورد هذا الغلام المنكود لأشفقت عليه كل الشفقة فإنه يشبه الملائكة، وقد أخطأ المستر توماس باتهامه لأنه بريء دون شك، كما اتضح لي من حكايته.

– ألعله قص عليك أمره؟

– نعم يا سيدي وقصته محزنة.

– حبذا يا سيدتي لو حكيتها لي، فأكتبها في دفتري.

– حبًّا وكرامة.

ثم قصت عليه كل ما علمته من أمر الغلام، حتى إذا أتمت حكايتها قالت: لكني أظن أنهم سينقذونه غدًا.

– من الذي ينقذه؟

– شخص نبيل من اللوردية، طلبه من المركز.

فارتعش العبوس وقال: أتعرفين اسم هذا اللورد؟

– نعم، فإنه يدعى اللورد بالمير. ثم حكت له كل ما علمته من أبيها عن ذاك اللورد، وعندها أقبل سكرتير أبيها فقالت له: أليس مفتاح السجن معك يا مستر توبي؟

– دون شك.

– إذن أعرفك باللورد كورنهيل فإنه واسع الثروة، شديد الولع بجمع أخبار الجرائم، وهو يريد أن يرى الغلام الأرلندي السجين.

– إن ذلك محال يا سيدتي.

– لماذا؟

– لأن المستر بوث …

– ألا تعلم أن المستر بوث هو أبي؟

– لا أنكر ذلك.

– ألا تعلم أنه يستحسن كل ما أفعله؟

– لا أنكر أيضًا يا سيدتي ما تقولين، ولكنه …

– حسنًا، ماذا؟

واضطرب السكرتير قائلًا: لكني أخشى أن يكون حضرة الميلورد يريد إنقاذ الغلام.

وضحك الرجل العبوس، واستاءت الفتاة من السكرتير، وقالت للعبوس: أرجوك يا سيدي أن تعذره فما أخطأ أبي بتلقيبه بالأبله.

وتألم السكرتير من كلامها، وكان يهواها وهي تهزأ به فقال لها: أنت يا سيدتي صاحبة الأمر فمريني أطع، ولو دعت هذه الطاعة إلى طردي.

– إذن لا أحملك هذه التبعة فهات المفتاح.

وتنهد السكرتير وأعطاها مفتاح السجن، فأخذته منه وقالت للرجل العبوس: تفضل يا حضرة الميلورد فإني أفتح لك السجن.

– وهل أرى الغلام؟

– دون شك فإنه سجين فيه.

ثم مشت أمامه فأخرج الرجل العبوس ورقة مالية من جيبه وأعطاها للسكرتير، وذهب في إثر ابنة القاضي.

٤١

ووصلا إلى الباب الأول وهو مصفح بالحديد، ففتحته الفتاة وتقدمت إلى الرجل العبوس وبيدها مصباح، فاستوقفها العبوس وكتب في دفتره مذكرة عن الباب الحديدي.

وابتسمت الفتاة لما رأته من غريب أخلاقه، ونزلت أمامه سلمًا طويلًا يبلغ ثلاثين درجة، وهناك انتهت إلى باب حديدي آخر، أشد كثافة من الأول، فتوجع العبوس للغلام المنكود وقال في نفسه: يا ويحهم إنهم زجوه في أعماق السجون، كما يسجنون من يحكم عليه بالإعدام.

وفتحت الفتاة الباب، ودخلت إلى دهليز طويل مظلم وتبعها وقلبه يخفق إشفاقًا على هذا الغلام الصغير الذي قدر له أن يبيت جريحًا في الحبس، ويؤخذ بجريرة اللصوص.

وبعد أن مشيا في الرواق المظلم بضع خطوات، سمع الفتاة تقول: لا تخف هذا أنا.

ونظر العبوس ورأى الغلام المسكين منطرحًا على فراش من القش، ونسي الدور الذي يمثله واغرورقت عيناه بالدموع.

أما رالف فإنه لما سمع صوت الفتاة أنس بها، لأنها هي التي ضمدت جراحه مع الطبيب.

فقالت له: ألا تزال تتألم؟

– قليلًا يا سيدتي، ولكني شديد الظمأ.

ثم نظر إليها نظرة الملتمس وقال لها: إنك كريمة يا سيدتي، كما ظهر لي منك فلماذا لا تخرجينني من هذا الحبس المظلم، وتدعينني أبحث عن أمي؟

وعندها دنا الرجل العبوس من الفتاة وسألها: أتسمحين لي يا سيدتي أن أكلم هذا الفتى بلغة بلاده؟

فابتسمت الفتاة وقالت: أليست لغة الأرلنديين والإنكليز واحدة؟

– هو ذاك، ولكن للأرلنديين لغات خاصة تتكلم بها عامتهم، فهل تأذنين لي أن أكلمه بها.

– افعل.

ولم يكد العبوس يفوه بالكلمة الأولى حتى صاح الغلام صيحة دهش، وأصغى إلى الحديث كل الإصغاء.

وقال له بتلك اللغة التي لا تفهمها الفتاة: اعلم يا بني أني صديق لأمك التي تبحث عنك وتبكي لبعادك، ولكني سأردك إليها فأصغي إليَّ الآن.

وكان رالف قد ألف هذه الوعود حتى لم يعد يصدقها، لكنه حين سمع الرجل يكلمه بلغة قومه وثق به.

وجعل الرجل العبوس يحدثه عن أمه، وجميع ما حدث له منذ قدومه إلى لندرا، والفتى مصغ إليه إلى أن أتم حديثه فقال: يجب عليك أن تكون رجلًا، وأن تكترث بالصعاب فإنهم سيحاكمونك غدًا؛ لأنك كنت شريك سوزان وويلتون.

وبكى الفتى وقال: أقسم لك بأني لم أكن عالمًا بما كانوا يريدونه مني.

– إني واثق يا بني من براءتك، لكن القضاة لا يصدقون ما تقول.

فقال رالف بلهجة اليأس: رباه إذن أيبقونني في الحبس؟

– نعم، وسينقلونك إلى حبس آخر، وعند ذلك أخلصك من الحبس؛ لذلك يجب عليك أن تصبر إلى غد.

– وأمي ألا أراها؟

– ستراها غدًا دون شك.

– أتعدني وعدًا أكيدًا يا سيدي؟

– بل أقسم لك يا بني فاطمئن.

وعند ذلك التفت إلى الفتاة وقال لها: لقد أزعجتك يا سيدتي بحديث لم تفهميه.

– ولكن ماذا قلت له؟

– أخبرته أنه سيحضر لورد من النبلاء فينقذه من الحبس، ويرده إلى أمه.

وهنا عاد إلى محادثة رالف بلغة قومه فقال: إذا كنت تريد أن ترى أمك يا بني، فاحرص أن تفوه بكلمة مما قلته لك للفتاة.

فابتسم الفتى ابتسام رجل وقال: لا تخف فلا أبوح بحرف.

ثم تمدد على فراش القش الذي خصص له، وعند ذلك خرجت الفتاة من الحبس وتبعها الرجل العبوس.

وبعد هنيهة كان العبوس يمتطي فرسه ويقول: هو ذا المعركة قد نشبت بيني وبين اللورد بالمير وابنته، والنصر بيد الله يؤتيه من يشاء. ثم ذهب لمقابلة الأميركي الذي كان ينتظره في منعطف الشارع.

٤٢

يوجد في لندرا كثير من عصابات اللصوص، كل عصابة مستقلة عن سواها، غير أن جميع تلك العصابات خاضعة لجمعية واحدة.

ولتلك الجمعية مكان سري تحت الأرض، يجتمع فيه أعضاؤها عند الاقتضاء، وهي مثل المحاكم المنظمة فيها قضاة ومحامون ومنفذون للأحكام الصادرة منها، ولها قانون منظم لا يحيدون عن بنوده، فإذا اتهم أحد اللصوص بخيانة عرضت خيانته على محكمة الجمعية، فإذا صدر الحكم عليه بالإعدام خنقوه في منزله في ليلة حالكة الأديم، وألقوه مكتوف اليدين والرجلين في نهر التيمس أو غير ذلك مما يختارونه من أنواع القتل.

وقد كانت جلسة تلك الجمعية معقودة في تلك الليلة، للحكم غيابيًّا على سوزان، فإن اسمها كان مسجلًا بدفتر اللصوص، وكانت جريحة لا تستطيع الحضور.

فلما التئمت الجلسة قال الرئيس: هل تكامل عدد الأعضاء؟

فعدهم الحاجب وقال: نعم فإنهم اثنا عشر.

– أين الشاكي؟

فتقدم لص منهم وقال: أنا هو. وكان ذلك اللص الذي يلقبونه بالعصفور الأزرق.

فقال الرئيس: وأين المحامي؟

فتقدم كرافان صديق ويلتون وسوزان وقال: أنا.

فالتفت الرئيس إلى الأول وقال: تكلم.

فأخذ العصفور الأزرق يثبت للقضاة أن سوزان كانت شريكة لويلتون، وأن ويلتون قد سرق مع عصابته أحد المنازل، فخص نفسه اختلاسًا بالقسم الأكبر من القيمة. ولما كانت محكمة اللصوص قد حكمت على ويلتون بتسليمه إلى البوليس. ثم لما كانت سوزان شريكته بالجريمة، فهو يلتمس من المحكمة إبقاء هذه المرأة بين أيدي الجنود الذين يخفرونها، وعدم السعي في إنقاذها.

ولما فرغ من كلامه أذن الرئيس للمحامي أن يتكلم، فأثبت كرافان للقضاة أن سوزان لم تكن شريكة لويلتون في جرائمه، بل كانت له خليلة صادقة خاضعة.

وبعد أن أيد بالبرهان أن ويلتون لم يكن يطلعها على أسراره، وأنها لم يكن لها علم بخديعة ويلتون لرفاقه، طلب من المحكمة تبرئتها، والسعي في إنقاذها من الجنود المحيطة بمنزلها.

وبعد أن سمع الرئيس أقوال الخصم والمحامي اختلى بالأعضاء، فتداول معهم مليًّا ثم أصدر حكمه ببراءة سوزان، وبضرورة مساعدتها وإنقاذها.

وفيما هم يتداولون في اختيار طريقة صالحة لإنقاذها، سمعوا وقع أقدام على سلم المغارة التي كانوا يجتمعون فيها فذعروا؛ لأنهم لم يكونوا بانتظار أحد ووضع كل يده على خنجره.

ثم دخل هذا الزائر الجديد فهموا بالهجوم عليه، غير أن العصفور الأزرق صاح بهم قائلًا: لا تفعلوا فهو منا.

فرد الزائر قائلًا: دون ريب.

ثم تقدم مبتسمًا إلى وسط الحلقة، وكان هذا الزائر الرجل العبوس.

وكان العبوس مرتديًا تلك الملابس التي كان يلبسها حين ذهابه إلى الخمارة السوداء، ولم يكن يعرفه بين أولئك اللصوص المجتمعين غير العصفور الأزرق؛ لأنه كان يراه في تلك الخمارة.

وكان اللصوص يحترمون العصفور الأزرق لاشتهاره بينهم، فلم تؤثر عليه خسارة قضيته على سوزان، ووثقوا بما قاله لهم عن العبوس. فمشى العبوس إليهم بقدم ثابتة، وأجال بينهم تلك النظرات الجاذبة. وكان اللصوص ينظرون إليه معجبين بإقدامه خاضعين لنظراته.

وإن للصوص لندرا لغة اصطلاحية كسائر اللصوص، فتقدم العبوس من العصفور الأزرق، وصافحه شاكرًا ثم التفت إلى جمعية اللصوص، وخاطب أعضاءها بلغتهم الاصطلاحية فقال: اعلموا أيها الأصدقاء أني قد نهجت قديمًا في مناهجكم، وامتهنت مهنتكم، وإذا كنت اليوم قد اتخذت غير هذه المهنة، فذاك لأني لقيتها أفضل.

فحدث ضجيج بين أولئك اللصوص، وظهرت عليهم ظواهر الانذهال، إذ لا يعتقدون أنه يوجد مهنة تفضل مهنة اللصوصية.

وعاد العبوس إلى الحديث وقال للرئيس: إنكم حاكمتم سوزان، أليس كذلك؟

– نعم …

– وحكمتم بضرورة إنقاذها؟

– دون ريب.

فنظر إليه كرافان نظرة ارتياب وقال له: ألعلك تريد الاعتراض على هذا الحكم؟

– معاذ الله إني أحب هذه المرأة، وإنما أتيت إليكم من أجلها.

ثم التفت إلى الرئيس وقال: بأية طريقة تريدون إنقاذها؟

فرد الرئيس: بالطريقة التي ألفناها؛ لأن الجنود الذين يخفرونها لا يزيدون عن ثمانية وسنجمع رجالنا، ونطلب إلى الجنود الإفراج عنها حسب العادة فإما ننقذها بالرضى أو بالقوة.

– أهذه هي خطتكم في إنقاذها؟

– نعم إنها أسهل خطة.

– لكنكم مخطئون ولا تعلمون.

فصاح الجميع بصوت واحد قائلين: لماذا؟

– إني مخبركم بالسبب، وهو أن البوليس في هذه الأيام لا يهتم باللصوص لانصرافه إلى الاهتمام بالأرلنديين، وأنتم تعلمون أن سوزان أرلندية، وقد بلغ البوليس أن لها علائق بالجمعيات الأرلندية السرية، فعزمت الحكومة على تعيين أحد قضاة لندرا لاستنطاقها.

قال الرئيس: متى؟

– غدًا.

فقال العصفور الأزرق: ولكنها جريحة، لا يتيسر نقلها إلى مركز القاضي.

– القاضي سيحضر بنفسه إليها.

فضحك اللصوص جميعهم وقالوا: إن هذا أعظم تشريف لنا؛ لأنها أول مرة يحضر القضاة شوارعنا.

فقال العبوس: لقد علمتم الآن فرط اهتمام الحكومة بسوزان، لأنها سترسل القاضي إليها، ولفرط خوفها من الأرلنديين عينت مائتي رجل من البوليس السري، يقيمون حول منزلها إلى أن يتم التحقيق في أمرها، ولذلك يتعذر عليكم إنقاذها بالكره؛ لأن الجنود أكثر منكم عددًا وخير لكم أن تصبروا إلى الغد.

فقاطعه كرافان قائلًا: أية فائدة من الغد، لأنه سيكون مثل اليوم؟

– كلا، لأن سوزان لا تعلم شيئًا مما يصنعه الأرلنديون. فمتى أتاها قاضي التحقيق، وحقق في أمرها يعلم أنها لا علاقة لها بالأرلنديين، وأنها فقط من اللصوص، فيكتفي بالجنود الساهرة عليها، وينصرف رجال البوليس السري إلى شئونهم.

فقال كرافان: إذا كان ما تقوله حقيقة، إني موافق لرأيك.

– هي الحقيقة دون ريب.

فقال الرئيس: إذن أنت أرلندي!

– هو ما تقول فأنا أريد إنقاذها؛ لأن أخاها من عصبتنا، وأنتم تريدون إنقاذها لأنها منكم. ثم ارتد إلى العصفور الأزرق قائلًا: أتعرفني أنت؟

– دون شك، إني لم أنس قتالك مع البحار.

– ألك ثقة بي.

– إني أتبعك حتى الحبس.

– إني لا أكلفك مثل هذا العناء، بل أقتصر على أن ترشدني إلى منزل سوزان.

– لكن الجنود هناك لا يأذنون لك بالدخول.

فابتسم العبوس وقال: سوف ترى أني داخل إلى حيث أشاء.

– إذن هلم بنا.

فحيا الرجل العبوس اللصوص، وخرج مع العصفور الأزرق، فلما توسطوا الطريق قال له اللص: لا أعلم إذا كانت جمعيتكم أفضل من جمعيتنا، ولكنك إذا دخلت في زمرة اللصوص، ضمنت لك أن تكون الرئيس علينا.

فابتسم العبوس وقال: سوف نرى.

ثم سار الاثنان حتى قدم من منزل سوزان، فدله عليه فودعه العبوس قائلًا: لم يعد لي حاجة إليك.

ثم افترقا وذهب العبوس توًّا إلى المنزل، وكان على الباب أحد أفراد البوليس فمنعه عن الدخول، غير أن العبوس أشار له تلك الإشارات السرية الأرلندية، فانحنى البوليس وأذن له بالدخول. فصعد سلم ذلك المنزل وهو يقول في نفسه: مسكينة إنكلترا فهي تعتقد أنها سيدة العالم، ولا تدري أن عدوها بين جندها، وأن الأرلنديين في كل مكان.

٤٣

كانت ملابس العبوس الظاهرية تدل على الفقر لرثاثتها، فهي ثوب طويل خلق، ولكنه كان يستر تحت هذا الثوب الطويل ملابس أخرى. فلما بدأ بصعود السلم خلع ثوبه الخلق وقلبه وحمله على ساعده، فظهر من تحته بملابس رسمية سوداء، ثم أخرج من جيبه عصا صغيرة من العصي التي يحملها ضباط البوليس.

وإن في لندرا عادة غير موجودة في غيرها من البلاد، وهي أن أشرافها يتطوعون في خدمة البوليس خدمة شرف.

فإذا اتفق حدوث خصام في شارع، وقوي فيه المتخاصمون لكثرة عددهم على البوليس، برز من الناس المتجمهرين واحد أو أكثر من النبلاء، فأخرجوا من جيوبهم تلك العصي القصيرة، وأعانوا البوليس في القبض على المتخاصمين.

وقد كان العبوس مقيمًا في شارع بال مال، أشهر شوارع لندرا. وكان ظهر بمظهرين، أحدهما سري فيعاشر من عرفناهم، وينتاب المحلات التي تقدم لنا وصفها، والآخر ظاهري فكان يعاشر النبلاء، ويتردد على أفخم الأندية؛ ولذلك كان أحد أولئك الضباط المتطوعين.

ولما وصل إلى باب غرفة سوزان، لقي جنديين واقفين فأراهما العصا، فانحنيا أمامه ودخل، فأشار إلى الجنود الذين كانوا داخل الغرفة، فخرجوا ولم يبق منهم أحد وهم يحسبونه من كبار رجال البوليس، وأنه أتى للتحقيق بأمر الأرلندية.

أما الرجل العبوس، فإنه لما خلا بسوزان قال لها: إني آتٍ من قبل أخيك.

فارتعشت قائلة: ألعلك تعرفه؟

– بل هو صديقي.

فبان على سوزان ظواهر الريبة، وحسبته يريد إغواءها، فابتسم العبوس وقال لها: إني صديقه وسأثبت لك ما قلته.

ثم أخذ يكلمها بلغة أهل الشواطئ الأرلندية عن زمن حداثتها وعيشها العائلي بما لا يعلمه غير أخيها.

وأزال من نفسها كل ريب، وقالت: مر يا سيدي، فقد باتت لي فيك ملء الثقة.

– إنك عشت يا سوزان عيشة دعارة وفساد، ولكنك على غوايتك لم تنسي وطنك العزيز.

– إني أحب وطني، وأفديه بدمي.

– وكذلك أخوك فإنه من أعضاء جمعيتنا السرية، وأنا أحد رؤسائها، وإنما زرتك الآن لأن أرلندا محتاجة إليك.

– أتحتاج إلي أنا ومن عسى أن أكون فتحتاج إلي البلاد إني امرأة لصة متهمة بجناية سيحكم عليَّ بأشد عقاب؟

– كلا، إنهم لا يحكمون عليك بشيء فقد اتفق الأرلنديون على إنقاذك. ألست أخت جوهان؟ إن جوهان ورفاقه سينقذونك على أن تخدمي أرلندا الخدمة التي تطلبها إليك.

– قل يا سيدي، ماذا تريد أن أصنع؟

– إنك ذهبت بغلام إلى الموضع الذي جرحت فيه.

فغطت سوزان وجهها بيديها وقالت: مسكين هذا الفتى، فقد يكون قضي عليه وذلك ذنب ويلتون لا ذنبي.

– إني أعرف ما تعرفينه، وأزيدك إن الغلام لم يمت، ولكنه مسجون وسيأتيك القاضي ويسألك عنه.

– إذن أقول الحقيقة، إنه بريء ونحن خدعناه.

– وهذا ما أتيت لأجله؛ لأني لا أريد أن تثبتي براءة الفتى.

– كيف ذلك؟

– أصغي إليَّ …

ثم أخذ يكلمها همسًا مدة طويلة، فلم يدرك بما جرى بينهما أحد. ولكنه حين أتم حديثه قالت له: لقد علمت كل قصدك الآن، وسأطيعك في كل ما تريد.

– إذن أودعك الآن على أمل اللقاء قريبًا، فتشجعي واعلمي أن أرلندا لا تنسى من يخدمها. ثم تركها وانصرف، فودعه الجنود بالاحترام.

ولما سار في الشارع ركب مركبة وسار بها إلى بيكاديللي، وهناك رأى شوكنج واقفًا قرب خمارة، فأوقف المركبة وناداه ثم سأله: أين الكاهن والأرلندية والأميركي؟

– إنهم في الكنيسة.

– إذن اذهب إلى الأب صموئيل، وقل له إننا سنعقد جلسة في الساعة الثانية بعد نصف الليل.

– ألعل الجلسة للمباحثة في شأن رالف؟

– هو ذا فأسرع الآن بالذهاب.

ثم أمر السائق أن يذهب إلى شارع هاي ماركت، وهناك نظر في ساعته، فرأى أنه لا يزال باقيًا خمس دقائق لانتصاف الليل، فقال: لقد حان الوقت للذهاب إلى مس ألن، فقد وعدتها أن أزورها حين انتصاف الليل، ولا بد من الوفاء.

٤٤

ولنذكر الآن ما حدث في قصر اللورد بالمير منذ يومين. فإنه منذ دخل الرجل العبوس إلى ذلك المنزل، من نافذه غرفة مس ألن، وخرج منه بالأرلندية، بعد أن صعق تلك الفتاة بنظراته الساحرة. باتت تلك الليلة مضطربة، واجفة القلب. فكانت كالحمامة طاردها البازي فأفلتت منه بعد العناء.

وقد جلست على كرسي، قرب النافذة المفتوحة، إلى أن أشرق الصباح. وهي تفتكر بهذا الرجل الجريء المقدام، خضعت لنظراته هذا الخضوع.

وفيما هي مشردة الفكر شعرت أن باب غرفتها قد فتح، فاضطربت إذ لا يدخل عليها أحد دون استئذان.

ونظرت فرأت أن هذا الداخل هو أبوها، فزاد اضطرابها لما رأته من دلائل غضبه، واختلال ثيابه واتساخها فصاحت تقول: ما هذا الذي أنت فيه وماذا دهاك؟

فقال بصوت يتهدج من الغضب: يا ويح أولئك اللصوص! فقد مكروا بي.

– من تعني يا أبي؟

– أولئك الأرلنديون الذين تجاسروا أن يقبضوا على أبيك، ويقيدوه ويلقوه في إحدى زوايا الحديقة، وقد كاد يموت لو لم تنقذه فانوش وخادمتها عند الصباح.

– إني أعرف يا أبي الرجل الذي فعل بك هذه الفعال.

فدهش وقال: كيف تعرفيه؟

– إنه جاء أيضًا إلى بيتنا؟

– متى؟

– هذه الليلة.

فاضطرب اللورد وقال: أمجنونة أنت أم حالمة؟

– لا هذا ولا ذاك يا أبي، لأن هذا الشخص لم يخرج من هنا إلا بالأرلندية.

ثم قصت عليه ما حدث لها، وكيف أنه دخل من النافذة، ولم تستطع أن تستغيث لتأثير نظراته بها، ولأنه هددها بقتل أبيها إذا لم يعد إلى العصابة في الموعد المعين.

وكان اللورد بالمير واثقًا من شجاعة ابنته، فأيقن لما رآه من اضطرابها، أن ذاك الشخص أثر بها تأثيرًا عظيمًا.

وكان لديه طريقتان ينهجهما، وهما إما أن يخبر البوليس على الفور بما جرى له، أو يكتم الأمر ويعهد إلى البوليس أمر التفتيش على الغلام. غير أنه فضل الرأي الأخير؛ لأن ابنته ضغطت عليه.

ومضى على ذلك يومان، وجاء يوم الأحد فقالت مس ألن في نفسها: إن القتال سيكون هائلًا بيني وبين ذاك الشخص، ولكني سأكون قوية شديدة بقدر كرهي له وحقدي عليه.

وخرجت بعد ذلك تتنزه على فرسها، فلقيت الرجل العبوس. وأمرت خادمها أن يقتفي أثره، كما قدمنا، وبعد هنيهة رأت خادم العبوس قد دنا منها وأعطاها رسالة. فاضطربت وقالت: لقد بلغ من وقاحته أن يكتب لي.

ثم دفعها الفضول إلى معرفة محتوى الرسالة، فأخذتها من الخادم وقرأتها فاحمر وجهها، وبدت عليها ظواهر الأنفة والاستكبار، لأن الرجل العبوس كتب إليها أنه سيزورها هذه الليلة عند انتصاف الليل.

فمزقت الرسالة قطعًا صغيرة وألقتها إلى الأرض، ثم نظرت إلى الخادم وقالت: إذا أردت أن تكون من أهل الثروة، فقل لي من هو الشخص الذي أعطاك الرسالة.

– هو سيدي.

– أعرف ذلك ولكني أسألك عن اسمه.

فابتسم الخادم وقال: لا أعلم.

أما هي فقد أمسكت كيسًا ملؤه الذهب، ودفعته إلى الخادم قائلة: إذا كنت تقول لي عن اسم مولاك وأين يقيم أعطيك ألف جنيه، بل أعطيك ثلاثة أضعاف هذه القيمة إذا صدقت في خدمتي.

فرد الخادم كيسها وقال لها ببرود: مهما بلغت ثروتك فإن سيدي أغنى منك، ومن يخدمه لا يخونه. ثم انحنى أمامها، وأطلق لجواده العنان.

فامتعض وجه الفتاة وقبض القهر نفسها، فعادت إلى منزلها وهي تشبه أهل القنوط.

وهناك وجدت أباها منشرح الصدر طيب النفس، فقال لها حين رآها: أبشري لقد وجد الغلام.

– أين وجد، وأين هو؟

– إنه في أحد سجون البوليس، وقد كان القاضي الذي تولى تحقيق أمره عندي الآن.

– وماذا جرى؟

– سأذهب غدًا إلى ذلك المركز، وأطلب الغلام. وقد اتفقنا أن يرده القاضي إليَّ.

فهزت الفتاة رأسها وقالت: لماذا لا تطلبه اليوم يا أبي؟

– لأن الصبي وجد بين عصابة لصوص، ولا بد للقاضي من محاكمته علنًا، حسب الأصول، قبل أن يرده إليَّ. وهذا اليوم يوم أحد، لا تشتغل فيه المحاكم.

– لكني أخشى غدًا أن يكون فات الأوان.

فاندهش اللورد وقال: لماذا؟

– أصغِ إليَّ يا أبي، إني لا أستطيع الزيادة في التصريح. لكن ثق أن أعداءنا ليسوا من اللصوص ولا المتسولين، بل إن رجلًا نبيلًا واسع الثروة، يثير علينا هذا العداء.

– ماذا تعنين بذلك؟ إني لا أفهم شيئًا مما تقولين؟

فأخذت الفتاة يد أبيها وقالت: أتثق بي يا أبي؟

– دون شك.

– أتصغي؟

– تكلمي.

– أتريد أن تعكس السلطة بيني وبينك، فتكون لي سلطة الوالد، ولك امتثال الولد؟

ثم نظرت إليه نظرة غريبة، استدل منها على أن الأمر خطير، ورأى أن الطبيعة قد منحتها سلطانًا عليه. فأطرق بنظره إلى الأرض وقال: تكلمي يا ابنتي فسأصنع ما تريدين.

٤٥

– أول ما أبدأ به يا أبي رجاؤك أن لا تسألني عن شيء، وأن تعدني بإجابتي إلى كل ما أسألك إياه.

– لقد وعدتك فقولي.

فأخذت مس ألن بيد أبيها، وسارت إلى رواق يصل بين غرفته وغرفتها من إحدى جهتيه، وينتهي من الجهة الأخرى إلى قاعة فسيحة أعدها اللورد لأشغاله. فوقفت في تلك القاعة وقالت له: أريد أن تكون هنا في هذه الليلة، قبل انتصاف الليل بقليل، ويكون معك خادمان وكلكم مسلحون.

فارتعش اللورد، وقال: لماذا؟

ولم تجبه على سؤاله، بل مضت في حديثها فقالت: وينبغي أن تدع باب الغرفة مفتوحًا، وتصغي كل الإصغاء.

– سأفعل كل ما تريدين ولكن لماذا؟

– أما وعدتني يا أبي أن لا تسألني، واعلم الآن أنك متى سمت دوي غدارة …

فقاطعها اللورد وقد اصفر وجهه وقال: دوي غدارة؟

– لا تخف يا أبي فأنا سأطلقها.

– ولكن لماذا؟

– ألعلك نسيت وعدك يا أبي، فعدت إلى السؤال؟

– حسنًا ومتى سمعت دوي الغدارة؟

– تسرع إليَّ مع الخادمين، وإذا وجدتم باب غرفتي مقفلًا اكسروه، وعند ذلك تعلم ما يجب أن تصنع.

ووقفت مس ألن عند هذا الحد، ولم توضح لأبيها كلمة عن قصدها، وتركته مضطرب البال عليها.

وعادت إلى غرفتها، وأمرت وصيفاتها وخادماتها أن لا يدخلن إليها إلا إذا نادتهن.

ثم أقفلت باب غرفتها، وأقامت وحدها فكانت مصفرة الوجه، بادية الاضطراب، ولكن عينيها كانتا تدلان على عزم أكيد.

ومما دل على صدق عزمها، أنها قامت إلى خزانة، ففتحتها وأخرجت منها مسدسًا ففحصته ووضعته في جيبها.

ثم فتحت النافذة المشرفة على الحديقة، وهي النافذة التي دخل منها الرجل العبوس، وجلست بقربها وهي تتطلع إلى الحديقة، وتنتظر قدوم الرجل العبوس.

وكانت السماء صافية، والرياح ساكنة والحديقة خاوية، ولكن الوهم كان يمثل لعينيها الرجل العبوس.

وإذا رأت غير شيء ظنته رجلًا لا سيما وأنه لا يستطيع الوصول إليها إلا من الحديقة، كما فعل في المرة السابقة.

وأقامت تنتظر ساعة وهي متنبهة كل التنبه، حتى دقت الساعة مؤذنة بانتصاف الليل، دون أن يحضر حسب الوعد، فوقفت مضطربة وقالت: أيجسر أن يهزأ بي؟

ثم تحولت عن النافذة إلى المستوقد، ولم تكد تخطو خطوة حتى صاحت صيحة ذعر، وجمد الدم في عروقها، واضطربت قدماها حتى أوشكت أن تسقط، ذلك أنها رأت رجلًا واقفًا ينظر إليها مبتسمًا، وهو الرجل العبوس.

فحاولت أن تصيح وتستغيث، ولكن لسانها تلجلج، وأرادت أن تمشي فما استطاعت، وهي منذعرة من هذا الرجل لا تعلم كيف دخل إلى غرفتها، وهي مقفلة الأبواب حتى حسبته من عالم الخيال. ثم حلت عقدة لسانها فقالت بصوت مختنق: أهذا أنت؟

فأجابها بلهجة تشف عن أرق العواطف: وعلام العجب يا سيدتي؟ ألم أقل لك إني سأزورك عند نصف الليل، وإنما أتيت إليك لأعلم إذا كنت راضية عني؟

فقالت بلهجة الاستكبار: ومن أي شيء تريد أن أرضى؟

– من صدق وعدي، ألم يعد أبوك حيًّا؟

– إنك أتيت يا سيدي إلى غرفتي من حيث لا أعلم، فهل تريد أن تخبرني كيف دخلت؟

– إني دخلت من الباب. وأنت ترين يا سيدتي، أن لي أصدقاء في نفس منزلك.

– لكنها جرأة نادرة.

– هو ما تقولين يا سيدتي، وإني مقترح عليك الآن اقتراحًا أحب أن تسمعيه.

فاضطربت الفتاة لنظرات هذا الرجل وقالت له: قل إني مصغية إليك كل الإصغاء.

– إن أباك يا سيدتي عازم على أن يطلب غدًا من مركز بوليس كليبرن ابن الأرلندية.

فتراجعت منذعرة وقالت: أتعرف هذا أيضًا؟

– إني أعرف كل شيء، وأرجوك أن تمنعي أباك عن طلب الفتى.

فردت بعظمة: لماذا تريد أن أمنعه؟

فابتسم قائلًا: لأن ذلك يرضيني.

وهنا اتقدت عيناها لمساس كبريائها، والتقى نظرها بنظره فقاومته وقالت: أصغ إليَّ الآن يا سيدي، فقد آن لي أن أتكلم.

– قولي يا سيدتي ما تشائين.

– أريد أن أعرف من أنت، ولماذا تجاسرت على الدخول إلى غرفتي.

فرد متهكمًا: أحقًّا ما تقولين؟

– إني أمهلك عشر ثوان للتفكير.

– وبعد الثواني العشر؟

فأخرجت الفتاة المسدس من جيبها وقالت له: إني بعد ذلك لا أكون مسئولة عن حياتك. ثم شهرت مسدسها عليه وقالت: قل أم أنت مقتول.

وكان العبوس بعيدًا عنها، بحيث لا يفيد خنجره فكررت مس ألن قولها: قل أو أطلق عليك النار!

٤٦

على أن العبوس لم يظهر عليه شيء من الخوف ولم ينبس بكلمة، بل وضع يديه فوق صدره وابتسم. فهاجت مس ألن لبسالته واستخفافه، فأطلقت المسدس، فلم يخرج له صوت، فأعادت ست مرات فلم ينطلق رصاص المسدس.

وعند ذلك جرد العبوس خنجره، ووثب إليها فقال: إذا صحت فإني لا أقتلك أنت بل أقتل أباك، فإنه على مسافة خطوتين منا، إذا سمع صياحك حضر في الحال.

وكانت المس ألن باسلة، غير أن ثبات هذا الشخص وخوفها على أبيها حملاها على التسليم، فأرخت نظرها إلى الأرض، وهي ترتعش وقالت له: ماذا تريد مني؟

– أريد أن أحدثك ببعض الشئون.

ثم أخذ بيدها، وأجلسها على كرسي، ولبث واقفًا أمامها.

فقال لها: لقد قلت لك يا مس ألن إنه لي أصدقاء في منزلك، ويثبت ما أقوله لك عدم انطلاق المسدس، فقد نزعت يد خفية ما كان فيه من الرصاص.

أما وقد علمت ذلك، فاسمعي الآن ما أقول: إني أتيت لأعرض عليك الحرب أو السلم، فاختاري بين الاثنين.

أما السلم فهو أن ترجعي مع أبيك عن الخطة التي جريتما عليها، وتكفا عن الأعمال التي كثر تداخلكم فيها. فإنكم خنتم أرلندا وأنتم منها، فارتكبتم أعظم شطط.

إن أباك يا مس ألن لم يقتصر على خيانة أرلندا، بل إنه خان أخاه ودفعه بيده إلى الموت.

فقد وقع هذا التقريع في نفس الفتاة وقالت: إن أبي من الإنكليز.

– ولكن أباه من زعماء الأرلنديين. وهو حر أن يكون كما يشاء، غير أنكم إذا رضيتم الصلح بقي أبوك غنيًّا شريفًا عضوًا في البرلمان.

فقالت بلهجة المتهكم: أتأذن له بالبقاء في البرلمان؟

فلم يكترث لتهكمها وقال: نعم، ونصفح أيضًا عما جناه على أخيه. وفي مقابل ذلك ترجعان عن غاية الاستيلاء على ابن عمك السير أدموند، لأنه الزعيم الوحيد الذي تنتظره أرلندا بجملتها بصبر وثبات أن يبلغ العشرين من عمره، ليتولى رئاستها فقد عقدت كل رجائها عليه.

فقالت متهكمة أيضًا: أهذه شروط السلم؟

– نعم يا سيدتي.

– إني كنت أجهل من أنت حتى الساعة، أما الآن فقد علمت أنك أحد زعماء هذه الجمعية الأرلندية التي تريد أن تحارب إنكلترا، وليس بين أعضائها غير اللصوص.

– ربما.

فتشجعت الفتاة وقالت: لقد عرفنا بشروط السلم، فهات شروط الحرب.

– هي أن ترجعوا عن المطالبة بالغلام، وعن المداخلة في أي شأن من شئون أرلندا.

واتقدت عينا الفتاة ببارق دل على أنفتها واستكبارها وقالت: إذن نختار الحرب، وستكون هائلة بيننا.

فقال لها ببرود: أستودعك الله يا سيدتي، وليكن ما تريدين.

– بل قل إلى اللقاء، فلا بد أن نلتقي.

– هو ما تقولين.

ثم أسرع إلى النافذة المفتوحة، ووثب منها إلى الحديقة، وتوارى عن الأبصار.

•••

بعد ذلك بساعة كان الرجل العبوس حاضرًا في جلسة عقدها الكاهن وزعماء الأرلنديين الثلاثة، لأن الرابع لم يعرفوا مقره، وكان حاضرًا في تلك الجلسة الأرلندية والدة الغلام، فقال لهم الرجل العبوس: اعلموا يا سادتي أن رجلًا عظيمًا سيطلب غدًا أن يأخذ الغلام، وهو اللورد بالمير.

فاضطربت الأرلندية وقالت: ولكني أنا أسبق إلى طلبه فيردوه إليَّ، وهو ولدي.

– كلا أيتها العزيزة فإنك أرلندية وابنك متهم بسرقة فلا يردونه إليك بخلاف اللورد، فهو من أعيان الإنكليز فيربى في منزل ذلك الخائن، وينشأ على احتقار وطنه، أتريدين أن ينشأ مواليًا للإنكليز؟

فاتقدت عيناها وقالت: كلا والله بل أوثر ألف مرة أن يموت.

– كلا إنه لا يموت، بل سأرده إليك.

– متى؟

– متى نقلوه إلى سجن الطاحون.

فنظرت إليه نظرة قلق المرتاب وقالت: كيف ذلك يا سيدي، أتستطيع أن تفتح أبواب السجون؟

فأجابها بلهجة الواثق المطمئن: إني أستطيع كل ما أريده يا سيدتي فاطمئني.

وقال لها الكاهن عند ذلك: تذكري يا ابنتي كلام زوجك الأخير وكوني قوية.

– سأكون.

فقال لها الرجل العبوس: سنلتقي غدًا في مركز البوليس، وسأعلمك ما يجب أن تقوليه.

ثم نهض فقال: إن شهادة سوزان وحنة كافيتان لمنع اللورد من الاستيلاء على الغلام.

•••

وفي اليوم التالي كان قاضي مركز كليبرن في منزله مع ابنته، يتناول طعام الصباح فقالت له ابنته: إذن سترد الفتى اليوم للورد بالمير.

– نعم يا ابنتي، ولكن حصلت مشكلة جديدة أخشى منها، وهي أن سوزان الأرلندية سئلت أمس عن الفتى فقالت: إن أمه قد وضعته عندها ليتعلم، ولما كانت هذه الفتاة من اللصوص فقد باتت الجريمة ثابتة عليه؟

– وماذا تفيد شهادة المرأة، إذا كان مثل هذا اللورد النبيل يطلبه؟

– هو ما تقولين فإني لا أحفل بشهادة هذه المرأة إذا جاء اللورد، ولكن إذا جاءت أم الفتى فلا بد لي عن سؤالها، فإذا وافق كلامها كلام سوزان، لم يبق سبيل لرد الفتى إلى اللورد.

وعند ذلك جاء سكرتير القاضي وقال: قد دنت الساعة العاشرة يا سيدي، فهل أفتح باب المحكمة ويدخل الناس؟

– نعم، افتحه وها أنا قادم في الحال.

وانصرف السكرتير وقام القاضي، فلبس رداء أسود ووشاحًا أزرق، ودخل إلى المحكمة وجلس في مجلسه، وكانت القاعة قد غصت بالحضور، فأمر القاضي أن يحضر الفتى السجين فأحضروه وقال له: ماذا تدعى؟

– رالف.

– أأنت أرلندي؟

– نعم يا سيدي.

– أين أهلك؟

وبدأ الفتى بحكاية ما جرى له غير أن القاضي أسكته بإشارة، والتفت إلى الحضور فقال: أيوجد بينكم من يرضى أن يضمن هذا الفتى؟

فخرج اللورد بالمير من بين الجمهور ودنا من القاضي وقال له: أنا أضمنه.

فسأله القاضي قائلًا: أتعرف هذا الفتى!

– نعم.

فقال للفتى: وأنت أتعرف اللورد؟

– كلا.

– لا بأس إن حضرة اللورد، قد تنازل إلى ضمانتك.

وكان الفتى عند ذلك يجيل نظره بين الحضور، فصاح صيحة أجيب بمثلها ومد يديه فقال: يا أمي.

وأسرعت أمه إليه وقالت: ها أنا يا ولدي لا تخف.

وعند ذلك أوقفها القاضي قائلًا لها: من أنت أيتها المرأة.

– إني أدعى حنة، والدة الفتى.

وصادق اللورد على كلامها، وقال لها القاضي ببرود: إن النظام يقضي عليَّ أن أسألك فاحذري مما ستقولينه، فإن على كلامك تتوقف حرية ولدك الذي يطلبه حضرة اللورد.

فاضطربت حنة وقالت له: إذ كان لا بد يا سيدي من تسليم ولدي لهذا اللورد، فإني ألتمس منك أن تبعث به إلى السجن، فإن هذا اللورد يحاول إغوائي، وهو يرجو أن يظفر بي متى ظفر بولدي.

فضج الناس لهذا القول الغريب وقال اللورد: إن هذه المرأة كاذبة.

إلا أن كلامه ضاع بين ضجيج الناس، ولم يحفلوا به ومالوا إلى تصديق الأرلندية، فإن المرء بالطبع ميال إلى الضعيف.

ولما رأى القاضي سوء منقلب اللورد، قال للأرلندية: أتعترفين أيتها المرأة أنك أم هذا الفتى؟

– نعم.

– أتعرفين امرأة أرلندية تدعى سوزان؟

– إنها صديقة لي، وهي من بلدي.

– أأنت أودعت عندها ولدك كما تقول؟

– نعم.

فتلا القاضي عند ذلك إقرار سوزان، ثم أصدر حكمه على رالف بالحبس خمسة أعوام في سجن الطاحون، فصاحت أمه صيحة عظيمة، وسقطت مغميًّا عليها بين يدي الرجل العبوس.

وبعد هنيهة استفاقت فخرج بها وهو يقول: لقد فزنا اليوم أعظم فوز بإنقاذه من اللورد وسأنقذه قريبًا من السجن.

٤٧

إذا ذكر حبس الطاحون أمام الناس يعتبرونه حبسًا عاديًا، فلا يخامر قلوبهم شيء من الرعب، ولكن من عرف هذا الحبس ترتعد فرائصه خوفًا، وتسيل نفسه إشفاقًا على من حكم عليه نكد الطالع بالسجن فيه.

إن هذا السجن يسمى بالطاحون؛ لأنه يشبه الطواحين والنواعير بما أعد فيه من الآلات وذلك أنه يوجد فيه عمود طويل، ركبت فيه صناديق فارغة على الجانبين وفيه لولب يدار فتدور الصناديق الفارغة من الأعلى إلى الأسفل، كما تدور الصناديق في النواعير.

ويقابل هذه الصناديق خشبة ثابتة، لا تتحرك يمسك بها المحكوم عليه بالأشغال، وتبقى رجلاه في الفضاء فيسندهما إلى أحد الصناديق التماسًا للراحة، غير أن هذه الطاحونة تدور، فإذا دار الصندوق هوت رجلاه، فأسندها إلى صندوق آخر فيهوي أيضًا، وهكذا لا تزال الصناديق تدور ورجلاه تعلقان بها وتفلتان منها، فيكون مثل رجليه في هذه الطاحونة مثل الماء في صناديق النواعير، وهو لا يستطيع أن يوقف هذه الحركة، فإذا أوقف رجليه قبل أن تقف الطاحونة، مرت بهما الصنادينق في دورانها فكسرتهما.

ويستمر عقاب هذا المنكود على ما قدمناه ربع ساعة فيوقف السجان الطاحونة، فينزل المحبوس ويأتي بمحبوس آخر يعاقبه نفس العقاب.

هذا هو الحبس الهائل المخيف الذي سيق إليه الولد الصغير، وحكم عليه بالتعذيب فيه على هذه الطريقة المرعبة خمسة أعوام، تكفيرًا عن ذنب لم تقترفه يداه.

وكان هذا الحبس قديمًا جدًّا يديره حاكم خاص وقائد من الجيش، وكانت الحكومة شارعة ببناء سواه بدلًا منه في نفس مكانه، فلا تهدم مكانًا حتى تبني حبسًا سواه.

وكان لهذا الحبس مأموران: أحدهما للداخل، والآخر لحراسة الباب الخارجي الذي يدخل منه أهل المحبوسين لمشاهدتهم.

وهذا المأمور أرلندي الأصل كاثوليكي المذهب، ولكنه كان يتشيع للإنكليز بالظاهر تشيعًا عظيمًا وهو أرلندي النزعة في الباطن، فلم يكن أحد من الإنكليز يظن أنه من الأرلنديين.

وكان الباب الذي يتولى حراسته مشرفًا على الشارع، ففي اليوم الذي دخل فيه الولد إلى الحبس جاء إلى هذا المأمور رجل عليه دلائل الفقر المدقع فحياه تحية الأهل وناداه بابن عمه فأجفل المأمور — واسمه المستر بين — لظواهر فقره وقال له: من أنت، وكي تدعوني ابن عمك؟

– إني أدعوك بابن عمي لأني أدعى جوهن كولدن.

فحدق به المأمور مليًّا وقال: لقد أصبت فلقد تبدلت تبدلًا عظيمًا من عشرين عامًا فما عرفتك، ثم مد يده وصافحه وقال له: ماذا أتيت تعمل هنا؟

– إذا أردت الحقيقة يا ابن عمي العزيز، فإني آت لأراك.

فامتعض المأمور لما رآه من ظواهر فقره ولكنه كان طاهر القلب طيب السريرة فقال: أرى من ملابسك ما يدل على فقرك ولكني فقير مثلك، فإن لي امرأة وبنتين وراتبي الصغير لا يكاد يفي بحاجتهم.

فابتسم جوهن وقال: إني أعلم ما أنت عليه فما أتيت أسألك مالًا، بل ألتمس مساعدتك في أمر لا يؤذيك بشيء.

– قل أيها القريب فإننا أبناء أخوين.

– هو ذاك ونحن أيضًا أرلنديان.

– اخْفض صوتك فليس من يعرف هنا أنني من الأرلنديين.

– لقد أحسنت في تنكرك فقد ساءت سمعة الأرلنديين في هذه الأيام وبات الإنكليز ينظرون إليهم بعين الجفاء.

– يسرني أن أراك ترتئي رأيي.

– كما يسوءُني أن العامل الأرلندي لم يعد في وسعه أن يجد عملًا يرتزق به في هذه العاصمة الواسعة لما يجده من جفاء الإنكليز، فقد مر بي شهر كامل لم أعمل فيه عملًا على فرط اهتمامي بإيجاد عمل.

– ما هي مهنتك؟

– إني إسكافي وبناء، ولكني أفضل مهنة البناء لمكاسبها، لهذا أتيت إليك راجيًا إدخالي بين العمال الذين يشتغلون في بناء السجن الجديد.

– إن ذلك سهل ميسور، لكن يجب علي أن أخبرك بحسنات هذه المهنة وسيئاتها في هذا السجن، أما الحسنات فهي أن من يشتغل في قسم منه لا يخرج!

– عجبًا كيف ذلك؟!

– ذلك أنهم لم يقتصروا على بناء سجن جديد، بل إنهم يُصلحون أيضًا القديم، وفي نظام السجون أن المسجونين لا ينبغي أن يكون لهم علاقة مع أحد خارج السجن، فإذا كان البناء يشتغل في ترميم الحبس القديم فلا بد له من الاختلاط مع المسجونين، فإذا أذنوا للعامل أن يخرج من الحبس قبل انتهاء العمل فقد يحمل كلامًا أو رسالة من أحدهم إلى أهله أو عصابته فيسهلون له سبيل الفرار.

– أيشتغل جميع العمال في الحبس القديم؟

– كلا، بل بعضهم، وطريقتهم في ذلك أنهم يجمعون كل العمال كل يوم سبت ويقترعون على العدد الذي يحتاجون إليهم في الحبس القديم، ومن أصابته القرعة فلا بد له من الامتثال، وإنما يقترعون، إذ لا يوجد بينهم من يرضى بالاشتغال بالحبس القديم، وعند ذلك يصبح هذا العامل كواحد من المحابيس.

– ولكن أيكون حبسه طويلًا؟

– كلا، بل يقيم فيه ثمانية أيام، فينزعون ثيابه عند دخوله ويلبسونه ثياب الحبس، فإذا انتهى الأسبوع فتشوه تفتيشًا دقيقًا، وأعادوا إليه ثيابه ويعود إلى الاشتغال بالقسم الجديد، وهناك تطلق له الحرية.

– إني لا آسف إذا أصابتني القرعة، إذ ليس لي امرأة وبنون.

– حسنًا، قد تصيبك القرعة كل مدة اشتغالك؟

– ذلك سيان عندي بشرط أن أشتغل.

– إذن سأدخلك بين العمال، غير أنه بقي لي شرط آخر، وهو أنه يجب أن تنكر جنسيتك كما أنكرتها فإنهم لا يقبلون الأرلنديين، وفوق ذلك سأقول لمدير الأشغال إنك ابن عمي تسهيلًا لقبولك.

– أقسم لك إني سأدعي أني إنكليزي بحت، متى تقدمني للمدير؟

– هذه الليلة بين الساعة الثامنة والتاسعة، فاذهب الآن وعد إليَّ في الموعد المعين.

وعند ذاك افترقا فودعه جوهان كولدن، وسار حتى انتهى إلى خمارة فدخل إليها وهناك لقي العصفور الأزرق بانتظاره فقال له: ماذا فعلت؟

– إنهم يدخلونني غدًا في الخدمة.

– إذن سأخبرك عن العوائد المألوفة في ذلك السجن، فإنك شقيق سوزان وقد وجبت علينا خدمتك، والآن أتعلم أنهم سينقذون سوزان هذه الليلة بمساعي الرجل العبوس؟

ثم أظهر إعجابه به وقال: حبذا لو رضي هذا الرجل أن يكون منا، فإنه يتولى رئاستنا المطلقة.

وقاطعه جوهان قائلًا: لنتكلم الآن عن حبس الطاحون.

٤٨

في يوم السبت من ذلك الأسبوع الذي جرت فيه الحوادث المتقدمة، دقت الساعة الثانية في سجن الطاحون، وقرع الجرس الكبير الخاص بالذين يعملون في الحبس الجديد.

وكان الحبس القديم في الجهة الغربية، والحبس الجديد في الجهة الشمالية، وكانوا يعملون فيه ببطء، وكلما بنوا غرفة من الجديد، هدموا غرفة تماثلها من القديم.

وكان كلا الحبسين محاط بسور عظيم ليس له غير باب واحد، وهو الباب الذي يتولى خفارته ابن عم جوهان كولدن، ومن هذا الباب يدخل صباحًا جميع العمال، فيفتشهم المأمور تفتيشًا دقيقًا حذرًا من أن يدخلوا إلى السجن أشياء ممنوع إدخالها.

وبعد أن يدخل العمال من الباب الخارجي، يجدون قاعة فسيحة لها بابان من الحديد، أحدهما يؤدي إلى الحبس القديم حيث يحبس المسجونون، والآخر يؤدي إلى الحبس الجديد الذي كانوا يشتغلون فيه.

وكان الجرس يدق مؤذنًا بالساعة التي يرتاح فيها العمال، فامتنعوا عند سماعه عن العمل واجتمعوا وجعلوا يتحدثون ويتنادمون إلى أن ينقضي وقت الراحة.

وكان واحد منهم جالسًا بينهم، ولكنه لا يحدث أحدًا، فالتفت أحدهم إلى رفيق له وسأله: من هذا العامل؟

– إنه عامل جديد دخل في صباح اليوم.

– ماذا يدعى؟

– جوهان، وقد أدخله مأمور الحبس الجديد، وهو من أهله كما يقول.

– إذن حبذا لو أصابته القرعة بدلًا مني.

– إني أراك شديد الخوف من هذه القرعة وتظهر اضطرابك منها في كل أسبوع في حين أنك كنت أسعد العمال، فإنك تعمل في هذا الحبس منذ عامين ولم تصبك القرعة غير واحدة فلماذا هذا الخوف؟

– إني لا أخاف على نفسي أيها الصديق وسيان عندي أن أبيت في المنزل أو في الحبس.

– إذن على من تخاف؟

– ألعلك متزوج؟

– كلا.

– إذن أعذرك إذا أنكرت علي الخوف من البقاء في الحبس ثمانية أيام.

فأجابه آخر كان يسمع الحديث: لقد اتضحت الآن أسباب خوفك فإنك متزوج بامرأة حسناء تغار عليها.

– لقد أصبتم، فلقد كان لي امرأة حسناء وكنت أغار عليها كما يغار كل متزوج على زوجته. ثم تنهد وتابع: ولكن امرأتي قد ماتت وا أسفاه.

قالوا: إذن على من تخاف بعد موتها؟

– أخاف على بنتها وبنتي فإنها في ريعان الصبا والجمال، وهي تعمل في أحد المخازن فأذهب بها صباح كل يوم إلى ذلك المخزن وأعود بها منه في المساء، فإذا غبت عنها ثمانية أيام فماذا يصيبها وأهل الدعارة تغص بهم شوارع لندرا؟

وعند ذلك تقدم جوهان كولدن فاختلط بين العمال وقال لذلك الذي يخاف أن تصيبه القرعة: إني هنا أيها الرفيق منذ هذا الصباح فلم تستحكم الصلة بيني وبينكم بعد، غير أن حديثك أثر بي وأنا رجل عازب وليس لي عائلة، فإذا أصابتك القرعة دخلت إلى الحبس القديم مكانك.

فمد الرجل يده إليه وصافحه شاكرًا وأثنى جميع العمال على ما أظهره جوهان من المروءة.

وعند ذلك فتح باب كبير ودخل منه رجل كبير ضخم فسكت المتحدثون واتجهت الأنظار إليه، فإنه كان يحمل كيسًا مملوءًا بالكرات الصغيرة المنمرة.

ودنا جوهان كولدن من والد الفتاة وقال له: كيف يكون عادة الاقتراع؟

– انظر إلى هذا الرجل الذي دخل الآن، إنه مدير الأعمال وهذا الكيس الذي معه يحتوي على كرات خشبية بقدر عدد العمال، وهي نمر متسلسلة من الواحد إلى آخر ما يبلغ إليه عددنا وسيقترب كل واحد منا فيهز الكيس ويأخذ نمرة من النمر، وبعد تفريق النمر ينادي المدير مبتدئًا من نمرة واحد فإذا كانوا يحتاجون مثلًا إلى خمسة عشر عاملًا ينادي من نمرة واحد إلى نمرة خمسة عشر، ومن كان معه أحد هذه النمر أصابته القرعة ودخل إلى الحبس العتيق.

– لقد فهمت فاجعل وقوفك بجانبي حتى إذا رأيت أن القرعة أصابتك أعطيتني نمرتك وأخذت نمرتي.

وتأثر الرجل وقال: أحقًّا أنك تحل محلي إذا أصابتني القرعة؟

– دون شك.

– ولكنك لم تعرفني قبل اليوم فما دفعك إلى هذا الصنيع؟

– لم يحملني عليه غير تأثري من حكايتك وإشفاقي على ابنتك من أن تنالها يد الأشرار، وأنا وحيد شريد، لا فرق عندي بين أن أكون سجينًا أو مطلقًا.

فشكره الرجل شكرًا جزيلًا.

وقاطعهما عند ذلك مدير العمال فقال لهم بصوت جهوري إني مخبركم يا إخواني بخبر سيئ، وهو أنه تهدم حائط في الحبس القديم، ويلزم لإصلاحه كثير من العمال، لذلك سيزيد عدد الذين تقع عليهم القرعة اليوم عن مثله في كل أسبوع.

وجعل كل من العمال ينظر إلى الآخر نظرات تشف عن اضطرابهم، ثم عاد المدير إلى الحديث فقال: إننا محتاجون إلى خمسة عشر عاملًا، أي بزيادة عشر عمال عن العدد المألوف، فتشجعوا أيها الإخوان وهلموا إلى النمر فإنه أسبوع يمضي كما مر سواه.

وكان عدد العمال مائة وستصيب القرعة ربعهم، فاصطفوا صفًا طويلًا وجعل المدير يمر بهم، فيمد كل منهم يده إلى الكيس، ويأخذ نمرة فكان بعضهم ينظر إلى نمرته ليطمئن، وبعضهم يبقونها في أيديهم دون أن ينظروا إليها.

أما والد الفتاة فلم يطق الصبر، ونظر إلى نمرته فاصفر وجهه؛ لأنها كانت ثلاثة وخشي أن تكون نمرة كولدن قريبة أيضًا.

ولما أخذ جوهان كولدن نمرته نظر فيها، وابتسم ثم دنا من والد الفتاة وقال له: ما هي نمرتك؟

– ثلاثة وا أسفاه.

فأبرقت عينا جوهان ببارق الرجاء وقال: لا بأس هات نمرتك، وخذ نمرتي فإنها تجاوزت عدد خمسة وعشرين وهي ٦٩ وقبل والد الفتاة شاكرًا، وتبادل الاثنان النمرتين.

ولما فرغ المدير من توزيع النمر جعل يناديهم بالأعداد، مبتدئًا من الواحد إلى الخمسة وعشرين، فكان كل واحد معه نمرة من هذه النمر، يلبي النداء حتى تكامل عددهم، فسيقوا جميعهم اثنين اثنين إلى السجن الداخلي.

وكانوا يمرون جميعهم بالمعامل المختلفة، كالحدادة والنجارة حيث يعمل فيها الذين حكم عليهم أحكامًا خفيفة من المسجونين.

ثم اجتازوا إلى الحبس حيث يقيم المسجونون الذين حكم عليهم بالتعذيب بالطاحونة على ما قدمناه، فانقبض جوهان حين علم أن هذا الصغير المنكود سيعاقب هذا العقاب الشاق.

٤٩

والآن لنعد إلى حيث ذهبوا برالف إلى الحبس، وهو ذلك الغلام الذي يقول التاريخ إن آمال أرلندا كانت معلقة عليه، فإنهم ساروا به في مركبة المجرمين، في اليوم التالي للحكم عليه، وكان قد جاءه أحد رجال البوليس فحمله ووضعه في المركبة، فلم يبال بعد أن فرقوا بينه وبين أمه بأي سجن يكون.

ولم يكن رأى ذلك البوليس قبل الآن، ولكنه ارتعش ارتعاشًا عظيمًا، حين سمعه يهمس في أذنه فيقول: «لا تخف يا بني، إن أمك وأصدقاءها ساهرون عليك.»

وكان همس في أذنه الكلام، بتلك اللغة الخاصة التي كلمه بها اللورد كورنهيل في الحبس، حتى لقد خيل للغلام أن صوت الاثنين واحد، لكنه حدق تحديقًا طويلًا بالبوليس، فلم يجد به أقل شبه باللورد، ومع ذلك فإن الرجاء ملأ قلبه الصغير؛ لأن هذا الرجل كلمه عن أمه وبلغة قومه.

وسارت به المركبة من مركز إلى مركز، وكلما وقفت عند مركز ينقلون إليها المحكوم عليهم بسجن الطاحونة.

حتى وصلت إلى ذلك السجن الرهيب فخرج منها البوليس، وأخرج منها الغلام فقال له بصوت خشن: امش.

غير أن قسوته لم ترهبه، فمشى بقدم ثابتة غير هياب.

ودخل البوليس برالف إلى رئيس السجن ففتح سجلًّا أمامه وجعل يسأل الأسئلة المألوفة، فكان البوليس يجيبه فيذكر اسم الفتى وعمره والجريمة التي ارتكبها والحكم الذي صدر عليه.

ولما أتم الرئيس الكتابة جعل ينظر إلى البوليس نظر الفاحص ثم قال: إني لم أرك قبل الآن.

فأجابه البوليس بسكينة: لقد أصبت يا سيدي فهذا أول يوم توليت فيه هذه الخدمة.

– كيف ذلك؟ ألعل مستر لنتون مريض؟

– هو ما تقول يا سيدي، وإنك لم ترني قبل الآن لأني كنت بوليسًا في الأقاليم، وقد دعوني إلى العاصمة منذ يومين.

– أين كت في الأقاليم؟

– في منشتر وكنت أخدم فيها السجون أيضًا.

– حسنًا. هات سواه.

– لي كلمة أيضًا يا سيدي أمرني قاضي المركز أن أقولها لك، وهي أن اللص الصغير جريح في كتفه، وهو يرجوك أن لا تعاقبه بالطاحونة قبل أن يشفى من جراحه، ولا يقتضي ذلك غير بضعة أيام.

– ليس ذلك من شأني، بل هو شأن الطبيب وسنعرضه للفحص غدًا.

في صباح اليوم التالي دخل رئيس الحراس والطبيب إلى الغرفة المسجون فيها الفتى، فقال له الرئيس بلهجة عنيفة قف أيها اللص احترامًا للطبيب فإنه قادم لفحصك.

فلم يخف رالف من تلك اللهجة القاسية لارتياحه إلى ذلك الصوت، واقترب الطبيب منه وقال: أهذا هو الفتى الذي سرق صندوق توماس الجن؟

ثم جعل ينظر إليه ويقول: إنه جميل الوجه ومن الحيف أن يكون من اللصوص.

ثم اقترب منه وجعل يبحث في جرحه بقسوة دعت رالف إلى الصياح من الألم.

وقال له الرئيس: إني أراه جريحًا لا يستطيع عمل شيء ولا أدري كيف خطر للقاضي أن يحكم عليه بالطاحونة وهو لم يبلغ عشرة أعوام.

– لا أنكر أنه جريح، لكن الرصاصة خرجت من كتفه وليس هناك خطر فقد اندمل الجرح.

ثم جعل يهز كتف الفتى بعنف إثباتًا لقوله ويقول: لم يبق من الجرح غير الأثر القليل وسيزول الأثر بعد أسبوع.

– وفي تلك المدة ألا ترى أنه يجب وضعه في المستشفى؟

– لا حاجة إلى ذلك فإنه معافى.

فتجهم وجه الرئيس وحاول أن يعترض، غير أن الطبيب قاطعه قائلًا: لقد قلت لك إنه لا فائدة من ذلك فإن اللص الصغير يستطيع العمل.

– أيعمل اليوم؟!

– نعم.

فتنهد الرئيس وخشي الطبيب أن يتهمه بالقسوة فقال له: إني كثير الرأفة ولذلك عينت رئيسًا لنادي الرحمة بالإنسان، غير أن القسوة في موضعها رأفة ولا يحسن الرأفة باللصوص.

ثم خرج من غرفة رالف وتبعه الرئيس وأقفل الباب وبقي رالف وحده نحو ساعة.

وبعد ذلك فتح الباب فحسب الفتى أن البوليس قد فتحه، ولكنه رأى حارسين من حراس الحبس دخلا إليه وبيد أحدهما شهادة من الطبيب أن الفتى معافى يستطيع العمل وجرداه من ثيابه وألبساه ثياب السجن وذهبا به إلى محل العمل.

وفي ذلك الحين خرج رئيس الحرس من الحبس، وسار في الشارع حتى انتهى إلى خمارة، فدخل إليها ورأى رجلًا يشرب فيها، وكان هو الرجل العبوس، فحياه تحية سرية ثم جلس وجعلا يتحدثان باللغة الأرلندية الاصطلاحية، فسأله الرجل العبوس قائلًا: أين الفتى الآن أنقلتموه إلى المستشفى؟

– كلا، بل في حبس الطاحونة.

فاصفر وجه الرجل العبوس، وقال رئيس الحراس إن الطبيب لا رحمة في قلبه فإنه واسع الثروة كثير الحرص فلو ولي القضاء لحكم بالإعدام على من يسرق درهمًا.

فقال له الرجل العبوس: لقد فسدت خطتنا فإنها مبنية على اعتبار أن الفتى في المستشفى.

– دون شك.

– وهل هو في قاعة الطاحون.

– نعم، وليس في تلك القاعة من أعتمد عليه.

– ألعل قاعة الطاحون بعيدة عن المستشفى؟

– كلا.

– أيستطيع العمال أن يدخلوا إلى تلك القاعة؟

فارتعش الرئيس، وقال لقد خطر لي خاطر، وهو أن الجدار الفاصل بين هذه القاعة وبين محل العمال غير متين.

– متى يسقط؟

– حين أريد.

– إذن احرص أن لا يكون ذلك قبل يوم السبت، إذ سيدخل في اليوم بين العمال واحد من إخواننا.

فقال الرئيس: لينقذ الله أرلندا.

ثم جعل الاثنان يتحدثان بصوت منخفض.

وكان رئيس الحراس، واسمه باردل، يكلم الرجل العبوس بملء الاحترام، ويخضع له الخضوع التام.

وذلك لأنه كان من أعضاء الجمعية الأرلندية السرية، التي كان الرجل العبوس أحد زعمائها. وهي جمعية كانت في ذلك العهد عظيمة، تضطرب لها إنكلترا. ولا تزال أسرارها خفية لأن التاريخ لم يكشف إلا القليل منها إلى الآن.

ومن أسرار هذه الجمعية أن أعضاءها لم يكونوا يتعارفون إلا بالإشارات السرية والكلمات الاصطلاحية التي كانت تتغير مرة كل شهر.

وكان السبب في تعارف الرجلين، أنه حين حكم على رالف، تنكر العبوس بالملابس التي كان يلبسها حين كان يدعو نفسه اللورد كرونهيل، وذهب إلى ذلك الحبس قبل أن يرسلوا الفتى إليه، بحجة أنه مولع بجمع أخبار الجرائم.

ودخل إلى المستشفى ومحلات العمل، وفحص جميع السجن فحصًا دقيقًا ما خلا قاعة الطاحون قائلًا: إنه سيعود إليها مرة أخرى.

وكان غرضه من زيارة هذا الحبس، أن يبحث عن الموظفين فيه إذ كان يعلم أنه يوجد بينهم كثير من الأرلنديين، كما كان يوجد بين البوليس.

فجعل ينتقل من قاعة إلى قاعة، ويتفحص الموظفين بالإشارة. إلى أن مر برئيس الحراس وأشار له تلك الإشارة، وأجابه بمثلها فسر العبوس، وسأله الاختلاء به.

ولما اختليا أشار إليه إشارة الرؤساء، فانحنى باردل وقال: مر أيها الرئيس بما تشاء فإني من المطيعين.

– لا أستطيع أن أقول لك شيئًا هنا، كي لا أنبه الظنون. فإذا رأيتني خرجت من الحبس، فاخرج منه بعد ساعة ووافِني في الحال إلى أول خمارة في الشارع.

– سأكون عندك في الموعد المعين.

وبعد ساعة اجتمع الاثنان في الخمارة فقال العبوس: ألا يوجد في دائرة نفوذك أحد من إخواننا؟

– كلا.

– أحتى من المسجونين؟

– كلا.

– ولكني علمت أن مأمور الباب الخارجي أرلندي.

– هو ذاك. ولكنه كثير البنين، شديد الفقر، وهو يحرص على منصبه كل الحرص. وقد يبيع، في سبيل الاحتفاظ به، أرلندا والأرلنديين.

– بأية طريقة نستطيع إدخال العمال الأحرار إلى حبس الطاحون؟

– لدي طريقة سهلة وهي أن الطاحونة الكبيرة تمر حين دورانها بأحد جدران القاعة، وقد بات متداعيًا إلى السقوط. فإذا وقفت تلك الآلة فجأة، صدمت الحائط صدمة عنيفة، فيسقط دون شك.

– كيف توقفها؟

– إني أضع في سبيل دورانها قطعة من الحديد، فإذا مرت بها تفككت وصدمت الحائط تلك الصدمة.

– حسنًا اسمع الآن خطتي إنه يوجد بين العمال الذين يدخلون حبس الطاحون عامل من إخواننا، أتراه يكفي لإنقاذ الغلام؟

– قد يكفي. وذلك أن العمال حين يدخلون هذا الحبس، يعاملون نفس معاملة المسجونين، ما عدا الطعام. فيحبس كل منهم في غرفة حين المساء. فإذا سقط حائط الطاحونة، فلا بد لهؤلاء العمال من المبيت في الرواق المجاور لهذه الطاحونة.

ثم إنه يوجد لكل رواق حارس خاص يستحيل إغراؤه؛ لأنهم جميعهم من المتعصبين على الأرلنديين.

– ولكن ظهر لي أن كل رواق ينتهي إلى فسحة.

– هو ذاك.

فقال العبوس: إذن لنفرض أن جوهان يبيت في الرواق المسجون فيه الفتى، أليس ذلك ممكنًا؟

– دون شك؛ لأنه منوط بي.

– ولنفرض أيضًا أن حارس الرواق من أتباعنا.

– ولكن هذا محال.

– قلت لنفرض. فإذا أخذ جوهان الفتى، وسار به إلى فسحة الرواق، ألا يجد معك مفتاح باب الفسحة؟

– دون شك.

– وإن كل فسحة تنتهي إلى باب يؤدي إلى السجن الجديد، أليس لديك مفتاح هذا الباب؟

– نعم، ولكن مفتاح الباب الخارجي مع المستر بين، وهو لا يفارقه لحظة.

– ذلك سيان عندي، لأن جوهان متى وصلت بالفتى إلى الحبس الجديد، فهو لا يخرج به من باب الحبس العام. وعلى ذلك لم يبق أمامنا غير حائل واحد، وهو حارس الرواق.

– ولكنه أعظم حائل يا سيدي، كما قلت لك.

فابتسم الرجل العبوس وقال: سوف ترى أن الأمر على عكس ما تراه. والآن فلننظر في نتيجة أبحاثنا، إن الحائط يسقط يوم الجمعة مساء أي ليلة السبت؟

– نعم.

– وفي يوم السبت، يدخل جوهان مع رفاقه العمال إلى حبس الطاحونة لترميم الجدار.

– وبعد ذلك؟

– وبعد ذلك تأتي إلي يوم السبت مساء في الخمارة، فأريك كيف أن كل شيء ممكن.

– إذا كانت حياتي مفيدة لأرلندا، فإني أسفك دمي من أجلها.

– لا حاجة إلى ذلك بل إننا سننقذ الفتى، وتبقى أنت في منصبك ولا يعلم بأمرك أحد.

– إذن إلى اللقاء.

ثم افترقا، وذهب كل منهما في شأنه.

٥٠

ولنعد الآن إلى رالف، ونقص ما جرى لهذا الشهيد الصغير في ذلك السجن الرهيب.

كان اليوم يوم سبت، أي بعد أن دخل رالف إلى الحبس بخمسة أيام. فكان عذابه الأيام الأولى من سجنه لا يحيط به وصف، ولا يستوفيه تغيير، فإنه كان يتعلق بيديه الصغيرتين بتلك الخشبة، ولا يكاد يلقي رجليه على الصناديق، كي يستريح حتى يشعر أنها دارت، وباتت رجلاه في الخلاء.

وعذبوه هذا العذاب ربع ساعة، ثم أراحوه فأنزلوه، وهو يلهث من التعب. وقد بلت ثيابه من العرق، واصفر وجهه حتى بات كالأموات، وأشفق عليه المسجونون فودوا لو تحملوا عنه عذابه، ولكن تنفيذ العقاب في إنكلترا لا تقبل فيه شفاعات.

وكان يتولى تعذيب أولئك المنكودين رجل فظ الطباع، قاسي القلب يدعى ويب.

ولم يكن هذا اسمه الحقيقي، بل لقبًا لقبه به إخوانه، لما رأوه من فظاعته وقسوته؛ لأن هذه اللفظة عندهم معناها الكرباج.

وإنما لقب بالكرباج، لأن كرباجه لم يكن يسقط من يده إلا على ظهور أولئك المسجونين.

فإذا تأفف أحدهم من الألم أو شكا من التعب، انهال عليه بذلك الكرباج دون إشفاق، حتى يدوي صياحه في ذلك الحبس.

وهذا ما أصاب ذلك الفتى المسكين، فقد لقي من كرباج ذلك العاتي أعظم نصيب.

ولما أقبل المساء ذهبوا به إلى سجنه، وهو واهي القوى، ولم يكن يبكي ولم يقنط، لأن كلمة ذلك الرجل الذي قال له: إن أمك ساهرة عليك. كانت قد رسخت في أذنه، وملأت نفسه أملًا.

وبات على العقاب والأمل إلى يوم السبت. فأخرجوا المسجونين صباحًا، وساروا بهم صفًّا طويلًا إلى قاعة التنكيل يتقدمهم ويب.

وجعلوا يصعدون بهم إلى الطاحونة، وهي أربعة أقسام، كل قسم منها مستندًا إلى جدار.

حتى إذا وضعوا أربعة منهم في الطواحين الأربع أدير اللولب، فدارت الطواحين في البدء دورانًا بطيئًا ثم أسرعت فجأة. ولكنها لم تتم دورتها الأولى، حتى خرج صوت هائل كدوي الرعد؛ ذلك أن إحدى هذه الطواحين صدمت بالحديد الذي وضعه رئيس الحراس، فوقفت بغتة وصدمت الحائط صدمة هائلة، فسقط وخرج له ذاك الدوي العظيم.

وهنا اختلط المسجونين، وأصيب بعضهم بشظايا الآلة، فانجرحوا وساد الرعب في جميع السجن، فأقبلوا إلى قاعة الطاحونة من كل ناحية.

وأسرع عمال السجن ورؤسائه، لحذرهم من ثورة المسجونين، واغتنامهم تلك الفرصة. وكان بين الموظفين رئيس السجن العام ورئيس الحراس، فارتأيا إرجاع المسجونين إلى غرفهم.

ثم أحضروا المهندسين، فقرروا بعد فحصهم أن هذا الحائط لم يكن متينًا، خلافًا للحيطان الثلاثة، أي إن الطواحين الثلاث الباقية، لا خوف عليها في عملها.

فأعادوا المسجونين من غرفهم إلى قاعة الطاحونة، وجعلوا يعذبونهم بالطواحين الثلاث.

ثم جاء دور البنائين، فدخلوا إلى الحبس القديم، وفي طليعتهم جوهان كولدن.

فأجال بين المحكوم عليهم بالعذاب نظرًا فاحصًا، وجعل يبحث عن الفتى فرآه جالسًا على الأرض، إذ كان في ذلك الحين دوره بالاستراحة، ورأى العرق ينصب منه فدنا منه وقال له همسًا: لا تخف إني صديق لأمك، ثم أسرع بالابتعاد عنه، والاختلاط بين العمال دون أن يراه أحد.

أما الصبي فإنه صاح صيحة دهش سمعها ويب، فالتفت إليه وجلده بكرباجه، فصاح متألمًا وجلده مرة ثانية.

فرأى الصبي جوهان واقفًا بعيدًا عنه ينظره، ويشير إليه بإصبعه أن يسكت، ففهم الفتى إشارته وسكت.

ولكن ويب لم يكتف بجلده، بل أصعده إلى الطاحونة قبل مجيء دوره بالتعذيب انتقامًا منه لصياحه.

•••

وفي اليوم نفسه كان الرجل العبوس وباردل رئيس الحراس، متفقين على الاجتماع في الخمارة.

ولما حانت الساعة السابعة، كان العبوس في الخمارة حسب الاتفاق، أما باردل فلم يحضر.

ثم فتح الباب ودخل شوكنج، ولم يكن يوجد في الخمارة أحد فقال العبوس: ماذا فعلتم أأعدتم كل شيء؟

– نعم وقد أحضرنا الحبل الطويل المعقد، وستكون المركبة على باب المنزل في الوقت المعين.

– أين هي الأرلندية؟

– لقد أتينا بها مع سوزان، وهما الآن في المنزل.

– ومتى تحضر المركبة؟

– سيحضر فيها كرافان في الساعة التاسعة.

وعند ذلك فتح باب الخمارة أيضًا، ودخل منه باردل رئيس الحراس، وكان العبوس ينتظره فدعاه إلى الجلوس معه. ودار بينهما الحديث باللغة الأرلندية الاصطلاحية.

فقال العبوس: قل لي ماذا حدث؟

– إن الحائط سقط.

– أأصاب الفتى بجراح؟

– كلا.

– وجوهان كولدن؟

– إنه يعمل في قاعة الطاحونة مع العمال.

– هل فعلت ما قلته لك؟

– بالتدقيق.

– أعد علي ما فعلت.

– إني أقمت جوهان في نفس الرواق الذي أقمت فيه الفتى، وأقفلت الأبواب بيدي، وأعطيت جوهان خنجرًا.

– ولكني أرجو ألا يحتاج إليه.

– وبعد أن أقفلت جميع الأبواب، تركت بابه مفتوحًا، ثم أبعدت خفير الفسحة الكبرى بحجة المطر، وأنه لا فائدة من حراسة السجن الجديد، لعدم وجود أحد فيه.

– ومن هو حارس الرواق؟

فقطب باردل حاجبيه وقال: إنه رجل وحشي الأخلاق، نلقبه بالكرباج، لقسوة طباعه، وأخشى أن يحتاج جوهان كولدن إلى استعمال الخنجر.

ففكر العبوس هنيهة ثم قال: أيدخن هذا الرجل التبغ؟

– إنه مولع به مثلي.

– إذن لقد سهل الأمر، انظر إلى هذه العلبة إنها تغنيك عن الخنجر.

– كيف ذلك إني لا أفهم شيئًا؟

– ألا ترى أن هذه العلبة تفتح من الجهتين؟

– نعم.

– إن فيها طبقتين، يفصل بينهما حاجز رقيق يستره التبغ، فانظر إلى الطبقة اليمنى تجد عليها نقشًا خلافًا للطبقة الأخرى، فهي ملساء، ففي الساعة التاسعة اذهب لمراقبة الحراس، فإذا وصلت إلى هذا الحارس، فقدم له سيكارة من الطبقة ذات الباب المنقوش، وخذ لنفسك من الطبقة ذات الباب الأملس.

– لقد فهمت فإن تبغ الطبقة المنقوشة ممزوج بمادة مخدرة.

– هو ذاك، والآن تريد أن تعلم كيف يخرج جوهان كولدن، والغلام من السجن الجديد؟

– دون شك، فإن خروجهما لا يزال لدي متلبسًا بالغموض.

قال العبوس: اخرج قبلي وانتظرني في عطفة الشارع، فسأوافيك بعد عشر دقائق.

فامتثل وبقي العبوس هنيهة مع شوكنج يحدثه ببعض الشئون، ثم خرج الاثنان من الخمارة.

وكانت الليلة حالكة السواد، وقد تكاثف ضبابها، فكانت أنوار مصابيح الغاز تظهر من خلاله، كما يضيء الجمر من خلال الرماد.

وكان باردل واقفًا في عطفة تحت نور أحد المصابيح ينتظر العبوس، فلما وافاه أخذ بيديه وقال له: هلم بنا فسأريك كيف أننا لا نحتاج في سبيل إنقاذ الفتى إلى الخروج به من باب السجن العام.

٥١

وسار الرجل العبوس وباردل يتبعهما شوكنج، حتى وصلوا إلى منزل مشرف على الحبس الجديد، يدل السكون فيه على أنه لا يسكنه أحد.

ففتح الرجل العبوس بابه، وصعد الثلاثة سلالمه إلى أن وصلوا إلى الدور الأعلى فيه.

وهناك فتح العبوس باب غرفة، وظهر لهم نور شمعة ضعيف، ورأى باردل غرفة تدل على فقر ساكنيها، إذ لم يكن يوجد فيها من الأثاث غير ما لا يمكن الاستغناء عنه.

ثم رأى في هذه الغرفة امرأتين، لا ينطبق جمالهما الباهر على ظواهر هذا الفقر.

وكانت هاتان المرأتان سوزان والأرلندية والدة رالف، فإن العبوس جاء بهما إلى ذلك المنزل.

فقال: ستجتمعين بابنك في هذا المساء.

وقد بدأ العبوس حين دخولهم إلى الغرفة بأن أطفأ الشمعة، ثم ذهب إلى النافذة ففتحها ونادى باردل قائلًا: انظر.

وأطل باردل من النافذة وقال: إن الضباب كثيف، ولا أرى كل شيء، ولكن يخال لي أن هذه النافذة مشرفة على فسحة السجن الجديد.

– هو ما تقول.

– وأرى أنه لا يفصل بينهما غير عرض الشاعر، وهو أضيق شوارع لندرا.

– هو ذاك، وإن الفاصل بينهما أيضًا سور السجن العريض، وهو لا سقف له كما ترى.

فلم يفهم رئيس الحراس مراده، وقال له: ماذا تعني بذلك؟

– أصغِ إليَّ تعلم قصدي. إن النافذة يبلغ ارتفاعها ستين قدمًا.

– تقريبًا.

– فافترض أنك أنت وجوهان، تأتيان بالفتى من سجنه إلى الفسحة التي تراها، أي فسحة السجن الجديد.

– نعم.

– فسألقي لكم من هذه النافذة حبلًا طويلًا معقدًا، أعلق طرفه بحديد النافذة، فيسقط الحبل من فوق السور إلى فسحة السجن، حيث تكونون. وعند ذلك يركب الفتى ظهر جوهان، ويتسلق به الحائط بواسطة الحبل المعقد، حتى يبلغ إلى أعلاه. وبين أعلى السور وهذه النافذة مسافة ثلاثة أمتار، فإذا وضع لوح سميك من الخشب بينهما، سار بالغلام على اللوح، ودخل من النافذة إلى الحجرة.

– وأين هو الحبل؟

– هذا هو.

ثم أراه حبلًا طويلًا ملفوفًا، وقد كثرت فيه العقد، وجعلت المسافة شبرًا بين العقدة والأخرى؛ تسهيلًا للصعود عليه، بحيث يصبح شبيهًا بالسلم.

فابتسم باردل وقال: إن هذا الفكر جميل وبسيط، ولكنه لا يخطر لي.

– وكذلك علبة التبغ، فإنها لم تخطر لك أيضًا.

– هو ذاك.

– والذي أراه الآن أنه يجب الإسراع؛ لأن الوقت غير متسع لدينا.

– أيطول زمن بدء التأثير بالمخدر؟

– بعد خمس دقائق من شربه.

– وماذا يحدث للحارس حين يدخن تلك السيكارة؟

– ينام نوم الأموات، ولا توقظه المدافع، ولا يستفيق إلا عند الصباح.

– إذن الفرار بالصبي بات سهلًا؛ لأني أبعدت حراس فسحة السجن الجديد، ولم يبق شيء نخافه غير الصدفة.

– أي صدفة تعني؟

– لا أدري فقد يمر بنا أحد الحراس اتفاقًا، بل يخطر للمدير العام أن يجول في الرواقات، ويراقب مراقبة فوق العادة.

– وبعد ذلك؟

– إذا لم يحصل شيء من هذا، نصل إلى فسحة السجن كما صممت، ويفر جوهان بالصبي إلى هذه الغرفة، ولكني أرى أنه يجب عليَّ أيضًا أن أفر معهما.

– لماذا؟

– لأني إذا بقيت في السجن، يعلمون بفرار الغلام.

– دون شك.

– وهم يعلمون أن مفتاح باب الفسحة لا يكون إلا معي في الليل.

– ليعلموا.

– ولكن ذلك يدعو إلى اتهامي بتسهيل فراره.

فابتسم العبوس وقال: أتظن أنهم يتهمونك؟

– بل أؤكد، لأن الحارس ويب سيقول فوق ذلك إني سقيته مخدرًا. وفي كل حال فلا يسعني إلا الامتثال لأمرك، فمر أطع. ولكني أستطيع إذا كنت مطلق السراح أن أفيد أرلندا بشيء. ولهذا أفضل الفرار فإنهم إذا اتهموني وزجوني في أعمق سجن، فلا أعود أستطيع خدمة الوطن العزيز بشيء.

فأجابه العبوس ببرود: إن كل ما تقوله ملؤه الحكمة والصواب، ولكن لا فائدة فيه.

فتراجع منذعرًا وقال: كيف لا فائدة فيه؟

– دون شك.

– ألا تحتاج أرلندا إلى خدمتي؟

– بالعكس.

– إذن كيف أستطيع خدمتها، وأنا مغلول اليدين في السجن؟

– إنك لا تذهب إلى السجن ولا تغل يداك، بل تبقى في حبس الطاحونة، وتفيدنا فيه فوائد كثيرة.

– أأبقى في حبس الطاحونة سجينًا؟

– بل تبقى كما أنت الآن محترمًا محبوبًا، وتبقى في منصبك وهو رئاسة الحراس.

فنظر باردل إليه نظرة بلاهة وقال له: إني لا أفهم شيئًا من هذه الألغاز.

فابتسم العبوس وقال: سوف ترى أن الأمر بسيط، كما رأيت في مسألة الحبل وعلبة التبغ.

– أأبقى رئيس الحراس في سجن، وأسهل فيه فرار المسجونين، ويكون الأمر بسيطًا؟

– دون شك.

– ومفتاح الفسحة.

– إنهم سرقوه منك.

– وتخدير التبغ؟

– إنك تخدرت أيضًا، كما تخدر الحارس ويب.

– كيف ذلك؟

– ذلك أنك بعد أن تخدر ويب وينام. وبعد أن تساعد جوهان ويفر بالصبي، تعود بملء السكينة والارتياح إلى الحبس القديم، وتدخن سيكارة من تلك السكاير المخدرة التي أعطيت منها ويب، وتنام مخدرًا في نفس الرواق الذي نام فيه.

فصاح باردل صيحة دهش وقال: إن هذا الفكر بسيط جدًّا، ولكنه لم يخطر لي.

– ذلك لأنه بسيط. والآن اعلم أنهم سيدققون غدًا كل التدقيق، ثم تنجلي أبحاثهم عن اتهام بائع التبغ، فإذا سئلت عن الذي باعك التبغ فقل إنك اشتريته من الدكان الصغيرة الكائنة في أول الشارع.

– لماذا؟

– لأني أمرته أن يسافر الليلة إلى فرنسا، وسيبحثون عنه فلا يجدوه فتثبت التهمة عليه وتنجو. والآن لم يبق لدينا من الوقت غير ساعة، فعد إلى الحبس وافعل كل ما قلته لك.

فامتثل باردل وانصرف. وعاد العبوس إلى الأرلندية فرآها تبكي فقال لها: إن بكاءك سيستحيل بعد ساعة إلى بكاء سرور، حين تضمين إلى صدرك ولدك، فكفي عن البكاء وثقي بمراحم الله.

٥٢

كان ويب الحارس، أي الرجل الملقب بالكرباج، مشهورًا بالفظاعة كما قدمنا. وكان يكره الأرلنديين كرهًا عظيمًا. فإذا دفع نكد الطالع أحدهم إلى ذلك السجن، وتولى هو تشغيله عذبه عذابًا لا يطاق، ونكل به أفظع تنكيل. وكان يعلم أن الفتى أرلندي، فكان يجور عليه كل الجور غير مشفق على جسمه الصغير.

وقد تقدم لنا القول أنه سمع رالف، وصاح صيحة دهش، فأيقن أنه رأى بين البنائين رجلًا يعرفه، فجلده بكرباجه وأصعده إلى الطاحونة قبل أن يجيء دوره.

ثم لما فرغ من تشغيله هذا الشغل الشاق، ناداه بلهجته المألوفة فأيقن المسجونون أنه ناقم على الفتى يريد جلده، وود كل منهم لو تحمل عنه ألم الضرب؛ لفرط إشفاقهم عليه.

أما رالف فإنه لبى النداء، وسار مرتفع الرأس شامخ الأنف، غير مكترث بنظرات ذلك الرجل الوحشي.

فسأله ويب عن الرجل الذي عرفه من بين البنائين، وأنذره بالضرب فلم يجبه رالف إلا بالإنكار، فحقد عليه وضربه ضربًا مؤلمًا، ثم أعاده إلى الطاحونة. ودام يعذبه هذا العذاب والمسجونون ينظرون ولا يجسرون على اعتراضه حتى المساء.

فجاء باردل وشاهد أعمال ويب المنكرة، فوبخه أقسى توبيخ ولم يسعه إلا أن ينظر إلى الفتى نظرة إشفاق لم تخف على ويب. فهاج لها وحقد على رئيسه حقدًا عظيمًا؛ لتوبيخه إياه أمام المسجونين، لا سيما وأنه كان يكرهه منذ زمن بعيد؛ لأن باردل كان قد شكاه مرتين للمدير العام، لما يرتكبه من الفظاعة، فعاقبه المدير في المرتين.

ومع ذلك فإن باردل لم يجسر على إبعاده عن الخدمة في تلك الليلة، وتركه يتولى حراسة الرواق الذي أقام فيه البنائون ورالف.

وعادة الحراس في ذلك السجن أنهم يتغيرون كل ساعتين. وأما في الليل فقد تحتم على الحارس أن يحرس أربع ساعات متوالية.

وقد ذهب ويب يتعشى في الساعة السادسة، أي حين كان باردل يدخل المسجونين والبنائين إلى غرفهم، وقد دفع الخنجر إلى جوهان، وترك غرفته وغرفة رالف مفتوحة كما قدمنا.

وكان باردل يعلم أن ويب يعود إلى الحراسة، في الساعة الثامنة والنصف.

وانصرف بعد إدخال المسجونين إلى لقاء الرجل العبوس.

أما ويب فإنه ذهب للعشاء مع صديقه جوناتان، ولم يكن له صديق سواه بين عمال السجن، لاتفاقهما في الفظاعة، ولاتحادهما على كره رئيسهما باردل.

وفي المثل المأثور أن الطيور على أشكالها تقع. فلما اجتمع هذان الحارسان، جعلا يتعشيان ويطعنان بباردل طعنًا قبيحًا، ويتمنيان له كل شر، ويستنبطان الحيلة شأنهما في كل اجتماع.

وقد دار بينما في تلك الليلة الحديث الآتي فقال جوناتان: لقد طال عسف هذا الرئيس بنا، وإني أراك أصلح منه للرئاسة.

فأجابه ويب: ومتى كانت الناصية تعطى لمستحقيها، فإن جميع الرؤساء متحاملون علينا، حتى لقد بت أخشى أن أقضي العمر كله في هذا المنصب الحقير.

– ولكنك إذا سعيت قد تنال منصب باردل.

– وأين لي ذلك أيها الصديق، ألا ترى ميل المدير إليه وتعلقه به؟

– إن المدير مخطئ.

– وهذا رأيي أيضًا.

– وفوق ذلك فإن باردل يتهامل في الخدمة منذ بضعة أيام.

– أتظن أنه يتهامل؟

– بل أظن أنه يحاول مساعدة أحد المسجونين على الفرار.

فارتعش ويب واتقدت عيناه وقال: وما حملك على أن تفتكر به هذا الفكر، ألديك برهان؟

– إني أراه منذ يومين يكثر الخروج من السجن، حتى إنه يخرج ثلاث مرات في اليوم الواحد.

– وأين يذهب؟

– إلى الخمارة في أول الشارع.

– خمارة الحارس القديم الذي عزل؟

– هو بعينه، وقد رأيته أمس، مختليًا في تلك الخمارة مع رجل لم ترضني هيئته.

– أحق ما تقول؟

وخفض جوناتان صوته وقال: أسمعت بأولئك الأرلنديين الذي يشغلون الحكومة في هذه الأيام؟ إن قلبي يحدثني بأنه منهم وأنه الآن خارج السجن.

– لقد كذب حديث قلبك دون شك، فقد تركته الآن منشغلًا بإدخال المسجونين والعمال إلى غرفهم.

– ولكنه سيخرج من السجن متى قضى هذه المدة.

– يسوءُني أني رضيت أن أنوب هذه الليلة بالحراسة عن زميلنا بيرلي.

– لماذا؟

– لأني كنت أقفو أثر باردل حين خروجه من الباب العام.

فقال له جوناتان: إننا أيها الصديق، مرتبطان بوثاق الصداقة منذ عهد بعيد.

– ماذا تعني بذلك؟

– أعني أني هذه الليلة حر إلى منتصف الليل، فإذا شئت أن تقفو أثر باردل توليت الخدمة مكانك إلى أن تعود.

– لا أحب إليَّ من ذلك، فإن ما قلته لي قد هاج بي عاطفة الحقد على باردل، غير أنه يجب أن تنتظر إلى أن يسلمني باردل الخدمة، فتحرس مكاني.

– كما تريد.

وقد تم الأمر على ما توقعه جوناتان، فإن ويب ذهب إلى الرواق، فتبعه باردل وقال له: قف مكاني في الحراسة، فإني سأخرج من السجن لبعض الشئون، وأعود في الساعة التاسعة للتفتيش.

ثم تركه وانصرف إلى الخمارة التي واعد الرجل العبوس على الاجتماع به فيها.

وبعد عشر دقائق أقبل جوناتان فتولى الحراسة مكان ويب، وذهب ويب إلى مأمور السجن الخارجي، فتكلف هيئة الاهتمام وقال له: ألم تَرَ باردل؟

– إنه خرج الآن، وأظن أنه ذهب إلى الخمارة.

– يجب أن أحادثه في شأن هام، فاسمح لي بالخروج.

فأذن له المأمور وذهب ويب توًّا إلى الخمارة، ولكنه لم يدخل إليها بل لبث واقفًا خارجها، ونظر من زجاج بابها الخارجي، فرأى في داخلها باردل جالسًا مع الرجل العبوس، ومختليًا به خلوة سرية.

وبعد هنيهة خرج باردل فاختبأ ويب، ثم اقتفى أثره دون أن يراه، ورأى أنه لم يذهب إلى السجن، بل إنه وقف في عطفة ينتظر، فوقف هو أيضًا بعيدًا عنه إلى أن أقبل الرجل العبوس وشوكنج، فرآهما قد انضما إلى باردل، وساروا جميعهم في الطريق.

٥٣

كان ويب على فظاعته فطنًا حكيمًا مبالغًا بالحيلة والحذر، بحيث كان يسير في أثرهم فيراهم ولا يرونه، حتى رآهم قد دخلوا إلى منزل مشرف على سور السجن، فوقف يراقب ماذا يكون، وهو لا يجسر أن يتبعهم إلى ذلك المنزل.

ووقف بعيدًا وعيناه شاخصتان إلى النوافذ، ورأى نورًا ضعيفًا من خلالها، ثم رأى أن النور قد انطفأ، وأن النافذة قد فتحت.

وكان ثاقب البصر، فحدق بتلك النافذة ورأى رأسي رجلين قد برزا منها، وأيقن أن باردل أحدهما.

وهنا اقترب حتى أصبح تحت النافذة، وجعل يصغي متنصتًا عله يسمع كلمة من حديث الرجلين، غير أن الصوت يذهب صعدًا ولا ينزل من الأعلى إلى الأسفل، ومع ذلك فإنه كان يسمع لغطًا، ولكنه لا يفهم شيئًا من الحديث.

على أنه بات واثقًا مما قاله له جوناتان، وهو أن رئيس الحراس يأتمر منذ أيام لإنقاذ أحد المسجونين، فبذل جهدًا عظيمًا، وأصغى إصغاءً تامًّا، حتى إنه حبس أنفاسه عله يفهم كلمة واحدة مما يتحدث به الرجلان، وسمع ولكنه لم يسمع غير كلمة واحدة وهي الحبل، فاضطرب قلبه وقال في نفسه: أما وهما قد ذكرا الحبل، فلم يبق شك بصدق ظنون جوناتان من أنهم يحاولون إنقاذ مسجون، وإذا كان ذلك فلا بد أن يكون باردل شريكًا بالجريمة.

وعند ذاك رأى ويب أنه قد عرف كل ما يمكن أن يعرفه، وأنه لم يعد بحاجة لوقوفه تحت ذلك المنزل، فعاد على أعقابه وبلغ السجن قبل أن يخرج باردل من المنزل.

وكان أول ما خطر له حين دخوله إلى السجن، أن يذهب إلى المدير العام ويعرض له ما سمعه ورآه، لكنه عاد عن هذا القصد حذرًا من أن لا يصدقه المدير لميله إلى باردل، ورأى أن من الحكمة أن يقبض عليه متلبسًا بالجريمة. وعند ذلك ذهب توًّا إلى صديقه جوناتان، ورآه في موقف الحراسة ينتظر عودته بفارغ الصبر.

أما جوناتان فإنه رآه يبتسم ابتسامًا معنويًّا، فأيقن أنه وقف على سر من الأسرار وقال: ما وراءك؟

– لقد كنت مصيبًا في ظنونك أيها الصديق.

– أرأيت أن لباردل علائق خارجية؟

– نعم.

– مع من؟

– مع قوم لا أعرفهم، ولكني واثق أنهم يريدون إنقاذ أحد المساجين، غير أني لم أوفق إلى معرفة هذا السجين.

– ولكني أنا عرفته.

– كيف ذلك؟

– أليس باردل الذي أقفل أبواب غرف المسجونين هذه الليلة؟

– نعم.

– ولكنه ترك باب إحدى الغرف مفتوحًا.

– باب أية غرفة؟

– نمرة ١٦ تعال وانظر.

وجعل صدر ويب يخفق خفوقًا قويًّا وقال: إنها غرفة الغلام الأرلندي.

– ألم أقل لك إن باردل من جمعية الأرلنديين؟

– أصغِ إليَّ إنه يجب أن تبقى هنا في الرواق.

– دون شك.

– وإن باردل سيأتي في الساعة التاسعة.

– ربما.

– وبعد سيسألك لماذا خلفتني في الحراسة فتقول له إني مريض؛ لأنه يحذرني أكثر مما يحذرك.

– أتظن ذلك؟

– بل أؤكد، وهو سيبعدك بحجة من الحجج.

– وعند ذلك ماذا أصنع؟

– تذهب إلى الفسحة، وتختبئ فيها.

– وبعد ذلك؟

– ليس الوقت فسيحًا فأوضح لك كل شيء، ولكني واثق أن باردل سيخرج الغلام من سجنه، ويأتي به إلى فسحة السجن الجديد، بعد ذلك نتبعه إلى تلك الفسحة، وتصيح مستنجدًا وعلي البقية إذ أكون هناك، فنقبض عليه متلبسًا بالجريمة.

ثم تركه وانصرف إلى الفسحة، فاحتجب عن الأبصار.

وبعد هنيهة جاء باردل، وهو متشح بوشاحه وقد علق في زناره حلقة فيها مفاتيح الغرف وبيده مصباح.

وكان جوناتان واقفًا في موقف الحراسة، فدنا منه وارتعش حين رآه في مكان ويب وقال: أين ويب وكيف أنت هنا؟

– إنه يا سيدي مريض، وقد أنابني عنه.

– لماذا لم يقل لي؟

– لأنه خشي أن توبخه، وقد سألني أن أنوب عنه ونحن على العشاء.

وقال بجفاء: أخاف أن يكون أخطأ في اختيارك، فإنك لا تصلح لحراسة الليل كما أرى.

– لماذا يا سيدي؟

– لأنك لا تطيق السهر؛ لأن النعاس قد سرى إلى عينيك منذ الآن.

ثم وضع المصباح على الأرض، وأخذ من جيبه علبة السكاير التي أعطاه إياها الرجل العبوس وأعطاه سيكارة قائلًا: خذ ودخن كما أصنع أنا، فإن التدخين يعين على السهر.

وأخذ جوناتان السيكارة شاكرًا، وأشعلها وجعل يدخن وهو مطمئن.

٥٤

إنَّ الرجل العبوس أعطى باردل هذا السيكار المخدر كي يدخن منها ويب، فكانت من حظ جوناتان، غير أن باردل رأى أن النتيجة واحدة، فإن جوناتان كان يخلف ويب في الحراسة، والغرض تخدير حارس الرواق.

وصار الاثنان يدخنان، فكان جوناتان يظهر عجبه بالتبع وارتياحه ثم قال: من أين تشتري يا سيدي التبغ الفاخر؟

فضحك باردل وقال له: مهما يكن فاخرًا فلا أراه يفيدك في السهر، فإنك عدت إلى النعاس، فخذ هذه السيكارة الأخرى ما زلت معجبًا بهذا التبغ.

تناولها وأشعلها من السيكارة الأولى، وصار يدخن بها.

وعند ذلك قال باردل: ابق في مكانك واحذر أن تنام، فإني ذاهب الآن وسأعود للمراقبة، ثم تركه وانصرف.

فصار جوناتان يشيعه بالنظر وهو معجب بأمره، ويقول في نفسه: لقد أخطأ ويب في حسابه، إنه كان يعتقد أنه سيتخذ حجة لإبعادي، فإذا هو يبعد نفسه.

ثم جعل يسير في الرواق ذهابًا وإيابًا وهو يقول: إن ويب سيطول انتظاره ويأتي لينقذني، فأسلمه الحراسة وأذهب في شأني.

فقد مثل لنا الحقد على باردل أمورًا لا حقيقة لها، فإن هذا الرئيس يتولى منصبه من عشرين عامًا، لا يخاطر به من أجل غلام وهو طامع بالترقي.

وفيما هو يمشي شعر ببرد فجائي، لم يدر سببه فالتف بردائه وقال: لا شك أن النار مطفأة في المستوقد، وإلا من أين هذا البرد الشديد؟

ثم اشتد عليه البرد، وكان ذلك من تأثير المخدر، فذهب إلى زاوية ووقف فيها كأنه يحاول الفرار من البرد، شعر أن ساقيه لا يحملانه فجلس القرفصاء، وعند ذلك شعر بصداع أليم فأطبقت عيناه، وحاول أن يقف فلم يستطع، وأن يستغيث فلم يخرج له صوت، ثم حاول أن يفتح عينيه فلم تفتحا، فكاد يجن مما أصابه، ولكن عذابه لم يطل فإنه سقط على الأرض فاقد الرشد، وقد بلغ منه المخدر كل مبلغ.

وعند ذلك فتح باب الرواق، وظهر منه باردل ومصباحه بيده فدنا من جوناتان، وهو ملقى على الأرض لا حراك به فناداه وهزه، لم يجب، رفسه برجله وقال: لقد نال ما يستحق، ثم تركه وذهب إلى غرفة جوهن كولدن.

وكان جوهن لا يزال ساهرًا ينتظر عودة باردل، ففتح باردل باب غرفته وناداه بتلك اللغة الأرلندية الاصطلاحية أن يخرج إليه.

أسرع جوهن إليه وقال له باردل: ألا يزال خنجرك معك؟

– نعم.

– إذن هلم بنا، فقد أزف الوقت.

– إني مستعد لكل شيء، لنسر إلى حيث تريد.

ثم سار الاثنان فمرا بجوناتان، وهو صريع على الأرض، قال له جوهن: ألعلك قتلته؟

– كلا، بل قتلت حواسه فهو نائم الآن نوم تخدير.

ومشيا في الرواق إلى أن وصلا إلى غرفة الغلام، وكان المسكين قد أنهكه التعب في النهار مما لقيه من عناء الطاحونة وكرباج الحارس، فنام نومًا عميقًا.

وجعل الاثنان يتأملان وجهه الجميل هنيهة، قال جوهن: ألا ترى هذا الوجه الملائكي، والله إني أكاد أشفق أن أوقظه؟

– إن نومه سيكون أكثر هدوءًا بعد ساعة، حين ينام في حجر أمه.

ثم هزه برفق وجعل الاثنان يبتسمان كي لا يخاف، ففتح عينيه ونظر إلى باردل وقال له: أهذا أنت الذي تقفل باب سجني كل ليلة وتحدثني عن أمي؟

– نعم أنا هو يا بني، فقم واتبعني ولا تفه بحرف.

وأسرع الغلام إلى لبس ثيابه دون أن يسأله إلى أين يذهب به، فأمسك جوهان بيده، وسار باردل أمامهما فتبعاه إلى باب الفسحة، وهناك أطفأ باردل مصباحه وفتح الباب.

وكان السكون سائدًا في فسحة السجن والظلام حالكًا، فتقدمهما باردل وتبعه جوهان بالغلام، وهو لا يجسر أن يكلمه كلمة عن أمه؛ خوفًا من أن تبدر منه صيحة فرح فينفضح أمرهم.

وكانوا لا يزالون في فسحة السجن القديم، ولا يفصل بين القديم والجديد غير باب، ففتحه باردل ودخل الثلاثة إلى الفسحة الكبرى، وعند ذلك سأله جوهان قائلًا: إلى أين نحن سائرون؟

– انظر إلى العلاء، ألا ترى منزلًا مشرفًا على السور؟

– نعم.

– ألا ترى نافذة مفتوحة؟

– نعم.

– إنه يوجد حبل معقد ربط أحد طرفيه إلى حديد تلك النافذة، وسقط الطرف الآخر إلى أرض الفسحة، أفهمت الآن؟

– نعم …

وتقدم الرجلان بالغلام حتى بلغا إلى السور، فارتعش باردل فجأة وصاح صيحة دهش وخوف، ذلك أنه رأى رجلًا ملتصقًا بجدار السور، وبيده ذلك الحبل المعقد.

ولما رأى هذا الرجل باردل، مشى إليه مشي الظافر وقال له: لقد قبضت عليك متلبسًا بالخيانة، ولم يبق سبيل للإنكار.

واضطرب باردل اضطرابًا عظيمًا، إذ علم من صوته أنه ويب، ذلك الحارس الوحشي الذي ادعى أنه مريض؛ كي يخلفه جوناتان بالحراسة.

٥٥

أما ويب فقد كان رابط الجأش آمنًا؛ لوثوقه من أن جوناتان قادم لنجدته من وراء باردل، خلافًا لباردل فإنه ذعر ذعرًا شديدًا، ولم يكن خوفه على نفسه، بل على الغلام الذي فوجئ عند الوثوق من إنقاذه من هذه النكبة، ولكن وقت اضطرابه لم يطل، وعاد لفوره إلى سكينته العادية!

أما ويب فإنه قال متهكمًا: بورك لك في هذه المهنة الجديدة أيها الصديق العزيز، فإنك تسهل للمساجين سبيل الفرار، وتبعد عنك الخفراء، وتطلق الحبال من نوافذ المنازل المجاورة، لكن عين ويب ساهرة عليك، وأنه.

ولم يدع له باردل فرصة لإتمام حديثه، فانقض عليه وقبض على عنقه بيده، كي يمنعه عن الصياح.

وجعل ويب يصيح بصوت مختنق مستنجدًا بجوناتان، وهجم عليه جوهان كولدن عند ذلك بخنجره، وقال له باردل: اطعنه والله يحمي أرلندا.

وكان باردل وجوهان قريبين، غير أن ويب كان يدافع دفاع اليأس، وكان هم باردل أن يلقيه على الأرض، ويضغط على عنقه كي يمنعه عن الاستغاثة، فإن أضعف صوت يصل إلى الخفراء يستفزهم، لذلك كان يضغط على عنقه ضغطًا شديدًا، فلم يمسك يده ولم يخطر له أنه يحمل خنجرًا مع أن مدير السجن العام كان أصدر أمره إلى جميع الحراس بحمل الخناجر.

أما ويب فإنه شعر أن باردل يكاد يخنقه بضغطه على عنقه، لكن ذلك لم يمنعه عن استلال خنجره.

وقال باردل لجوهان: اطعنه بخنجرك.

وصاح جوهان عند ذلك صيحة ألم، لأن ويب كان سبقه إلى طعنه بخنجره، ولما شعر جوهان بألم الطعنة هجم عليه هجوم الكواسر، وطعنه بخنجره طعنة نجلاء، ولم يعد يدافع عن نفسه، وشعر باردل وهو لا يزال ضاغطًا عليه أنه قد انحط وتلاشى؛ لأن الخنجر قد أصاب قلبه، فاخترقه وقضى عليه في الحال.

وتركه باردل عند ذلك، فسقط على الأرض ميتًا لا حراك به.

أما الغلام فقد كان واقفًا، ينظر هذا المشهد الهائل وقد ملأ الذعر قلبه، فدنا منه باردل وقال: لا تخف يا بني لقد نجوت، وسوف ترى أمك.

ثم أمره أن يركب ظهر جوهان، وأمره أن يتسلق الجدار بواسطة الحبل المعقد.

وكان الضباب كثيفًا فلم ير الغلام النافذة، ولا المنزل، بل كان يرى الحبل، كأنه معلق في السماء.

وركب ظهر جوهان، وطوق عنقه بيديه.

وأخذ جوهان الحبل وبدأ يصعد.

غير أنه لم يثب الوثبة الأولى، حتى شعر أن قواه قد اضمحلت، فأفلت الحبل مرغمًا، وسقط بالغلام إلى الأرض وهو يقول: وأنا أيضًا قد أصبت بما أصيب به.

ذلك أن خنجر ويب كان قد أصاب فخذ جوهان، فنزف دمه بغزارة ودعا إلى ما رأيناه من انحطاط قواه.

ولما رأى باردل ما أصابه، أوشك أن يجن من يأسه، وخاف أن تكون الأقدار قضت على المشروع بجملته، ولم يجد بدًّا من أن يتولى هو بنفسه إنقاذ الغلام.

وكان رالف قد نهض واقفًا، فأسرع إليه باردل وقال له: اركب ظهري وتعلق بي جيدًا، فسأحاول بنفسي الصعود بك.

وكان رئيس الحراس على ما يبدو من ظواهر قوته قد تجاوز سن الكهولة، ولم يكن متمرنًا على شيء من الألعاب الرياضية، ولم يكن لأعضائه شيء من تلك المرونة الخاصة بأعضاء الشباب، فحاول أن يتسلق الجدار، بينما كان جوهان راكعًا يحاول النهوض فلا يستطيع ويقول لباردل: أنقذ الفتى، ولا تهتم بسواه الآن.

فصعد وعلم لأول وهلة أنه لا يجد قوة تعينه على بلوغ المراد، وأن صعوده محال فلبث ممسكًا بالحبل، وهو يكاد يجن من اليأس.

وفيما هو على هذه الحالة من القنوط، لا يعلم ماذا يصنع، سمع صوتًا يناديه ويقول: عد إلى الأرض، واترك الحبل.

فسقط باردل على الأرض منذهلًا، والفتى فوق ظهره، ورفع عينيه إلى مصدر الصوت، فرأى رجلًا ينزل من السور مستعينًا بالحبل، حتى بلغ الأرض، ورأى أنه الرجل العبوس.

أما الرجل العبوس فإنه نظر نظرة سريعة إلى ما حوله، فرأى ويب قتيلًا وجوهان جريحًا، فعلم كل ما حدث وقال لباردل: إني سمعت من النافذة ما حدث بينكم، وأسرعت لنجدتكم فأين رالف؟

– ها هو.

فنظر إلى جوهان وقال: أين جرحت؟

– في الفخذ.

– أتشعر بضعف.

– إني كثير الضعف، وأراني مشرف على الموت، ولكني لا أكترث بالموت، إذا نجا الغلام.

– بل أنقذكم جميعًا.

وكان الحبل طويلًا يجر على الأرض، فأخذه الرجل العبوس، وربط به وسط جوهان ثم قال له: إنني صاعد الآن برالف إلى الحجرة، ومتى وصلنا إليها وبات الفتى بمأمن اسحب الحبل مع شوكنج، وأنت مربوط به، فننقذك أيضًا.

ثم التفت إلى باردل وقال له: أما أنت فافعل ما أوصيتك به، ولم يبق لديك ما تخشاه من ويب فهو قتيل، فعد إلى رواق السجن القديم، ودخن سيكارة من التبغ الذي أعطيتك إياه، فإذا رأوك مخدرًا لا يتهمونك.

فأشار باردل إشارة امتثال، وأركب الرجل العبوس الفتى فوق ظهره، وجعل يتسلق به ذلك الجدار المرتفع بخفة الغلمان، حتى توارى عن نظر باردل، فصاح صيحة فرح وقال: لقد نجا الفتى، فلتحيا أرلندا وليحيا زعيمها.

فأجابه جوهان بصوت خافت بمثل دعاءه ثم قال: اذهب الآن أيها الحبيب، وأستودعك الله.

– بل إلى اللقاء، فسيرفعونك بالحبل، وتشفى من جرحك.

ثم ودعه وهو متأثر لنكبته، وعاد إلى السجن القديم، ليفعل ما أمره به الرجل العبوس، وينجو من تهمة الخيانة.

أما جوهان كولدن فكان يتمتم بصوت ضعيف قائلًا: إني أصبت بجرح قاتل، لكن عزائي أني أموت شهيد أرلندا، فلتحيا بعدي، وليحيا نصراؤها.

وكان الرجل العبوس قد أدرك مراده في ذلك الحين، ودفع رالف إلى أمه، وقد عرف جوهان ذلك من الحبل المعلق به، فإنه بدأ بالتوتر، ثم أحس بالجذب، ثم رأى نفسه قد ارتفع عن سطح الأرض، فمُلِئ فؤاده رجاء، لكن هذا المنكود لم يكد يصل إلى مرتفع السور، حتى صاح صيحة رعب هائلة، وهوى ساقطًا على الأرض.

ذلك أن الحبل انقطع لثقل جسمه، فكان آخر ما قاله ذلك المنكود، إني كنت واثقًا من دنو ساعتي، فلو سلمت من الشنق، لما سلمت من الجرح، فلتذهب تلك النفس شهيدة وطنها، ولأمت فداء ابن أرلندا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤