سَرِيَّةُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا)

كانت هذه السرية إلى «أبنى»، ناحية بالبلقاء من أرض الشام، وهي آخر السرايا، أمره النبي يوم الاثنين السادس والعشرين من صفر من السنة الحادية عشرة بالتهيؤ لغزو الروم، فلما كان من الغد دعاه وقال له: «سر إلى موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل، وقد وليتك أمر هذا الجيش»، فلما كان يوم الأربعاء حُمَّ وصدع (صلوات الله وسلامه عليه)، فلما أصبح يوم الخميس عقد له لواء وقال له: «اغز باسم الله وفي سبيل الله»، وخرج أسامة فدفع اللواء إلى بريدة بن الحصيب، وتهيَّأ المهاجرون والأنصار للخروج، وفيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، واستنكف قوم من تأمير أسامة، وقالوا: غلام، وكان سنُّه ١٧ أو ١٩ أو ٢٠ سنة، وبلغت النبي مقالتهم، فغضب كثيرًا وخرج وقد عصب رأسه فصعد المنبر، وقال: «أما بعد، أيها الناس، فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؟ ولئن طعنتم في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وأيم الله إن كان لخليقًا بالإمارة، وإن ابنه من بعده لخليق بالإمارة، وإن كان من أحب الناس إليَّ، وإنه لمظنة كل خير، فاستوصوا به فإنه من خياركم».

وكان ذلك يوم السبت عاشر شهر ربيع الأول، وأمر النبي أبا بكر بالتخلف ليصلي بالناس، فلما كان يوم الأحد اشتد وجعه، فجاء أسامة وطأطأ فقبله، ثم رجع إلى معسكره «بالجرف»، ثم عاوده يوم الاثنين فقال له: «اغدُ على بركة الله» فودعه وخرج، وأمر الجيش بالرحيل، فأرسلت إليه امرأته فاطمة بنت قيس تقول: لا تعجل، فإن المرض قد اشتد على الرسول، فأقبل وأقبل معه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة، وانتهوا إليه وقد توفي، وعاد الجيش إلى المدينة، وعاد بريدة باللواء، فغرزه عند النبي، فلما بويع لأبي بكر أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة، وأن يمضي أسامة لما أمر به، فخرج وسار أبو بكر (رضي الله عنه) يودعه ماشيًا، وقد نصره الله وأيَّده.

سر يا أسامة ما لجيشك هازم
أنت الأمير وإن تعتَّب واهم
قالوا غلام للكتائب قائد
وفتى على الصِّيد الخضارم حاكم
غضب النبي وقال إني بالذي
جهل الغضاب الساخطون لعالم
إن يجهلوه فقد عرفت مكانه
والعدل عندي لا محالة قائم
ولئن رموه بما يسوء فقد رموا
من قبل والده ولجَّ الناقم
نقموا الإمارة فيهما وهما لها
أهل فكلٌّ أحوذيٌّ حازم
الخير فيه وفي أبيه فآمنوا
يا قوم وانطلقوا لما أنا عازم

•••

ساروا وظلَّ مع النبي خليله
والخطب بينهما مقيم جاثم
ينتاب مضجعه وينظر ما الذي
صنع القضاة فهمُّه متراكم
مرض النبي طغى عليه فقلبه
يغشاه موج للأسى متلاطم
ودرى أسامة فانثنى في جيشه
والحزن طامٍ والدموع سواجم

•••

مات الرسول المجتبى مات الذي
أحيا نفوس الناس وهي رمائم
مات الرسول فكل أفق عابس
أسفًا عليه وكل جوٍّ قاتم
مات الذي شرع الحياة كريمة
والناس شر والحياة مآثم
مات الذي كانت عجائب طبِّه
تشفي العقول وداؤها متفاقم
طاشت لمصرعه عقول رجَّح
ووهت قوى مشدودة وعزائم
دنيا الممالك بعد عصر محمد
حزن يجدد والعصور مآتم
صلى عليك الله إن قضاءه
حتم وإنْ زعم المزاعم حالم

•••

عاد ابن زيد بالكتائب ما لوى
من عزمه الحدث الجليل العارم
يمشي الخليفة لائذًا بركابه
وكأنما هو سائق أو خادم
وأبى الأمير فقال دونك مركبي
لا تمشِ إني إن فعلت لغانم
ولئن أبيت لأنزلنَّ كرامة
لك فاقض أمرك لا نبا لك صارم
قال الخليفة ما أراك بمنصفي
دعني فللإسلام حق لازم
أنا من جنودك لو ملكت رأيتني
تحت اللواء فهالك أو سالم

•••

قُضِيَ الوداع وعاد مشكور الخطى
يرعاه للإسلام ربٌّ راحم
سر يا أسامة فالقواضب لم تمت
هي ما ترى وهو الجهاد الدائم
وإذا البواتر واللهاذم أعوزت
فالمسلمون بواتر ولهاذم
يا لاثم القمر المنير مودعًا
هل كان قبلك للكواكب لاثم؟
هي يا أخا الشوق المبرِّح قبلة
ما ذاق لذَّتها مشوق هائم
ولقد تكون وفي حلاوتها أسى
مُرٌّ مذاقته ووجد جاحم

•••

زَلْزِلْ جنود الروم واهدم ملكهم
في عزه العالي فنعم الهادم
قتلوا أباك فلا تدعهم واعتصم
منهم بربك إنه لك عاصم
ولقد هزمت جموعهم فتفرقوا
وشفاك منهم جيشك المتلاحم
وأجلْت خيلك في عِراص ديارهم
وفعلت فعلك والأنوف رواغم
قتْلٌ وأسر هدَّ من عزماتهم
وأذلهم وكذاك يُجزَى الظالم
ولئن أزلت ديارهم ونخيلهم
من بعدما ظلموا فما لك لائم

•••

عد يا ابن زيد باللواء مظفَّرًا
وانعم فبالُ محمد بك ناعم
هذا أبو بكر مشى في صحبه
يلقاك مبتهجًا وركبك قادم
هم هنَّأوك وأنت أهل للذي
صنعوا وحسبك أن يُفيق النائم
اشكر صنيع الله يا شيخ الوغى
إن الذي عاب الغلام لنادم
حِبَّ الرسول لك البشارة إنه
شرف له فوق النجوم دعائم
ماذا يقول ذوو الحفيظة بعدما
شكرت أمية ما صنعْتَ وهاشم
عفوًا فتلك حميَّةٌ عربية
أعيا الأوائل عهدها المتقادم
للمرء من نور الحقائق ما يرى
لا ما تريه وساوس ومزاعم
والناس عند فعالهم إن يفعلوا
خيرًا فأحرار النفوس أعاظم
لا حكم للأنساب أو للسن في
ما قال فيهم مادح أو واهم

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤