اليَهُودُ وَالمنَافِقون

لما آخى النبي بين المهاجرين والأنصار دعا اليهود وصالحهم على ترك الحرب والأذى؛ لا يحاربهم ولا يؤذيهم، ولا يعينون عليه أحدًا، وإن دهمه العدو ينصرونه، ثم أقرهم على دينهم وأموالهم، فلما انتشر الإسلام كرهوا ذلك فانتقضوا، وفي ذلك نزل قوله (تعالى): قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ، ولما نزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا الآية، قال قائلهم — حيي بن أخطب في رواية: يستقرضنا ربنا، وإنما يستقرض الفقير الغني، فأنزل الله (تعالى): لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ الآية، وكانوا يسألون النبي عن الروح ويقولون له: ممَّ خلق الله؟ انسب لنا ربك! يريدون تعجيزه وإثارته.

وكان من عظمائهم وأحبارهم حيي، وأبو ياسر، وجدي بنو أخطب، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع، وكعب بن الأشرف، وعبد الله بن صوريا، ولبيد بن الأعصم، وشاس بن قيس، وعبد الله بن سلام؛ وكان حيي بن أخطب عظيم بني النضير، وهو أبو السيدة صفية أم المؤمنين (رضي الله عنها)، كانت من سبايا النبي في غزوة خيبر بعد قتل أبيها وزوجها كنانة بن الربيع، جعلها النبي عند أم سليم — أم أنس — حتى اهتدت وأسلمت، ثم أعتقها وتزوجها، وقد انضم المنافقون من أهل المدينة إلى اليهود، وكان عبد الله بن أُبي بن سلول كبيرهم، كان من أعظم أشراف أهل المدينة، وكانوا يريدون تتويجه ملكًا عليهم، فلما ظهر الحق على يد الرسول الكريم خاب أمله، وعظم غيظه وحقده.

والمنافقون قوم من اليهود دخلوا في الإسلام لمَّا قوي أمره خشية القتل، وبقي هواهم مع قومهم.

دعا فأجابوا والقلوب صوادف
وقالوا استقمنا والهوى متجانف
مضى العهد لا حرب تقام ولا أذى
يرام ولا بغي عن الحقِّ صارف
لهم دمهم والدين والمال ما وفوا
فإن غدروا فالسيف وافٍ مساعف
سياسة من لا يخدع القول رأيه
ولا يزدهيه باطل منه زائف
رسول له من حكمة الوحي عاصم
ومن نوره في ظلمة الرأي كاشف
يسالم من أحبارهم وسراتهم
رجالًا لهم في السلم رأي مخالف
يغيظهم الإسلام حتى كأنما
هو الموت أو عادٍ من الخطب جارف
إذا هتف الداعي به اهتاج ناقم
وأعول محزون وأجفل خائف
إذا ما تردَّى في الضلالة جاهل
فما عذر من يأبى الهدى وهو عارف؟
يقولون قول الزور لا علم عندنا
كفى القومَ علمًا ما تضم المصاحف
لهم من سنا التوراة هادٍ وللعمى
ركام على أبصارهم متكاثف
دنا الحق من بهتانهم ورمى بهم
إلى الأمد الأقصى هوى متقاذف
عنا ابن أبيٍّ من هوى التاج لاعج
وطاف به من نشوة الملك طائف
جرى راكضًا ملء العنانين فانتحى
له قدر ألقى به وهو راسف
فما مثله في مشهد الإفك فارح
ولا مثله في مشهد الحق آسف
ظنون يعفيها اليقين ودولة
من الوهم تذروها الرياح العواصف
يهيب بأضغان اليهود يشبها
عداوة قومٍ شرهم متضاعف
وما برح الحبر السمين يغرهم
ويأكل من أموالهم ما يصادف
أعدوا له المرعى فراح مهبلًا
كظنك بالخنزير واتاه عالف
ينوء بجنبيه ويرتج ماشيًا
إذا اضطربت منه الشوى والروانف
رماهم بها عمياء لم يرم معشرًا
بأمثالها أحبارهم والأساقف
فقالوا غوى ابن الصلت وانفض جمعهم
يريدون كعبًا وهو خزيان كاسف
رمى الصادق الهادي لفيفة نفسه
بصادعة تنشق منها اللفائف
فأما لبيد فاستعان بسحره
رويدًا أخا هارون تلك الطرائف
أعندك أن السحر لله غالب
تأمل لبيد أي مهوى تشارف
وشاس بن قيس هاجها جاهليةً
تطير لذكراها الحلوم الرواجف
يقلب بين الأوس والخزرج الثرى
وقد وشجت فيه العروق العواطف
يذكِّرهم يوم البعاث وما جنت
رقاق المواضي والرماح الرواعف
غلت نخوات القوم ممَّا استفزَّهم
وراجعهم من عازب الرأي سالف
وخفوا يريدون القتال فردَّهم
نبيٌّ يردُّ الشرَّ والشرُّ زاحف
دعاهم إلى الحسنى فأقبل بعضهم
يعانق بعضًا والدموع ذوارف
أتى ابن سلام يؤثر الحقَّ ملة
وينظر ما تأتي النفوس العوازف
تسلل يستخفي وأقبلَ قومه
وللؤم منهم ما تضم الملاحف
فقيل اشهدوا قالوا عرفناه سيدًا
تجلُّ مساعيه وتعلو المواقف
هو المرء لا نأبى من الدين ما ارتضى
ولا ندع الأمر الذي هو آلف
فلما رأوه خارجًا ينطق التي
هي الحق قالوا عاثر الرأي عاسف
ظننا بهِ خيرًا ولا خير في امرئٍ
أبوه أبو سوءٍ على الشَّرِّ عاكف
ظلمناه لم يُوصف بما هو أهله
فماذا له إن أخطأ الرشد واصف؟
تَرَاموا بألقاب إذا ما تتابعت
تتابع شؤبوب من الذم واكف
أهاب أبو أيوب ردوا حلومكم
أعند رسول الله تلقى المآزف
وقال الرسول استشعروا الحلم إنما
يسود ويستعلي الحليم الملاطف
أتؤذون عبد الله أن يتبع الهدى؟
فيا ويحه من مؤمن ما يقارف؟
أهذا هو العهد الذي كان بيننا؟
أهذا الذي يجني العقيد المحالف؟
تولوا غضابًا ما تثوب نفوسهم
ولا ترعوي أحقادهم والكتائف
يذيعون مكروه الحديث وما عسى
يقولون والفرقان بالحق هاتف
إذا بعثوا من باطل القول فتنة
تلقفها من صادق الوحي خاطف
يشايعهم في القوم كلُّ منافق
إلى كل ذي مشنوءةٍ هو دالف
شديد الأذى يبدي من القول زخرفًا
وكالسم منه ما تواري الزخارف
زحالفُ سوءٍ ما يكفُّ دبيبها
وأهون شيء أن تدب الزحالف
أقاموا عَلَى ظلم كأن لم يكن لهم
من العدل يومًا لا محالة آزف
لكل أناس يعكفون على الأذى
معاطب من أخلاقهم ومتالف
رويد يهود هل لها في حصونها
من البأس إلا ما تظن السلاحف؟
يظنون أن لن ينسف الله ما بنوا
ولن يثبت البنيان والله ناسف
سيلقون بؤسًا بعد أمن ونعمةٍ
فلا العيش فياح ولا الظل وارف

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤