الرُّمَاةُ

لما قتل أصحاب لواء المشركين واحدًا بعد واحد انهزموا وتبعهم المسلمون يضعون فيهم السلاح وينتهبون الغنائم، فألقى نساؤهم الدفوف وذهبن إلى الجبل كاشفات سيقانهن صارخات مولولات، ففارق الرماة أماكنهم ونهاهم أميرهم عبد الله بن جبير (رضي الله عنه) فتركوه وانطلقوا يبتدرون الغنائم، إلَّا فريقًا منهم دون العشرة ثبتوا معه في أماكنهم.

نظر خالد بن الوليد إلى قلة من بقي في الجبل من الرماة، فكرَّ بالخيل ومعه عكرمة بن أبي جهل فحملوا على هذه البقية فقتلوها ومثلوا بأميرها، وخرجت أحشاؤه لكثرة ما طعن بالرماح.

وأحاط المشركون بالمسلمين وقد شغلوا بالنهب والأسر، ووضعوا السيوف فيهم فتفرقوا في كل وجه، وانتقضت صفوفهم فاختلطوا وصار يضرب بعضهم بعضًا وهم لا يعلمون، وقيل إن مناديًا منهم قال: يا عباد الله، أخراكم؛ يريد: احترزوا من جبهة أخراكم، فعطفوا على أخراهم يقتل بعضهم بعضًا وهم لا يشعرون.

وذهبت طائفة منهم إلى المدينة فأقامت ثلاثة أيام ثم رجعت، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ.

ثبت النبي لما تفرق أصحابه، وصار يقول: «إليَّ يا فلان، إليَّ يا فلان، أنا رسول الله»، والنبل يأتيه من كل ناحية، والله يصرفه عنه، وثبت معه جماعة من أصحابه واستمر أبو طلحة بين يديه — وكان راميًا مجيدًا — ينثر كنانته ويقول: نفسي لنفسك الفداء، ووجهي لوجهك الوقاء، وما زال يرمي عن قوسه الكتوم (التي لا يسمع لها صوت) حتى صارت شظايا.

أئن تولت جنود الشرك مدبرة
خف الرماة وظنوا الأمر قد وجبا؟
كأنهم والرِّعان الشم تقذفهم
سيل تدفق في شؤبوبه صببا
يخالهم من يراهم ساعة انطلقوا
سهامهم حين جاش البأس فالتهبا
رَدُّوا على ابن جبير رأيه ومضوا
إلا فريقًا منهم رأى ما لم يروا فأبى
أصابها خالد منهم وعكرمة
أمنية لم تصب من ذي هوًى سببا
فاستنفرا الخيل والأبطال وانطلقا
في هبوة تزدهي الأرماح والقضبا
هم خلَّفوا رمم القتلى مطرَّحة
وغادروا الجند جند الله والسلبا
طاروا إلى جبل راسٍ على جبل
ما اهتز مذ قام من ضعف ولا اضطربا
قال الرسول فأعطاه مقالته
وما سوى نفسه أعطى ولا وهبا
توزعوه فلو أبصرت مصرعه
أبصرت في الله منه منظرًا عجبا
طعن وضرب يعاف البأس عندهما
سلاحَ من طعن الأبطال أو ضربا
سلُّوا حشاه فظلت من أسنتهم
تموج في الدم يجري حوله سربا
تتابع القتل يجتاح الألى معه
لولا المناقب لم يترك لهم عقبا
تلك الدماء التي سالت على أحد
لو أنبت الدم شيئًا أنبتت ذهبا
ظلمْتها ما لشيء مثل رتبتها
وإن تخطَّى المدى أو جاوز الرتبا
لم يبق سهم ولا رامٍ يُسدِّده
تغيب الوابل الهطال واحتجبا
وكرت الخيل تَردِي في فوارسها
بعد الفرار فأمسى الأمر قد حزبا
المسلمون حيارى كيف يأخذهم
بأس العدو أما ردوه فانقلبا؟
حلُّوا الصفوف وجالوا في مغانمهم
ما ظنَّ عسكرهم شرًّا ولا حسبا
تنكَّرتْ صور الهيجاء واتخذت
من الأعاجيب أثوابًا لها قشبا
خرساء صماء تُعمِي عن معالمها
عين البصير وتُعيي الحاذق الدربا
مُغبرَّة الجو ما زال الخفاء بها
حتى تقنَّع فيها الموت وانتقبا
ترى الليوث وإن كانوا ذوي رحم
لا يتقي بعضهم بعضًا إذا وثبا
يعدو على مهجة الضرغام صاحبه
ولا يجاوزه إن ظفره نشبا
هذا البلاء لقوم مال غافلهم
عن رأي سيدهم إذ يُحكم الأُرَبا
قال اثبتوا فتولوا ما عصى أحد
منهم ولكن قضاء واقع غلبا
أمر من الله مرجوٌّ عواقبه
يقضيه تبصرة للقوم أو أدبا
إن النبي ليمضي الأمر في وضح
من حكمة الله يجلو نوره الريبا
مسدد الرأي ما تهفو الظنون به
الخير ما اختار والمكروه ما اجتنبا
للسلم والحرب منه حازم يقظ
يُعيي الدهاة ويُردي الجحفل اللجبا
إن الذي زين الدنيا بطلعته
حابى العروبة فيه واصطفى العربا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤