أَبُو بَصِيرٍ وَأَصْحَابُهُ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ)

جاء أبو بصير (رضي الله عنه) إلى النبي ، وكان من المحتبسين بمكة، فبعث أزهر بن عوف — أسلم بعد ذلك — يطلب رده من النبي في كتاب يحمله رجل من بني عامر اسمه خنيس، وجاء معه آخر يهديه الطريق، وقال النبي لأبي بصير: «انطلق إلى قومك فليس الغدر من ديننا، وسيجعل الله لك فرجًا»، فرجع معهما، واحتال على أخذ السيف من أحدهما فقتله به، وحمل على الثاني ففر راجعًا إلى المدينة وهو يعدو في أثره، وقال الرجل للنبي: قتل صاحبكم صاحبي، وأفلت منه ولم أكد، ثم استغاث به، وقال أبو بصير للنبي: لقد وفيت بذمتك، فقال له: «اذهب حيث شئت».

فذهب إلى محل من طريق الشام تمر به تجارة قريش، وطار الخبر، فقدم إليه أبو جندل في سبعين فارسًا، ولحق به آخرون من المسلمين، فكانوا ثلاث مئة مقاتل، ما رأوا عيرًا لقريش إلا أخذوها، ولا رجلًا إلا قتلوه، فبعثوا يسألون النبي بالأرحام إلا آوى هذه القوة إليه، وقال بعضهم: إنا أسقطنا شرط رد اللاجئين من العهد، فمن جاءك منهم فأمسكه ولا حرج عليك، فكتب إلى أبي بصير وأبي جندل يستقدمهما إليه، ويأمر أن يذهب من معهما إلى بلادهم وأهليهم غير متعرضين بأذى لقريش، فأخذ أبو بصير الكتاب وهو يحتضر، فمات وهو في يده يقرؤه، فدفنه أبو جندل وعاد مع ناس من أصحابه إلى النبي .

رحمة يا أبا بصير ونعمى
أذن الله أن تُحلَّ وتُحمى
جاءك الغوث فانطلقت حثيثًا
سر طليقًا كفاك حبسًا وهمَّا
أنت أفلتَّ من حبائل قوم
ذقت منهم أذًى كثيرًا وظلما
جعلوا الحق خصمهم من غباء
وغبيٌّ من يجعل الحق خصما
جئت دار النبي فادخل وسلم
وارع حق المقام روحًا وجسما
كم تمنيت أن ترى لك حصنًا
فتأمل حصون ربك شمَّا
وارض حكم الرسول إنك مردُ
ودٌ ومَنْ مثله قضاء وحكما؟
ذا خنيس وذا كتاب ابن عوف
فالزم الصبر أصبح الأمر حتما
سألا العهد عند أكرم مسئو
ل فأعطاهما وفاء وحلما
إنقلبْ يا أبا بصير فليس الد
ين دين الهداة غدرًا وإثما
حسبك الله إنه لك عون
وسيكفيك كل خطب ألمَّا
هو مولى المستضعفين ينجِّيـ
ـهم إذا ما طغى البلاء وطمَّا

•••

عاد يخفي لصاحبيه من الشنـ
ـآن ما يملأ الجوانح سُمَّا
وشفاها بذي الحُليْفة نفسًا
أوشكت أن تزول همَّا وغمَّا
نظر السيف في يدي أحد الخصـ
ـمين يبدى من المنية وَسْما
وهو يطريه في غرور ويسقيـ
ـه نفوس الكماة ظنًّا وزعما
قال بل أعطنيه أنظره إني
بسجايا السيوف أكثر علما
ثم غشَّاه ضربة علَّمت
كيف يخشى الهزبر من كان شهما
جاء يصطاده غرورًا فأردا
ه وكان الغرور شرًّا وشؤما
صدَّ عنه رفيقه وتولى
يتوقى قضاءه أن يُحمَّا
طار يهفو كالسهم يمضي بعيدًا
وهو أنأى مدى وأبعد مرمى
طلب السيف نفسه وهي ولهى
لو تذوق الردى لما مَرَّ طعما
كذب الوهم ما الحياة سوى الأمـ
ـن وشرُّ الأمور ما كان وهما
وقع الطائر المُسِفُّ على النسـ
ـر الذي يملأ السماوات عزما
الرسول الذي تدين له الأر
ض وتهفو إليه حربًا وسلما
قال إني لهالك فأجرني
لا تدعني لبعض صحبك غنما
ردَّ عني أبا بصير فحسبي
ما جناه عليَّ صدعًا وكلما
جرَّع الحتف صاحبي وانبرى يطـ
ـلب قتلي ليتبع الجرم جرما
إنه جاء راكضًا يحمل السيـ
ـف فهب لي دمي لك الشكر جمَّا
عفَّ عنه وقال ما ثَمَّ شيء
يا نبي الهدى أرى الأمر تمَّا
صدق العهد وانقضى الرد فانظر
ما ترى فاقضه سدادًا وحزما
قال فاذهب فقد برئت وظلم
أن يلام البريء أو أن يذما
لك ما شئت أن تحل من الأر
ض سوى أرض يثربٍ أو تؤما
فتولَّى إلى مكان يزيد الـ
ـكفر والكافرين خسفًا ورغما
كل مال تقلُّ عير قريش
بين عينيه ظاهر ليس يكمى
إنه الأرقم الصمُّ تداعت
فارتمت حوله الأراقم صمَّا
مؤمن حل في العراء محلَّا
جمع المؤمنين فيه وضمَّا
أقبلوا ينسلون من كل أوب
يطلبون المصال قرمًا فقرما
لمَّ ذو العرش شملهم بعد صدع
وخليق بشملهم أن يُلمَّا

•••

يا أبا جندل عليك سلام
جئت بالخيل ترجم الأرض رجما
إغتفر ما جنى أبوك سهيل
يوم يطغى عليك ضربًا ولطما
إنما الصابرون أوفى نصيبًا
يا أبا جندل وأوفر قسما
أعملوا القتل والنهاب وردُّوا
كل غنم أصابه القوم غرما
غارة بعد غارة تأكل الما
ل وتطوي الرجال خضمًا وقضما
زُلزلوا من أبي بصير بخطب
بالغ صدعه أبى أن يرمَّا
مخذم قاطع ومسعر حرب
جربته البيض القواطع قدما
ضاقت السبل والفجاج عليهم
واستحال الفضاء سدًّا وردما
عاد رتقًا كأنه سد يأجو
ج ومأجوج ما ترى فيه ثلما
جاروا يشتكون وادَّكروا الأر
حام يستشفعون جبنًا ولؤما
واستمدوا الحنان من أعظم النا
س حنانًا وأقرب الرسل رحما
قال ذو أمرهم أغثنا ولا تعْـ
ـنف علينا إن القلوب لتعمى
أفْسَدَ العهدُ أمرنا فعرفنا
ه وماذا لنا إذا الأمر غُمَّا؟
قد تركنا لك الرجال فأمسِكْ
كل من شئت منهمُ أن تذِما
حَسْبُنا السلم يا محمد إن تَبْـ
سُطْ علينا ظلاله فنعما
بدَّد الضر والأذى بكتاب
نظم البر والمروءة نظما
لم يدعه أبو بصير ورامي الـ
ـموت يلقي عليه سهمًا فسهما
جاد بالنفس وهو في يده يتـ
ـلوه ما أعظم المقام وأسمى
آخر الزاد إن أردنا له اسمًا
وأراه أجلُّ من أن يسمى
قال أقبل وفرق الناس وليعـ
ـفوا فحسب الطغاة قمعًا ووقما

•••

رجع القوم راشدين ومن أر
شَدُ مِمَّن رمى الضلال فأصمى؟
وأبو جندل يؤمُّ رسول الله
في رُفْقَةٍ إلى الله تنمى
كوكب الحق والهدى يتلقى
من ذويه الهداة نجمًا فنجما
طلعوا والزمان أسوَدُ داج
فجلوا من ظلامه ما ادلهمَّا
ورَموا بالشعاع مقتل دين
ردَّ وجه الحياة أغبر جهما
إعرف الحق لا ترعك الدعاوى
فالمروءات والمناقب ثمَّا
أيُّ مجد في الأرض أو أي فضل
لم يكونوا له أساسًا وجذما؟

•••

إن في حكمة الرسول لذكرى
للبيب أصاب عقلًا وفهما
هدم الله ما بنى العهد من آ
مال قوم يبغون للدين هدما
كم رأوا من مشاهد الوهم فيه
مشهدًا رائع التهاويل فخما
لا يغرَّنَّهم من الغيث وكفٌ
إنه السيل موشك أن يعمَّا
همة من هُدَى الرسول ولود
تورث الشرك والضلالة عقما
لم تزل تضرب الطواغيت حتى
جرَّعتها الرزأين ثكلًا ويتما
إن للحق بعد لين وضعف
قوة تحسم الأباطيل حسما

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤