العَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)

خرج العباس بأهله وعياله مهاجرًا إلى المدينة، فلقي النبي بالجحفة وكان قد أمره بالإقامة بمكة ليكتب إليه أخبار قريش، واستأذنه في الهجرة فكتب إليه: «يا عماه، أقم مكانك الذي أنت فيه؛ فإن الله يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوة»، وكان ينفع المستضعفين من المسلمين، وقد أعلن إسلامه يوم الفتح وكان يكتمه قبل ذلك، وكان أجود قريش كفًّا، وأوصلها رحمًا، ومن مناقبه أن عمر بن الخطاب كان يستسقي به في خلافته إذا قحط الناس فيسقون، وفي ذلك يقول عقيل بن أبي طالب:

بعمي سقى الله البلاد فأهلها
عشية يستسقى بشيبته عمر
توجه بالعباس في الجدب داعيًا
فما حاد حتى جاد بالديمة المطر
أبا الفضل أقبل وارفع الصوت شاكرًا
فذلك فضل الله أسداه وافرا
أقمت تراعي الركب حرَّان شيِّقًا
هنيئًا فهذا الركب وافاك زائرا
هنيئًا فقد أوتيت سؤلك كله
ولقِّيت عن قرب من السعد طائرا
إذا ما التمست الركب أين مكانه
فحيث ترى نور النبوة باهرا
أبا الفضل أقبل واقضها من لبانة
لنفسك تشفي منك داء مخامرا
حبيب نأى يطوي السنين وذو هوى
يعالج وجدًا بين جنبيه ثائرا
ويلقى الأذى بعد الأذى في سبيله
فيرضى ويغضي الجفن في الله صابرا
لك الله يا عباس هذا محمد
فسلم وطب ما شئت نفسًا وخاطرا
أتى بعد ما جرَّ السنين مهاجرًا
يجرُّ السرايا خلفه والعساكرا
رآك فقرَّت عينه وترافدت
تحياته تلقاك زُهرًا نواضرا
لها عبق من رحمة الله لم يزل
مكانكما منه إلى اليوم عاطرا

•••

أقمت على المستضعفين بمكة
تردُّ الأذى عنهم وترعى الأواصرا
إذا فزعوا للظلم كنت لهم حمى
وإن أعوز الأنصار ألفوك ناصرا
يظنك أهل الكفر منهم وإنما
أردت بهم أمرًا وما كنت كافرًا
شددت قوى الإسلام بين ربوعهم
وخادعتهم عنه فأصبح ظاهرا
وكنت له عينًا تظاهرها يد
تذيع خفاياهم وتبدي السرائرا
تمدُّ رسول الله بالكتب حفَّلا
بأنبائهم تطوى الفجاج سوائرا
بريد إذا كف البريد من الونى
مضى دائبًا في شأنه متواترا
وكنت إذا استأذنت تبغي جواره
أبى وهواه أن يراك مجاورا
وقال انتظر يا عم إنك مرجأ
إلى موعد يأتي به الله آخرا
فبي ختم الله النبيين كلهم
وتمَّم هاتيك العلى والمآثرا
وإني لأرجو أن تكون بيثرب
بقية من يأتي إلينا مهاجرا

•••

هو الله فانظر يا أبا الفضل ما قضى
من اليسر بعد العسر بوركت ناظرا
تجلت دياجير الهموم دميمة
وأضحت وجوه العيش بيضًا سوافرا
ألا رب يوم ذقت من سوء ما جنى
ذوو الشرك فيه ما يشق المرائرا
وليل كما اهتاج الجبان مفزَّع
طويت دجاه كاسف البال ساهرا
كدأبك إذ قالوا أصيب محمد
وقد جاءهم بالزور من كان ساخرا
فلما عرفت الحق أوفيت ناهضًا
تقبِّل مَن وافاك يُزجي البشائرا
وترسله حرًّا طليقًا وإنه
لفي عزة تعيي النفوس الحرائرا
نهضت خفيف الجانبين ولم تكن
على مثلها من قبل ذلك قادرا
يسرُّك ما سرَّ الرسول وما يكن
به من أذى ألفيته لك ضائرا
هَديتَ أبا سفيان ترحم نفسه
وتكره أن يبقى مدى الدهر حائرا
وجئت به والجند بالليل راصد
يقلِّب للحرب الرقاق البواترا
فأسلم يُرضي الله من بعد نفرة
ولولاك لم يبرح عن الحق نافرا
وفي ابن حزام وابن ورقاء شاهد
بما لك من فضل لمن كان ذاكرا
ثلاثة أقطاب صرفت قلوبهم
إلى الله تُحْييهم وترجو المصائرا
ولو أعرضوا لم يردع الحرب رادع
ولم ينتزع أنيابها والأظافرا
حقنْتَ دماء لو يُخلَّى سبيلها
جرت تحت أعلام الغزاة موائرا
فأمست قريش ما لها من بقية
وأمسى الذي اعتادت من العز دائرا
بيُمْنك يا عم الرسول تتابعت
أيادٍ يراها المسلمون ذخائرا
وكنت امرأ من قبل ذلك محسنًا
يقيم بجدواه الجدود العواثرا
عظيمًا ترجِّيه قريش لما بها
إذا فزعت للأمر تخشى الدوائرا
وإنك إذ تسقي الحجيج لسيد
يعلِّم سادات الرجال المفاخرا
لعثمان ما يرضى وما لك غيرها
ولاية من يعطي ويبذل كابرا
وليس التي يأتي الخميلة غارسًا
كمثل الذي يأتي الخميلة هاصرا
حُرِمت الرضى إن عبت عثمان إنه
على سُنَّةٍ غلباء تُعيي المكاثرا
له من عطاء الله كنز مبارك
يقيم لدين الله فيه الشعائرا
يضنُّ بمفتاح البنيَّة جهده
ويعرفه مجدًا على الدهر غابرا
أمانة رب البيت لم تعط خائنًا
يريد بها دنيا ولم تؤت فاجرا

•••

أبا الفضل هذا ما أحب محمد
ظفرت به لا زال سهمك ظافرا
إذا أظمأ الله البلاد وأهلها
فباسمك يسقيها الغيوث المواطرا
لعمري لقد غادرت غير منازَع
مناقب ذكراها تهزُّ المنابرا
صدقتُك إني لو تناسيت حقها
على ما عناني لم أجد ليَ عاذرا
أعِنِّي بروح منك يا رب واهدِني
سبيلك إن أضللت في الناس شاعرا
دعوتك للإِسلام أُمْسِكُ مجده
وأدرك منه ما طوى الدهر ناشرا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤